التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٢

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0522-5
الصفحات: ٣٩٢

أنهم وقعوا في الضلال ، بتقليدهم زعماء الكفر ، ألا بئس شيئا يحملونه من الذنب ذلك الذي يفعلون.

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس حديثا نصه : «أيما داع دعا إلى ضلالة ، فاتّبع ، فإن عليه مثل أوزار من اتّبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ، وأيما داع دعا إلى هدى ، فاتّبع ، فله مثل أجورهم ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء».

وهناك شبه بين الكفار القدامى والكفار الجدد في عصر النبوة ، فلقد مكروا جميعا لدين الله ورسله ، واحتالوا لإطفاء نور الله ، فأهلكهم الله تعالى في الدنيا ، بتدمير مبانيهم من قواعدها ، وإسقاط السقوف عليهم من فوقهم ، وإبطال كيدهم ، وإحباط أعمالهم ، وإطباق العذاب عليهم من كل جانب ، من حيث لا يحسون بمجيئه ولا يتوقعون حدوثه ، قال ابن عباس : الإشارة ب (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) إلى نمرود الذي بنى الصرح ليصعد به إلى السماء على زعمه ، فلما أفرط في علوه ، وطوّله في السماء فرسخين ـ على ما حكى النقاش ـ بعث الله عليه ريحا فهدمه ، وخر سقفه عليه وعلى أتباعه ، وهذا أيضا يشمل جميع من كفر من الأمم المتقدمة ومكر ، ونزلت به عقوبة من الله تعالى.

هذا عذابهم في الدنيا ، ولهم عذاب آخر وهو أنه يوم القيامة يخزيهم ، ويظهر فضائحهم ، ويذلّهم إذلالا دائما ، ويقول لهم الرب تبارك وتعالى تقريعا لهم وتوبيخا : (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) أي أين شركائي في زعمكم ، أين آلهتكم التي عبدتموها من دوني وكنتم تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم؟ أحضروهم ليدفعوا عنكم العذاب.

قال العلماء المقرّون بالتوحيد لله : إن الذل والفضيحة والعذاب محيط اليوم بالكافرين الذين كفروا بالله ، وأشركوا به ما لا يضرهم ولا ينفعهم. وهؤلاء

٣٢١

الكافرون تتوفاهم الملائكة وتقبض أرواحهم ، حالة كونهم ظالمي أنفسهم بالكفر والمعاصي والتعريض للعذاب ، ولكن لما حضرهم الموت وعاينوا العذاب ، أظهروا السمع والطاعة والانقياد قائلين : ما كنا مشركين بربنا أحدا ، وما كنا نعمل شيئا من السيئات ، فكذبهم الله في قولهم ورد عليهم بقوله : (بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي لقد عملتم السوء كله وأعظمه ، والله عليم بأعمالكم ، فلا فائدة في إنكاركم ، والله يجازيكم على أعمالكم ، فادخلوا أبواب جهنم للاستقرار فيها ، وذوقوا عذاب إشراككم بربكم ، وأنتم خالدون ماكثون فيها إلى الأبد ، وساء المقر مقر دار الهون ، ومقام المتكبرين عن آيات الله تعالى واتباع رسله.

صفات المتقين وجزاؤهم

بعد أن ذكر الله تعالى صفات المكذبين بالقرآن ، المستكبرين عن آياته ، ذكر للمقارنة والموازنة صفات المؤمنين الذين يصدقون بالوحي الإلهي ، وبالجزاء المرتقب في الدنيا والآخرة ، بالإسعاد في الحياة ، والظفر بمنازل الخيرات ودرجات السعادة في جنان عدن ، والأشياء تتميز بأضدادها ، فإذا كان جزاء المتكبرين عن عبادة الله والتصديق بما أنزل على رسله هو نيران جهنم ، فإن جزاء المتقين الممتثلين أوامر الله هو نعيم الجنان ، فيظهر الفرق جليا بين الفريقين ، ويتميز المحسنون من الأشرار ، وهذا ما أبانته الآيات التالية :

(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢)) [النّحل : ١٦ / ٣٠ ـ ٣٢].

٣٢٢

لما وصف الله تعالى مقالة الكفار الذين قالوا عن القرآن : إنه أساطير الأولين ، عادل ذلك ببيان مقالة المؤمنين أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأوجب لكل فريق ما يستحق ، لتباين المنازل بين الكفر والإيمان.

وإذا قيل لأهل التقوى والإيمان بالله ورسوله والمحسنين أعمالهم : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) قالوا : أنزل الله في الوحي على نبينا خيرا ، من أحسن في الدنيا بالطاعة فله حسنة في الدنيا ، ونعيم في الآخرة ، بدخول الجنة ، ودار الآخرة خير من دار الدنيا ، ونعمت الدار دار المتقين الذين أطاعوا الله واجتنبوا نواهيه.

أخرج الإمام أحمد ومسلم عن أنس رضي الله عنه : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله عزوجل لا يظلم المؤمن حسنة ، يثاب عليها الرزق في الدنيا ، ويجزى بها في الآخرة ، وأما الكافر فيعطى بحسناته في الدنيا ، فإذا لقي الله عزوجل يوم القيامة ، لم تكن له حسنة يعطى بها خيرا».

والسائل للمتقين : هم الوافدون من المشركين على المسلمين في أيام المواسم والأسواق ، فكان الرجل يأتي مكة ، فيسأل المشركين عن محمد وأمره ، فيقولون : إنه ساحر وكاهن وكذاب ، فيأتي المؤمنين ، ويسألهم عن محمد وما أنزل الله عليه ، فيقولون : أنزل خيرا.

ثم وصف الله دار المتقين بأنها جنات عدن ، أي إقامة ، تجري بين أشجارها وقصورها الأنهار ، ونعيمها دائم ميسّر غير ممنوع ، وللمحسنين في الدنيا ما يتمنون ويطلبون في الجنات ، كما قال الله تعالى : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) [الزخرف : ٤٣ / ٧١] وهذا جزاء التقوى والمتقين ، ومثل ذلك الجزاء الطيب ، يجزى الله كل من آمن به واتقاه ، وتجنّب الكفر والمعاصي ، وأحسن عمله ، وهذا حث على ملازمة التقوى ، وإغراء للمتقين بالاستزادة من أعمال الخير.

٣٢٣

وحال المتقين عند الاحتضار أو الموت على عكس حال الكفار والمشركين ، تقبض الملائكة أرواحهم طاهرين طيبين من الشرك والمعصية وكل سوء ، وتسلّم عليهم الملائكة وتبشرهم بالجنة عند قبض الأرواح ، تقول لهم : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي سلام عليكم من الله ، وأمان لا خوف ، وراحة لا مكروه ، ادخلوا الجنة التي أعدها لكم ربكم بسبب أعمالكم الطيبة وأفعالكم الخيرة الحسنة ، ولما بشرتهم الملائكة بالجنة ، صارت الجنة كأنها دارهم ، وكأنهم فيها ، وهي خاصة بهم ، لا يشاركهم فيها غيرهم ، وهذا مثل الوارد في آية أخرى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠)) [فصّلت : ٤١ / ٣٠].

وقوله تعالى : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) عبارة عن صلاح حالهم واستعدادهم للموت ، وهذا بخلاف ما قال الله تعالى في الكفرة : (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) أي بالكفر والشرك والضلال. و (الطيب) : هو الذي لا خبث معه ، ومنه قوله تعالى : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [الزّمر : ٣٩ / ٧٣].

وقوله سبحانه : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) تعبير عن قانون العدل ، حيث جعل الله الأعمال أمارة لإدخال العبد الجنة ، ولا يتعارض هذا مع الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما : «لا يدخل أحد الجنة بعمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة». فهذا تعبير عن مقتضى الرحمة التي هي فوق العدل ، ومن الرحمة أن يوفق الله العبد إلى أعمال برّة. والقصد من الحديث نفي وجوب ذلك على الله تعالى بالعقل ، كما ذهب إليه فريق من المعتزلة ، وإنما دخول الجنة بمحض فضل الله وإحسانه وتعميم رحمته.

٣٢٤

تهديد المشركين بالعقاب

لقد كان مشركو مكة في أشد حالات العناد ومقاومة دعوة الرسول ، والتحدي لأمره ، دون مبالاة بعذاب إلهي ، أو عقاب خطير ، وكأنهم لم يتعظوا بأحداث الأقوام الغابرة الذين أنزل الله بهم ألوانا من عذاب الاستئصال ، للعبرة والعظة ، وحاولوا تعطيل إرادتهم ودورهم في اختيار الإيمان ، ونسبوا الشرك لإرادة الله ، وهو مجرد وهم وافتراء ، ونسبة للأمور لغير مصدرها الصحيح ، وهذه آيات كريمة تصور مواقف المشركين وتماديهم في الباطل :

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥)) (١) [النّحل : ١٦ / ٣٣ ـ ٣٥].

هدد الله تعالى بهذه الآيات المشركين على تماديهم في الباطل واغترارهم بالدنيا ، ومضمون التهديد : ما ينتظر كفار مكة وأمثالهم في التصديق بنبوة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم ظالمي أنفسهم ، أو أن يأتيهم أمر ربك بعذاب الاستئصال في الدنيا ، كإرسال الصواعق أو الزلازل ، أو قيام الساعة ، وما يتعرضون له من الأهوال. وهذا وعيد شديد ، يقصد به حثهم على الإيمان بالله ورسوله قبل نزول العذاب. وهذا الموقف المعاند له شبيه بفعل أسلافهم من الأمم ، الذين عوقبوا بحق ، وليس ظلما بوضع العقاب في غير موضعه ، ولكنهم هم الذين

__________________

(١) أحاط.

٣٢٥

ظلموا أنفسهم ، بكفرهم بالله تعالى ، وميلهم لعبادة الأصنام والأوثان. إنهم ظلموا أنفسهم ، أي آذوها بفعلهم نفسه ، وإن كانوا لم يقصدوا ظلمها ولا إذايتها.

لقد أصابهم جزاء عملهم في الدنيا والآخرة ، ونزل بهم العقاب ، وأحاط بهم العذاب ، جزاء بما كانوا به يستهزئون ، بالسخرية من الرسل حين توعدوهم بعقاب الله تعالى. فقوله تعالى : (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) فيه محذوف ، يدل عليه الظاهر من الكلام ، تقديره : جزاء بما كانوا يكسبون أو يستهزئون.

والآية تتضمن شبهة أخرى لمنكري النبوة الذين طالبوا بإنزال ملك من السماء ، يشهد على صدق رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بعد شبهة الزعم بأن القرآن أساطير الأولين. ثم أجاب الله تعالى عن شبهة ثالثة لمنكري النبوة ، تصور جدلا من الكفار ، وذلك أن أكثرهم كانوا يعتقدون وجود الله تعالى ، وأنه خالقهم ورازقهم ، ولكنهم زعموا أن شركهم بإرادة الله ، فقالوا : يا محمد ، نحن من الله بمرأى في عبادتنا الأوثان ، واتخاذها زلفى تقرب إلى الله ، ولو كره الله فعلنا لغيّره منذ مدة ، إما بإهلاكنا ، وإما بهدايتنا ، ولو شاء الله الإيمان لآمنا ، فكل من الإيمان والكفر من الله ، ولا فائدة في مجيء الرسول ، ويكون القول بالنبوة باطلا ، ومقصودهم بهذا الطعن بالنبوة.

وهذا الزعم أعلنه المشركون حينما لزمتهم الحجج الدامغة ، وأفلسوا عن إيراد الجواب المعقول ، وأضافوا قائلين : لو شاء الله ما حرّمنا بعض المواشي ، كالبحيرة والسائبة والوصيلة وغير ذلك مما حرّموه ، فيكون قولهم شاملا أمرين : أنهم لو شاء الله ما عبدوا هم ولا آباؤهم غير الله ، ولا حرموا شيئا حال كونه من دون الله ، والمراد ما حرموا شيئا مستقلين بتحريمه.

ثم جاء الرد القاطع من الله على هذا الموقف الذي لا يتفق مع العقل والحقيقة في شيء ، ومضمون الرد : هو أن الله تعالى ينهى عن الكفر ولا يرضاه لعباده ، وقد

٣٢٦

تذرع من قبلهم من الأمم بهذه الذريعة ، وسبقهم إلى هذه النزعة الأولون من الكفار ، والأمر ليس على ما ظنّوه من أن الله تعالى إذا أراد الكفر لا يأمر بتركه ، بل قد أقام الله الأدلة لعباده ، على صحة الإيمان والاعتقاد ، وأرسل الرسل منذرين ، وليس عليهم إلا البلاغ الواضح ، وليس عليهم الهداية ، والله تعالى لا يجبر أحدا على الهداية أو الضلالة ، وإنما يختار الإنسان لنفسه ما يريد ، والله سبحانه خلق للإنسان قدرة الاختيار ، فلا يصح الاحتجاج بمشيئة الله ، بعد أن خلق للناس من قدرة الاختيار ما يكفي.

إن التذرع بمشيئة الله لتسويغ الشرك والانحراف والعصيان شيء باطل ، وعلم الله بوقوع الكفر وإرادته في وقوعه من إنسان شيء آخر لا صلة له بأصل الاختيار ، فإن كل إنسان مسئول عما يفعل ويختار ، وهو يجهل مراد الله ، فكان عليه التزام أوامر الشريعة واجتناب نواهيها ، ولا يصح له الادعاء بأن الكفر والضلال داخل في مراد الله وعلمه.

مهمة الرسل في الأمم

تعدد إرسال الرسل في الأمم المختلفة ، لمهمة مشتركة جوهرية ، هي الدعوة إلى عبادة الله ، وترك عبادة الأوثان ، والإيمان بالبعث واليوم الآخر ، وقد جاهد الأنبياء والرسل في إثبات هذه الأصول والمعتقدات ، وبيان الأمور المختلف فيها ، وتقرير الإرادة الإلهية النافذة التي توجد كل شيء بأمر الله وكلمته التكوينية ، وهي : (كُنْ فَيَكُونُ).

فآمن جماعة بهذه العقائد وضل آخرون ، فخسروا الدنيا والآخرة.

قال الله تعالى واصفا هذه الأحوال : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا

٣٢٧

اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠)) (١) (٢) (٣) [النّحل : ١٦ / ٣٦ ـ ٤٠].

أبانت هذه الآيات عموم بعثة الرسل لكل الأمم ، فكانت سنة الله في خلقه إرسال الرسل إليهم ، وتضمنت رسالاتهم الدعوة لعبادة الله وحده ، والنهي عن عبادة الطاغوت : وهو كل ما عبد من دون الله من الأوثان والأصنام ، والبشر والكواكب ، والشيطان وغيرها. فمن الأقوام من آمن وهداهم الله إلى الحق ، ووفّقهم لتصديق الرسل ، ففازوا ونجوا ، ومنهم من كفر بالله وكذبوا رسله ، وضلّوا الطريق ، فعاقبهم الله تعالى. أما من هداه الله ، فإنه نظر ببصيرته وسار في طريق الخير ، وأما من حقت عليه الضلالة ، وهي المؤدية إلى النار حتما أو إلى عذاب الله في الدنيا ، فإنه أعرض عن الحق وكفر واختار طريق الشر.

ثم أحال الله في توجيه علم الفريقين على الطلب في الأرض ، فاسألوا أيها البشر عمن خالف الرسل ، وكذب الحق ، كعاد وثمود ، كيف أهلكهم الله بذنوبهم ، وانظروا كيف كان مصير المكذّبين رسلهم ، لتعتبروا بعاقبتهم.

ثم آنس الله تعالى رسوله وواساه عما يقابل من جحود قومه ، فقال له : (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي : إن حرصك على هداية قومك لا ينفع ، فإنها أمور محتومة ، ولا يفيدهم حرصك إذا كان الله قد

__________________

(١) كل معبود باطل.

(٢) ثبتت.

(٣) أوكدها.

٣٢٨

أراد إضلالهم بسوء اختيارهم ، والله لا يهدي من قضى بإضلاله ، وأساء الاختيار ، وليس لمن اختاروا الضلالة ناصرون ينقذونهم من عذاب الله وعقابه ؛ لأن أساس الحساب على الإيمان والكفر هو الاختيار ، لا الإكراه والإلجاء.

ثم رد الله تعالى على شبهة خطيرة لمنكري النبوة ، وهي إنكار البعث والحشر والنشر والحساب ، فلقد أقسم المشركون كفار قريش واجتهدوا في الحلف ، وأغلظوا الأيمان على أنه لا يبعث الله من يموت ، أي إنهم استبعدوا البعث ، وكذبوا الرسل في إخبارهم إياهم به ، لأن الميت يفنى ويزول. ذكر أن رجلا من المسلمين جاور رجلا من المشركين ، فقال في حديثه : «لا والذي أرجوه بعد الموت» فقال له الكافر : «أو تبعث بعد الموت؟» قال : «نعم» فأقسم الكافر مجتهدا في يمينه أن الله لا يبعث أحدا بعد الموت ، فنزلت الاية بسبب ذلك. وقوله تعالى : (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) معناه بغاية جهدهم.

ردّ الله تعالى عليهم بقوله : (بَلى) فأوجب بذلك البعث ، وقرر وقوعه ثم أكده بمصدرين مؤكدين بقوله : (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) أي بلى ، سيكون ذلك ، ووعد به وعدا حقا لا بد منه ، ولكن أكثر الناس لجهلهم بقدرة الله خالفوا الرسل ، ووقعوا في الكفر ، وأكثر الناس في هذه الآية : هم الكفار المكذبون بالبعث. والبعث من القبور مما يجوّزه العقل ، وأثبته خبر الشريعة على لسان جميع النّبيين.

وحكمة الله في البعث والمعاد هي ليبين الله للناس الحق الذي يختلفون فيه ، ويقيم العدل المطلق ، فيميز بين الخبيث والطيب ، والعاصي والطائع ، وقوله سبحانه :

(لِيُبَيِّنَ) متعلق بقوله : (بَلى) أي بلى يبعث ليبين ، وليعلم الكافرون الذين أنكروا البعث والجزاء أنهم كانوا كاذبين في أيمانهم وأقوالهم وادعائهم أنه لا يبعث الله من يموت.

٣٢٩

وقضية البعث سهلة مرجعها لقدرة الله تعالى الشاملة لكل شيء ، فالله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، إذا أراد شيئا من بدء الخلق والإعادة وبعث الأموات والمعاد ، فإنما يتم بالأمر به مرة واحدة ، فيكون كما يشاء الله ، دون عناء ولا تردّد ، ولا بطء ولا تكلف ، كما قال سبحانه : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠)) [القمر : ٥٤ / ٥٠].

حال مؤمني مكة في بدء الدعوة

(المهاجرون إلى الحبشة)

كان الصراع شديدا وعنيفا في مكة المكرمة في بدء الدعوة الإسلامية ، بين كفار مكة الذين أقسموا أن الله لا يبعث من يموت ، وبين مؤمني مكة المعارضين لهم ، وهم الذين هاجروا إلى الحبشة ، إيثارا للسلامة ، وبعدا عن الأذى والاضطهاد ، فالكفار أنكروا البعث والقيامة ، والمؤمنون آمنوا بكل ما جاء به الإسلام ، وصبروا على إيذاء المشركين ، وضحوا بأنفسهم وأموالهم وديارهم من أجل إعلاء كلمة الله. وقد أشاد القرآن بهم في الآيات التالية :

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤)) (١) (٢) (٣) [النّحل : ١٦ / ٤١ ـ ٤٤].

__________________

(١) لننزلنهم.

(٢) الحسنة : عامة في كل أمر مستحسن يناله ابن آدم ، ويشمل النصر على العدو ، وفتح البلاد وتحقيق الآمال.

(٣) كتب الشرائع.

٣٣٠

الصحيح في سبب نزول هذه الآية : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا ..) في المهاجرين إلى أرض الحبشة في المرحلة الأولى من الدعوة الإسلامية ، لأن هجرة المدينة لم تكن وقت نزول الآية ، وتشمل الآية كل من هاجر أولا وآخرا.

ومما لا شك فيه أن هؤلاء النخبة العالية من السابقين إلى الإسلام ، لهم فضل كبير ومنزلة عظيمة ، لمبادرتهم إلى الإيمان بدعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مبدأ الأمر ، حيث قل الأتباع ، وكثر الأعداء ، واستبد الأقوياء بالضعفاء ، وألجؤوهم إلى الفرار بدينهم ، والهجرة من أوطانهم ، انتصارا لمبدأ التوحيد ، وإعلاء لكلمة الله ، لذا استحقوا الخلود في تاريخ الأمة ، وهو المراد بكلمة الحسنة عند بعض المفسرين ، فهي لسان الصدق الباقي عليهم في غابر الدهر.

وكان جزاء هؤلاء المهاجرين عند ربهم إنزالهم في الدنيا منزلة حسنة ، وهي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم ، وعلى العرب قاطبة ، وعلى أهل المشرق والمغرب ، فتكون الحسنة التي أنعم الله بها عليهم : هي المنزلة الطيبة ، والمسكن المرضي ، والموطن الأصلح وهو المدينة ، كما قال ابن عباس والشعبي وقتادة. وقال مجاهد : هي الرزق الطيب ، قال ابن كثير : ولا منافاة بين القولين ، فإنهم تركوا مساكنهم وأموالهم ، فعوضهم الله خيرا منها في الدنيا ، فإن من ترك شيئا لله ، عوضه الله بما هو خير له منه ، وكذلك أصبحوا سادة العباد والبلاد. (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ). أي : وثوابهم في الآخرة على هجرتهم أعظم مما أعطاهم الله في الدنيا ، لأن ثوابه هو الجنة ذات النعيم الدائم الذي لا يفنى ، ولو علم الكفار أن الله يجمع لهؤلاء المستضعفين المهاجرين ، في أيديهم ، الدنيا والآخرة ، لرغبوا في دينهم.

لقد استحق هؤلاء المهاجرون هذه المنزلة العالية ؛ لأنهم صبروا على أذى قومهم ، وعلى مفارقة الوطن المحبوب ، وهو حرم الله مكة ، وعلى المجاهدة وبذل الأرواح في

٣٣١

سبيل الله ، وعناء السفر ومتاعب الغربة ، وتوكلوا على ربهم ، وفوضوا أمورهم إليه ، فأحسن عاقبتهم في الدنيا والآخرة.

وكان من بين هؤلاء المهاجرين إلى الحبشة أشراف المسلمين : عثمان بن عفان وزوجه رقية بنت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجعفر بن أبي طالب ابن عم الرسول ، وأبو سلمة ابن عبد الأسود ، في جماعة قريب من ثمانين ، ما بين رجل وامرأة ، صدّيق وصدّيقة رضي الله عنهم وأرضاهم.

ثم رد الله تعالى على شبهة كفار قريش في بشرية الرسل ، حيث استبعدوا أن يكون البشر رسولا من الله تعالى ، فأعلمهم الله مخاطبا رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لم يرسل إلى الأمم إلا رجالا أوحى إليهم ، ولم يرسل ملكا ولا غير ذلك. وقل لهم يا محمد : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي أسألوا أحبار اليهود والنصارى الذين لم يسلموا ، فإنهم يخبرون بأن الرسل من البشر.

لقد أرسل الله الرسل بالحجج والدلائل التي تشهد لهم بصدق نبوتهم ، وبالكتب المشتملة على التشريع الرباني ، وهي الزّبر ، أي الكتب ، وكما أنزلنا الكتب إلى من قبلك يا محمد ، أنزلنا إليك القرآن ، لتبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم من الشرائع والأحكام والحلال والحرام وقصص الأنبياء والأمم الماضية التي أبيدت لتكذيبها الرسل ، ومن أجل أن يتفكروا وينظروا في حقائق الكون وأسرار الحياة وعبر التاريخ ، فيهتدون ويفوزون بالنجاة في الدارين.

وهذه حقيقة تشريعية وواقعية ، فإن من آمن برسل الله الكرام ، وبالكتب الإلهية المنزلة ، وعمل بما أنزل الله ، حظي بسعادة الدنيا والآخرة ، وتلك هي النعمة العظمى والغاية الكبرى للإنسان العاقل.

٣٣٢

تهديد الله أهل مكة الذين عادوا الإسلام

لا يتعجل الله سبحانه عادة بعقاب الكفار على كفرهم وظلمهم ، وإنما يعطيهم الفرصة الكافية للنظر والتأمل ، ومراجعة الحساب ، وامتثال أوامر الله ، فينذرهم مرة ، ويحذرهم تارة ، ويذكّرهم بمصير الظلمة العتاة الذين سبقوهم ، وكل ذلك من أجل الحرص على صلاحهم وهدايتهم وتمكينهم من العودة القريبة لجادة الاستقامة وسلوك الطريق الأقوم ، وهذا المنهج تقرره الآيات الكريمة التالية :

(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) (٧) (٨) [النّحل : ١٦ / ٤٥ ـ ٥٠].

هذه آية تهديد لأهل مكة ، في قول الأكثرين ، ومعناها : أفأمن الكفار العصاة الذي يعملون السيئات ويمكرون بالناس في دعائهم إلى الضلال ، ويسيئون إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويحاولون صد الناس عن الإيمان بدعوته ، وهم أهل مكة ، هل أمنوا أحد أمور أربعة؟

ـ أن يخسف الله بهم الأرض ، كما فعل بقارون.

ـ أو أن يعجل الله لهم العذاب فجأة من حيث لا يشعرون به ، كما صنع بقوم لوط.

__________________

(١) يغيّب.

(٢) أسفارهم.

(٣) فائتين من عذاب الله بالهرب.

(٤) أي مع تخوف وتوقع للبلايا ، أو تنقص في الأموال والأنفس والثمرات.

(٥) جسم له ظل.

(٦) تنتقل من جانب لآخر.

(٧) منقادة لحكم الله.

(٨) أي صاغرون منقادون.

٣٣٣

ـ أو يأخذهم في تقلّبهم في الليل والنهار وفي أسفارهم ومتاجرهم واشتغالهم بالمعايش والمكاسب والملهيات ، فلا يعجزون الله على أي حال كانوا عليه.

ـ أو يأخذهم على جهة التخوف : وهو التنقص في الأموال والأنفس والثمرات ، فإن الله تعالى لم يعجل بعذابهم ، ولم يعاجلهم بالعقوبة ؛ لأنه رؤف رحيم بعباده ، فترك لهم فرصة يتمكنون من تلافي التقصير ، واستدراك الأخطاء ، والعدول عن الضلال. جاء في الحديث الصحيح : «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله ، إنهم يجعلون له ولدا ، وهو يرزقهم ويعافيهم».

وهذه الإنذارات تتطلب التذكير بقدرة الله الشاملة والخارقة ، لذا جاء التذكير بإبداع المخلوقات السماوية والأرضية ، وهي ألم ينظر هؤلاء الذين مكروا السيئات إلى ما خلق الله من شيء له ظل ، من جبل وشجر وبناء وجسم قائم ، تتميل ظلاله (١) من جانب إلى جانب ، ذات اليمين وهو المشرق ، وذات الشمال وهو المغرب ، بكرة وعشيا ، أي في الغداة أول النهار ، وفي المساء آخر النهار ، وتلك الظلال ساجدة لأمر الله وحده ، والسجود : الانقياد والاستسلام ، وهم صاغرون خاضعون منقادون لله ، لأن الظلال تتحول من جهة المشرق إلى جهة المغرب ، وهذا الانتقال دليل على القدرة الإلهية ، وبعبارة أخرى : أو لم ينظروا إلى ما خلق الله من الأجرام التي لها ظلال ، متفيئة عن أيمانها وشمائلها ، أي عن جانبي كل واحد منها وشقّيه ، ترجع الظلال من جانب إلى جانب ، منقادة لله ، غير ممتنعة عليه ، فيما سخرها له من التفيؤ ، كما أن الأجرام المادية في أنفسها صاغرة منقادة لأفعال الله ، لا تمتنع.

وهذا في الجمادات ، ثم ذكر الله سجود الأحياء ، فلله يسجد كل ما في السموات

__________________

(١) يتفيأ ظلاله في قراءة الجمهور ، وقرأ أبو عمرو وحده : ((تتفيأ)). قال أبو علي الفارسي : إذا تقدم الفعل المسند إلى مثل هذا الجمع ، فالتذكير والتأنيث فيه حسنان.

٣٣٤

والأرض من الدوابّ والملائكة ، والحال أنهم لا يستكبرون أبدا عن عبادته ، وعن أي شيء كلفوا به ، فهم في تذلل دائم وخضوع لله تعالى. يخاف هؤلاء الملائكة والدواب الأرضية المخلوقة ربّهم المهيمن عليهم من فوقهم بالقهر والغلبة ، ويفعل الملائكة كل ما يؤمرون به ، فهم مثابرون على طاعته تعالى ، وامتثال أوامره ، وترك زواجره ، وكذلك المؤمنون يأتمرون بأوامر الله بحسب الشرع وواجب الطاعة ، وأما غير المؤمنين من الحيوان فيأتمرون بالتسخير والقدر الذي يسوقهم إلى أمر الله.

والمراد بالفوقية : علو الرتبة والشرف ، والقدرة والهيمنة.

إن المقصود من هذه الآيات : هو أنه على أهل مكة الماكرين بالنبي وبالمؤمنين أن يحذروا عقاب الله ، فإن الله قادر على تعذيبهم عاجلا أو آجلا ، ودليل قدرته وعظمته وكبريائه خضوع كل شيء له في السماوات والأرض ، من جماد ونبات وحيوان وإنس وجنّ وملائكة.

وإن تبدل أحوال الكائنات وتغير أوضاعها من زيادة ونمو ونقص ، وارتفاع وانخفاض ، واتساع وضيق ، دليل على أن الله الذي كونها على هذا النحو ، أراد بذلك التذكير بالمتصرّف فيها ، والمبدّل لأحوالها ، وليكون ذلك لخير الإنسان وتمتعه بأوصاف الكمال والجمال الإلهي ، لأن ثبات الشيء على حال واحدة مملّ وممجوج ، وفي التغير حركة مسلّية وتذكير بقيمة الوقت وحقائق الأشياء.

النهي عن تعدد الآلهة

الدعوة إلى توحيد الله ، والنهي عن الشرك والإشراك بالله هو جوهر الدعوات التي جاء بها النبيون في مراحل التاريخ المتعاقبة ؛ لأن الشرك باطل ومناف للواقع ، وهو وكر الخرافات والأوهام والأباطيل ، ويتنافى مع كرامة الإنسان وعزته وصلته

٣٣٥

بربه ، فالواجب عبادة الله وحده واتقاؤه ، والتماس الخير والنفع ، ودفع الشر والضرر منه وحده دون غيره ، ولا سيما في أوقات الأزمات والمحن ، مع الحفاظ على نعمة الشكر لله دون كفران النعمة بعد توافرها ، قال الله تعالى مبينا هذه الأصول :

(وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥)) (١) (٢) [النّحل : ١٦ / ٥١ ـ ٥٥].

هذه الآيات نهي صريح قاطع من الله تبارك وتعالى عن الإشراك به ، وتقرير واجب لمبدأ توحيد الله ، والالتزام بمقتضياته من عبادته وحده ، وشكره على نعمه وأفضاله. ومعناها : لا تتخذوا إلهين اثنين ، وكلمة (اثْنَيْنِ) تأكيد للتنفير من التعدد ، أي لا تتخذوا لي شريكا ، ولا تعبدوا سواي ، فمن عبد مع الله إلها غيره ، فقد أشرك به ، إنما الله إله واحد ، ومعبود واحد ، فإياه فارهبوا أيها البشر ، وخافوا عقابه بالإشراك وعبادة سواه. ويكون المبدأ الأصيل في الدين : هو أن لا إله إلا الله ، وأن العبادة لا يستحقها غيره.

ولما كان الإله الحق واحدا ، والواجب لذاته في العبادة واحدا ، كان كل ما سواه من الأشياء مما يعقل وما لا يعقل ، حاصلا بخلقه وتكوينه وإيجاده ، فلله جميع ما في السموات (٣) والأرض ملكا وخلقا وعبيدا ، فهو خالقهم ورازقهم ، ومحييهم ومميتهم ، وهم عبيده ومملوكوه ، وله الدين واصبا ، أي له الطاعة والانقياد والملك والعبادة على سبيل الدوام والاستمرار ، وبعد أن عرفتم أن إله العالم واحد ، وعرفتم

__________________

(١) أي له الطاعة والإخلاص دائما واجبا خالصا.

(٢) أي تضجون بالدعاء.

(٣) السموات هنا : كل ما ارتفع من الخلق في جهة فوق ، فيدخل فيه العرش والكرسي.

٣٣٦

أن كل ما سواه محتاج إليه في وقت إحداثه وفي وقت بقائه وحياته ، فكيف يتقى غير الله أو يرهب غير الله تعالى؟!

وإذا كان الواجب ألا يتقى غير الله ، فالواجب ألا يشكر غير الله ، لأنه ما من نعمة بنا من إيمان وسلامة جسد وعافية ، ورزق ونصر ونحو ذلك ، إلا وهي من الله عزوجل ، ومن فضله وإحسانه.

ومفاد الآية : أن على العاقل ألا يخاف ولا يتقي أحدا إلا الله ، وألا يشكر أحدا بحق إلا الله تعالى ، لأن جميع النعم من الله عزوجل.

وإذا تعرض الناس لسوء أو ضرر في النفس من مرض أو خوف أو مشقة ونحو ذلك ، فإلى الله يلجأون ويضجون بالدعاء والسؤال لتفريج الكرب وإزالة الهم ، للعلم بأنه لا يقدر على إزالته إلا الله تعالى.

فإذا كشف الله الضر ، وزال الخوف ، وتحققت السلامة والنعمة ، وانقسم الناس فريقين ، فريق منهم بقي على الإيمان والشكر لله ، وفريق نسي النعمة ، فأشرك بالله غيره في العبادة. وهذا الفريق هم المشركون الذين يرون أن للأصنام أفعالا من شفاء المرضى وجلب الخير ودفع الضر ، فهم إذا شفاهم الله مثلا من أمراضهم ، عظموا أصنامهم ، وأضافوا ذلك الشفاء إليها ، وهذا مثار عجب واستغراب ، فهم في الشدة يضرعون إلى الله ، وفي الرخاء ينسون جانب الله سبحانه.

ويصير أمر هؤلاء المشركين الوقوع في الكفر والضلال ، وإن لم يقصدوا بأفعالهم تلك أن يكفروا ، والأظهر أن الكفر هنا كفر النعمة ، لذا استحقوا الوعيد والتهديد ، فقال الله لهم : (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي اعملوا بما شئتم ، وتمتعوا بما أنتم فيه قليلا في الحياة الدنيا ، فسوف تعلمون عاقبة تمتعكم ، وما ينزل بكم من العذاب ، وتدركون حينئذ سوء ما أنتم عليه. وهذا الأمر المراد به التهديد كثير في آيات القرآن

٣٣٧

الكريم ، مثل آية : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ١٨ / ٢٩]. وآية : (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) [الإسراء : ١٧ / ١٠٧]. وليس هذا على سبيل التخيير ، وإنما يراد به الوعيد والتهديد. ومعنى التمتع في هذه الآية : «فتمتعوا» الاستمتاع والانتفاع بالحياة الدنيا التي مصيرها إلى الفناء والزوال.

والغاية من الآيات : الإقرار الدائم بوحدانية الله ، لأنه هو الخالق ومالك السماوات والأرض ، فيستوجب العبادة لله وحده ، والشكر له وحده ، لأنه ما من نعمة على المخلوق إلا والله هو المنعم المتفضل بها ، وما من محنة إلا والله هو المفرج للكرب منها ، فهو الرؤوف الرحيم بعبده.

عقيدة المشركين في الأصنام والملائكة والبنات

إذا ساء الاعتقاد بالشيء ساء التصرف ، وإذا حسن الاعتقاد حسن التصرف ، ودليل هذا القانون أن المشركين الوثنيين الذين يعبدون الأصنام والأوثان لا تستند عقيدتهم فيها إلى منطق أو رأي مقبول ، وكل ما يستندون إليه هو تقليد الآباء ، فهانت أنفسهم وتصرفوا تصرفات بدائية عجيبة لا يدركون فيها سوء فعلهم وانتفاء النفع من أعمالهم ، أما المؤمنون الذين آمنوا بالإله الخالق المنعم ، فتراهم يفعلون الأفعال بما ينبئ عن حسن التّصرف ، ويتّفق مع المنطق والحكمة والواقع ، وقد أورد القرآن دليل الشقّ الأول من هذا القانون في الآيات التالية :

(وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا (١)

__________________

(١) تكذبون على الله.

٣٣٨

وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩)) (١) (٢) (٣) [النّحل : ١٦ / ٥٦ ـ ٥٩].

هذه الآيات تبين فضائح العرب المشركين ، وأعمالهم السيئة التي لا يقرها المنطق السوي ، لعلهم يرجعون ويثوبون إلى رشدهم ، وهنا ألوان ثلاثة من أقوالهم وتصرفاتهم القبيحة :

أولا ـ أنهم من غير حجة ولا برهان صحيح مقبول يجعلون للأصنام ، أي للجمادات نصيبا من رزق الله ، حيث يذبحون لأصنامهم ، ويهدون إليها الهدايا ، ويقسمون لها من الغلات والنتاج ، فهم لا يدركون أن الأصنام لا تضر ولا تنفع ، وهم بهذا أجهل الجاهلين ، مما اقتضى الإنكار عليهم لمصلحتهم في آيات قرآنية كثيرة ، منها ما ذكر هنا ، ومنها قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣)). [الأنعام : ٦ / ١٣٦].

ثم توعدهم الله تعالى على أفعالهم هذه وأمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقسم لهم أنهم سيسألون عن افترائهم الباطل ، وسيجازون عليه أتم الجزاء في نار جهنم ، كما جاء في آية أخرى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ١٥ / ٩٢ ـ ٩٣].

ثانيا ـ من قبائح قول الكفار أنهم يقولون : «الملائكة بنات الله» وعبدوها مع الله سبحانه ، أي تنزه عن الولد والشريك ، كما جاء في آية أخرى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) [الزخرف : ٤٣ / ١٩]. فأخطؤوا خطأ كبيرا إذ نسبوا إليه تعالى

__________________

(١) أي ممتلئ غما وحزنا.

(٢) يستخفي.

(٣) أي هوان وذل وبلاء.

٣٣٩

الولد ، ولا ولد له ، ثم أعطوه أخسّ القسمين من الأولاد وهو البنات ، وهم لا يرضونها لأنفسهم ، لإيثارهم نسبة الذكور إليهم ، كما قال الله تعالى : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢)) [النجم : ٥٣ / ٢١ ـ ٢٢]. أي جائرة. وقوله تعالى : (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) أي إنهم يختارون لأنفسهم البنين ، ويأنفون من البنات التي نسبوها إلى الله تعالى.

ثالثا ـ ومن قبيح أفعال المشركين أنه إذا بشر أحدهم بولادة الأنثى ، ظل وجهه مسودّا ، أي كئيبا عابسا من الهم ، وهو كظيم ، أي ساكت من شدة الحزن والهم. يتوارى من القوم ، أي يكره أن يراه الناس ، من سوء ما بشّر به وهو الأنثى ، وهو متردد بين أمرين : أيمسك المولود الأنثى على هوان وذلّ وعار وكراهة فقر ، لأنها لا تغزو كالولد الفتى ، أم يدفنها في التراب وهي حيّة ، وذلك هو الدس في التراب أو الوأد المعروف المذكور في قوله تعالى : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩)) [التكوير : ٨١ / ٨ ـ ٩]. ألا بئس ما قالوا ، وما قسموا وما نسبوا لله تعالى ، فإن رزق جميع الأولاد والمخلوقات على الله تعالى. والتبشير في أصل اللغة : هو الخبر الذي يؤثر في تغير بشرة الوجه ، سواء في حال السرور أو في حال الحزن ، وعرفا يستعمل في الخبر السار.

هذه هي الألوان الثلاثة من سوء أفعال المشركين وحكمهم : وهي عبادة الأصنام والتقرب إليها بالذبائح ، ونسبة البنات إلى الله ، والتبرم والتسخط بولادة الأنثى ، وهي نماذج من عقيدة الشرك التي تؤدي بأصحابها إلى مثل هذه القبائح والأحكام الجائرة التي تتنافى مع أصول الحضارة الإنسانية ، وتدلّ على انحدار الفكر ، وضعف العقل ، وفساد الرأي. لذا جاء الإسلام بشرعه يهدم هذه الأفكار ، ليقيم بذلك حضارة صحيحة تقوم على التوجه نحو الله وحده لا شريك له ، وتحترم الإنسان أيا كان ، ذكرا أم أنثى.

٣٤٠