التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٢

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0522-5
الصفحات: ٣٩٢

الخالق وتوحيده ، ويدعو إلى التصديق بالرّسل ، والإيمان بالقرآن والوحي المخبر عن هذه الآيات العظام.

ولكن ما تغني أو تفيد هذه الآيات أو الدلائل الكونية والقرآنية ، والأنبياء المنذرون ، أو الإنذارات الإلهية ، قوما لا يتوقع إيمانهم بالله والرّسل ، وقضى الله أنهم لا يؤمنون بحسب علمه المحيط بإرادة الإنسان واختياره ، وكل شيء لا يقع إلا بمشيئة الله ، لأن ما في الوجود في ملك الله ، ولا يحدث أمر في ملكوت الله إلا بإرادته ، حتى لا يكون هناك قهرا أو تجاوز لإرادة المالك.

وإذا أهمل الكفار والمشركون المكذبون المعاندون النظر في آيات الله وأسراره ، حتى ولو كانوا بسطاء أو أميّين ، فهل ينتظرون أو يتوقعون إلا نزول العذاب المماثل لوقائع الأمم الماضية المكذبة لرسلهم ، وهي وقائع العذاب في قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم : (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) أي وقائع الماضين ، والأيام هنا بمعنى الوقائع ، كما في آية أخرى : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) [إبراهيم : ١٤ / ٥] ، وكل ما مضى لك من خير أو شرّ فهو أيام.

قل أيها الرسول للمشركين منذرا ومهددا : انتظروا عذاب الله وعقابه ، إني من المنتظرين هلاككم ، أو فانتظروا هلاكي ، إني معكم من المنتظرين الهلاك ، أو موعد ربّي به. والآية وعيد محض لمن كفر ، فإذا أصرّوا على الكفر ، حلّ بهم العذاب ، وإذا آمنوا نجوا ، هذه سنّة الله في الأمم الخالية ، فهل عند مشركي مكة وأمثالهم غير ذلك؟.

وإذا وقع العذاب بقوم في الدنيا ، فإن من سنّة الله المقررة إنجاء الرّسل ومتّبعيهم المؤمنين ، كما في آية أخرى : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) [مريم : ١٩ / ٧٢] ، ومثل هذا الإنجاء للرّسل السابقين ومن آمن معهم ، ننجي المؤمنين معك أيها الرّسول ، ونهلك المكذبين بالرّسل. وهذا حق أوجبه الله تعالى على نفسه الكريمة ، كما جاء في آية أخرى :

٨١

(كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام : ٦ / ٥٤]. وكما ورد في الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله كتب كتابا ، فهو عنده فوق العرش ، إنّ رحمتي سبقت غضبي».

الخلاصة : دلّت الآيات على وجوب النظر في الكون ، والبحث عما فيه للعظة والاعتبار ، وتحقيق الخشية من الله تعالى والإيمان به ، والحثّ على العلم والبحث والتأمّل ، فمن دون العلم لا تتقدم البشرية ، ومن غير العلم والنظر لا توجد عقيدة الإيمان بالله تعالى ، وبغير العلم لا تنتظم شؤون الدنيا ، ولا يقتنع الناس بعدالة الله في الحساب ، وإذا لم يوجد العلم حلّ الجهل والفوضى. كل ذلك لتقرير أن الإسلام دين علم وعمل ، وأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو المعلّم الأول ، والموجّه الأول للبشرية نحو السعادة.

أصول الدين والعبادة والدعاء

يوجّه القرآن الكريم الناس جميعا إلى ما ينفعهم ويسعدهم ، ويبعدهم عن كل ما يضرّهم ويشقيهم ، وليس الدين إلا مجرد مدرسة تربوية عالية ، تأمر بأصول الحياة الصحيحة ، وبمكارم الأخلاق العالية ، وتنهى وتمنع عن انحراف الفكر والسلوك. ومن أخصّ مقتضيات النظام الأصلح أن تكون العبادة والدّعاء لله عزوجل وحده ، دون إشراك أحد معه سواه. وهذا ما قررته الآيات التالية :

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا (١) (٢)

__________________

(١) اصرف ذاتك كلها للدين الحق.

(٢) مائلا عن الباطل إلى الدين الحق.

٨٢

تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧)) [يونس : ١٠ / ١٠٤ ـ ١٠٧].

هذه الآيات الكريمة قانون خالد عام ، وخطاب مختصر شامل للناس أجمعين إلى يوم القيامة. فبعد أن أقام القرآن الكريم الأدلة الواضحة على صحة الدين ووحدانية الخالق وصدق النّبوة والوحي ، أمر الله بإظهار دينه ، وإيضاح الفوارق بين الدين الحق والشّرك الباطل ، حيث يعبد المشركون أصناما وأوثانا لا تضر ولا تنفع.

والمعنى : قل يا محمد للناس جميعا : يا أيها الناس إن كنتم تشكون في ديني فأنتم مخطئون ، فإن الله لا يشك فيه ، وإنما الشّك في دينكم ، ولا تعبدون الله ، وإني لا أعبد أحدا غيره ، فلا أعبد شيئا على الإطلاق مما تعبدون من دون الله ، من الأصنام والأوثان ، من حجارة ومعادن وغيرها ؛ لأنها لا تضرّ ولا تنفع ، وإنما أعبد الله الخالق البارئ القادر الذي يتوفّاكم كما أحياكم ، ثم إليه مرجعكم ، وأمرني ربّي أن أكون من المصدّقين به تصديقا تامّا ، عارفا به تمام المعرفة. وقوله سبحانه : (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) تذكير بالموت الذي قهر الله به العباد ، وفزّع النفوس به ، وإيضاح أن المصير إلى الله بعد الموت. والتّوفي دليل على بدء الخلق والإعادة جميعا.

وفي هذا النّص الصريح تعريض بأن الدين الحق لا يشكّ فيه ، وترتاح إليه العقول السليمة ، وأما عبادة الأصنام فهي عبادة باطلة ، لأن الأصنام لا تعقل ولا تضرّ ولا تنفع ، ويستنكرها كل عاقل ؛ لأنها أحجار صماء.

ثم يأمر الله نبيّه أي وبقية الناس بأن يخلص العبادة لله وحده ، حنيفا أي مائلا عن الشّرك والباطل إلى الدين الحق ، وألا يكون من جماعة المشركين الذين يشركون في عبادة الله إلها آخر ، فالعبادة تتطلب الاستقامة والدوام والإخلاص في التّوجّه لله

٨٣

سبحانه ، وترك كل ما سواه ، والبعد عن أي توجّه ذات اليمين أو ذات الشمال ، كما جاء في آية أخرى : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩)) [الأنعام : ٦ / ٧٩]. فمن توجه بقلبه أو مال إلى غير الله في عبادة أو دعاء ، فهو عابد غير الله تعالى.

ولم يقتصر القرآن الكريم على الأمر بعبادة الله وحده ، وإنما نهى عن عبادة ما سواه ، ومضمون النّهي : لا تدع ولا تعبد أيها الرسول أحدا سوى الله ، متجاوزا الله تعالى إلى غيره ، متّجها إلى ما لا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة إن دعوته ، ولا يضرّك أصلا إن تركت دعاءه.

فإن فعلت هذا على سبيل الافتراض والمبالغة وعبدت غير الله ودعوته ، كنت من الظالمين نفسك ، والظالم : الذي يضع الشيء في غير محلّه. ولا ظلم أكبر ولا أشد من الشّرك بالله تعالى ، ومن الظلم : وضع العبادة في غير موضعها.

ثم أخبر الله تعالى أن الحول والقوة لله ، بدليل ما يحسّ به الناس من أنفسهم ، وليس لأحد غير الله قدرة على نفع ولا ضرّ. فإن تتعرض أيها النّبي وكل إنسان لضرر في جسمك كالمرض والألم أو مالك كالفقر والتّلف ، فلا كاشف ولا رافع له إلا الله ، وإن يردك أو يخصك الله بخير منه في الدين والدنيا من نصر ورخاء ونعمة وعافية ، فلا دافع لفضل الله إلا الله ، لأنه لا رادّ لقضائه ولا معقّب لحكمه ، ولا مانع لفضله أحد ، يصيب بالخير من يشاء ، وهو سبحانه الغفور لمن تاب إليه ، الرحيم بعباده. والضّرّ لفظ جامع لكل ما يكرهه الإنسان ، سواء كان ذلك في المال أو في البدن. وهذه الآية تظهر فساد حال الأصنام ، وإن كان كل مميز يعرف يقينا أنها لا تكشف ضرّا ولا تجلب نفعا.

٨٤

الإسلام دين الحق

أبان القرآن المجيد في سورة يونس أسس الدين العامة ، وعقائده الكبرى التي طالب بها مشركي العرب والناس جميعا إلى يوم القيامة ، من توحيد الله تعالى ، وإثبات البعث والجزاء ، والوحي والنّبوة والرّسالة ، وما شملته من هداية وخير للبشرية جمعاء ، لأن القرآن أكمل الله به النعمة وأتم به الدين ، وأصبح هو منار الطريق مدى الدهر ، وهذه هي خاتمة سورة يونس ، كما قال تعالى :

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩)) [يونس : ١٠ / ١٠٨ ـ ١٠٩].

تعددت شرائع الله تعالى وبيّناته ، ورسالاته ونبواته ، منذ عهد آدم عليه‌السلام إلى خاتمة الشرائع ، وانتهاء النّبوات ، في نبوة ورسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكتاب الذي أنزل عليه من ربّه في مدى ثلاث وعشرين سنة ، وكان القصد من هذه الشرائع إسعاد البشرية وإنقاذها من الضّلالة إلى النور ، وتقرير مبدأ وحدانية الله ، وإثبات عالم المعاد والآخرة ، وما فيها من جنة ونار ، عن طريق ظاهرة الوحي.

وهاتان الآيتان قرار نهائي حاسم ، خاطب الله بهما جميع الناس والجنّ إلى يوم القيامة أبد الدهر ، والمعنى الواضح منهما : قل أيها الرّسول للناس قاطبة ، من حضر ومن يأتي : قد جاءكم الحقّ المبين من ربّكم ، يبيّن حقيقة هذا الدين ، وكمال هذه الشريعة ، على لسان رجل منكم ، بلسان عربيّ مبين.

أمر الله تعالى رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخبر الناس أن الذي جاءهم به من عند الله تعالى هو الحقّ الذي لا شكّ ولا شبهة ولا ريب فيه.

والحق هو القرآن والشّرع الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عند ربّه. فمن اهتدى أي اتّبع

٨٥

الحق وأذعن له ، وصدّق بالقرآن ورسول الله ، فإنما يهتدي لنفسه ويسعى لها ، أي يعود نفع عمله وثواب اهتدائه واتّباعه على ذاته ، ويجد خير رشده في مصيره وآخرته ؛ لأنه يوجب لها رحمة الله ويدفع عذابه.

ومن ضلّ ، أي حاد عن طريق الحق ، ولم ينظر بعين الحقيقة ، وحاد عن منهج الله ، وكفر بربّه عزوجل ، فإنما يضلّ على نفسه ، أي يرجع وبال عمله عليه. والدنيا مزرعة الآخرة ، فمن زرع نباتا حسنا استفاد منه ، ومن زرع نباتا سيّئا ، حصد منه الشّر والضّرر.

ثم يؤكد القرآن عنصر الإرادة والاختيار وترك الإجبار في قوله تعالى لرسوله : (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) أي وما أنا بموكل بكم من عند الله بأموركم حتى أجعلكم مؤمنين ، وأكرهكم أو أجبركم على الإيمان ، وإنما أنا نذير منذر لكم عذاب الله لمن أعرض وكذب ، وبشير أيضا ، أي مبشّر من اهتدى ، والهداية على الله تعالى.

والرسول مجرّد مبلّغ وحي ربّه ، لا يأتي بشيء من عند نفسه ، لذا تعدد الأمر القرآني لرسوله بأن يعلن أنه ما عليه إلا البلاغ ، وأنه مأمور بالتبليغ ، وهنا قال الله له : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ ..) أي اتّبع يا محمد ما أنزل الله عليك ، وأوحاه إليك عن طريق جبريل ، وتمسّك به أشدّ التّمسّك ، واصبر على دعوتك وأذى قومك ومخالفة من خالفك من الناس المعاندين والمستكبرين ، حتى يحكم الله ، أي يقضي بالفصل بينك وبينهم ، أي المكذّبين من قومك ، فينصرك الله عليهم ويحقق لك الغلبة ، وهو خير الحاكمين ، أي أعدل الحكام وأحكمهم ، يقضي بالعدل التام والحكمة الصحيحة ، والواقع الحقيقي. وقد أنجز الله وعده لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنصره مع الجند المؤمنين ، على تكتّلات المشركين العرب ومؤامراتهم ، واستخلف الله أهل الإيمان في الأرض ، وجعلهم الأئمة الوارثين.

٨٦

وفي هذا الكلام تسرية عن هموم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما لقيه من أذى قومه ، ووعد له وللمؤمنين بأن يغلّبهم وينصرهم ، ووعيد للأعداء الكافرين بأن يخذلهم ويهزمهم ، ويطوي صفحتهم من التاريخ إلى الأبد.

٨٧

تفسير سورة هود

عبادة الله تعالى

في أوائل سورة هود المكّية ركّزت الآيات على إحكام القرآن الكريم ، فهو لا يشتمل على أي نقض أو تناقض ، كما أمرت بعبادة الله وحده باعتبار أن العبادة هي المقصود الديني الأعظم من خلق الإنسان كما في قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)) [الذّاريات : ٥١ / ٥٦]. وقوله سبحانه : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥)) [البيّنة : ٩٨ / ٥].

والعبادة الخالصة لله تعالى تتطلب الاستغفار والتوبة من الذنوب السابقة وعلى رأسها الكفر ، قال الله تعالى مبيّنا هذه الأصول المبدئية والتكليفية في مطلع سورة هود المكّية : (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤)) (١) (٢) [هود : ١١ / ١ ـ ٤].

افتتحت سورة هود بالحروف المقطعة (الر) للتنبيه وتحدّي العرب بأن يأتوا بمثل القرآن ، ما دام مكوّنا من حروف لغتهم التي ينطقون بها ويكتبون بها. ثم قررت هذه

__________________

(١) ذات نظم محكم.

(٢) فرّقت في التنزيل بحسب المناسبات والأحوال.

٨٨

الآيات أصول الدين : وهي إحكام القرآن وتفصيله ، والدعوة إلى عبادة الله وتوحيده والإنابة إليه ، والإيمان بالبعث والجزاء في عالم الآخرة.

والمعنى : هذا القرآن كتاب عظيم الشأن ، جليل القدر ، محكم النظم والمعنى ، لا خلل فيه ولا نقص ، فهو كامل الصورة والمبنى والمعنى ؛ لأنه صادر من عند الله الحكيم في أقواله وأفعاله ، الخبير بحوائج عباده ، وبعواقب الأمور.

نزل هذا الكتاب بألا تعبدوا غير الله ، ولا تشركوا به شيئا ، فالعبادة لله تحقق معنى العبودية والانقياد لله تعالى ، مع قيامها على الحبّ ، لا على القهر والقسر ، وإنني أنا رسول الله مرسل من عند الله ، نذير من العذاب إن عصيتموه أو خالفتموه ، وبشير مبشّر بالثواب إن أطعتموه. وفي هذا تبيان مهمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووظيفته وهي الإنذار لمن عصاه بالنّار ، والتّبشير لمن أطاعه بالجنة.

ومن مهامي أنا النّبي المرسل أن آمركم بالاستغفار من الذنوب السابقة ، وهي الشّرك والكفر والمعاصي والمنكرات ، وأن تتوبوا منها إلى الله عزوجل بالإقلاع عنها وبالنّدم على ما مضى ، والعزم على عدم العودة إلى أي ذنب في المستقبل ، فإن استغفرتم وندمتم ، وتبتم من كفركم وشرككم ، يمتّعكم الله متاعا حسنا في الدنيا ، بإطالة النفع فيها بمنافع حسّية مرضية ، وعيشة طيبة هنيّة ، ورزق واسع متتابع ، ويظل هذا التمتع الهني في الدنيا إلى أن يأتي الأجل المعين وهو الموت.

فالمطلوب للتّخلي عن سيرة الكفر السابقة أمران : الاستغفار من الشّرك ، ثم التوبة المخلصة والرجوع إلى الله بالطاعة والعبادة ، فتصفو النفس من آثار الشّرك ، وتقبل على حياة الدنيوية لله عزوجل بالانقياد لأوامره وعبادته على وفق مراده.

وثمرة إطاعة الله لا تقتصر على توفير الحياة الهانئة السعيدة في الدنيا ، وإنما تشمل أيضا في الآخرة إعطاء كل ذي فضل في العمل جزاء فضله وإحسانه ، لا يبخس منه

٨٩

شيء ، فيجمع الله بين الجزاءين : التّمتيع في الدنيا ، والثواب في الآخرة. ولكن متاع الدنيا قليل فان ، ومتاع الآخرة كثير خالد.

فإن أعرضتم أيها الناس عما دعوتكم إليه من عبادة الله وحده لا شريك له ، فإني أخشى عليكم وأحذّركم من عذاب يوم كبير هو يوم القيامة. ووصف هذا اليوم بالكبر ، لما فيه من السّعة والأهوال ، كما وصف بالعظم والثّقل لما فيه من العظائم والشدائد ، والأثقال والآلام. وهذا توعّد بيوم القيامة.

وأضاف الله تعالى إليه توعّدا آخر وهو تفرّد الله بسلطان الحساب في الآخرة ، فجميع الناس مرجعهم وطريقهم إلى الله ، أي إلى عقابه وجزائه ، وهو سبحانه القادر الذي لا يضرّه شيء ، ولا يجير عليه مجير ، ولا وقاية من قضائه وحكمه ، فالله قادر تمام القدرة على ما يشاء من الإحسان إلى أوليائه وأحبّائه وعبّاده ، والانتقام من أعدائه. وقوله تعالى : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) يفيد الحصر ، يعني أن مرجعنا إلى الله ، لا إلى غيره.

فضل الله وعلمه وقدرته

عجيب أمر هذا الإنسان ، إنه مغمور بأفضال الله التي لا تحصى ، مضمون له رزقه ، محوط بعلم الله في سرّه وعلانيته ، مقدور عليه في كل تحرّكاته ، لا يستطيع النّفاذ أو الهرب من سلطان الله وعزّته ، وإنما مصيره ومرجعه إلى الله ، يحاسبه على كل ما قدم وأخّر ، وهو مع ذلك معرض عن ربّه المنعم عليه ، القادر الرّازق. وما ذلك إلا لضعفه وقصور عقله وسوء تقديره في فهم الأشياء. وهذه دلائل قدرة الله على كل مخلوق وفضله عليه في قوله سبحانه :

٩٠

(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)) (١) (٢) (٣) (٤) [هود : ١١ / ٥ ـ ٧].

نزلت الآية الأولى : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ..) في الكفار الذين كانوا إذا لقيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثنوا صدورهم ، أي طووها على الحقد والعداوة والحسد ، كالمستتر ، وردّوا إليه ظهورهم ، وغطّوا وجوههم بثيابهم تباعدا عنه ، وكراهية للقائه ، وهم يظنّون أن ذلك يخفى عليه وعلى الله عزوجل.

والمعنى : ألا إن الكفار المشركين حين يسمعون الدعوة إلى الله وتوحيده ، يعرضون عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصدورهم ، كيلا يراهم هو ولا غيره ، إمعانا في العناد والكفر. ألا حين يتغطون بثيابهم ليستخفوا أو يتواروا من محمد أو من الله ، يظنّون أن الله لا يراهم ، مع أن الله تعالى يعلم ما يسرّونه في قلوبهم ، وما يعلنونه من أقوال وأفعال ، إنه سبحانه علّامة بالأسرار ذات الصدور ، وبخواطر القلوب ، ويرصد الله عليهم كل أمورهم ، كما جاء في آية أخرى : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ) [النّساء : ٤ / ١٠٨].

ومن مظاهر علم الله وفضله أنه سبحانه تكفل برزق كل ما يدب على الأرض أو في البحر أو في الجو ، ويعلم مستقر كل دابّة ومستودعها ، أي يعلم منتهى سيرها في

__________________

(١) يطوونها على الكفر والعداء.

(٢) يتغطون بها مبالغة في الستر.

(٣) موضعها في الأصلاب والأرحام ونحوها.

(٤) موضعها في الأرحام والأصلاب ونحوها.

٩١

الأرض حيث تأوي إليه ، وهو مستقرّها ، وموضع إيوائها ومكان موتها ودفنها ، وهو مستودعها ، وكل ما يتعلق بمخلوقات الأرض من أحوال وأرزاق وتحرّكات وسكنات : ثابت مكتوب في اللوح المحفوظ الذي كتب فيه جميع مقادير المخلوقات ، وتوضّح فيه كل شؤونها. وهذا دليل واضح على تكفل الله بأرزاق المخلوقات كلها ، غير أن ذلك مرتبط بقانون السببية أو مبدأ ارتباط الأسباب بالمسبّبات والغايات ، أي إن تحصيل الرزق منوط بالسّعي والعمل ، موجه بالإلهام الإلهي ، مشمول بهداية الله إلى الطلب والتحصيل ، كما قال الله تعالى : (قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠)) [طه : ٢٠ / ٥٠].

وبعد إثبات كون الله عالما تمام العلم بالمعلومات ، أثبت تعالى كونه قادرا قدرة تامة بخلقه السماوات والأرض ، خلقها في ستة أيام بمقدار أيام الدنيا في رأي أكثر المفسرين. وكان العرش : وهو أعظم المخلوقات ، فوق الماء ، وكان موجودا قبل أن يخلق الله شيئا. ومقتضى استواء الله على العرش أنه صاحب السلطان المطلق في التّصرف والملك والأمر والحكم. قال جماعة من العلماء : خلق الله تعالى هذه المخلوقات في ستة أيام ، مع قدرته على خلقها في لحظة ، نهجا إلى طريق التّؤدة والمهلة في الأعمال ، ليحكم البشر أعمالهم.

وعلّة الخلق الإلهي العجيب للسماوات والأرض : هي نفع العباد الذين خلقهم الله ليعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وليعاملهم معاملة المبتلي المختبر لأحوالهم ، لينظر كيف تعملون ، ويظهر أيّكم أحسن عملا ، فيقوم الدليل الواقعي على أفعال الإنسان ومعرفة من يقابل النّعم بالشكران أو بالكفران.

ولئن أقمت يا محمد الأدلة على البعث بعد الموت ، وذكرت ذلك للمشركين ، لقال الكافرون : ما هذا إلا سحر واضح ، أي غرور باطل ، لأن السّحر في مفهومهم

٩٢

باطل. فهم يرون أن التحدث عن البعث كالسحر في الخديعة أو البطلان. وهذا موقف متناقض ، فهم يقرّون بأن الله خالق السماوات والأرض ، ثم ينكرون ما هو أيسر من ذلك ، وهو البعث من القبور ، لأن البداءة للخلق أعسر من الإعادة ، وخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس.

موقف الإنسان من النعمة الإلهية أو النقمة

لا يدرك الإنسان إدراكا كافيا مدى نعم الله تعالى عليه ، ولا يقدرها حقّ قدرها ، ولا يشكر ربّه المنعم بها ، وقد يستبدّ به الغرور والطيش فيطلب نزول العذاب ، وربما تكبّر وبطر وتفاخر وقت النعمة. وإذا تعرّض لنقمة أو محنة ، جحد وجود الإله القادر ، ويئس من رحمة الله ، إلا القليل من الناس الذين يصبرون في وقت المحنة ، ويشكرون الله على أي حال. وهذا هو خلق الإنسان ، كما صوّره القرآن الكريم في قوله تعالى :

(وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) [هود : ١١ / ٨ ـ ١١].

تصوّر هذه الآيات سوء طبع الإنسان ، فإنه يجهل سنّة الله وحكمته ، ويطلب أن يكون كل شيء على وفق هواه ، فتراه كما أقسم الحقّ سبحانه ، إذا أخّر الله العذاب

__________________

(١) طائفة قليلة من الأيام.

(٢) حاق : معناه حلّ وأحاط ، وهي مستعملة في المكروه.

(٣) شديد اليأس.

(٤) نائبة أصابته.

(٥) لبطر النعمة مغتر بها.

٩٣

وقتا من الزمان عن بعض الكفار ، بحسب توعّد الله إياهم ، بادر إلى القول استهزاء وتكذيبا : ما يحبس هذا العذاب؟ أي ما الذي يؤخّره عنّا؟ فأجاب الله تعالى بأنه إذا حان الوقت وحلّ الأجل الذي حدّده الله لنزول العذاب الذي يستهزئون به ، لم يصرفه عن الكفار صارف ، وسيحيط بهم من كل جانب ، جزاء بما كانوا يستهزئون به من العذاب قبل وقوعه. وعلى الجميع أن يعلموا أن وعد الله بالخير كائن حتما ، ووعيده بالجزاء واقع قطعا ، كما قال تعالى : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) [الرّعد : ١٣ / ٣٨] ، وقال سبحانه : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨)) [الطّور : ٥٢ / ٧ ـ ٨].

ومن صفات الإنسان الذّميمة إلا من رحم ربّك : أنه إذا منحه الله نعمة من صحة ورزق وأمن وولد بارّ ، رحمة منه ، ثم سلبه تلك النّعمة ، وأبدله بها نقمة من مرض أو فقر أو خوف أو موت أو كارثة ، إذا أنعم الله عليه ، ثم تغيّر حاله ، يئس وتحرّج وسخط ، وجحد وكفر ، ونسي النّعمة ، ولم يذكر إلا المحنة والمصيبة ، ولو تأمل قليلا ، ونظر إلى نعمة الله الباقية عليه في عقله وحواسه وغير ذلك ، أو قارن المصاب بغيره ، لهان عليه الأمر ، ولم يكفر ولم يجحد.

وإذا منح الله الإنسان (أي جنس الإنسان) نعمة من بعد ضرّاء ، كشفاء من مرض ، وقوة من بعد ضعف ، ويسر من بعد عسر ، لقال : ذهب ما كان يسوؤني من المصائب ، ولن ينالني بعد اليوم ضيم ولا سوء ، وأصبح شديد الفرح والبطر بتلك النعمة ، وتفاخر وتعاظم على غيره ، محتقرا من دونه. فكان في موقفه هذا أيضا مخطئا خطأ شديدا ، لأنه لا يقابل النعمة بالشكر عليها ، بل تفاخر على الناس ، وقصر في حقوق الله عليه. والسّيئات في قوله تعالى : (ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي) كل ما يسوء في الدنيا. وقوله سبحانه : (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) أي متماد في الفرح والبطر ، متفاخر على غيره.

٩٤

وكل من هذين الموقفين خطأ وسوء طبع ومرض شديد ، ففي حال المحنة أو النقمة يجب على الإنسان الصبر وطلب الفرج والرّضا بالقضاء والقدر ، لأن الصبر مفتاح الفرج ، وفي حال النعمة يلزمه الشكر والاعتراف بالجميل والوفاء بالمعروف ، لأن بالشكر تدوم النّعم ، وبالحمد لله والتفويض له يظهر الإيمان ، ويتم الإحسان.

ثم استثنى الله تعالى من جنس الإنسان إذا ساء طبعه غالبا جماعة تميّزوا بالصبر على الشدائد والمكاره ، كالجهاد والفقر والمصيبة ، وعملوا الأعمال الصالحة ، أي الأفعال الطيبة المفيدة ، كأداء الفرائض وشكر النعمة ، وعمل الخير والإحسان للناس ، والتّقرب إلى الله بصالح الأعمال ، أولئك لهم مغفرة لذنوبهم بسبب عملهم الصالح أو بصبرهم على الضرّ ، ولهم ثواب كبير في الآخرة على ما عملوا من أعمال الخير ، وما أسلفوا في زمن الرخاء ، وأقل مراتب هذا الثواب الظفر بالجنة.

وفي معنى الآية قوله تعالى : (وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٣)) [العصر : ١٠٣ / ١ ـ ٣].

كل هذا يذكرنا بأن الإنسانية السّوية والأصول الرشيدة تقتضي من كل إنسان الصبر عند الشدائد ومثابرة عبادة الله ، والشكر عند النعم ، حتى لا يتعرض المرء للسخط الإلهي أو العذاب الرّبّاني. والذي يحمل على الصبر هو حبّ الله وخوف الدار الآخرة. والعمل الصالح لا ينفع إلا مع هداية وإيمان.

تحدي العرب بالقرآن

وقف العرب في مكة من القرآن والنبي ودعوة الإسلام موقف المعاند والمكابر ، وحاولوا أن يدافعوا عن أنفسهم بأساليب ملتوية ، والمطالبة بأمور تعجيزية غير مقنعة ولا متفقة مع أصول المنهج العقلاني أو الخصام السياسي الشريف ، وتجاوز التمرد

٩٥

والغلوّ بهم إلى أن يزعموا أن القرآن افتراه محمد من عند نفسه ، فكان القرآن يرصد لهم هذه المواقف الشاذة ويتحداهم بالقرآن أن يأتوا بمثله إن صدقوا في افترائهم وزعمهم الباطل أن القرآن كلام بشر.

وهذا تصوير لمواقف التّعنت والاستكبار عند مشركي قريش في الآيات التالية : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤)) [هود : ١١ / ١٢ ـ ١٤].

سبب نزول الآية : ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن رؤساء مكة قالوا : يا محمد ، اجعل لنا جبال مكة ذهبا إن كنت رسولا. وقال آخرون : ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوّتك ، فقال : لا أقدر على ذلك ، فنزلت هذه الآيات.

ومن أسبابها أيضا أن كفار قريش قالوا : يا محمد ، لو تركت سبّ آلهتنا وتسفيه آبائنا ، لجالسناك واتّبعناك ، وقالوا : ايت بقرآن غير هذا أو بدّله ، ونحو هذا من الأقوال ، فخاطب الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على هذه الصورة من المخاطبة ، وردّ على أقوالهم مبطلا لها ، وليس المعنى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هم بشيء من هذا ، فزجر عنه ، فإنه لم يرد قط ترك شيء مما أوحي إليه ، ولا ضاق صدره ، وإنما كان يضيق صدره بأقوالهم وأفعالهم وبعدهم عن الإيمان.

والمعنى : لعلك أيها الرسول تارك بعض ما يوحى إليك أن تلقيه إليهم ، وتبلغه إياهم مخافة ردّهم له وتهاونهم به ، بسبب تسفيه أحلامهم والتّنديد بعبادتهم الأوثان ، وضائق به صدرك بأن تتلوه عليهم ، أو لأجل أن يقولوا : لولا أنزل عليه كنز ، أي لا

٩٦

تتضايق لأجل قولهم : هلا أنزل عليه كنز من ربّه يغنيه عن التجارة والكسب ، ويدلّ على صدقه. أو هلا جاء ملك من السماء يؤيد دعوته. والقائل : هو عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي.

ثم أوضح الله تعالى بمناسبة الرّد على المشركين في مطالبهم التعجيزية مهمة النّبي الرّسول ، وهي إنذار من عصاه بالنار ، فليس عليك أيها النّبي إلا إنذارهم بالوحي ، من غير مبالاة بما يقولون ، ولا آت بما يقترحون ، ولك أسوة بالرّسول السابقين قبلك ، فإنهم كذّبوا وأوذوا ، فصبروا حتى نصرهم الله ، والله هو الرقيب على أعمالهم ، الحفيظ للأمور ، فتوكّل عليه ، ولا تبال بهم ، فإنه عالم بحالهم ومجازيهم على أعمالهم.

ثم تحدى الله العرب بالإتيان بمثل القرآن أو سور معدودات منه ، ردّا على موقفهم ، فقال : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ...) أي بل يقول مشركو مكة : افترى محمد القرآن واختلقه من عند نفسه. والافتراء أخصّ من الكذب ، فهو الزعم بما ليس موجودا أصلا. فإن كان ما يزعمون صحيحا فليأتوا بعشر سور مثله مفتريات ، تحاكيه في الفصاحة والبلاغة ، وإتقان الأحكام والتشريعات الناظمة لشؤون الحياة. والمختار عند أكثر المفسرين أن القرآن معجز بسبب الفصاحة والمعاني. وطالبهم القرآن وترك لهم المجال بأن يستعينوا بمن استطاعوا من الإنس والجن إن كانوا صادقين في زعمهم أن القرآن مفترى. ولكنهم عجزوا أن يأتوا بمثل أقصر سورة من القرآن ، لأن كلام الله لا يشبه كلام المخلوقين.

وبعد هذا التّحدي إن لم يستجيبوا لكم ، أي إن لم يأتوا بمعارضة ما دعوتموهم إليه ، فاعلموا أنهم عاجزون عن ذلك ، وأن القرآن إنما نزل من عند الله وبإذنه وعلمه ، وبما لا يعلمه إلا الله من نظم معجز للخلق ، وإخبار بمغيبات لا معرفة لهم

٩٧

بها ، ووعد ووعيد منجز ، ومعان عالية ، وتشريع بأمر ونهي لا يبلغون مستواه. وأن الله واحد لا شريك له ، فهل أنتم أيها البشر منقادون خاضعون لأمر الله وحكمه ، وهل أنتم أيها المسلمون مخلصون في تدينكم وعبادتكم لله؟

من أراد الدّنيا ومن أراد الآخرة

وازن القرآن المجيد بين جزاء من قصد العمل للدنيا وحدها ، من جاه ولباس ، وزينة وأثاث ، وثروة ومال ، وطعام وشراب ، وبين من قصد بعمله تعمير الآخرة وبناء مستقبل الخلود. الأول يجازى بعمله وثمرة جهده ، فيعيش بمشيئة الله مترفا منعما بالصحة والسيادة والرزق الوفير وكثرة الأولاد ، وطالب الآخرة يحظى بنعيم الخلود وتأتيه الدنيا مع ذلك صاغرة منقادة له. وما أجمل هذه المقارنة في القرآن بين عامل الدنيا وعامل الآخرة ، فقال الله تعالى :

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧)) (١) (٢) (٣) [هود : ١١ / ١٥ ـ ١٧].

إن سبب معارضة المشركين وتكذيبهم بالقرآن هو الهوى والشهوة ، ومحض الحسد والرغبة في حظوظ الدنيا ، لذا قارن الله بين قاصد الدنيا وقاصد الآخرة. أما قاصد الدنيا : فهو من كانت إرادته متجهة لحبّ الدنيا وزينتها ومتاعها ، وكان يريد بأعماله

__________________

(١) أي لا ينقصون شيئا من أجورهم.

(٢) أي فسد وبطل ولم ينتفعوا به.

(٣) شكّ من وعيد النار.

٩٨

الدنيا فقط ، إذ لا يعتقد الآخرة ، فإن الله يجازيه على حسن أعماله في الدنيا بالنّعم والحواس وغير ذلك ، فمنهم مضيّق عليه ، ومنهم موسّع له ، ثم حكم عليهم بأنهم لا يحصل لهم يوم القيامة إلا النار ، ولا تكون لهم حال سواها. والسبب أنهم استوفوا حقوقهم في الدنيا ثمرة إحسان عملهم ، وبقي لهم في الآخرة وزر العمل السيء ؛ لأنهم لم يريدوا وجه الله تعالى ، والمطلوب في الثواب الأخروي هو الإخلاص لله عزوجل.

ولقد أحبط الله في ميزان الآخرة ثواب عمل أهل الدنيا فقط ، وتبدد وذهب عنهم أثر عملهم الدنيوي ، وبطل ثواب عملهم في الآخرة. وهذا وارد في آية أخرى هي : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩)) [الإسراء : ١٧ / ١٨ ـ ١٩].

وأما قاصد الآخرة بعمله فهو على حق وخير من أمره. ومعنى الآية : أفمن كان على نور وبصيرة من الله تدّله على الحق والصواب ، ويؤيده شاهد له على صدقه ، وهو كتاب الله من إنجيل أو توراة أو قرآن ، كمن كان يريد زينة الحياة ومتاعها؟! وهذا فريق المؤمنين بأنه لا إله إلا الله ، المصدقين باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب.

وخصّ الله تعالى بالذّكر بعد التعميم كتاب موسى وهو التوراة ، لأنه يشبه ما جاء في القرآن من تشريعات وأحكام ، ولا يقتصر على مجرد الآداب والأخلاق كالإنجيل.

وأولئك الذين يؤمنون بما في التّوراة من التبشير برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يؤمنون بالقرآن إيمانا حقّا عن يقين وإذعان ، كما قال النّجاشي رحمه‌الله : «إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة».

٩٩

ومن يكفر بالقرآن من أهل مكة ، ومن تحزّبوا على الإسلام ونبيّه من جميع الأمم ، فالنار مورده ، لا ريب في وروده إياها ، والمعنى : أن مآله حتما إلى جهنم ، وهو من أهل النار جزاء تكذيبه.

فلا تكن أيها المكلف السامع ، في شكّ من أمر هذا القرآن ، فإنه حقّ من الله لا ريب ولا شكّ فيه ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون بهذا القرآن ، كما جاء في آية أخرى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣)) [يوسف : ١٢ / ١٠٣].

والسبب : أن المشركين مستكبرون مقلّدون زعماءهم ، وأن أتباع الأديان حرّفوا كتبهم ودين أنبيائهم.

والخلاصة : في آية (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) معادلة محذوفة ، يقتضيها ظاهر اللفظ ، تقديرها : «أفمن كان على بيّنة من ربّه ، كمن كفر وكذّب أنبياءه؟ وإن ثمرة المقارنة أوضحت البون الشاسع بين مريد الدنيا ، فيوفى منها ، ومن يريد الآخرة فيعطاها وزيادة عليها وهو الدنيا». والقصد من آية (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) ذمّ الحريصين على الدنيا ونسيان الآخرة. والقصد من آية : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) الرّد على منكري نبوّة الرسول عليه‌السلام والطعن في معجزاته.

جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين

ليس من المنطق ولا من العدل أن يتساوى المؤمن والكافر ، والبر والفاجر ، والمحسن والمسيء ، وإنما لا بدّ من جزاء متفاوت لكل صنف ، وهذا التفاوت ناشئ من الأعمال الاختيارية الإرادية التي يمارسها كل منهم ، فأهل الإيمان هم أهل الجنة خالدين فيها ، وأصحاب الجحود والكفر والظلم هم الملعونون في الدنيا ، الخاسرون

١٠٠