التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٢

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0522-5
الصفحات: ٣٩٢

ثم جاء الكلام بصيغة الاستفهام والإضراب عن الكلام السابق في قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ..) أم هنا بمعنى الألف والاستفهام ، أيقولون : اختلقه محمد؟! ومحمد بشر مثلكم ، فأتوا بسورة مثل سور القرآن في الفصاحة والقوة والإحكام ، واستعينوا على ذلك بمن تريدون من الإنس والجنّ إن كنتم صادقين في ادّعائكم أن القرآن من عند محمد.

والواقع : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ..) أي بل سارع هؤلاء إلى تكذيب القرآن ، من قبل الإحاطة بما فيه ، والتدبر لآياته ، وفهم مراميه ، والتعرف على تأويله وإدراك ما جاء فيه من الإخبار بالمغيبات ، وكذلك أصرّوا على تكذيبه بعد معرفته والعلم بإعجازه. ومثل ذلك التكذيب بالقرآن من المشركين ، كذبت الأمم السابقة بمعجزات الأنبياء قبل النظر فيها وقبل تقييمها وتدبّرها ، من غير إنصاف من أنفسهم ، ولكن تقليدا للآباء وعنادا. فانظر أيها الرسول كيف كانت عاقبة أولئك الظالمين لأنفسهم بتكذيبهم رسلهم ، وطلبهم الدنيا ، وترك الآخرة ، وتلك العاقبة أن الله تعالى أهلكهم ودمّر ديارهم بسبب تكذيبهم رسلهم وأنبياءهم.

موقف قريش من القرآن والنّبي

حينما صدع النّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدعوة قومه في مكة إلى الإسلام ، انقسمت قريش في شأن القرآن والنّبي فريقين : فريق يصدّق بالقرآن ذاته وأنه كلام الله ويعلم أنه حق ، ولكنه يعاند ويكابر ، وفريق لا يصدق به ويشكّ فيه لفرط الغباء والجهل ، فيصّر على تكذيب النّبي ، لفقده الاستعداد للإيمان به ، فلا يكون هناك أمل في إصلاحه وهدايته ، مما يقتضي إعطاء الفرصة للفريق الأول للإيمان بالقرآن دون التعجيل بعذاب الاستئصال. وقد حكى القرآن خبر الفريقين في قوله تعالى :

٤١

(وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤)) (١) [يونس : ١٠ / ٤٠ ـ ٤٤].

هذا إخبار عن موقف مشركي مكة من القرآن والنّبي ، فهم فريقان : من هؤلاء القوم من سيؤمن في المستقبل ويتبع النّبي ، وينتفع بما أرسل به. ومنهم من يصرّ على كفره ولا يؤمن أبدا ، ويموت على ذلك ، وربّك أعلم بمن يفسد في الأرض بالشرك والظلم ، فلا أمل في إصلاحه ، وسيعذّبه الله في الدنيا والآخرة. وهذا تهديد ووعيد.

وإن كذبك هؤلاء المشركون أيها النّبي ، فتبرأ منهم ومن عملهم ، وقل لهم : لي عملي : وهو الإيمان بالله وتبليغ رسالته وطاعته ، وأنا مسئول عنه ، وسيجازيني الله عليه. ولكم عملكم : وهو الظلم والشرك والفساد ، وسيجازيكم الله عليه. أنتم بريئون مما أعمل ، وأنا بريء من عملكم ، فلا تؤاخذون بعملي ، ولا أؤاخذ بعملكم ، وأنتم مسئولون عنه. وهذه آية مناجزة لهم ومتاركة ، وفي ضمنها وعيد وتهديد. والآية في معنى قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ ..) [الكافرون : ١٠٩ / ١ ـ ٦].

وأما موقف المشركين المكّيين منك أيها النّبي فهم أصناف ، منهم من يستمعون إليك بآذانهم إذا قرأت القرآن وعلّمت الشرائع ، ولكنهم لا يعون ولا يقبلون ، وإنما يسمعون دون تدبّر ولا فهم ، وحينما لا يؤمنون ولا ينتفعون بسماع القرآن ، كأنهم

__________________

(١) يعاين أدلّة نبوّتك الواضحة.

٤٢

لا يسمعون ، وأنت أيها الرسول لا تستطيع الإسماع النافع لقوم صموا آذانهم عن سماعك ، ولا يعقلون ما يسمعون ولا يفهمون معناه ، فينتفعون به ، فلا تكترث بهؤلاء ، لفساد العقل والدماغ ، ولا سبيل لأن يعقلوا حجة ولا دليلا أبدا.

ومنهم من ينظر إليك أيها النّبي عند قراءة القرآن نظرة إعجاب ، ولكنهم لا يبصرون نور الإيمان والقرآن ، وهداية الدين القويم والخلق السليم ، ولا تقدر على هدايتهم ، لأنهم وإن كانوا مبصرين بأعينهم في الظاهر ، فهم غير مبصرين بقلوبهم في الحقيقة ، كما قال تعالى : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحجّ : ٢٢ / ٤٦].

وهذان الفريقان لا تستطيع يا محمد هدايتهم ، لفقدهم الاستعداد للفهم والانتفاع بنور الهداية ؛ لأن فائدة السمع والبصر هي الانتفاع ، فإذا لم ينتفعوا فكأنهم عطلوا حواسهم ، وفقدوا حاستي السمع والبصر ، كما قال الله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧)) [ق : ٥٠ / ٣٧].

ثم ختمت هذه الآيات بخاتمة تعدّ مبدءا عظيما في الحساب والمسؤولية ، وهي إقرار العدل ومنع الظلم والترفع عنه ، فإن الله تعالى لا يجور أبدا ، بسلب الحواس والعقول التي تدرك بها الأشياء ، ويهتدى بها إلى الحق والصواب ، ولكن الناس هم الظالمون لأنفسهم وحدها دون غيرها ، لأنهم يعرّضونها لعقاب الكفر والتكذيب والمعاصي ، بتعطيل نعمة العقل ، والتّنكر لهداية الدين. وهذا وعيد واضح للمكذبين ، ويكون عذابهم يوم القيامة حقّا وعدلا ، لا ظلم فيه.

٤٣

تهديد المشركين على تكذيبهم

توالت تهديدات القرآن الكريم للمشركين على تكذيبهم برسالة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبكل ما جاء فيها من وعد ووعيد ، وتنوعت أساليب التهديد ، فمرة ينذرهم القرآن بزوال الدنيا السريع ، ومرة يبين لهم أن تعذيبهم سيكون في الدنيا وفي الآخرة ، وأحيانا يحذّرهم بالقضاء الحاسم بينهم وبين رسولهم ، ويوضح أن إنزال العذاب مقصور على إرادة الله ومشيئته ، وهذا ما أوضحته الآيات التالية :

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧)) (١) (٢) [يونس : ١٠ / ٤٥ ـ ٤٧].

هذه ألوان من تهديدات مشركي مكة وأمثالهم بالعذاب ، والتهديد الأول يشتمل على وعيد بالجزاء في الآخرة والحشر وخزيهم فيه وتلاوم بعضهم لبعض ، وأن قيام الساعة والحشر قريب ، وزوال الدنيا سريع.

والمعنى : اذكر لهم أيها الرسول وأنذرهم يوم يجمعهم الله بالبعث بعد الموت في موقف الحساب والجزاء ، فيقدّرون أنهم لم يمكثوا في الدنيا إلا مدة يسيرة ، وكأنهم ما لبثوا في الحياة الدنيوية إلا مقدار ساعة بالنسبة لعالم الآخرة. إنهم أضاعوا الدنيا والعمر في اللهو والفساد ، ولم يعملوا لما ينفعهم في الآخرة. والساعة التي قضوها في الدنيا هي مقدار تعارفهم فيما بينهم ، ثم تنقطع المعرفة بينهم والأسباب.

لذا أعلن الله تعالى خسارة المكذّبين بقوله : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) أي

__________________

(١) الحشر : الجمع من كل جانب إلى موقف واحد.

(٢) بالعدل يوم الجزاء.

٤٤

إن هؤلاء الكفرة المكذّبين بالبعث في الآخرة ، قد خسروا ثواب الجنة خسارة كبري ، حين بدّلوا الإيمان بالكفر ، ولم يكونوا مهتدين لأوجه الربح والنفع بعمل الصالحات ، فما أخسرهم. وهذا تعجّب شديد من أفعالهم.

والتهديد الثاني أن بعض عذاب المشركين المكذّبين برسالة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيكون في الدنيا وبعضه سيكون في الآخرة ، فقل لهم أيها الرسول لمن يستعجل العذاب استهزاء واستبعادا : إما أن ننتقم منهم حال حياتك لتقرّ عينك كما حدث في معركة بدر وحنين وغيرهما ، وإما أن نعذبهم بعد رجوعهم إلينا في الآخرة وبعد وفاتك ، فنطلعك على أفعالهم ، ونجازيهم عن علم وشهادة حق ، فإن الله شاهد على ما يفعلون ، كما جاء في آية أخرى : (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠)) [الرّعد : ١٣ / ٤٠]. ويدلّ هذا على أن الله تعالى يري رسوله ألوانا من ذلّ الكافرين وخزيهم في الدنيا ، وسيزيد عليه بعد وفاة النّبي ، وفي عالم الآخرة.

فتكون الآية وعيدا بالرجوع إلى الله تعالى ، فإن أريناك أيها النّبي عقوبتهم ، أو لم نركها ، فهم على كل حال راجعون إلى الحساب والعذاب في الآخرة ، والله شهيد من أول تكليفهم على جميع أعمالهم.

والتهديد الثالث إخبار من الله تعالى بالقضاء الفصل في مصير المشركين يوم القيامة ، فإن لكل أمة رسولا ، فإذا جاء رسولهم يوم القيامة للشهادة عليهم ، صيّر قوم للجنّة وقوم للنّار ، فذلك القضاء بينهم بالقسط أي بالعدل ، وهم لا يظلمون في قضائه شيئا ، ولا عذاب بغير ذنب مرتكب ، ولا مؤاخذة بغير حجة ، من آمن بالرسول فاز ونجا ، ومن لم يؤمن هلك وعذّب ، كما جاء في آية أخرى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٧ / ١٥].

٤٥

هذه التهديدات الثلاثة كفيلة بردع أهل الغواية والشّر والضّلالة والكفر ، فإن العاقل يدرك المخاطر ، ويتجنّب المآخذ والسّيئات ، ويرسم لنفسه طريق النّجاة. ويتفاقم الخطر حين يعلم الإنسان أن العذاب لمن كفر بالله شديد مضاعف في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فذلّ وهزيمة وخزي وقلق ، وأما في الآخرة فنيران ملتهبة تحرق الأجساد ، ويتجدد العذاب على الدوام من غير انقطاع ، لأن الكافرين مخلدون في النار.

استعجال المشركين العذاب الدنيوي

ليس هناك أقبح جرما ولا أشنع موقفا من التّحدي والعناد والتّكبر ، وهذا الأسلوب من المعارضة كان منهج المشركين في مقاومة دعوة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاستعجلوا نزول العذاب الذي هددهم به ، استهزاء وإصرارا على الشرك والوثنية ، فأمهلهم القرآن وناقش مطالبهم وأنذرهم بقرب العذاب والعقاب. قال الله تعالى واصفا موقف مشركي مكّة :

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢)) (١) (٢) (٣) [يونس : ١٠ / ٤٨ ـ ٥١].

لقد طالب مشركو قريش تحديد وقت العذاب الذي هددهم به النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : متى يقع هذا الوعيد ، إن كنتم صادقين في تهديدكم وقولكم؟ أي إن هذا الذي توعدنا به حدّد لنا فيه وقته ، لنعلم الصدق في ذلك من الكذب.

__________________

(١) أخبروني.

(٢) ليلا.

(٣) هل الآن تؤمنون بوقوع العذاب؟

٤٦

فأجابهم الله تعالى ردّا للحجة : قل لهم يا محمد ، إني بشر ، لا أملك لنفسي ضرّا ولا نفعا من دون الله ، ولا أنا إلا في قبضة سلطانه وفي مظلة الحاجة إلى لطفه وتوجيهه ، إلا ما شاء الله أن يقدرني ويخبرني ، فإذا كنت هكذا ، فأحرى ألا أعرف غيبه ، ولا أتعاطى شيئا من أمره ، ولكن لكل أمة أجل ، انفرد الله تبارك وتعالى بعلم حدّه ووقّته ، فإذا جاء ذلك الأجل في موت أو هلاك أمة ، لم يتأخّروا ساعة ، ولا أمكنهم التقديم عن حدّ الله عزوجل. إن تعيين وقت الوعيد وإنزال العذاب مرجعه إلى الله تعالى وحده. وأما الرسول فمهمته مقصورة على تبليغ ما جاء من عند الله سبحانه. وهذا يبين الحدّ الفاصل بين سلطان الله ونطاق معرفة البشر وخبرتهم.

ثم أجابهم الله تعالى بجواب آخر : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) أي قل لهم أيها الرّسول : أخبروني عن حالكم وما يمكنكم أن تفعلوه ، إن أتاكم عذابه ليلا وقت مبيتكم ، أو نهارا وقت شغلكم ، فما ذا تستعجلون منه ، وأنتم لا قبل لكم به؟ أي عذاب وقع فهو شديد ، وكل ما تطلبون تعجيله هو جهل وحماقة.

أتنظرون مجيء هذا العذاب لتؤمنوا بالله ربّكم؟ فإذا وقع بالفعل آمنتم به ، في وقت لا ينفع الإيمان ، ويقال لكم حينئذ توبيخا : آلآن آمنتم بالله والرّسول اضطرارا وقسرا ، مع أنكم كنتم قبل ذلك تستعجلون العذاب على سبيل السخرية والاستهزاء والتكذيب والاستكبار؟! والمراد أنه إذا وقع العذاب وآمنتم بالله ، فذلك غير نافعكم.

ثم يجيء الوعيد الأعظم بالخلود لأهل الظلم الأخصّ وهو ظلم الكفر ، لا ظلم المعصية. فيقال لأولئك الكفار المعاندين الظالمين أنفسهم ، المكذبين الرسول ووعيده : تذوقوا وتجرعوا عذاب الله الدائم لكم أبدا ، لا تجزون إلا ما كنتم تكسبون وتعملون

٤٧

باختياركم من الكفر والمعاصي. وقوله سبحانه : (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) توبيخ وبيان لقانون الجزاء : وهو أن الجزاء في الآخرة ، إنما يكون على تكسب العبد ، وإقدامه على الفعل بحرية واختيار وجرأة على مخالفة أوامر الله. وذكر هذه العلة : (بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) بعد ذكر العذاب : دليل على أن جانب الرّحمة الإلهية راجح غالبا ، وجانب العذاب مرجوح مغلوب. لكن الرحمة الإلهية منوطة بإرادة الله ، أما قانون العدل فهو أن الجزاء من جنس العمل ، ويوجب العمل ، لأن الجزاء واجب بحكم الوعد المحض ، ولله سبحانه المشيئة المطلقة ، يفعل ما يشاء ، ويحكم بما يريد.

تحقّق المشركين من وقوع العذاب الأخروي

استبطأ المشركون لجهلهم وحماقتهم وقوع العذاب في الدنيا ، فأخرسهم القرآن ، وأبان لهم أن توقيت العذاب بأمر الله وحكمته ، ثم تشكّكوا في وقوع عذاب الآخرة ، فبدؤوا يتساءلون عن مدى صحته ومصداقية الوعيد به ؛ لأنهم قوم ينكرون البعث والآخرة جملة ، ويعتقدون بأن الموت في الدنيا نهاية دائمة ، لا عودة بعدها إلى الحياة مرة أخرى. وهذا ما صوره القرآن الكريم تصويرا دقيقا وبيانا صريحا بقوله تعالى :

(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦)) (١) (٢) (٣) (٤) [يونس : ١٠ / ٥٣ ـ ٥٦].

__________________

(١) يستخبرونك.

(٢) نعم وربي.

(٣) بفائتين من العذاب بالهرب.

(٤) أخفوا الغم والحسرة.

٤٨

إن آثار الشّرك خطيرة ، ومزالقه كثيرة ، ومن أخطرها إنكار عالم الآخرة ، وما فيها من ثواب وعقاب ، وحساب وجنّة ونار ، لذا بادر المشركون إلى التشكيك فيما أخبر به القرآن من وجود الآخرة قطعا. فطلبوا الأخبار ، ولجّوا في الجواب ، كما تصور الآية التي مفادها : ويستخبرونك أيها الرسول عن وقوع عذاب الخلد في الآخرة ، أحقّ أنه سيقع على جرائم الدنيا ، أم أنه مجرد تخويف وترهيب؟ فقل لهم أيها الرسول : نعم إنه والله واقع ، إنه لحقّ ثابت ماله من دافع ، والوعيد صدق قائم ، وما أنتم بمعجزين ، أي بفائتين العذاب ، أو متخلّصين منه ، وليس صيرورتكم ترابا بمعجز الله عن إعادتكم كما بدأكم ، فإن قدرة الله شاملة وافية بتحقيق أي شيء ممكن.

لكن إذا جاءت القيامة فلا أمل بالفرار منها ، وإذا قامت القيامة يودّ الكافر الظالم أن يفتدي نفسه من عذاب الله بملء الأرض ذهبا ، (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) أي أخفى الكفار الندامة وهي : ما يعانونه في أنفسهم من الألم والحسرة على أفعالهم الشنيعة وأعمالهم الضّارة ، لمّا عاينوا العذاب الشديد ، فصاروا مبهوتين متحيرين ، علما بأنه لا ظلم في الحساب يوم القيامة ، فإن الله تعالى يحكم بين الظالمين والمظلومين بالعدل ؛ لأن الكفار وإن اشتركوا في العذاب ، فإنه لا بد من أن يقضي الله تعالى بينهم بالحق ، رفعا لما ظلم به بعضهم بعضا في الدنيا ، فيكون في القضاء تخفيف عذاب بعضهم ، وتثقيل عذاب الباقين. وهذا إخبار للكفار في سياق إخبارهم بأن وعد الله بالبعث ووعيده حق.

وأتبع الله ذلك الإخبار أو الاعلام بأن الملك كله لله ، وأنه المعاقب ، فإن الله مالك السماوات والأرض ، وكل الأشياء في ملكه وفي سلطانه ، وأكّد سبحانه أن وعده حقّ كائن لا محالة ، ولكن أكثر الكفار منكري البعث والجزاء لا يعلمون أمر الآخرة والمعاد ، لغفلتهم عنها ، وعدم إيمانهم بالإله القادر الحكيم ، وتلك حقيقة

٤٩

أبانها الله بوضوح ، ليعلموا علم اليقين بأن الملك المطلق لله ، وأن كل ما سواه مملوك له.

ومن أدلّ الأدلة على قدرة الله تعالى على البعث والجزاء والثواب والعقاب : أنه تعالى هو المحيي والمميت ، وإليه مرجع الخلائق حين يحييهم بعد موتهم ، فيحشرهم للحساب والجزاء على أعمالهم ، يحيي من النطفة ، ويميت بالأجل ، ثم يجعل المرجع إليه بالحشر يوم القيامة. قال ابن عطية : وفي قوة هذه الآيات ما يستدعي الإيمان وإجابة دعوة الله عزوجل.

وتتجلى القوة والرّهبة في عالم الحساب في أمور ثلاثة :

الأمر الأول ـ ذلك الصراع العنيف في داخل نفوس الكفار وإظهار الندامة على ما فاتهم من الفوز والخلاص من العذاب ، ولهذا يقولون : (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦)) [المؤمنون : ٢٣ / ١٠٦].

الأمر الثاني ـ معاينة العذاب الذي لا يوجد أشد منه ، ولا يتصور الإنسان في الدنيا مدى إيلامه وقسوته ، وتنوعه ورهبته.

الأمر الثالث ـ اليأس من النجاة والشفاعة ، لأن الملك المطلق والسلطان النافذ لله تعالى ، فهو وحده القادر على ما يريد ، العليم بما يستحقه كل إنسان من العقاب العادل. قال تعالى : (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩)) [الكهف : ١٨ / ٤٩].

٥٠

مقاصد القرآن وشرائعه

أراد القرآن المجيد بالناس خيرا ، فزوّدهم بما فيه النفع والسعادة ، وشفى نفوسهم من أمراض القلوب ، وهداهم إلى الحق ، وأبعدهم عن كل أنواع الضلال والانحراف ، وشرع لهم الشرائع بفضل من الله ورحمة منه ، فكان جديرا بالناس جميعا الإيمان به والتزام أحكامه والبعد عن أسباب الشقاوة والعذاب ، وعدم التورّط بالتحليل والتحريم بمجرد الهوى والشهوة ، من غير ميزان العقل والحكمة كشأن أهل الجاهلية ، قال الله تعالى مبيّنا مقاصد القرآن وأسباب تشريعاته :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠)) (١) (٢) [يونس : ١٠ / ٥٧ ـ ٦٠].

جمعت هذه الآيات بين خطاب جميع العالم ، وبين توبيخ عرب الجاهلية على التحليل والتحريم بسبب الأهواء والمزاعم. أما الخطاب العام لجميع البشر فمضمونه : يا أيها الناس ، قد جاءكم كتاب جامع لكل المواعظ التي يراد بها إصلاح الأخلاق والأعمال ، والزّجر عن الفواحش ، وشفاء الصدور من الشكوك وسوء الاعتقاد ، والهداية إلى الحق واليقين والطريق القويم المؤدي إلى سعادة الدنيا والآخرة. وسمي القرآن الكريم موعظة لأن الوعظ إنما هو بقول يأمر بالمعروف ، ويزجر ، ويرقّق النفوس ، ويوعد ويعد ، وهذه صفة الكتاب العزيز. وهي موعظة (مِنْ رَبِّكُمْ) لم يختلقها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا غيره ، بل هي من عند الله عزوجل.

__________________

(١) أخبروني.

(٢) تكذّبون.

٥١

وهذا الخطاب العام اشتمل على بيان مقاصد أربعة للقرآن الكريم وهي :

١ ـ كونه موعظة حسنة من عند الله تعالى ، يجمع بين الترغيب والترهيب ، وبين الحثّ على فعل الحسن وترك القبيح.

٢ ـ وكونه شفاء لما في القلوب من الشبهات والشكوك ، والنفاق والكفر ، وسوء الاعتقاد وشراسة الخلق ، والتّخلص من الجهل والعتو عن النظر في آيات الله تعالى.

٣ ـ كونه هاديا إلى الحق الأبلج واليقين الساطع والصراط المستقيم المحقق لسعادة الدنيا والآخرة.

٤ ـ إن القرآن هدى ورحمة للمؤمنين خاصة ، ينجيهم من ظلمات الضلال ، إلى نور الإيمان ، ويبعدهم عن النّيران ، ويرقى بهم إلى درجات الجنان.

قل أيها الرسول للمؤمنين : ليفرحوا بفضل الله ورحمته بما جاءهم من الهدى ودين الحقّ ، فإنه أولى ما يفرحون به. والفضل كما قال ابن عطية : هو هداية الله تعالى إلى دينه ، والتوفيق إلى اتّباع شريعته ، والرّحمة : هي عفوه وسكنى جنّته التي جعلها جزاء على الإيمان والإسلام. والفرح بهذا الفضل وبهذه الرحمة هو أجدى وأنفع من كل ما يجمعه الناس من الأموال وسائر خيرات الدنيا ؛ لأنه يؤدي لسعادة الدارين.

ثم أوضح الله تعالى بخطابه الخاص بعرب الجاهلية : أن التشريع بالتحليل والتحريم هو حقّ الله تعالى ، وليس للناس الحق في التشريع ، فما قام به العرب من تحريم البحائر والسّوائب والوصايل من المواشي وغير ذلك مجرد اختلاق وكذب منهم ، ولم يأذن الله به. وهذا توبيخ شديد على إعطاء الجاهلين أنفسهم حقّ التّحليل والتّحريم ، فمن أحلّ برأيه أو حرّم بمجرد هواه ، فإنه مفتر على الله ، ومتجاوز حدوده ، كما جاء في آية أخرى : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) [النّحل : ١٦ / ١١٦].

٥٢

وأي شيء ذلك الظّن الصادر من المفترين على الله الكذب فيما يصنع بهم من الجزاء يوم القيامة؟! أيظنّون أنهم يتركون بغير عقاب على جريمة الافتراء والكذب على الله؟ إن ظنّهم في غاية الرّداءة بحسب سوء أفعالهم. وهذا وعيد عظيم مقتضاه التّهكم وتأكيد العقاب.

إن الله تعالى صاحب الفضل العميم على الناس ، حيث أنعم عليهم بنعمة العقل ، ورحمهم بالوحي ، وأبان لهم الحلال والحرام ، وشرائع الدين ، ورزقهم من الطّيبات ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون هذه النعمة ولا ذلك الفضل ، فاستحقّوا العذاب ، والعتاب ، وإهمالهم في الآخرة.

شمول العلم الإلهي وجزاء الأولياء

يذكّرنا الله تعالى في مناسبات مختلفة أن علمه شامل كل شيء في السماوات والأرض ، ليحملنا على الطاعة والشكر ، والعبادة والاستقامة ، والبعد عن المعصية ، لأن العلم الإلهي بالأشياء ، يسّر به الطائعون ، ويحذره المذنبون. وأهل الطاعة وأولياء الله مشمولون بالرّعاية الإلهية وبالإفضال الرّبانيّة ، وليس هناك أعظم من الفوز بالنّجاة من العقاب في عالم الآخرة ، وصف الله تعالى إحاطة علمه وتبشيره أولياءه بهذه الآيات :

(وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا (١) (٢) (٣) (٤)

__________________

(١) في أمر معتنى به.

(٢) أي تأخذون وتنهضون بجدّ.

(٣) أي لا يبعد عنه ولا يغيب عن علمه.

(٤) أي وزن نملة أو أصغر.

٥٣

أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١) أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤)) [يونس : ١٠ / ٦١ ـ ٦٤].

القصد من الآية تبيان إحاطة علم الله بكل شيء ، والإخبار بأنه يعلم جميع أحوال الناس ، ومعنى اللفظ : وما تكون يا محمد وغيرك في شأن من جميع الشؤون ، وأمر من الأمور الخاصة والعامة ، وما تتلو من أجل ذلك الشأن من قرآن ينزل عليك ، لنشر دعوة الله في الأرض ، إلا ونحن شهود عليكم ، حين تفيضون فيه ، أي تقومون فيه بجدّ ونشاط. ولا يغيب عن علم الله شيء حتى يخفى عليه ، ولو كان مثقال ذرة ، أي وزن نملة ، أو هباء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر كالعرش ، إلا في كتاب مبين ، أي إلا ومعلوم له ، ومدون في اللوح المحفوظ ، الذي كتب فيه مقادير الموجودات كلها. وقوله سبحانه : (مِثْقالِ ذَرَّةٍ) جعله الله مثالا ، إذ لا يعرف في الحيوان المتغذّي المتناسل المشهور النوع والموضع أصغر منه.

وهذه الآية مثل قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩)) [الأنعام : ٦ / ٥٩].

وبعد أن أعلم الله عباده بإحاطة علمه بجميع الأشياء والأعمال ، ليبعثهم على الشكر والعبادة ، ذكر حال الشاكرين المتّقين الذين حسن جزاؤهم في الآخرة ، وهم أولياء الله ، أي أحبّاؤه وأصفياؤه ، وهم المؤمنون الذين والوه بالطاعة والعبادة ، فكل من آمن بالله واتّقى ربّه ، فهو داخل في أولياء الله. وهؤلاء الأولياء المقرّبون إلى الله لا خوف عليهم في الدنيا من مكروه يتوقع ، ولا حزن عليهم في الآخرة من مخاوف القيامة ، فهم لا يخافون عذابا ولا عقابا ولا يحزنون لذلك ، روى البزار

٥٤

وغيره عن ابن عباس قال : قال رجل : يا رسول الله ، من أولياء الله؟ قال : «الذين إذا رؤوا ذكر الله».

ولهم البشارة في الحياة الدنيا بالنصر والتّمكن في الأرض ، ما داموا على شرع الله ودينه ، يقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، كما قال الله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) [النّور : ٢٤ / ٥٥].

ولهم البشارة أيضا في الحياة الأخروية بحسن الثواب والنعيم المقيم في الجنة ، كما قال الله تعالى : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١)) [التّوبة : ٩ / ٢١]

(لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) أي لا تغيير لأقواله ، ولا خلف لمواعيده ، ولا ردّ في أمره ، كقوله تعالى : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) [ق : ٥٠ / ٢٩] ومن كلماته تعالى : تبشير المؤمنين بالجنّة ، وذلك المذكور وهو البشارة للمؤمنين المتقين أولياء الله في الدّارين بالسعادة : هو الفوز العظيم الذي لا فوز غيره ؛ بالنعيم المبشر به ؛ لأنه ثمرة الإيمان والعمل الصالح.

إن هاتين البشارتين للأولياء العاملين بأوامر الله ، المجتنبين نواهيه لهما أعظم البشائر وأجلّها وأكرمها ، فما أكرم المبشّر وأحبّه عند ربّه ، وما أسعد المبشّرين ، نسأل الله العظيم أن يجعلنا في زمرتهم.

العزّة لله جميعا

لقد أيّد الله نبيّه تأييدا مطلقا ، وسرّى عنه في أوقات الشدة والمحن ، وأخبره بالسلامة ، وبشّره بالغلبة على المشركين المغترين بالقوة والمال ، وأعلمه بأن العزّة لله جميعا ، فهم لا يقدرون لك أيها النّبي على شيء ، ولا يؤذونك إلا بما شاء الله ، وهو

٥٥

القادر على عقابهم وإيقاع العذاب الشديد بهم. وفي هذا تقوية لعزيمة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لكي يظلّ قائما بدعوته ، ماضيا في تبليغ رسالته ، غير آبه بما يلقى من المصاعب ، ولا خائف من أحد. وهذه المعاني تتمثل في الآيات التالية :

(وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧)) (١) (٢) [يونس : ١٠ / ٦٥ ـ ٦٧].

لم يترك المشركون في مكة وسيلة لإيذاء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا ارتكبوها ، فحينما بدّد القرآن شبهاتهم الفكرية وردّ عليها ، لجؤوا إلى طريق آخر ، وهو التّهديد والتّخويف بأنهم أصحاب السلطة والمال ، والقوة والنفوذ ، فلا مجال للضعفاء والفقراء بينهم ، ولا سبيل لمحاولة بسط النفوذ عليهم من خلال أي شيء في دنيا العرب ، لا بدعوة إلى الدين الجديد ، ولا بغير ذلك من وسائل الهيمنة كما يتصورون.

فجاءت آيات الوحي القرآني تواسي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتشدّ عزيمته ، ومعناها : لا يهمّك ولا يحزنك أيها الرسول قول المشركين أبدا : لست مرسلا ، وغير ذلك من المعارضة والإصرار على الشّرك والتّكذيب لرسالتك ، والتهديد بأنهم أصحاب القوة والمال ، واستعن بالله عليهم ، وتوكّل عليه ، فإن العزّة ، أي الغلبة والقوة والقهر لله تعالى جميعا ، جميعها له ، فهو مصدرها ومانحها لمن يشاء من عباده ، كما جاء في آية أخرى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) [المنافقون : ٦٣ / ٨].

والله سبحانه هو السميع لجميع ما يقولون ، والعليم بما في نفوسهم من ذلك ، وفي ضمن هذه الصفات تهديد.

__________________

(١) إن القهر والغلبة لله تعالى.

(٢) أي يحسدون ويخمنون ويكذبون فيما ينسبونه إلى الله تعالى.

٥٦

ودليل تفرد الله بالعزة أنه مالك السماوات والأرض وما بينهما ومن فيهما ، لا ملك لأحد فيهما سواه ، فكان هو صاحب السلطان المطلق والتّصرف الشامل ، ولا يتّبع الذين أشركوا الشّركاء لله فيما زعموا إلا بمحض الظّن الفاسد ، أي الوهم الخطأ ، من غير أي دليل ، ولا حقيقة واقعية ، فليس لله شريك أبدا ، ولا تصلح الأصنام وغيرها آلهة ؛ لأنها مملوكة لله ، ولا قدرة لها على شيء من أمور العباد ، سواء النفع أو الضّر ، بل لا تستطيع دفع الضرّ عن نفسها ، ولا جلب الخير أو النفع لذاتها.

ما يتّبع هؤلاء المشركون فيما زعموا إلا الأوهام والتّخرصات أي التّخمينات وألوان الكذب فيما ينسبون إلى الله. وإذا لم تكن معبودات الوثنيين آلهة ، فلا تصلح وسطاء أو شفعاء لعابديها عند الله ؛ لأن جميع من في السماوات والأرض مملوك لله تعالى ، والمملوك لا شأن له أمام المالك ، قال الله تعالى : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤)) [مريم : ١٩ / ٩٣ ـ ٩٤].

ودليل آخر على تفرّد الله بالعزّة التّامة ، وانعدام أي دور للشّركاء أنّه تعالى خالق الليل والنّهار ، وجاعل الليل للاستراحة والسّكن والاطمئنان فيه بعد عناء النهار والاشتغال فيه ، وجاعل النّهار مضيئا للمعاش والعمل والسّفر وقضاء الحوائج والمصالح ، إن في ذلك (وهو كون الليل مظلما يسكن فيه ، والنّهار مبصرا يتصرّف فيه) لدلالات وعلامات على قدرة الله وعزّته وكونه الإله المعبود بحق ، لقوم يسمعون هذه الأدلة ، ويعون ما فيها ويتدبّرون ما يسمعون ، ويستدلّون على عظمة خالقها ومقدّرها ومسيّرها.

والحاصل : ان للعقل البشري في القرن العشرين بعد نضجه واكتماله أن يدرك إدراكا صحيحا أن الله وحده هو الإله المعبود ، وكل من سواه من المخلوقات ليس لها

٥٧

إطلاقا مقوّمات الألوهيّة والرّبوبية ، وبرهان ذلك أنها مخلوقة وعاجزة عن خلق غيرها ورفدها بالرّزق وإمدادها بمقومات الحياة. أما توارث المعتقدات فيحتاج لإعادة نظر وتأمّل صحيح وفهم لطبيعة ذات الإله ، ولا يعذر الإنسان في خطئه الاعتقادي.

إبطال نسبة الولد لله تعالى

إن من أعظم المفتريات وأبطل الباطلات نسبة الولد لله تعالى ، سواء كان ذلك من المشركين القائلين بأن الملائكة بنات الله ، أو من الزاعمين أن بعض البشر المقرّبين أو الرّسل الكرام أبناء الله تعالى. فليس لله حاجة على الإطلاق لاتّخاذ الولد والصاحبة والشّريك ؛ لأنه المتعالي عن صفات البشر ، ولأن الله غني ، والمخلوقون عاجزون ، والعاجز يحتاج لمساعدة غيره ، ومن استغنى عن غيره ، كان غضاضة ومنقصة أن تنسب إليه شيئا من صفات النّقص. لكل هذا قال الله تعالى :

(قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)) (١) [يونس : ١٠ / ٦٨ ـ ٧٠].

إن القرآن العظيم أثبت عظمة الله تعالى بأدلة مختلفة ، منها خلق السماوات والأرض ومن فيهما ، ومنها أفعاله المبينة لعظمته كخلق الليل والنهار وإيجاد تعاقب بينهما. وما دامت العظمة المطلقة ثابتة لله سبحانه فلا بدّ من الإنكار على المشركين

__________________

(١) أي حجة وبرهان.

٥٨

وغيرهم الذين ادّعوا أن لله تعالى ولدا. وموضوع الآيات هو هذا الإنكار الشديد على نسبة الولد لله سبحانه. ومعناها : زعم بعض المشركين أن الملائكة بنات الله ، وزعم غيرهم أن رسولا نبيّا أو وليّا مقرّبا صالحا هو ابن الله. تنزه الله وتقدّس عن الولد والشريك ، لأنه هو الغني بذاته عن كل ما سواه ، وكل شيء فقير إليه ، ولا حاجة له للولد.

وكيف يكون لله ولد مما خلق؟ وكل شيء مملوك له وعبد له ، وهو خالق السماوات والأرض ومن فيهما ، ولا شبيه له ولا نظير ، ولا يحتاج لأحد من خلقه ، ولا يشاركه في ملكه وسلطانه وتصرّفه وتدبيره أحد ، فكيف يتخذ ولدا مخلوقا موهوبا له ، محتاجا إليه في كل شيء مادّي كالرزق والمعيشة ، أو معنوي كالإعانة والنّصرة؟! والولد جزء مما هو غني عنه ، كما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥)) [فاطر : ٣٥ / ١٥].

وليس عندكم أيها المشركون أي سلطان أو دليل على ادّعائكم وجود ولد لله ، وما تقولونه محض الكذب والافتراء والبهتان ، أتقولون على الله قولا لا حقيقة له ، وتنسبون إليه تعالى ما لا يصح عقلا وواقعا نسبة الولد إليه؟! وقوله تعالى : (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) استفهام يراد به التوبيخ والتقريع ، والتّهديد الشّديد.

ثم توعّد الله تعالى الكاذبين عليه المفترين الزّاعمين أن لله ولدا بأنهم قوم خاسرون ، لا يفوزون بخير في الدنيا ولا في الآخرة ، أما في الدنيا فيستدرجهم ربّهم ويمتّعهم قليلا ، وأما في الآخرة فيضطرّهم إلى عذاب غليظ شديد ، فهم لا يظفرون ببغية ، ولا يبقون في نعمة.

وهذا ما قررته الآية هنا (مَتاعٌ فِي الدُّنْيا) أي لهم تمتع في الدنيا قليل ولمدة قصيرة ، (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) أي ثم بعد الموت يرجعون إلى ربّهم بالبعث يوم

٥٩

القيامة ، وما فيه من أهوال المحشر والحساب والعقاب. (ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) أي ثم يلقون الشقاء المؤيّد ، ويعذّبون في نار جهنّم العذاب المؤلم الموجع الشديد الألم ، بسبب كفرهم وافترائهم وكذبهم على الله ، فيما نسبوه إليه زورا وبهتانا. وهذا توعّد بحقّ.

وفي الآية دليل واضح على تعرّض الكافرين للخسارة المحققة ، فإن ما يتوهّمون أنه نجاح في الدنيا بالحصول على المنافع المادّية والمعنوية ، والثروة والجاه ، لا قيمة ولا وزن له أصلا في مقابلة ما فاتهم في الآخرة من ثواب عظيم ونعيم مقيم في جنان الخلد ، فإن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة. وهذا يشعرنا بأن وجود الثروة أو المال والجاه عند بعض الجاحدين الكافرين لا يدلّ على حسن الحال ، أو ارتقاب النّجاة والسّعادة في عالم الآخرة.

قصة نوح عليه‌السلام مع قومه

ليس هناك أناس صبروا على إيذاء أقوامهم ، وجاهدوا في سبيل نشر دعوتهم ، مثل الرّسل والأنبياء عليهم‌السلام ، ومن أسبقهم نوح عليه‌السلام أبو البشر الثاني ، وأول الرّسل أولي العزم ، دعا قومه إلى توحيد الإله من غير أجر ولا مقابل ، فكذّبوه وآذوه ، فأنجاه الله ومن آمن معه ، وأغرق المكذّبين بالطّوفان. وهذا ما قصد القرآن الكريم في الآيات التالية :

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً (١) (٢) (٣) (٤)

__________________

(١) المقام : وقوف الرجل لكلام أو لخطبة أو نحوه. والمقام : إقامته ساكنا في موضع أو بلد.

(٢) التّذكير : الوعظ والزّجر.

(٣) اعزموا وصمموا.

(٤) مبهما ، والغمّة : أي الخفي المشكل.

٦٠