التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٢

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0522-5
الصفحات: ٣٩٢

ويكون الشاهد الأصلي هو من الأمة نفسها في اللسان والسيرة وفهم الأغراض والإشارات ، حتى يتحقق الهدف المقصود ، فلا يتمكن من ذلك من كان غريبا عن الأمة ، فلذلك لم يبعث الله نبيا قطّ إلا من الأمة المبعوث إليهم.

ثم يكون النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاهدا على الأنبياء والأمم ، تأكيدا لشهادة الأنبياء ، ولأن نبينا حكم عدل في القضاء بين الأمم وأنبيائها ، من طريق الأخبار الواردة في القرآن بأن كل نبي بلّغ أمته رسالة الله وتكاليفه. ويؤيد هذا المعنى آية أخرى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : ٢ / ١٤٣].

ويرى أكثر المفسرين أن قوله تعالى : (وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) يراد بهؤلاء : الأمة التي أرسل لها نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والقصد من هذه الشهادة : أنه أزاح عنهم علتهم فيما كلّفوا به ، وهو ما جاءهم به من عند الله ، فلم يبق لهم حجة ولا معذرة ، ودل على ذلك تتمة الآية : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ ..) أي : نزّلنا على التدرج عليك أيها الرسول هذا القرآن ، تبيانا واضحا لكل شيء من العلوم والمعارف الدينية والإنسانية ، مما يحتاج إليه الناس في حياتهم ، وهدى للضالين ، ورحمة لمن صدّق به ، وبشرى لمن أسلم وجهه لله ، فأطاعه وأناب إليه ، بشرى بجنان الخلد والثواب العظيم.

فالقرآن الكريم شفاء لما في الصدور ، ودواء ناجع لكل أمر صغير وكبير ، وفيه حكم كل شيء مما نحتاج إليه في الشرع ، ولا بد منه في الملة ، كالحلال والحرام ، والدعاء إلى الله ، والتخويف من عذابه ، كما جاء في قوله تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٦ / ٣٨].

وتبيان كل شيء في القرآن ، إما نصا على حكمه صراحة ، وإما إحالة على السنة النبوية ، حيث أمر الله باتباع رسوله وطاعته ، في قوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ

٣٦١

أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٤ / ٨٠]. وإما اعتمادا على الإجماع في قوله سبحانه : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) [النساء : ٤ / ١١٥]. وإما عملا بالاجتهاد أو القياس ، وإما ببيان القواعد الكلية والمبادئ والمقاصد العامة ، وأصول التشريع ، فكان القرآن بهذه الأصول والقواعد تبيانا لكل شيء. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أبو داود والترمذي : «إني أوتيت القرآن ومثله معه».

والواقع أن عموم القرآن وشموله لكل نواحي الدين والدنيا والقيادة والعبادة ، وأنظمة الحياة الاقتصادية ، والسياسية ، والحربية ، والاجتماعية ، إنما جاء من طريق جعله دستور الحياة الإسلامية الصالح لكل زمان ومكان ، والدستور عادة يكون بوضع الأصول والمبادئ العامة والأنظمة الكلية في الجملة ، وبأسلوب مرن.

أجمع آية للخير والشر

امتاز التشريع القرآني ببيان الإيجابيات والسلبيات ، وإيضاح المحاسن وأصناف الخير ، والتحذير من المساوئ وألوان الشر ، وكان منهجه ليس مجرد وضع قوانين جامدة ، وإنما التنصيص على قواعد العدل ، مع قرنها بالإحسان ، وبناء الحياة بقواعد المعروف ، والتنبيه إلى معاول الهدم بمقاومة المنكر والبغي ، والعدل والإحسان يحتاج احترامهما إلى الوفاء بالعهد ، وتحريم الخيانة والغدر ، ومنع نقض الأيمان والعهود ، قال الله سبحانه مبينا هذه الأصول :

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا (١) (٢) (٣) (٤)

__________________

(١) بالاعتدال والتسوية في الحقوق.

(٢) إتقان العمل.

(٣) الذنوب القبيحة.

(٤) الظلم والتجبر على الناس.

٣٦٢

تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) [النّحل : ١٦ / ٩٠ ـ ٩٢].

قال ابن مسعود رضي الله عنه : أجمع آية في كتاب الله آية في سورة النحل ، وتلا هذه الآية : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ)

وروى ابن جرير الطبري عن بريدة ، في بيان سبب نزول آية : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ ..) قال : نزلت هذه الآية في بيعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وروى ابن جرير أيضا : أن الآية نزلت في بيعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان من أسلم ، يبايع على الإسلام ، فقال الله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ ..) الآية ، فلا تحملنكم قلة جند محمد وأصحابه ، وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام ، وإن كان في المسلمين قلة ، وفي المشركين كثرة.

وروى ابن أبي حاتم في سبب نزول : (وَلا تَكُونُوا) قال : كانت سعيدة الأسدية مجنونة ، تجمع الشعر والليف. فنزلت هذه الآية : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً).

ومعنى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) العدل : هو فعل كل مفروض ، من عقائد وشرائع ، وسير مع الناس في أداء الأمانات ، وترك الظلم ، والإنصاف وإعطاء الحق.

والإحسان : فعل كل مندوب إليه ، أي فهو زائد على العدل ، كالرحمة التي هي

__________________

(١) شاهدا ورقيبا وضامنا.

(٢) إبرام وإحكام.

(٣) جمع نكث ، وهو ما ينكث بمعنى منكوث وهو المنقوص.

(٤) أي مكرا وخديعة.

(٥) أي أكثر عددا وأقوى.

(٦) يختبركم للوفاء بالعهد.

٣٦٣

فوق القوة ، وإن الله يأمر عباده بالعدل والإنصاف مطلقا في كل شيء في التعامل والقضاء والحكم ، وشؤون الدين والدنيا ، حتى مع نفسه ومع غيره ، وفي الاعتقاد ، فلا يعبد بحق وعدل غير الله الخالق الرازق ، النافع ، ويأمر الله أيضا بالإحسان في العبادة وإلى المسيء ، وإلى القرابة والجيران وإلى الناس قاطبة. ويأمر سبحانه بإيتاء ذي القربى ، أي بصلة الأرحام بالزيادة ، والمودة ، والعطاء والصدقة ، والنفقة. هذه أمور ثلاثة يأمر بها.

وينهى عن ثلاثة أيضا : الفحشاء : أي الشيء المحرم كالزنى والسرقة وشرب المسكرات ، وأكل أموال الناس بالباطل. وينهى عن المنكر : وهو ما قبحه الشرع والعقل الرشيد كالقتل ، والأذى ، واحتقار الناس. وينهي عن البغي : وهو ظلم الناس ، والاعتداء عليهم. فالمأمورات الثلاثة : العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى. والمنهيات الثلاثة : الفحشاء والمنكر والبغي. وكلها تجاوز حدود الشرع والعقل الرشيد. وتأكيدا للأمر والنهي ، قال تعالى : (يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي يأمركم بالخير ، وينهاكم عن الشر لتتعظوا وتتذكروا ، وتعملوا بما فيه مرضاة الله تعالى.

ثم خصص الله بالذكر بعض المأمورات : وهو الوفاء بالعهد والميثاق ، والحفاظ على الأيمان المؤكدة ، وعهد الله : كل ما يجب الوفاء به ، من التزام أحكام الإسلام ، والوعود ، وتنفيذ العقود والمشاركات والالتزامات. وأكد الله أمره بالوفاء بالعهد بالتحذير من نقض العهود وأيمان البيعة على الإسلام بعد توثيقها باسم الله ، إن الله يعلم ويطلع على كل ما نفعله في العهود ، من البرّ بها أو نقضها ، أو محاولة تعديلها والالتفات على بنودها بالحيل.

ولا تكونوا أيها المؤمنون المعاهدون في إبرام الحلف أو العهد أو نقضه كالمرأة

٣٦٤

الحمقاء التي تغزل غزلها وتفتله محكما ، ثم تنقضه بعد فتله وإبرامه ، فهو ليس من فعل العقلاء. تجعلون أيمانكم على الوفاء بالعهد خديعة ومكرا وتغريرا بالطرف الآخر ، وتحلفون للناس إذا كانوا أكثر أو أقوى منكم ، ليطمئنوا إليكم ، فإذا أمكنكم الغدر بهم ، غدرتم. إنما يعاملكم الله معاملة المختبر ، بأمره إياكم ، بالوفاء بالعهد ، لينظر أتغترون بالكثرة والقلة أم تراعون العهد ، وسوف يبين الله لكم بيانا قطعيا يوم القيامة ما كنتم تختلفون فيه ، من أمر الإيمان والكفر ، والوفاء بالعهد والنقض ، فيجازي كل عامل بعمله ، من خير أو شر ، وهذا إنذار وتحذير من مخالفة ملة الإسلام ونقض العهود.

حرية الإنسان واختياره

الشرع والعقل يقضيان بأن الإنسان حر الاختيار في الطاعة والمعصية ، وفي سلوك سبل الخير أو السير في طريق الشر ، ويختبر الله عباده بالأوامر والنواهي ، ليذهب كل إنسان إلى ما يسّر له ، والتيسير من الله عمل بمقتضى حق الملك ، ولا يسأل عما يفعل ، ولو شاء الله ، لكان الناس كلهم في طريق واحدة ، إما في هدى وإما في ضلالة ، ولكنه تعالى شاء أن يترك حرية الاختيار للناس ، وليظهر أثر الاختيار ، في انقسام الناس فريقين : فريق الطاعة وأهل السعادة وفريق المعصية وأهل الشقاوة ، قال الله تعالى :

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً (١)

__________________

(١) أي مكرا وخديعة.

٣٦٥

إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦)) (١) [النّحل : ١٦ / ٩٣ ـ ٩٦].

هذه الآيات الكريمة تقرر الحد الفاصل في القضية الكبرى : وهي حرية الاختيار للإنسان ، التي على أساسها يكون الحساب والجزاء ، والثواب والعقاب ، فالله قادر على أن يجعل الناس على ملة واحدة أو دين واحد بمقتضى الفطرة والخلق ، فقوله تعالى : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) معناه يخلق ذلك في القلوب ، خلافا لقول المعتزلة ، كما ذكر ابن عطية في تفسيره. ورتب الله تعالى على حرية الاختيار التوعّد في آخر الآية ، بسؤال كل أحد يوم القيامة عن عمله ، وهذا سؤال توبيخ وحساب ، وليس ثمّ سؤال تفهّم ، وهو المنفي في آيات.

ويقتضي الاختيار : أن يسلك الإنسان بموجب هداية الله وعقله مسلك أهل الصلاح والاستقامة في المعاملات والعلاقات الاجتماعية ، فلا يصح الانحراف والخداع والمكر ، لذا نهى الله عن اتخاذ الأيمان وسيلة خداع ، ونهى عن نقض العهود والأيمان : أيمان البيعة على الإسلام مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا اتخذت الأيمان وسيلة مكر وخديعة ، فتزلّ قدم في الضلال بعد ثبوتها على جادة الاستقامة والإيمان. وهذا مثل لمن كان على الاستقامة ، فحاد عنها ، وزلّ عن طريق الهدى بأيمان حانثة ، مشتملة على الصدّ عن سبيل الله ، ومن انحرف أو زلّ ، ذاق السوء ، أي تحمل العذاب السيئ الأليم ، وهو القتل والأسر في الدنيا ، بسبب الصدّ عن سبيل الله ، وله العقاب الشديد في الآخرة ، جزاء المخالفة والانخراط في سلك الأشقياء الضالين.

والمقصود من الآية : إن نقضتم العهد أيها الناس ، وقعتم في مفاسد ثلاثة : ترك الاستقامة ، وتحمل شقاء الدنيا وعذابها ، وعقاب الآخرة وجزائها.

__________________

(١) يفنى ويزول.

٣٦٦

ثم حذّر الله تعالى من نقض العهد بأخذ الأعواض المالية التافهة مقابل ذلك ، فقال سبحانه : (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أي لا تعتاضوا عن الأيمان المحلوفة بالله عرض الدنيا وزينتها ، فإنها قليلة مؤقتة ، وما عند الله من الفضل والثواب العظيم خير لمن رجاه وآمن به ، وخير من عرض الدنيا الحقير ، وذلك إن كنتم أيها المخاطبون ، تعلمون مدى التفاوت العظيم بين خيرات الدنيا وخيرات الآخرة. قال ابن عطية عن هذه الآية : هذه آية نهي عن الرّشا وأخذ الأموال على فعل ما يجب على الآخذ تركه ، أو ترك ما يجب عليه فعله ، فإن هذه هي التي عهد الله إلى عباده فيها.

ووجه الخيرية واضح ، فإن ما عندكم من متاع ونعيم دنيوي عرضة للنفاد والزوال ، وإن طال الأمد ، وما عند الله من ثواب ونعيم في الجنة ومواهب الآخرة باق خالد ، لا انقطاع له ولا نفاد ، وإنما هو دائم لا يحول ولا يزول ، أي إن الدنيا فانية ، والآخرة باقية دائمة.

والله بفضله وعدله يجزي بالخير والثواب الطيب الذين صبروا على أذى المشركين ، وأعداء العقيدة ، وعلى القيام بواجبات الإسلام وأحكام الشريعة ، التي توجب الوفاء بالعهد وتنفيذ العقد ، وكذلك بالصبر عن الشهوات ، وعلى مكاره الطاعة ، يجازيهم الله بأحسن أعمالهم ، والتجاوز عن سيئاتهم ، وهذا هو الثواب العظيم ، وهو الوعد الحسن بغفران الذنوب ، ومحو الخطايا ، وهذه الآية إشارة إلى الصبر عن شهوة كسب المال بالوجوه المنكرة أو المحرمة ، من الرّشاوى ، وأخذ الأموال على ترك الواجبات ، وفعل القبائح والمحظورات ، فإن كل عاقل ينفر من الحرام ، ولا يتقبل العفيف الشريف تلويث مكاسبه بالمحرمات والشبهات.

٣٦٧

أجمع آية للعمل الصالح

لا تفرقة في أصول التشريع الإسلامي وإعطاء فرص العمل بين الرجال والنساء ، فللمرأة أن تنافس الرجل وتسبقه في ميدان القربات إلى الله تعالى ، والمبادرة إلى العمل الصالح والقول الفاضل ، وكم شهد التاريخ الإسلامي مواقف ، مشاهد مشرفة وسبّاقة للمرأة ، تميزت بالوعي والحكمة ، وإدراك آفاق المستقبل ، واستطاعت بها المرأة أن تثبت جدارتها ، وتفوّقها أحيانا على الرجال في النواحي الاجتماعية ، فاستحقت بهذا بطاقة سامية من الحب والتقدير ، والوفاء والجزاء الحسن في الدنيا والآخرة ، قال الله تعالى مبينا مبدأ تساوي النّساء والرجال ، في مجالات العمل البنّاء الطيب :

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧)) [النّحل : ١٦ / ٩٧].

العمل الصالح : يشمل جميع أعمال الطاعة والخير والإحسان ، وهو في ميزان الثواب والحسنات والجزاء الأخروي لا ثمرة له ولا قيمة من دون تقييده بالإيمان ، أي التصديق بالله وملائكته وشرائعه المنزلة على أنبيائه ورسله وكتبه ، وباليوم الآخر المنتظر للحساب والجزاء ، وبالقدر خيره وشره ، فإذا لم يقترن العمل الصالح بالإيمان بأركانه المذكورة ، لم يحقق الأثر الخالد والمنزلة الحسنة في عالم الآخرة.

وهذه الآية وعد صريح من الله تعالى بالحسنى والمنزلة الكريمة في الآخرة لمن عمل صالحا ، سواء أكان ذكرا أم أنثى ، والعمل الصالح : هو المطابق لكتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بأداء الفرائض ، والمندوبات ، وفعل الخير ، وكان قلب العامل مؤمنا بالله ورسوله.

ويكون الجزاء لمن آمن وعمل صالحا في الدنيا هو الحياة الطيبة : وهي التي تشمل

٣٦٨

وجوه الراحة المختلفة ، من رزق حلال طاهر ، وسعادة غامرة ، وطمأنينة نفس ، وهدوء بال ، ورضا وقناعة ، قال ابن عطية : ظاهر هذا الوعد بالجزاء الحسن : أنه في الدنيا ، وإن طيب الحياة اللازم للصالحين ، إنما هو بنشاط نفوسهم ونبلها وقوة رجائهم ، والرجاء للنفس أمر ملذّ ، فبهذا تطيب حياتهم ، وبأنهم احتقروا الدنيا ، فزالت همومها عنهم ، فإن انضاف إلى هذا مال حلال ، وصحة ، أو قناعة ، فذلك كمال. فيكون قوله تعالى : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) معناه : لنعطينه ما تطيب به حياته : وهو القناعة والرضا.

ودليل شمول الحياة الطيبة لكل هذا : الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله ابن عمر : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قد أفلح من أسلم ، ورزق كفافا ، وقنّعه الله بما آتاه». وروى الإمام أحمد أيضا ومسلم عن أنس بن مالك : قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة ، يعطى بها في الدنيا ، ويثاب عليها في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا ، حتى إذا أفضى إلى الآخرة ، لم تكن له حسنة يعطى بها خيرا».

وحكى الطبري عن أبي صالح أنه قال : نزلت هذه الآية بسبب قوم من أهل الملل تفاخروا ، وقال كل منهم : ملّتي أفضل ، فعرّفهم الله في هذه أفضل الملل.

وأما جزاء من آمن وعمل صالحا في الآخرة : فهو الأجر والثواب بأحسن ما كانوا يعملون ، أي بقدر أحسن ما كانوا يعملون ، وهذا وعد بنعيم الجنة ، وهو أحسن جزاء لمن أحسن العمل في الدنيا ، وهو حسبما يفعل بالصابرين.

ويكون قوله تعالى : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) كما ذكر الألوسي رحمه‌الله إشارة إلى درء المفاسد ، وقوله سبحانه : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) إشارة إلى جلب المصالح. فتكون ثمرة العمل الصالح من الرجل والمرأة على السواء ، هي

٣٦٩

تحقيق سعادة الدارين : الدنيا والآخرة ، وما أطيبها وما أجلّها ثمرة أو فائدة؟! ويدل هذا : على أن من فقد الإيمان ، أو من لم يعمل عملا صالحا ، وإنما كان عمله فسادا ، فإنه يحرم من الحياة الطيبة في الدنيا ، ويحجب عنه نعيم الآخرة ، وهو الجنة ، ويكون معذبا في نفسه بشقاء الدنيا ، وفوات المصلحة في الآخرة ، أي إنه يكون بعيدا عن السعادة الحقة ، وإن ظهر سعيدا بماله وأولاده أو جاهه وسلطانه.

تعظيم القرآن والغاية من تنزيله

ليس هناك في الدنيا أعظم ولا أشرف ولا أقدس من القرآن الكريم ، لأنه كلام رب العالمين ، ودستور البشرية ، وطريق النجاة والسعادة في الآخرة والدنيا ، لذا وجب على المسلم والمسلمة تعظيم القرآن ، فلا يتلو أحد منه شيئا ، قبل الاستعاذة من الشيطان الرجيم ، وعليه أن يتقبل كل ما أنزله الله فيه ، سواء قصد به التشريع لفترة زمنية معينة ، أم أريد به الاستمرار والديمومة ، والغاية منه تثبيت المؤمنين على الإيمان ، وهدايتهم للطريق المستقيم ، وتبشير من أطاع بالجنة ، وإنذار من عصى بالنار ، وليست الهداية الإلهية والتوفيق لمن لا يؤمن بآياته ، قال الله تعالى مبينا هذه الأصول :

(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ (١) (٢) (٣)

__________________

(١) فاعتصم به تعالى.

(٢) تسلط.

(٣) جبريل عليه‌السلام.

٣٧٠

الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣)) (١) [النّحل : ١٦ / ٩٨ ـ ١٠٣].

تبين الآيات مبدأ تعظيم القرآن ، فإذا أخذت في قراءة القرآن ، أيها النبي وكل مؤمن ، فاستعذ بالله ، أي الجأ إلى الله من وساوس الشيطان المرجوم ، الملعون المطرود من رحمة الله ، حتى لا تلتبس عليك القراءة أو التلاوة ، ولتتدبر معاني القرآن ، والتعوذ مندوب إليه بالإجماع ، كما حكى ابن جرير وغيره من الأئمة. علما بأن جنس الشيطان ليس له قوة ولا حجة ، ولا تسلط على المصدّقين بلقاء الله ، والمتوكلين عليه المفوضين أمورهم إليه. إنما تسلط الشيطان بالغواية والإضلال على الذين يطيعونه ، ويتخذونه وليا ناصرا لهم من دون الله ، والذين هم أشركوا بالله غيره في العبادة والطاعة. وفي الآيات رد على شبهتين لمنكري النبوة ، المتأثرين بوساوس الشيطان :

الشبهة الأولى ـ أن الله تعالى إذا نسخ لفظ آية بلفظ آخر أو بدّل معناها وإن بقي لفظها ، والله أعلم بما ينزله من القرآن ، قالوا : لو كان من عند الله لم يتبدل ، وإنما هو من افتراء محمد ، فهو يعدل عن الخطأ إلى الصواب ، فأخبر الله أنه أعلم بما يصلح للعباد برهة من الدهر ، ثم ما يصلح لهم بعد ذلك ، وأنهم لا يعلمون هذا ، ولا يدركون ما في التبديل من حكمة ومصلحة للناس.

نزلت هذه الآية حين قال المشركون كفار مكة : إن محمدا ، عليه الصلاة والسلام ، سخر بأصحابه ، يأمرهم اليوم بأمر ، وينهاهم عنه غدا ، أو يأتيهم بما هو أهون عليهم ، وما هو إلا مفتر يقوله من تلقاء نفسه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية والتي بعدها.

__________________

(١) يميلون وينسبون إليه أن يعلّمه.

٣٧١

وتضمنت الآية التي بعدها الرد على شبهتهم الواهية ، ومضمونه : قل لهم يا محمد : لقد نزّل القرآن المتلو عليكم جبريل روح القدس (أي المطهر) عليه‌السلام ، من ربك بالحق ، أي حقا ، مقترنا بالصدق والعدل والحكمة ، واجبا لمعنى المصلحة أن ينزّل ، والنسخ من جملة الحق. والغاية من تنزيله : تثبيت الذين صدّقوا بما أنزل الله أولا ، وآخرا ، وتطمين قلوبهم ، وهدايتهم وإرشادهم للطريق الأقوم ، وتبشيرهم بالجنة إذا أسلموا وأطاعوا الله ، وتحذيرهم من العذاب إذا عصوا أوامر الله.

والشبهة الثانية ـ أن الله أقسم على أنه يعلم علما تاما ما يفتريه المشركون على محمد ، فهم يقولون جهلا وافتراء : إنما يعلّم هذا القرآن بشر آدمي ، وليس وحيا من عند الله ، ويشيرون إلى رجل أعجمي اللسان ، لا يعرف العربية ، غلام لبعض القرشيين ، وكان بيّاعا عند الصفا ، كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمرّ عليه ، ويكلمه بعض الشيء.

قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان في مكة غلام أعجمي لبعض قريش ، يقال له بلعام ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكلمه ويعلّمه الإسلام ويرومه عليه ، فقالت قريش : هذا يعلّم محمدا من جهة الأعاجم ، فنزلت الآية بسببه. والأعجمي : هو الذي لا يتكلم بالعربية.

فرد الله عليهم افتراءهم ، وأبان كذبهم بأن لسان الذين يميلون إليه ويشيرون إليه أعجمي لا عربي ، والقرآن كلام عربي واضح البيان ، فكيف يتعلم محمد القرآن من شخص عاجز عن البيان ، لا يحسن التعبير العربي؟! وهذا كذب حسي مشاهد ، وافتراء مفضوح.

٣٧٢

عقاب الكفرة والمرتدين

لقد قطع الذين لا يؤمنون بآيات الله صلتهم بربهم الذي خلقهم ، فحرموا من هداية الله وتوفيقه في الدنيا ، وعرّضوا أنفسهم للعذاب الشديد في الآخرة ، ودأبوا على الافتراء والكذب ، حتى اشتهروا بصفة الكذابين ، وهناك فئة أخرى أسوأ منهم وهم المرتدون عن الإسلام ، وتاركو الإيمان ، فاستحقوا غضب الله وعذابه ، وحجبوا قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم عن نور الهداية الربانية ، وكانوا حقا هم الخاسرين. قال الله سبحانه مبينا أوصاف هاتين الفئتين :

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥) مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩)) (١) (٢) [النّحل : ١٦ / ١٠٤ ـ ١٠٩].

الكلام في هذه الآيات عن فئتين : فئة المفترين الكاذبين ، وفئة المرتدين عن الإسلام.

أما المفترون فهم المشركون المعروفون بأنهم الذين لا يؤمنون بآيات الله ، ولا يصدقون بما أنزل الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهؤلاء لا يهديهم الله ، ولا يوفقهم للحق والإيمان بالله وبما أنزل على رسله ، لفقد استعدادهم لذلك ، ولاقترافهم السيئات والمنكرات ، ولهم في الآخرة عذاب مؤلم موجع ، وهم الكاذبون المفترون ، وليس

__________________

(١) اختاروا.

(٢) حقا أو لا محالة.

٣٧٣

المفتري محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وينحصر الكذب حصرا تاما في هؤلاء الذين لا يؤمنون بآيات الله ، وكرر الله هذا المعنى وإلصاق صفة الكذب بأولئك المشركين ، في قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) إذ الصفة بالشيء أبلغ من الخبر به ، لأن الصفة تقتضي الدوام أكثر مما يقتضيه الخبر ، فبدأ الله في هذه الآية بالخبر ، وهو افتراء الكذب في قوله : (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ) وإنما : حاصرة أبدا ، ثم أكده بالصفة وهي ثبوت صفة الكذب للمشركين وملازمتها لهم.

وأما المؤمن فشأنه الصدق والبعد عن الكذب ، وتأكد هذا تاريخيا ، فحينما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن صفات النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أجابه بأنه صدوق ، وكان فيما قال له : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال : لا ، فقال هرقل : فما كان ليدع الكذب على الناس ويذهب فيكذب على الله عزوجل.

وأما الفئة الثانية في الآيات فهم المرتدّون ، وهم الذين كفروا بعد الإيمان ، وهؤلاء عليهم غضب من الله ولعنته وطردهم من رحمة الله ، ولهم عذاب شديد في الآخرة ، لعلمهم بالإيمان ، ثم عدولهم عنه ، ولأنهم استحبوا وآثروا الحياة الدنيا على الآخرة ، فأقدموا على الردة ، ولم يثبتوا على الإيمان والدين الحق ، فتسبّبوا في حجب قلوبهم عن هداية الله ، والطبع أو الختم على أفئدتهم وصرفها عن طريق الهدى ، بحيث لا ينفذ إليها نور الله ، ووصفوا بصفة دائمة بأنهم الغافلون غفلة تامة بعيدة عما يراد بهم من سوء المصير ، وكانوا من الذين لا يعقلون شيئا ينفعهم. وما أسوأ مصير الإنسان إذا انسدّت طرق الحواس لديه ، فصارت لا تنفع في شيء ، ولا اعتبار لديه ولا تأمّل ، وكانوا حقا في الآخرة هم الخاسرين خسارة مطلقة.

والخلاصة : لقد حكم الله على المرتدين بستة أحكام : أنهم استوجبوا غضب الله ، واستحقوا العذاب الأليم ، واستحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ، لأنهم قوم

٣٧٤

مادّيون ، وحرمهم الله تعالى من الهداية للطريق القويم ، وطبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ، وجعلهم الله من الغافلين عما يراد بهم من العذاب الشديد يوم القيامة.

واستثنى الله بعض المتظاهرين بالكفر ، وهم الذين كفروا بألسنتهم ووافقوا المشركين على مرادهم بالإكراه بسبب الضرب والأذى ، ولكن قلوبهم مطمئنة بالإيمان بالله ورسوله ، كما فعل عمار بن ياسر حينما عذبه المشركون ، فنال من النبي في ظاهر لسانه.

فقد أخذ المشركون بلالا وخبّابا وعمارا بن ياسر ، فأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقية ، فلما رجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حدثه فقال : كيف كان قلبك حين قلت : أكان منشرحا بالذي قلت؟ قال : لا ، فأنزل الله : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) ونفى بعض المفسرين كابن عطية نزول الآية في شأن عمار قائلا : فإنه أرفع من طبقة هؤلاء ، وإنما هؤلاء من باب : فمن شرح بالكفر صدرا ، فتح الله عليهم باب التوبة في آخر الآية.

ثواب المهاجرين الصابرين

اقتضت رحمة الله وفضله أن يفتح باب التوبة لبعض المؤمنين الذين جاملوا الكفار المشركين في مكة ، ووافقوهم على مرادهم ، وإظهار الكفر ، والاعتصام بالإيمان في حقيقة الأمر وباطن القلب ، وهؤلاء كانوا مستضعفين بمكة ، وشأن الضعيف المعذب عادة المجاملة في القول ، والإقرار بما يرضي الظلمة ، غير أن المعوّل على ما في القلب من إيمان ورضا واطمئنان ، قال الله تعالى مبينا فضله على هذه الفئة :

٣٧٥

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١)) (١) [النحل : ١٦ / ١١٠ ـ ١١١].

بعد أن أبان القرآن الكريم في الآيات السابقة الجزاء المستحق للمشركين المفترين الكاذبين ، وللمرتدين عن الإسلام ، فتح باب التوبة والأمل أمام فئة المعذّبين المستضعفين بمكة ، من بعد ما فتنهم المشركون أو الشيطان ، فوافقوا عتاة الشرك الظلمة ، فيما أرادوا منهم من النطق بالكفر ، والرجوع عن الإسلام ثم تمكنوا من الخلاص ، بالهجرة إلى المدينة المنورة ، تاركين بلادهم وأهليهم ، ابتغاء رضوان الله وغفرانه ، وانتظموا في سلك المؤمنين ، وجاهدوا في الله حق جهاده في صف الإيمان ، ضد جند الكفر وأعوان الشيطان ، وصبروا على الأذى والبأس والشدة في المعارك ، فأخبر الله تعالى أنه من بعد تلك الفعلة وهي الإجابة إلى الفتنة ، لغفور لهم ، رحيم بهم يوم المعاد. والله دائما يقبل توبة التائبين ، ويعفو عن المقصرين ، ويرحم المسترحمين والضعفاء الأذلين. ويكون المقصد من الآية : أن من يفتن في دينه ، فيتكلم بكلمة الكفر مكرها أو مضطهدا ، وصدره غير منشرح للكفر ، إذا صلح عمله ، وجاهد في سبيل الله ، وصبر على المكاره ، فالله غفور له ، رحيم به. وعبر الله تعالى عن هذه الفئة بكلمة : (ثم) لبيان بعد مرتبة هؤلاء الذين فتنوا في دينهم ، وجاهدوا وصبروا ، عن مرتبة المفتونين في الدين ، ولم يصبروا ، ولم يجاهدوا.

ثم نبّه الله على ما يتعرض له كل إنسان مؤمن أو كافر يوم القيامة من محاولة الدفاع عن نفسه ، والجدال : وهو الاعتذار عن أموره وأقواله وأفعاله ، إنه اليوم الذي تأتي فيه كل نفس تجادل عن نفسها أو ذاتها ، كل يقول : نفسي نفسي ، كما جاء في آية

__________________

(١) اختبروا وعذبوا لإسلامهم.

٣٧٦

أخرى : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧)) [عبس : ٨٠ / ٣٧]. وفي ذلك اليوم الرهيب تعطى كل نفس جزاء ما عملت من خير أو شر ، فيجازى المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، والناس كلهم لا يظلمون ، أي لا ينقص أحد من ثواب الخير ، ولا يزاد على جزاء الشر ، ولا يتعرض أحد لظلم مهما قل ، صغيرا كان أم كبيرا.

وسبب نزول آية المغفرة للمفتونين : هو ما روى ابن سعد في (الطبقات) عن عمر ابن الحكم قال : كان عمار بن ياسر يعذّب ، حتى لا يدري ما يقول ، وكان صهيب يعذب ، حتى لا يدري ما يقول ، وكان أبو فكيهة يعذب حتى لا يدري ما يقول ، وبلال وعامر بن فهيرة وقوم من المسلمين ، وفيهم نزلت هذه الآية : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

وروى ابن أبي حاتم عن قتادة : أن عياشا رضي الله عنه (وكان أخا أبي جهل من الرضاعة) وأبا جندل بن سهيل ، وسلمة بن هشام ، وعبد الله بن سلمة الثقفي ، فتنهم المشركون ، وعذّبوهم ، فأعطوهم بعض ما أرادوا ، ليسلموا من شرهم ، ثم إنهم بعد ذلك هاجروا ، وجاهدوا ، فنزلت فيهم هذه الآية.

تدلنا السيرة المشرفة لهؤلاء على أن الصمود في وجه الظلم والظلمة الذين يفتنون الناس عن دينهم ، والتمسك بجوهر العقيدة في مواقف المحنة ، هو واجب المؤمن والمؤمنة ، فلا تخور عزيمته ، ولا يرتد عن دينه ، مهما كانت الصعاب.

عاقبة الكفر بالنعم

يحذّر الله تعالى عباده دائما من إهمال شكر النعمة الإلهية ، وينذرهم بما قد يتعرضون له من عاقبة وخيمة ، بسبب جحود النعم وإنكار فضل الله تعالى ، وضرب الله لنا المثل بمكة المكرمة قبل مجيء الإسلام ، حيث كانت آمنة مطمئنة ، فلا يغزوها

٣٧٧

ولا يغير عليها أحد ، وكانت الأرزاق الوفيرة تجلب إليها ، وأنعم الله عليها برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما كفرت بهذه النعم ، تعرضت لآفات الدنيا من الوقوع في الجوع والخوف ، وهذا المثل عبرة دائمة للأجيال ، في أحب البلاد إلى الله تعالى ، قال الله سبحانه :

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣)) (١) [النحل : ١٦ / ١١٢ ـ ١١٣].

هذا مثل صريح ضربه الله عبرة للأمم والبلاد ، والجماعات.

والقرية المضروب بها المثل : هي مكّة ، كانت بهذه الصفة التي ذكر الله ، آمنة من غارات الأعداء ، مطمئنة مستقرة ليس فيها مخاوف ولا مشكلات أمنية أو اقتصادية ، يأتيها رزقها رغدا ، أي هنيئا سهلا واسعا ، من سائر البلاد ، فكفر أهلها بنعم الله ، وجحدوا بها ، فعمّهم الله بالجوع والخوف ، وبدّلوا بأمنهم خوفا ، وبغناهم جوعا وفقرا ، وبسرورهم ألما وحزنا ، وذاقوا مرارة العيش بعد السعة ، بسبب أفعالهم المنكرة ، وعبادتهم الأوثان ، وتنكرهم للقرآن والشرع والهداية. ومن أتم النعم الإلهية عليهم : أنه جاءهم رسول كريم من جنسهم ، عربي قرشي هاشمي ، فكذبوه فيما أخبرهم به من أنه رسول إليهم ، مبلّغ عن ربه ، بأنه يعبدوه ويطيعوه ، ويشكروه على النعمة ، فجاءهم العذاب بسبب ظلمهم.

لقد أصابتهم السنون أي المحل والقحط ، وتعرضوا للخوف ، وهاجمتهم سرايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بسبب الكفر والتكذيب ، جزاء لسوء صنيعهم وظلمهم.

__________________

(١) منصوب على الحال ، أي طيبا واسعا.

٣٧٨

وإذا كانت مكة في رأي ابن عباس ومجاهد وغيرهما هي التي ضربت مثلا ، فإنما ضربت لغيرها مما يأتي بعدها ، ليحذر أهلها أن يقعوا فيما وقعت هي فيه.

والراجح عند الرازي وابن عطية أنه قصد بذلك قرية غير معينة ، جعلت مثلا ، فغير مكة مثلها ، فهو عبرة لكل قرية ، وجاء الكلام على معنى التحذير لأهلها ولغيرها من القرى إلى يوم القيامة.

والهدف من هذا المثل الذي أرشدت إليه الآية : هو وجوب الإيمان بالله وبالرسل ، والتوجّه نحو عبادة الله وحده ، وشكره على نعمة وآلائه الكثيرة ، والمعرفة الثابتة بأن العذاب الإلهي لاحق بكل من كفر بالله وعصاه ، وجحد نعمه الله عليه.

وهذا إنذار ووعيد لأهل كل قرية اتصفوا بالظلم ، أي بالكفر والعصيان ، إذ لا ظلم أشد من ظلم الكفر والمعصية ، في حق الله تعالى.

والعذاب الإلهي من جنس العمل ، سواء في الدنيا ، أو في الآخرة ، فإن أهل هذه القرية لما بطروا بالنعمة ، بدّلوا بنقيضها ، وهو محقها وسلبها ، ووقعوا في شدة الجوع بعد الشبع ، وفي الخوف والهلع بعد الأمن والاطمئنان ، وفي انعدام موارد العيش بعد الكفاية.

ونوع هذا العذاب يختلف بحسب تحديد المراد بالقرية التي جعلت مثلا ، فإن كان المراد بها مكة ، فالعذاب : هو الجوع والقتل ببدر ، والعيش بقلق بسبب ظهور الإسلام وقوته ، واستعداد المسلمين لشن الهجوم على مكة وأهلها. وإن كان المراد بالقرية أي قرية أو مدينة قديمة غير معينة ، فالعذاب هو الدمار والاستئصال وتخريب العمران وغير ذلك ، كمدينة شعيب وقرى قوم لوط.

وأكثر المفسرين على أن المراد بهذه القرية : مكة وأهلها ، فإنها كانت آمنة من الحروب ، مطمئنة برغد الحياة ، فجحدت نعم الله ، وأعظمها بعثة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٣٧٩

فأذاقها الله شدة الجوع والخوف ، وابتلوا بالقحط ، حتى اضطروا إلى أكل الجيف والكلاب الميتة والعظام المحرقة والعلهز (وبر الإبل المخلوط بالدم).

المأكول الحلال والحرام

أحل الله تعالى لنا الطيبات النافعة ، وحرم علينا الخبائث الضارة ، فكان تشريع الإسلام متفقا مع الصحة والاعتدال ، دون تعسف ولا إرهاق وإعنات ، وكانت دائرة الحلال في الإسلام أوسع بكثير من دائرة الحرام ، فلم يحرم الله علينا شيئا إلا لما فيه ضرر في الصحة والجسد والدين ، ولا يجوز لإنسان أن يحلل أو يحرم شيئا برأيه ومزاعمه ، كما كان عرب الجاهلية يفعلون. وكان تحريم بعض الأشياء على بني إسرائيل بسبب ظلمهم وبغيهم ، قال الله تعالى مبينا الحلال والحرام من الأطعمة وجعله من أصول العبادة والشريعة والعقيدة :

(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) [النحل : ١٦ / ١١٤ ـ ١١٩].

__________________

(١) ذكر عند ذبحه اسم غير الله.

(٢) ألجئ إلى التناول منه.

(٣) غير طالب للمحرم للذة.

(٤) ولا متجاوز ما يسد الرمق.

(٥) بجهل وحماقة.

٣٨٠