التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٢

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0522-5
الصفحات: ٣٩٢

اتصاف المشركين بصفة السوء

على الرغم من انحطاط مستوى الشرك والمشركين ، يوازن الله تعالى بين ما هم عليه من أوصاف السوء والشّبه القبيح ، وبين ما عليه الرب ذاته من الوصف الأعلى والكمال المستقر المتنزه عن أي شريك أو شبيه أو ولد ، ومع هذه المقارنة ، يحلم الله على الظلمة من الناس ، الذين يكفرون به فلا يعجل بإنزال العقاب عليهم ، وإنما يؤخرهم لأجل آخر معين في علمه وتقديره ، وحينئذ يأتي العذاب الشديد بعد الإمهال وفوات الأوان من غير استفادة من الفرص الفائتة ، وهذا ما وصفته هذه الآيات الكريمة :

(لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢)) (١) (٢) (٣) (٤) [النّحل : ١٦ / ٦٠ ـ ٦٢].

تصف هذه الآيات مواقف المشركين في الجملة ، فهم بعدم تصديقهم بالآخرة وما فيها من حساب وعقاب وجنة ونار ، لهم مثل السوء ، والصفة التي لا أسوأ منها في القبح ، فضلا عن نسبتهم البنات لله تعالى ، وكراهة الإناث ووأدهن خشية الفقر أو الإملاق ، والإقرار على أنفسهم بالشح البالغ. ولله تعالى الصفة العليا والكمال المطلق ، فهو الإله الواحد المنزه عن الولد والوالد والشريك ، وهو الغني عن العالمين ، والمنزه عن صفات المخلوقين ، وهو الجواد الكريم ، والبرّ الرؤوف الرحيم ، وهو سبحانه العزيز ، أي القوي الذي لا يغلب ، الحكيم في صنعه الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة السديدة ، ووضع الأمور فيما يناسبها.

__________________

(١) صفته القبيحة.

(٢) أي : الجنة.

(٣) حقا أو لا محالة.

(٤) أي : متروكون في النار ، مقدّمون إليها.

٣٤١

واقتضت رحمته تعالى أن يمهل الكفار ، ولا يعاجلهم بالعقاب ، ويحلم على سوء تصرفاتهم وظلمهم ، فلو أنه يؤاخذهم بذنوبهم ومعاصيهم ويعاقبهم على جرمهم على الفور ، ما ترك على ظهر الأرض من دابة ، وأهلك جميع دواب الأرض ، تبعا لإهلاك بني آدم ، ولكنه جل جلاله ستّار غفور رحيم ، يؤخرهم إلى أجل مسمى ، فلا يعجل لهم العقوبة ، لأنه لو فعل ذلك بهم ، لما أبقى أحدا.

روى البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رجلا يقول : إن الظالم لا يضر إلا نفسه ، فقال : بلى والله ، حتى إن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم.

فإذا حان أجل العقاب والهلاك والعذاب ، وذلك بحسب مقتضى الحكمة ، فلا يستأخرون ساعة ، ولا يتقدمون قبله ، حتى يستوفوا أعمارهم. روى ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : ذكرنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إن الله لا يؤخر شيئا إذا جاء أجله ، وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحة ، يرزقها الله العبد ، فيدعون له من بعده ، فيلحقه دعاؤهم في قبره ، فذلك زيادة العمر».

ثم يؤكد الله تعالى سوء فعل المشركين حين ينسبون إلى الله ما يكرهون لأنفسهم من البنات ومن الشركاء الذين هم عبيد الله ، وهم يأنفون أن يكون لأحدهم شريك في ماله. ويكذبون في دعواهم أن لهم العاقبة الحسنة في الدنيا ، وفي الآخرة ، وهي الجنة على هذا العمل. روي أنهم قالوا : إن كان محمد صادقا في البعث ، فلنا الجنة بما نحن عليه ، فردّ الله عليهم مقالهم بقوله : (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) أي حقّا أن لهم النار التي تحرقهم ، وأنهم متروكون فيها ، أو معجل بها إليهم ، وهم في العذاب باقون.

ومعنى الآية بإيجاز : يجعلون لله المكروه ، ويدّعون مع ذلك أنهم يدخلون الجنة ،

٣٤٢

كما تقول لرجل : أنت تعصي الله ، وتقول ـ مع ذلك ـ : إنك تنجو ، أي إن ذلك لبعيد مع هذا.

إن مثل هذا التفكير هو شأن المغرورين الحمقى الذين نجدهم في كل زمان ومكان ، إنهم مقصرون في طاعة الله تعالى ، متجاوزون للحد في معاصي الله ، ثم يتأملون أنهم في الجنان ، وأنهم ناجون غير محاسبين ، وهذه صفة الأبله والأحمق الذي لا يدرك ما يقول.

وعيد المكذبين للرسل

لم يهمل الله أمة من الأمم في بيان طريق إسعادها واستقامتها ، فأرسل لهم الأنبياء والرسل مبشرين ومنذرين ، ومرشدين إلى الحق والطريق الأقوم ، ولكن الأمم في الغالب كذبوا الرسل وعادوا منهج الإصلاح ، وصبر الأنبياء في تبيان مهامهم وإيضاح وحي ربهم وكتبه ، وردّ الشبهات التي يوردونها ، ومجادلتهم بالحسنى وإقناعهم بالكلمة الطيبة ، ولم يختلف منهج رسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذه الخطة ، وكان له أسوة بمن سبقه ، قال الله تعالى مبينا موقف الأمم من الرسل وتبليغ الرسل وحي الله تعالى :

(تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤)) [النّحل : ١٦ / ٦٣ ـ ٦٤].

هذه الآية لضرب المثل بالأمم الماضية ، تتضمن الوعيد والتهديد لهم ولمن سار على منوالهم ، وهي أيضا تأنيس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعقد المقارنة أو الموازنة بين موقف قومه ومواقف الأمم السابقة ، فلا داعي لإيقاع نفسه في دائرة الهموم والأحزان بسبب صدود قومه عن رسالته ، وجهالتهم وعنادهم.

٣٤٣

والمعنى : والله ، لقد أرسلنا رسلا إلى الأمم الخالية من قبلك ، فكذبت الأمم رسلها ، وحسّن لهم الشيطان أعمالهم من الكفر وعبادة الأوثان ، فيكون الشيطان ولي الكفرة المشركين في اليوم المشهود ، وهو يوم القيامة وقت الحاجة والفصل ، أي إنه قرينهم في النار في هذا اليوم ، ويكون للشيطان وأتباعه عذاب مؤلم شديد بسبب اشتراكهم في عصيان الله. والسبب في ذلك : أن أعداء الرسل والهداية الربانية في الأمم السابقة اتخذوا الشيطان ناصرا لهم في الدنيا ، بحسب زعمهم ، وحسبوا أن الشيطان ينقذهم من العذاب وهو في الواقع يغرهم ويخدعهم ويسوقهم إلى العذاب ، فلا تنفعهم ولايته ونصرته.

والعبرة من حكاية هذا الواقع للأمم الماضية تأنيس النبي عليه الصلاة والسلام ، فلا يحزن على تكذيب قومه له ، فله أسوة بالمرسلين من قبله ، وعليه أن يترك المشركين الذين كذبوا الرسل في غيّهم وضلالهم ، فإنما وقعوا فريسة لتزيين الشيطان لهم ما فعلوه.

ولكن العدل الإلهي والرحمة الربانية اقتضيا ألا يكون هلاك وعقاب في الدنيا إلا بعد بيان الحجة وإقامة البرهان على الاعتقاد الحق والإيمان الصحيح ، فقال الله سبحانه : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ..) أي : إنما أنزلنا عليك القرآن لهدف واضح ، وهو أن تبين للناس الذي يختلفون فيه في العقائد والعبادات ، فيعرفوا الحق من الباطل ، والقرآن العظيم هو كلمة الفصل ، والقرار الحاسم بين الناس فيما يتنازعون فيه ، وهو هدى للقلوب الحائرة ، والرحمة الشاملة لقوم يصدقون به ، ويتمسكون بتعاليمه وشرائعه ، ويلتزمون منهجه في الحياة والآداب والأخلاق ، ولا يحيدون عن توجيهاته ، والعمل في فلكه ومقاصده وغاياته ، كما قال الله تعالى في آية أخرى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ

٣٤٤

يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠)) [الإسراء : ١٧ / ٩ ـ ١٠].

إن مجيء الرسل وإكمال مهمتهم برسولنا وما أنزل الله معهم من الكتاب والحكمة ، والشريعة والمنهج ، كان الكلمة الفاصلة ، والقرار الحاسم في قسمة الناس إلى فريقين : الفريق الأول الذين كذبوا الرسل ، لتأثرهم بوساوس الشياطين وإغواءاتهم ، وهؤلاء خسروا الدنيا والآخرة.

والفريق الثاني الذين آمنوا بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر ، وأحسنوا العمل ، واستقاموا على أمر الله ومنهاجه ، وهؤلاء هم أهل السعادة والطمأنينة ، في الدنيا براحة النفس ، وفي الآخرة بالخلود الأبدي في جنات النعيم. جعلنا الله من هذا الفريق ، وهدى الذين أعرضوا عن هداية الله إلى ما فيه خيرهم ونجاتهم. وهذا يدل على أن الأنبياء جميعا يدعون إلى ناحية الخير والروح في الإنسان ، والشيطان دائما يعاند ويستغل ناحية المادة في الإنسان.

ألوان النعم الإلهية

في سورة النحل سورة النّعم عدّد الله تعالى ألوانا من النّعم العظيمة من أجل خير الإنسان وانتفاعه بثمرات الكون ، وتضمن هذا التعداد الإرشاد لبيان مظاهر قدرة الله سبحانه ، وإثبات وجوده وتوحيده ، لأن خلق النّعم وسائر الأفعال الصادرة عن الإنسان إنما هي من الله تعالى ، لا من الأصنام وطواغيت الأوثان والمعبودات من دون الله ، فهي مخلوقة لا خالقة ، وعاجزة غير قادرة على شيء من الإبداع والخلق ، قال الله تعالى مبينا هذه البراهين على ألوهيته :

(وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ

٣٤٥

لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) (٧) [النّحل : ١٦ / ٦٥ ـ ٦٩].

هذه طائفة جليلة من النعم الإلهية لإثبات أمر الربوبية :

وأولها نعمة المطر التي هي أبين العبر ، وهي ملاك الحياة ، وفي غاية الظهور ، لا يخالف فيها عاقل ، فالله سبحانه أنزل المطر من السماء ، ليكون سببا لحياة الأرض بإنبات الزرع والشجر والثمر ، بعد أن كانت الأرض هامدة غبراء غير منبتة ، فهي كالميت ، فتصبح كالحي بالمطر منبتة مخضرة مهتزة رابية ، وهذا واضح ظاهر ، لذا ختمت الآية بقوله سبحانه : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي إن الأمر لا يحتاج إلى تفكر ، ولا نظر قلب ، أو تأمل ، وإنما يحتاج الإنسان المنبّه إلى أن يسمع القول فقط.

والنعمة الثانية : هي خلق الأنعام ، وهي أصناف أربعة : الإبل والبقر والضأن والمعز ، ففيها عبرة وعظة دالة على قدرة الله تعالى ، ورحمته ، ولطفه بعباده ، حيث سخر للبشر هذه الأنعام ، يستقون من ألبانها الخالصة من الشوائب ، والسائغة الشرب في الحلق ، دون غصص ، وهي غذاء كامل ، لذيذ الطعم ، سهل الهضم ، خلقها الله ، أي الألبان مميزة ، غير مختلطة بما جاورها من فرث (زبل يملأ الكرش والأمعاء) ودم محيط بها. كما أن في الأنعام فوائد أخرى كثيرة حيث يستفاد من

__________________

(١) لعظة ودلالة على قدرة الله.

(٢) أي بطون الأنعام ، فالضمير عائد على الجنس ، وعلى المذكور ، والأنعام : الإبل والبقر والضأن والمعز.

(٣) الفرث : خلاصة المأكول في الكرش والأمعاء.

(٤) خمرا ثم حرمت بالمدينة.

(٥) أوكارا.

(٦) مما يبني الناس من الخلايا.

(٧) مذلّلة مسهلة.

٣٤٦

أوبارها وأصوافها ، ويتخذ بعضها وسائط للركوب والحرث (شق الأرض) ويؤكل لحمها بعد الذبح.

والنعمة الثالثة : هي ثمرات النخيل (التمور) والأعناب التي تؤكل طازجة ، ويتخذ منها الدبس والخل ، والنبيذ (الخشاف). أما المسكر منه فحرام ، فيما استقر عليه التشريع القرآني ، في قوله تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة : ٥ / ٩٠].

فقوله تعالى : (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) أصبح منسوخا بآية المائدة المذكورة ، وصار جميع ما يسكر حراما ، قليله وكثيره ، ويحد شاربه ، وختمت الآية بما يدعو للتأمل والتفكر وهو قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي إن في تلك الأشربة والمآكل لآية واضحة على عظمة الإله الخالق ، لقوم يستخدمون عقولهم في النظر والتأمل في الآيات ، حيث يحتاج الإنسان إلى وعي وإدراك لعظمة فعل الله ، من تحويل الأكل المهضوم إلى لبن سائغ الشراب ، وإلى ظهور ثمرة النخيل والعنب من التراب والماء؟!!

والنعمة الرابعة : هي نعمة غذاء العسل وشرابه ، فالله سبحانه ألهم النحل وركّز في غريزتها وطبعها كيفية بناء الخلايا العجيبة ، ذات الأشكال السداسية الهندسية البديعة والمتناسقة ، في كهوف الجبال ، وأحضان الشجر ، وعرائش البيوت والكروم ، ثم قيامها بامتصاص رحيق الأزهار والثمار العديدة التي تتجاوز مليون زهرة لصنع كيلو عسل مثلا ، وبعد قيامها بهذه العملية تسلك الطريق التي ألهمها الله في صنع العسل ، وطلب الثمار المناسبة ، والعودة بسلام في طرق تختارها ولا تخطئها لتصل إلى الخلايا ، وهي تسير ذللا ، أي مطيعة منقادة لما يسّرت له. والعسل شراب مختلف الألوان ، فمنه الأبيض والأحمر والزهر والأصفر ، وفيه شفاء للناس من كثير من

٣٤٧

الأمراض ، إن في ذلك الصنيع لدلالة واضحة على قدرة الله وعجيب خلقه لقوم يتأملون ويتفكرون في صنع الخالق.

أحوال الناس الدالة على قدرة الله

أقام الحق سبحانه وتعالى أدلة كثيرة على وجوده وقدرته ووحدانيته ، منها نعمة المطر ، وتسخير الحيوان ، وإيجاد الزروع والثمار ، وخلق النحل لصنع العسل ، كما تقدم ، ومنها عجائب أحوال الناس من الإيجاد بعد العدم ، والشيخوخة والهرم ، والإماتة بعد الإحياء ، والبعث بعد الموت ، والتفاضل في الأرزاق ، وشح الناس في إخراج الزكاة للفقراء والمحتاجين ، وخلق الزوجات من جنس الأزواج ، وإنجاب الذرية والأولاد والأحفاد ، ورزق الطيبات ، وجحود نعم الله والإيمان بالباطل. قال الله تعالى واصفا هذه العجائب من أحوال الناس :

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠) وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢)) (١) (٢) (٣) [النّحل : ١٦ / ٧٠ ـ ٧٢].

إن تغير العالم وما نشاهده من أحداث وتقلبات كونية وإنسانية لدليل واضح على قدرة الله وألوهيته ، وهذا مشهد آخر في الإنسان ذاته ، بعد مشهد المطر والنبات والحيوان ، يدل على عظمة الله وقدرته وتوحيده ، وللإنسان أحوال عجيبة :

__________________

(١) أردته وهو الخرف والهرم.

(٢) أي فهم في الرزق مستوون.

(٣) أولاد أولاد.

٣٤٨

أولها : تفاوت مراتب عمره وتدرّجه من مرحلة الطفولة والشباب إلى مرحلة الكهولة والشيخوخة ، فالله سبحانه أوجد الناس جميعا ، وهم كلهم بنو آدم ، بعد أن لم يكونوا شيئا ، ثم يتوفاهم حين انتهاء الأجل ، ومنهم من يهرم ويصير في أرذل العمر ، وهو حال الخرف وقلة الحفظ والعلم ، وقد يفقد كل شيء من العلوم التي تعلمها ، ويصبح جاهلا كما كان وقت الطفولة ، إن الله واسع العلم بكل شيء ، عظيم القدرة على كل شيء ، فلا يغيب شيء عن علمه ، ولا يعجزه شيء أبدا ، وربّ من يكون ابن خمسين سنة ، وهو في أرذل العمر ، وربّ ابن مائة أو تسعين وهو كامل الذاكرة والعقل ، وليس في أرذل عمره.

والحال الثانية للإنسان بعد تفاوت الأعمار : هي التفاوت في الأرزاق ، فالله تعالى لحكمة جليلة ومصلحة للإنسان نفسه جعل الناس متفاوتين في الأرزاق ، فمنهم الغني والفقير والمتوسط ، وهذا التفاوت اختبار الأغنياء ، وقيامهم بواجب التكافل والتعاون ومساعدة الفقراء ، ولكن مع الأسف يحرص الناس على الشح والبخل ، فما الذين فضلوا بالرزق وهم السادة الملاك بجاعلي رزقهم شركة على قدم المساواة بينهم وبين أتباعهم ، وإذا لم يرضوا بالمساواة ، مع غيرهم ، وهم أمثالهم في الإنسانية ، فكيف يسوون بين الخالق والمخلوق ، وبين الخالق وهذه الأصنام التي يجعلونها شركاء مع الله؟! إنهم بهذا يتنكرون للحقائق ، ويجحدون النعم الإلهية ، فكيف يليق بعقولهم أن يشركوا بالله بعبادة الأصنام ، ويجحدون نعم الله عليهم؟! فمن أثبت شريكا لله ، نسب إليه بعض النعم والخيرات ، فكان جاحدا لكونها من عند الله تعالى؟!

والحال الثالثة للإنسان : وجود التزاوج بين الذكر والأنثى ، جاعلا الله الزوجات من جنس الأزواج ، لتحقيق الأنس والانسجام والائتلاف ، وقضاء المصالح ،

٣٤٩

وجاعلا الله للزواج ثمرة مباركة محببة لكل إنسان : وهي نعمة إنجاب الأولاد والأحفاد ، وأنعم الله على جميع خلقه بطيبات الرزق في الدنيا ، من مطعم ومشرب وملبس ومسكن ومركب ونحوها مما يكون لذيذا من الأشياء التي تطيب لمن يرزقها.

ولكن العجب من الإنسان حيث يصدق بعضهم بالباطل ، وهو أن الأصنام شركاء لله في النفع والضرر ، وأنها تشفع عنده ، وأن الطيبات التي أحلها الله لهم كبعض المواشي حرام عليهم ، حلال للأصنام ، وبعض المستخبثات كالميتة والدم ولحم الخنزير والمذبوح على الأصنام حلال لهم ، وهذا يقتضي التوبيخ على تلك الأحكام الباطلة ، وهم في هذا كله يجحدون نعم الله الجليلة ، وينسبونها إلى غير خالقها من صنم أو وثن ، ويسترون نعم الله عليهم ، فهم كفرة نعمة وكفرة دين.

مثلان حسّيان للأصنام والأوثان

كانت حملة القرآن الكريم على الأصنام والأوثان عنيفة شديدة ، لأنها لا تتفق مع كرامة الإنسان ، ولا تنسجم مع العقل السوي ، وينبغي تصفيتها من معجم البشرية ، والاتجاه نحو عبادة ما ينفع ويمنع الضر ، وهو الله الإله الواحد الذي لا شريك له ولا ندّ ولا نظير ، لذا استحق الكفار الوثنيون التوبيخ والتأنيب على عبادة الأصنام ، كما أنزل الله تعالى في كتابه في الآيات التالية :

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ

٣٥٠

الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦)) (١) (٢) [النّحل : ١٦ / ٧٣ ـ ٧٦].

هذه آيات تقريع للكفار وتوبيخ ، وإظهار لفساد نظرهم ، وتركيز على مورد الحياة ، ورزق الناس ، وعلى ما يتوجه سعيهم إليه ، واهتمامهم به ، فهذه الأصنام لا تملك توفير الرزق لعبدتها ، فلا تستطيع إنزال المطر ولا إنبات النّعمة ، وعبدة الأوثان يعبدون مع الأسف أشياء من دون الله ، لا تملك إنزال رزق من السموات ، ولا إخراجه من الأرض ، ولا تستطيع فعل شيء ، فآية : (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) نفي الملك وتحصيل الملك ، ومن لا يملك شيئا وهي الأصنام ، ليس في استطاعتها تحصيل الملك ، أي : إنها لا تملك شيئا ولا تستطيع تمليك شيء.

والنتيجة لذلك أنكم أيها الوثنيون ، لا تجعلوا لله أندادا وأشباها وأمثالا ، ولا تشبّهوه بخلقه ، فمعنى قوله تعالى : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) لا تمثّلوا لله الأمثال. وإن الله يعلم ويشهد أنه لا إله إلا هو ، وأنتم أيها البشر الوثنيون بجهلكم تشركون به غيره.

وبعد أن نهى الله تعالى عن الإشراك ، ذكر مثلين حسيين للأصنام :

الأول ـ (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً ..) المثال هنا عبد بهذه الصفة مملوك لسيّده ، لا يقدر على شيء من المال ، ولا من أمر نفسه ، وإنما هو مسخّر بإرادة سيده ، مدبّر ، وفي مقابل هذا العبد : رجل موسّع عليه في المال ، فهو يتصرف فيه بإرادته ، وينفق منه سرا وعلانية ، والعبد العاجز : هو مثل الصنم العاجز ، والرجل الميسور صاحب المال مثل الإله القادر ، وبما أنه لا يستطيع أن يسوّي أحد بين الشخصين : العبد والحر ، ولا يجهل الفرق بينهما ، إلا كل غبي ، فكيف يسوّى بين الإله القادر

__________________

(١) أخرس خلقة.

(٢) عبء وعيال.

٣٥١

على الرزق والإنفاق ، وبين هذه الأصنام التي لا تملك ولا تقدر على شيء أصلا؟ إن التسوية بينهما ضرب من الحماقة والجهل والاستحالة ، لذا قال الله تعالى بعدئذ : (الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ، أي الحمد التام الكامل لله ، والثناء الشامل لله ، والشكر الجزيل لله المنعم ، ولكن أكثر أولئك الكفار الذين يعبدون الأصنام لا يعلمون الحق فيتبعوه ، ولا يعرفون المنعم الحقيقي ، فيخصونه بالتقديس والعبادة.

والمثل الثاني ـ (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ ..) هذا مثل آخر يؤكد الأول وهو أن الله تعالى ضرب مثلا لنفسه وللوثن وغيره من الآلهة المعبودة مثل رجلين :

أحدهما ـ أبكم لا ينطق ولا يتكلم بخير ولا بشيء ، ولا يقدر على شيء متعلق بنفسه أو بغيره ، وهو عالة على مولاه الذي يعوله ، أينما يوجهه لا يحقق خيرا مطلقا ، لعدم فهمه ما يقال له ، ولا إفهام غيره.

والثاني ـ رجل كامل المواهب والحواس ، ينفع نفسه وغيره ، يأمر بالعدل ، ويسير على منهج الحق والطريق القويم والدين الصحيح ، هل يستوي هذان الرجلان؟ الأول ـ عديم النفع ، وهو كالصنّم لا يسمع ولا ينطق ، والثاني ـ كامل النفع ، وهو كالإله الواحد الذي يدعو إلى الخير ، ويأمر بالعدل ، ويلتزم العدل ، وينفع الآخرين ، ويمنع الشر والضرر عنهم. وإذا كان هذان الرجلان لا يتساويان بداهة ، فلا تساوي أصلا بين الله تعالى ، وبين ما يزعمون أنه شريك له سبحانه.

الله العالم بالغيب والخالق

إن من أهم الخصائص الإلهية علم الغيب وخلق الإنسان والحيوان والطير ، فمن كان متصفا بهاتين الصفتين ، كان هو الإله الحق ، ومن فقد إحدى هاتين الصفتين أو كليهما ، انعدم وصفه بالألوهية ، والواقع أن كل من عدا الله تعالى من المخلوقات

٣٥٢

الكونية ، السماوية والأرضية ، والإنس والجن ، والجمادات والحيوانات والأشياء ، لا علم له بالغيب ، ولا قدرة له على شيء من الخلق والإبداع ، والإيجاد والتكوين ، قال الله تعالى مبينا بعض خصائصه وصفاته :

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩)) (١) [النّحل : ١٦ / ٧٧ ـ ٧٩].

يتحدث الله تعالى في هذه الآيات عن نفسه حديثا مفحما لكل من عبد غير الله تعالى ، ويقرر الله في ذلك قرارا حسيما لا مجال لإنكاره ، وهو أن لله وحده غيب السموات والأرض ، وهذا التعبير يفيد الحصر ، فالغيب لله وحده ، يملكه ويعلمه ، وليس لأحد سواه ، ولا قدرة أصلا لأحد على المغيبات ، إلا أن يطلعه الله تعالى على شيء مما يشاء ، وهذا إخبار بكمال علم الله تعالى. أردفه بإخبار آخر وهو القدرة الشاملة ، وفي ذلك إقامة الحجة على الكفار ، فالله سبحانه هو الذي يأمر بالقيامة فتوجد ، وما أمر القيامة وهي وقت الساعة التي تقوم بها القيامة ، في الإيجاد والإقامة في قدرة الله تعالى إلا أن يقول لها : (كُنْ).

وتشبه في السرعة بالنسبة للبشر أنها كلمح البصر ، أي كطرف العين أو هي أقرب من ذلك ، إن الله تام القدرة على كل شيء ، ومن قدرته : إقامة الساعة في أسرع من

__________________

(١) أو : هنا على بابها للشك ، وقيل : هي للتخيير ، أو للإبهام ، وكل ذلك بالنسبة للبشر لا بالنسبة لله ، ولمح البصر : هو وقوعه على المرئي ، ومعناه كخطفة بالبصر.

٣٥٣

لمح البصر أو غمضة العين. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يرويه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم : «بعثت أنا والساعة كهاتين ، وقرن بين السبابة والإبهام».

ومن مظاهر قدرته : الخلق والإبداع ، فالله أخرج الناس من بطون أمهاتهم ، لا يعلمون شيئا ، وخلق لهم طرق العلم وسبل الإدراك وهي السمع والبصر والفؤاد ، لمعرفة أحوال البيئة التي يعيش فيها ، وجعل الله العقل للإنسان مفتاح الفهم وتمييز الخير من الشر ، والنفع من الضرر ، والله أمدكم أيها الناس بهذه النعم لتشكروا نعم الله عليكم ، باستعمال كل عضو فيما خلق من أجله ، ولتتمكنوا من عبادة ربكم ، وتطيعوه فيما أمركم ، وليس الشكر مجرد تردد التعبير باللسان ، وإنما امتثال لحكم الله وأمره.

وأقام الله تعالى دليلا آخر على كمال قدرته وحكمته ، وهو خلق الطيور مسخرات بين السماء والأرض ، والطير علّم الإنسان اختراع الطائرة ، فلننظر كيف جعل الله الطير يطير بجناحيه في جو السماء ، ما يمسكه عن الوقوع إلا الله عزوجل ، فإنه لولا تمكين الله الطيور من التحليق والارتفاع في الجو والنزول إلى الأرض ، وخلق الهواء الحامل للطيور والطائرات ، لولا ذلك لما أمكن الطيران ، فإنه سبحانه وتعالى أعطى الطير جناحا يبسطه مرة ويضمه مرة ، كما يفعل السّباح في الماء ، وأوجد له الذيل ليساعده على الهبوط ، بحركات يستفيد بها من الهواء في الارتفاع ، والتخلص من ثقل الهواء بحركات أخرى من أجل الهبوط ، ولولا ذلك لما كان الطيران ممكنا.

ولنذكر أن أول طيار جرّب الطيران هو العربي المسلم عباس بن فرناس ، لكنه لم يتنبه لفائدة الذيل ، فعند هبوطه تكسرت رجلاه. إن الله هو الممسك للطيور في الجو بواسطة الهواء ، وهو الملهم للطيور وغيرها كيفية الهبوط ، من دون ضرر ولا أذى ، إن في ذلك وهو خلق جناحي الطير ، وتسخير الهواء في الجملة ، والإلهام الرباني ،

٣٥٤

لدلالات على قدرة الله وتوحيده ، لمن يؤمن أو يصدّق بالله ، وليس للأصنام والأوثان وجميع المعبودات غير الله شيء من هذه القدرة ، فلا تستحق تأليها ولا عبادة ولا طاعة ، ونظير الآية : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩)) [الملك : ٦٧ / ١٩].

نعمة السكن واللباس والظل

تفضل الله على عباده بنعم كثيرة لا تعدّ ولا تحصى ، منها نعمة المطر والنبات والحيوان ، ومنها نعمة الخلق والإيجاد من العدم ، وتزويد الإنسان بطرق المعرفة والعلم والإدراك ، ومنها نعمة الطيران ، كما تقدم. ومنها نعمة الإيواء في المساكن ، والتستر بالألبسة المصنوعة من الأصواف والأوبار والأشعار ونحوها ، ونعمة التظلّل بالظلال من الحر والبرد والاستفادة من كهوف الجبال ، وكل هذه النعم تستدعي الوفاء بحق المنعم بها ، وشكرها ، ولكن أكثر الناس يجحدون نعمة الله ، وهذا ما وصفه القرآن الكريم في الآيات التالية :

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) (٧) (٨) [النّحل : ١٦ / ٨٠ ـ ٨٣].

__________________

(١) تجدونها خفيفة.

(٢) يوم ترحالكم.

(٣) متاعا للبيوت كالفرش.

(٤) تنتفعون به في المعايش والتجارات.

(٥) أشياء للاستظلال كالشجر.

(٦) مواضع تستكنون فيها.

(٧) ثيابا.

(٨) دروعا للوقاية في الحروب.

٣٥٥

روى ابن أبي حاتم عن مجاهد : أن أعرابيا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسأله ، فقرأ عليه : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً ..) قال الأعرابي : نعم ، ثم قرأ عليه : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ ..) قال : نعم ، ثم قرأ عليه كل ذلك ، وهو يقول : نعم ، حتى بلغ : (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) فولّى الأعرابي ، فأنزل الله : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ)

هذه الآيات تعداد لنعمة الله على الناس في البيوت وغيرها.

فذكر أولا ، بيوت التمدن ، وهي الصالحة للإقامة الطويلة ، وهي أكثر بيوت الإنسان ، فالله يسّر للناس طريق الإيواء في هذه البيوت والسكن فيها وإليها ، ثم ذكر الله تعالى البيوت المتنقلة : بيوت النقلة والرحلة للأعراب الرّحّل ، وهي بيوت الأدم (الجلود) وبيوت الشعر ، وبيوت الصوف ، لأن هذه من الجلود ، لكونها ثابتة فيها ، وهي خفيفة الحمل والنقل من مكان لآخر يوم الظعن (السفر) ويوم الإقامة ، وهي الخيام والقباب المعروفة ، يخفّ حملها في الأسفار ، فقوله تعالى : (تَسْتَخِفُّونَها) تجدونها خفافا. وجعل الله سبحانه للناس من أصواف الغنم ، وأوبار الإبل ، وأشعار المعز ، ما يتخذ أثاثا للبيوت ، والأثاث : متاع البيت ، ويتخذ وسيلة للتمتع والانتفاع به في الغطاء والفراش ، لمدة من الزمان في علم الله ، فقوله تعالى : (وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) يريد به : وقتا غير معين ، وهو بحسب كل إنسان ، إما بموته وإما بفقد تلك الأشياء.

ثم عدّد الله تعالى نعما أخرى على الناس : وهي أنه جعل لكم أيها الناس من الأشجار والجبال وغيرها ظلالا تستظلون بها من شدة حر الشمس ، وشدة عصف الرياح ، وجعل لكم من الجبال حصونا ومعاقل ومغارات وكهوفا ونحوها ، تأمنون فيها من العدو والحر والبرد ، وجعل لكم سرابيل ، أي ثيابا من القطن والكتان

٣٥٦

والصوف ونحوها ، تقيكم شدة الحر والبرد ، وجعل لكم دروعا من الحديد ونحوه تقيكم بأسكم ، أي شدة القتال والطعن وضرب الرماح والسيوف والنبال وشظايا القنابل وغيرها. وهكذا تتوالى نعم الله تعالى عليكم أيها الناس ، للاستعانة في أموركم وحوائجكم ، وإطاعة ربكم وعبادته ، لتدخلوا في دين الإسلام ، وتؤمنوا بالله وحده ، وتتركوا الشرك وعبادة الأوثان ، فتدخلوا الجنة ، وتأمنوا العذاب والعقاب.

فإن أعرض الناس بعد هذا البيان وتعداد النعم ، فليس عليك أيها النبي شيء من المسؤولية والحرج ، ولست بقادر على خلق الإيمان في قلوبهم ، إنما عليك فقط تبليغ رسالتك بوضوح ، وتبيان أصول دعوتك ، ومقاصد الدين ، وأسرار التشريع ، وسبب هذا الإعراض ، هو التنكر للجميل والمعروف ، فهم يعرفون أن الله تعالى هو المنعم بهذه النعم عليهم ، وهو المتفضل بها عليهم ، ومع هذا ينكرون ذلك بأفعالهم ، ويعبدون معه غيره ، ويسندون الرزق والنصر إلى غيره ، وأكثرهم الكافرون كفر نعمة وعقيدة ، أي الجاحدون المعاندون ، وأقلهم المؤمنون الصادقون.

الشهادة على الأمم من أنفسهم يوم القيامة

كل جان أو مخطئ في الغالب لا يجرأ على الاعتراف بذنبه ، سواء في قضاء الدنيا أو في قضاء الآخرة ، ويحتاج الأمر حال الإنكار إلى إثبات بالشهود ، لأنه لا يصدر الحكم القضائي عادة من غير أدلة كافية في الإثبات كالإقرار والشهادة والقرائن واليمين. ويحتاج الأمر لبيان جنايات العصاة يوم القيامة ، فيبعث الله الشهود من الأمم نفسها أو من غيرها ، وفي هذه الآيات التالية إثبات الجرم من الأمم ذاتها بشهادة الشهود ، قال الله تعالى واصفا ذلك وردود الفعل من المشركين والكفرة :

٣٥٧

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩)) (١) (٢) (٣) [النّحل : ١٦ / ٨٤ ـ ٨٩].

هذه آية وعيد للكفار يوم القيامة ، مفادها : اذكر أيها النبي يوم نبعث من كل أمة شاهدا عليهم ، بالكفر أو الإيمان ، والشهيد : الشاهد ، وهو نبيهم يشهد عليهم بما أجابوه عما بلّغهم عن الله تعالى ، إما بالإيمان ، وإما بالكفر والعصيان ، ثم إذا شهد عليهم نبيهم لا يسمح لهم بالاعتذار والدفاع عن أنفسهم ، لأنه لا حجة لهم ، ولأنهم يعلمون كذبهم في الاعتذار ، ولأن أحكام الله عادلة عدلا مطلقا ، ولا يطلب منهم العتاب ، لأنه : لا فائدة في العتاب ، مع سخط الله وغضبه ، فإن الرجل يطلب العتاب من خصمه إذا كان جازما أنه إذا عاتبه رجع إلى صالح العمل ، والآخرة دار جزاء ، لا دار تكليف وعمل ، ولا أمل في الرجوع إلى الدنيا.

وأما ردود الفعل من الكفار الظلمة بعد صدور الأحكام ، فهي الإحباط واليأس والحيرة ؛ لأنهم إذا رأوا العذاب وعاينوا العقاب ، فلا ينجو منهم أحد ، ولا يخفف عنهم من شدته ساعة واحدة ، ولا هم ينظرون ، أي لا يمهل عقابهم ، ولا يؤخر عنهم ، بل يؤخذون بسرعة من موقف الحساب وتوزيع الصحف التي يعلن فيها قرارهم النهائي.

__________________

(١) لا يطلب منهم إرضاء الله.

(٢) يمهلون.

(٣) الاستسلام لحكم الله.

٣٥٨

ويزداد المشركون حيرة وارتباكا ، فإنهم إذا رأوا يوم القيامة بأبصارهم الأوثان والأصنام وكل معبود من دون الله ـ لأنها تحشر معهم توبيخا لهم ـ إذا شاهدوها ، أشاروا إليهم ، وقالوا : هؤلاء شركاؤنا الذين كنا نعبدهم من دون الله ، قاصدين بذلك إدخالهم في المعصية والحساب ، فترد عليهم الشركاء المزعوم ألوهيتها قائلين : كذبتم ، لم نأمركم بعبادتنا ، أو إنكم لكاذبون ، ما كنا ندعوكم إلى عبادتنا ، فمن كان من المعبودين من البشر تكلم بلسانه ، وما كان من الجمادات تكلم بقدرة الله ، بتكذيب المشركين في وصفهم بأنهم آلهة وشركاء لله.

ثم قال تعالى : (وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) أي استسلم العابد المشرك والمعبود ، وأقروا لله بالربوبية ، وبالبراءة عن الشركاء والأنداد ، وذلّوا واستسلموا لله جميعا ، وغاب وذهب عنهم افتراؤهم بنسبة الشركاء لله ، وأنها أنصارهم وشفعاؤهم ، أي : إنه حل بهم عذاب الله ، وباشروا نقمته.

ثم فسّر الله نوع العذاب ، فأخبر أن الذين كفروا ومنعوا غيرهم من الدخول في الدين ، وسلوك سبيل الله ، زادهم الله عذابا فوق العذاب العام لجميع الكفار ، عقوبة على إفسادهم وصدّهم الناس عن دين الله وشرعه وعبادته.

وهذه إشارة واضحة إلى أن من دعا غيره إلى الكفر والضلال ، ضوعف عذابه ، واشتد عقابه ، كما أن من دعا إلى دين الله الحق ، ضوعف ثوابه ، وعظم قدره عند الله تعالى.

وتدلنا الآية أيضا على تفاوت الكفار في العذاب ، كما يتفاوت المؤمنون في درجات الجنان ، وكما جاء في قول الله تعالى : (قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ٧ / ٣٨]. روي في ذلك عن ابن مسعود أن الله تعالى سلّط عليهم عقارب وحيّات لها أنياب كالنخل الطوال. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : إن لجهنم

٣٥٩

سواحل فيها هذه الحيات وهذه العقارب ، فيفر الكفار إلى السواحل من النار ، فتتلقاهم هذه الحيات وهذه العقارب ، فيفرون منها إلى النار ، فتتبعهم ، حتى تجد حرّ النار ، فترجع.

شهادة نبينا على الأمم وأمته

تتأكد الشهادة الصادرة من الأنبياء السابقين على أممهم بشهادة نبينا عليهم الصلاة والسلام ؛ لأنه لا أصدق في الشهادة من الأنبياء المعصومين من الخطايا والذنوب ، فتكون شهادتهم حقا مطلقا ، وعدلا صرفا ، لا مجال للطعن فيها من أحد ، فتكون طريقا مقطوعا أو متيقنا لإثبات الجرم أو الخطأ ، ويكون الحكم الإلهي العادل حاسما في الموضوع ، وكل هذا تهديد ووعيد ، ينبغي على العقلاء التفكر فيما ينتظرهم من عقاب ، لا سبيل إلى التخلص أو النجاة منه ، قال الله تعالى واصفا شهادة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الأمم ، وتأكيد مفاد الشهادة بالقرآن الكريم :

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩)) (١) [النّحل : ١٦ / ٨٩].

تتضمن هذه الآية الكريمة وعيدا وتهديدا للكفار الذين لا يؤمنون برسالات الرسل والأنبياء ، مضمونها : واذكر أيها النبي يوم نبعث في كل أمة شاهدا عليها قطعا للحجة والمعذرة ، وهو رسولها الذي شاهد في الدنيا تكذيبها وكفرها ، وإيمانها وهداها ، ويجوز أن يبعث الله شاهدا من الصالحين مع الرسل. قال بعض الصحابة : إذا رأيت أحدا على معصية فانه ، فإن أطاعك ، وإلا كنت شهيدا عليه يوم القيامة.

__________________

(١) هذا منصوب على الحال ، أو مفعول لأجله.

٣٦٠