التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٢

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0522-5
الصفحات: ٣٩٢

قصّة أصحاب الأيكة وأصحاب الحجر

تتوالى الإنذارات والتحذيرات للناس حتى يؤمنوا ، ويتخلّوا عن الكفر ، وتتكرر أحداث قصص الأنبياء مع أقوامهم الغابرين ، ليعلم الجاحدون الكافرون أن العذاب والعقاب الدّنيوي والأخروي سينزل بهم دون شفقة ولا هوادة ، وليتّعظ العقلاء من تلك الأحداث الرّهيبة ، فيبادروا إلى إعلان إيمانهم بالله الواحد الأحد ، ويستقيموا على الجادة المستقيمة ، فيظفروا بعزّ الدنيا وسعادة الآخرة. وهاتان قصّتان متعاقبتان بعبارات موجزة لتحقيق العبرة من أقرب الطرق ، وهما قصّتا أصحاب الأيكة قوم شعيب ، وأصحاب الحجر قبيلة ثمود قوم صالح. قال الله تعالى :

(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦)) (١) (٢) (٣) [الحجر : ١٥ / ٧٨ ـ ٨٦].

القصة الأولى في هذه الآيات : قصة أصحاب الأيكة وهم قوم شعيب علما بأن مدين وأصحاب الأيكة بعث الله إليهما شعيبا عليه‌السلام ، لقد كان هؤلاء القوم ظالمين بشركهم ووثنيتهم ، وقطعهم الطريق ، ونقصهم المكيال والميزان ، فعاقبهم الله ، وانتقم منهم جزاء كفرهم وظلمهم ، بيوم الظّلّة : وهو تسليط الحرّ عليهم سبعة أيام ، ثم أرسل الله عليهم سحابة ، فاستظلّوا تحتها ، فاضطرمت عليهم نارا ،

__________________

(١) الأيكة : الغيضة والشجر الملتفّ المخضّر ، ومن شجر السّدر ونحوه.

(٢) أي بطريق واضح ، وإنهما : يعود الضمير على قرى قوم لوط والأيكة.

(٣) أصحاب الحجر : هم ثمود ، والحجر : واد بين المدينة والشام ، كانوا يسكنونه.

٣٠١

فأحرقتهم. قال الطبري : بعث شعيب إلى أمّتين كفرتا ، فعذّبهم الله بعذابين مختلفين : أهل مدين عذّبوا بالصيحة ، وأصحاب الأيكة عذّبوا بالظّلّة.

وإن كلّا من قرى قوم لوط ، وبقعة أصحاب الأيكة ، لبطريق واضح ، يسلكه الناس في سفرهم من الحجاز إلى الشام. وكلمة (إمام) أي الشيء الذي يهتدى به ويؤتم ، كخيط البناء ، والطريق ، والكتاب المفيد ، أو قياس الصانع ، أو الرجل المقتدى به.

وقوله تعالى : (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) أي إنّ ، فكلمة (إن) هنا هي المخففة من الثقيلة على مذهب البصريين.

والقصة الثانية في هذه الآيات : هي قصة أصحاب الحجر ، والحجر مدينتهم ، وهي ما بين المدينة وتبوك ، لقد كذبوا رسولهم ثمود ، وعبّر عنه بكلمة (الْمُرْسَلِينَ) لأن تكذيب رسول واحد تكذيب الجميع ؛ لاتّفاق أصول دعوتهم في التوحيد وعبادة الله ، ومكارم الأخلاق والفضائل ، وتجنّب الرّذائل.

وكان قوم ثمود ممن أنعم الله عليهم ، فأعطاهم من الآيات والدلائل ما يدلّهم على صدق نبوّة صالح عليه‌السلام ، كالناقة التي أخرجها الله من صخرة صماء ، بدعاء صالح عليه‌السلام ، فأعرضوا عنها ، ولم يعتبروا بها ، وبادروا إلى عقرها. وكانت لهم بيوت ينحتونها في الجبال ، صاروا بها آمنين من الأعداء ، من غير خوف ، لقوّة إحكامها ، وهي ما تزال مشاهدة على الطريق إلى تبوك.

فلما عتوا عن أمر ربهم ، وبغوا ، وعقروا الناقة ، أخذتهم صيحة الهلاك في وقت الصباح ، من اليوم الرابع للإنذار بالعذاب ، كما قال الله تعالى : (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) [هود : ١١ / ٦٥].

فما نفعتهم الأموال والديار حين حلّ بهم العذاب ، ولم يستفيدوا من مكاسبهم

٣٠٢

وزروعهم وثمارهم ، ولكنّ هؤلاء المكتسبين للدنيا ، الذين لم يغن عنهم اكتسابهم ، ليسوا في شيء ، فإن السماوات والأرض وجميع الأشياء لم تخلق عبثا ولا سدى ، وإنما خلقت بالحقّ ، ولواجب مقصود ، وأغراض لها نهايات ، من عذاب ونعيم. وإن الساعة (القيامة) آتية على جميع أمور الدنيا ، فلا تهتم يا محمد بأعمال قومك ، فإن الجزاء لهم بالمرصاد ، فاصفح عن أعمالهم ، من غير عتب ولا تعرّض ، وهذا يقتضي مهادنة.

ثم آنس الله نبيّه وسرّى عنه في آخر الآيات بأن الله تعالى يخلق ما شاء لمن شاء ، ويعلم تعالى وجه الحكمة في ذلك ، لا هذه الأوثان التي تعبدونها. وهذا تقرير للمعاد ، وأنه تعالى قادر على إقامة الساعة (القيامة) فإنه سبحانه خالق كل شيء ، عليم بكل أجزاء الأجساد المتفتتة ، والجميع صائرون إليه ، محاسبون بين يديه.

توجيهات إلهيّة للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تبليغ الدّعوة

اقتضت حكمة الله وخطّته أن يصفح النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صفحا جميلا عن أذى قومه ويعاملهم معاملة سلمية وادعة آمنة ، بالرغم من كثرة المضايقات ، واستدامة الإيذاء والإضرار ، ومقابل هذا الصفح الجميل : إنعام الله على نبيّه بألوان النّعم الكثيرة المتوّجه بإنزال السّبع المثاني (الفاتحة) والقرآن العظيم عليه ، فهو المعجزة الخالدة والمفخرة الدائمة ، قال الله تعالى واصفا هذه النّعم وواضعا توجيهات للنّبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تبليغ دعوته :

(وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ (١)

__________________

(١) هي الفاتحة ، التي تثنى وتكرّر قراءتها.

٣٠٣

أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣)) (١) (٢) (٣) [الحجر : ١٥ / ٨٧ ـ ٩٣].

يمتن الله تعالى على نبيّه ، فيذكر له ، تالله لقد أعطيناك وأنزلنا عليك أيها الرسول السّبع المثاني والقرآن العظيم. والسّبع المثاني على الراجح : هي الفاتحة المكونة من سبع آيات ، تثنى وتكرر في كل ركعات الصلاة ، والبسملة هي الآية السابعة ، وقد خصّ الله أهل القرآن بها.

أخرج البخاري من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمّ القرآن هي السّبع المثاني والقرآن العظيم». وخرّج التّرمذي من حديث أبي هريرة بلفظ آخر : «الحمد لله : أمّ القرآن ، وأمّ الكتاب ، والسّبع المثاني».

وترتيبا على هذا العطاء الإلهي السّخي العظيم لا تطمح أيها الرسول إلى ما متّعنا به أصنافا من الناس : وهم الأغنياء بزينة الحياة الدنيا ومتعها ، فمن وراء ذلك عقاب شديد ، واستغن بما آتاك الله من القرآن العظيم عما هم فيه من المتاع والزهرة الفانية ، وفاخر بما أوحي إليك ، وقدّر عظمة نعمة الله عليك ، ولا تنظر إلى الدنيا وزينتها ، ولا تتأسّف على المشركين إذا لم يؤمنوا ، لتقوية الإسلام والمسلمين ، ولا لهلاكهم ، وألن جانبك وتواضع للمؤمنين ، ولا تجافهم ولا تقس عليهم ، واصرف وجهك وعنايتك لمن آمن بك ، كما جاء في آية أخرى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران : ٣ / ١٥٩].

ثم أمر الله نبيّه بإعلان مهمته وهي الإنذار المبين ، فقال له : (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ

__________________

(١) تواضع.

(٢) هم في قول : أهل الكتاب الذين فرقوا دينهم ، وجزءوه أعضاء ، آمنوا ببعض وكفروا ببعض.

(٣) أي جعلوه أقساما وأعضاء.

٣٠٤

الْمُبِينُ (٨٩))أي قل يا محمد للناس : إني منذر ومخوف من عذاب أليم شديد الوجع ، أنذر كل من كذّب برسالتي وأعرض عن دعوتي ، وتمادى في غيّه وضلاله ، حتى لا يتعرّض لانتقام وتعذيب من الله كما فعل بالأمم المتقدمة.

وحدّد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم جهة الإنذار وعيّن المنذرين ، وهم أهل الكتاب الذين فرّقوا دينهم ، واقتسموا القرآن إلى أجزاء ، فآمنوا ببعضه الموافق للتوراة والإنجيل ، وكفروا ببعضه المخالف لهما ، فاقتسموه إلى حقّ وباطل ، وهم أيضا القرشيّون الذين اقتسموا طرق مكة ، يصدّون الناس عن الإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعددهم حوالي أربعين ، أو ستة عشر رجلا ، بعثهم الوليد بن المغيرة أيام موسم الحج ، فاقتسموا طرق مكة يقولون لمن يسلكها : لا تغتروا بالخارج منّا ، والمدّعي للنّبوة ، فإنه مجنون ، وكانوا ينفّرون الناس عنه واصفين إياه : بأنه ساحر ، أو كاهن ، أو شاعر ، فأنزل الله تعالى بهم خزيا ، فماتوا شرّ ميتة ، هؤلاء الفريقان : الكتابيّون والقرشيّون هم الذين جعلوا القرآن عضين ، أي أجزاء متفرّقة ، آمنوا ببعض وكفروا ببعض. وجعلوا القرآن سحرا وشعرا وكهانة ، أي صيّروه بألسنتهم ودعواهم.

وكان جزاؤهم وعيدا محضا ، يأخذ الله كل أحد منهم بحسب جرمه وعصيانه ، يسألهم الله سؤال توبيخ وتأنيب عن أقوالهم وأعمالهم ، ويجازيهم على أفعالهم الجزاء التّام. فالكافر يسأل عن (لا إله إلا الله) وعن الرّسل ، وعن كفره وقصده. وكذلك يسأل المؤمن العاصي عن تضييع القرآن ، ويسأل الإمام عن رعيّته ، وكل مكلف عما كلّف القيام به ، فيكون الضمير في قوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢)) ضميرا عامّا يشمل جميع الناس المؤمنين والكافرين ، كلّ بحسب جرمه وعمله. ويكون الإنذار أيضا لجميع الناس ، سواء من اقتسم الكتاب الإلهي وجزّأه ، فآمن ببعضه وكفر بالبعض الآخر ، ومن ضيّع القرآن ، فأخذ ببعضه وترك البعض الآخر.

٣٠٥

الجهر بالدّعوة الإسلامية

كانت الدعوة الإسلامية في مبدأ الأمر سرّية إلى حدّ ما ، خشية الأذى ، وتخلّصا من مضايقات القرشيين في مكة ، الذين وقفوا بالمرصاد أمام نشر الدعوة الجديدة ، وتفنّنوا في أنواع الأذى بالمؤمنين المستضعفين ، ثم أمر الله نبيّه بالجهر بدعوته ، وإعلانها ، مهما كانت الظروف والصّعاب ؛ لأن الله تعالى عاصم نبيّه من السوء ، وكاف له من شرور المعادين المستكبرين ، وملحق الدمار والهلاك بالآفات بكل من قاوم الدعوة ، وحاول تطويقها وصدّ الناس عنها ، قال الله تعالى واصفا هذه المرحلة الجديدة من إعلان الدعوة :

(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)) (١) (٢) [الحجر : ١٥ / ٩٤ ـ ٩٩].

نزلت آية : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥)) كما أخرج البزار والطّبراني عن أنس بن مالك قال : مرّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أناس بمكة ، فجعلوا يغمزون في قفاه ، ويقولون : هذا الذي يزعم أنه نبي ومعه جبريل ، فغمز جبريل بأصبعه ، فوقع مثل الظفر في أجسادهم ، فصارت قروحا حتى نتنوا ، فلم يستطع أحد أن يدنو منهم ، فأنزل الله : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥)).

صبر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثيرا على أذى قومه وعداوتهم ، ولكن الله تعالى الذي أمره بإنذار هؤلاء الجاحدين ، وهدّدهم بالحساب العسير ، أمره بعدئذ بالجهر بتبليغ دعوته للجميع ، ومواجهة المشركين دون أي تحسّب من أذى أو صدود ، أو تخوّف منهم ،

__________________

(١) فاجهر به.

(٢) الموت المتيقن وقوعه.

٣٠٦

فإن الله عاصمه وحافظه منهم. وما عليه إلا الإعراض عن زمرة صناديد المشركين الذين يريدون الصّدّ عن آيات الله تعالى. وهذا لون من المهادنة.

ثم أعلم الله تعالى نبيّه أنه كفاه المستهزئين به من كفار مكة ببوائق ومهالك من الله أصابتهم ، لم يسع بها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا تكلف فيها مشقّة. وكان المستهزئون العتاة خمسة نفر : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن المطلب ، أبو زمعة ، والأسود بن عبد يغوث ، والحارث بن قيس من خزاعة وأمّه غيطلة.

وكان هؤلاء المستهزئون مشركين ، فوصفهم الله بقوله : (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦)) أي إنهم الذين يتّخذون إلها آخر مع الله ، زورا وبهتانا ، فيشركون به من لا يضرّ ولا ينفع ، فسوف يجدون عاقبة أمرهم ، ومآل شركهم ، ومصير كفرهم. وهذا تهديد ووعيد لهم بسوء المصير ، لعلهم يرتدعون ، ويؤمنون بالله الواحد الأحد.

ثم واسى الله نبيّه عما يصيبه من أذى المشركين ، فأوحى إليه : إنا لنعلم يا محمد أنك تتأذى من سخرية المشركين وشركهم ، ويحصل لك ضيق صدر وانقباض ، فلا يمنعك ذلك عن إبلاغ رسالة ربّك ، وتوكّل عليه ، فإنه كافيك وناصرك عليهم ، ولا تأبه بما يقولون ، فإن صاحب الرسالة يتجاوز العقبات ، ولا يأبه بالصّعاب مهما كانت قاسية.

وتقوية لنفس النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعزيز صلته بربّه ، أمره الله بمواظبة السّجود والعبادة التي هي الصلاة والأذكار ، من تسبيح وتحميد وتهليل ، فذلك كفيل برفع المعنويات ، وثبات القلب ، وقوة العزيمة ، ومواصلة الجهاد الدّعوي إلى الله وحده ، والأمر بمتابعة العبادة حتى يأتيه اليقين ، أي الأمر المتيقّن وقوعه وهو الموت ، وهذه الغاية معناها مدة الحياة.

٣٠٧

ولقد ذكر الله من أجزاء الصلاة : حالة القرب من الله تعالى وهي السجود ، فهو أكرم حالات الصلاة وأجدرها بنيل الرحمة. جاء في الحديث الثابت الذي رواه الإمام أحمد : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حزبه أمر صلّى» أي فزع إلى الصلاة عند اشتداد الأمر ، وهذا منه عليه الصّلاة والسّلام أخذ بهذه الآية.

وتدلّ الآية على أن علاج ضيق الصدر ، وتفريج الهموم والكروب والمصائب : هو التسبيح ، والتقديس ، والتحميد ، والإكثار من الصلاة ، روى الإمام أحمد عن ابن عمار أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «قال الله تعالى : يا بن آدم ، لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار ، أكفك آخرة».

إن الصلاة تقوّي الصّلة بالله ، وتعزّز الإيمان واليقين ، وتزرع في القلب الطمأنينة والسكون : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ..) [إبراهيم : ١٤ / ٤٠].

٣٠٨

تفسير سورة النّحل

إثبات القيامة ونزول الوحي

يقوم الدين الإلهي على إثبات عقائد جوهرية ضرورية : هي التوحيد لله ، والبعث أو القيامة ، والوحي ، والنّبوة أو الرّسالة ، أما التوحيد فهو أساس الاعتقاد بالله ربّا واحدا وإلها فردا لا شريك له ، وأما البعث أو القيامة فهو عالم الغيب ، ومستقبل الدهر ، ومجمع الناس ليوم الحساب ، وأما الوحي الإلهي فهو همزة الوصل بين الله والعباد لتصحيح مسيرة الإنسان ووضع دستور الحياة للفرد والأمة ، وأما النّبوة أو الرسالة ، فهي وسيلة التّلقي للوحي الإلهي وإبلاغه للناس ، ومجادلتهم ، وإقناعهم بأصول العقيدة ، ومنهج العبادة ، وتصحيح المعاملة ، والتزام الأخلاق الكريمة. وفي مطلع سورة النّحل التي تسمى سورة النّعم بسبب ما عدّد الله فيها من نعمه على عباده ، وهي مكّية : تصريح وجيز بوقوع القيامة حتما ، وتوحيد الله وتقواه ، وإنزال الوحي على الرّسل بوساطة الملائكة ، قال الله تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢)) (١) (٢) [النّحل : ١٦ / ١ ـ ٢].

__________________

(١) تعاظم بذاته وصفاته.

(٢) بالوحي.

٣٠٩

سبب نزول هذه الآية : أن المشركين كانوا يستعجلون ما أوعدهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قيام الساعة ، أو إهلاك الله تعالى إياهم ، كما فعل يوم بدر استهزاء وتكذيبا ، ويقولون : إن صحّ ما يقوله ، فالأصنام تشفع لنا ، وتخلّصنا منه ، فنزلت. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : لما نزلت : (أَتى أَمْرُ اللهِ) ذعر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى نزلت : (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) فسكنوا.

موضوع الآية الأولى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) : إعلان أن الأمر الموعود به ، وهو قيام الساعة ، متحقّق حادث لا محالة ، وأنه تعالى منزه عن الشريك والولد ، فهو إله واحد لا شريك له. وموضوع الآية الثانية : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) : الإخبار بأن نزول الوحي بوساطة الملائكة ، والتّنبيه على التوحيد الذي هو منتهى كمال القوة العلمية ، والأمر بالتقوى الذي هو أقصى كمال القوة العملية ، وأن النّبوة عطاء إلهي محض. والمراد من قوله سبحانه : (لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) معرفة الحق لذاته ، وأما المراد من قوله تعالى : (فَاتَّقُونِ) فهو معرفة الخير لأجل العمل به.

لقد استعجل الكفار المشركون ما وعدوا به من قيام الساعة أو نزول العذاب بهم استهزاء وتكذيبا بالوعد ، فقيل لهم : (أَتى أَمْرُ اللهِ) قال فيه جمهور المفسرين : إنه يريد القيامة ، وفيه وعيد للكفار. وعبّر عن وقوع القيامة بلفظ الماضي (أَتى) على جهة التأكيد أي للدلالة على التّحقق وثبات الأمر كأنه لوضوحه والثقة به وقع ، وصار من الأحداث الماضية. ولم يكن هناك استعجال إلا ثلاثة أمور : اثنان منها للكفار في القيامة والعذاب ، والثالث للمؤمنين في النصر وظهور الإسلام.

والمعنى : لما لم تقع القيامة بنحو سريع كما أخبر النّبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قومه المشركين ، نسبوه إلى الكذب ، فأجابهم الله تعالى : قد حصل أمر الله وحكمه ، ووجد من الأزل إلى الأبد ، وتحقّق بنزول العذاب ، إلا أن تنفيذ الأمر بإقامة القيامة

٣١٠

لم يحصل ، لأن الله تعالى خصّص له وقتا معلوما بمقتضى علمه وحكمته وإرادته. وهذا الخبر يتضمن تهديدا للكفار على كفرهم ، وإعلاما لهم بقرب العذاب والهلاك.

فما عليكم أيها الناس إلا أن تؤمنوا بوجود الله ووحدانيته ، سبحانه وتعالى عما يشركون ، أي تنزه الله ، وتعاظم عما ينسبون له من الولد والشّريك ، وعبادة الأوثان والأنداد ، وهذا إبطال لما عقدوا عليه الآمال من شفاعة الأصنام ، فهو وهم خادع وسراب فارغ.

وعليكم أيضا أيها البشر ألا تستعجلوا القيامة ، ولا تكذبوا النّبي ووعده ولا تستهزئوا بما قال ، فإن نبوّة النّبي ثابتة يقينا ، والله تعالى ينزل الملائكة بالروح من أمره ، أي بالوحي المأمور به ، على من يشاء من عباده الذين اصطفاهم واختارهم للرسالة وهم الأنبياء والرسل ، ولا يكون نزول الوحي إلا بأمر الله تعالى ، وأنه يحصل بوساطة الملائكة. ومهمة الرّسل إنذار الكفار وإعلامهم بأنه لا إله إلا الله ، فهو الإله الواحد الذي لا شريك له ولا ندّ ولا نظير ، فاتّقوا أيها الناس عقاب الله ، ومخالفة أمره ، وعبادة غيره.

لقد أجابت هاتان الآيتان عن شبهات ثلاث للمشركين : قيام الساعة ، ونزول العذاب ، والشّرك والشّركاء ، والنّبوة والوحي.

براهين قدرة الله تعالى

هناك في الكون المشاهد أدلة قاطعة على صفات الربوبية ، فمن اتصف بها ثبتت له صفة الألوهية ، ومن خلا منها لم يستحق وصفه بالرب أو الإله ، وإننا لأول وهلة أو نظرة متأملة نجد أن من اتصف بالحياة والعلم والقدرة والإرادة النافذة يحق له أن يخلق ويخترع ويعيد ، وهذه هي صفات الرب ، عزوجل ، بخلاف الشركاء المزعومين

٣١١

تألها ، لا يحق لهم شيء من صفات الربوبية ، لانعدام صفة الحياة الدائم والعمل الشامل والقدرة الكاملة والإرادة النافذة ، وهذا ما نجده مصرحا به في آيات القرآن التالية :

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) (٧) (٨) (٩) (١٠) (١١) [النّحل : ١٦ / ٣ ـ ٩].

هذه مظاهر الإبداع الإلهي ، أبدع الله تعالى العالم العلوي وهو السماوات والعالم السفلي وهو الأرض ومحتوياتها ، فذلك تنبيه على قدرة الله تعالى ، خلقها الله بالحق ، أي بالواجب اللائق ، وبالحكمة والتقدير المحكم ، لا عبثا ، ولا مصحوبة بالخلل والنقص ، فتنزه الله عن المعين والشريك ، لعجز ما سواه عن خلق شيء ، فلا يستحق العبادة إلا هو ، ولا الربوبية سواه.

وأبدع الله تعالى خلق الجنس الإنساني ، وكان هناك فارق واضح بين بدء الخلق واكتماله ، ليظهر الفرق بينهما بقدرة الله ، خلق الله الإنسان من نطفة مهينة ضعيفة ، ثم صار خصما واضح الخصومة لربه ، فتراه يجادل في توحيد الله وشرعه ويقول : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [يس : ٣٦ / ٧٨] نزلت هذه الآية لقول أبي بن خلف ،

__________________

(١) مني.

(٢) شديد الخصومة بالباطل.

(٣) الإبل والبقر والغنم والمعز.

(٤) ما تتدفئون به من البرد.

(٥) تجمل وتزين.

(٦) وقت الرواج مساء ووقت التسريح صباحا.

(٧) أمتعتكم الثقيلة.

(٨) بمشتقها.

(٩) بفعل مقدر أي وجعلناها زينة.

(١٠) بيان الطريق القويم.

(١١) من السبيل مائل عن الحق.

٣١٢

حين جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعظم رميم ، فقال : أترى يحيي الله هذا بعد ما قد رمّ ـ أي بلي ـ؟ وقوله سبحانه في وصف الإنسان : (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) إشارة إلى تعديد نعمة الذهن والبيان على البشر.

ومن مظاهر قدرة الله الشاملة وإنعامه على عباده أنه سبحانه خلق لهم الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم ، وكان للناس فيها جمال في النظر وزينة حين سروحها إلى المراعي ، ووقت رواحها ورجوعها عشاء منها ، وهي بأصوافها وأوبارها وجلودها واسطة الدفء أي السخونة ، وفيها منافع كثيرة أخرى بالأكل من ألبانها ولحومها ، وبعون الإنسان بركوبها ونقل الأحمال على بعضها.

فهي تحمل أثقال الناس ، أي أمتعتهم من مكان إلى آخر ، حيث توجهوا بحسب اختلاف أغراضهم ، ويعجزون عن نقلها وحملها إلى بلد آخر ، لا يبلغونه إلا بشق الأنفس ، أي بمشقة شديدة وعناء كبير ، إن ربكم الذي سخّر لكم هذه الأنعام وذلّلها لكم كثير الرأفة والرحمة بعباده ، حيث جعل هذه الأنعام لكم مصدر خير كبير ورزق وفير ، وأداة نفع وجلب مصلحة.

ومن مظاهر قدرة الله أيضا أنه خلق الخيل (١) والبغال والحمير للركوب عليها والتزيّن والمفاخرة بها ، ويتجدد الخلق كذلك ، فهو سبحانه يخلق للناس غير هذه الحيوانات ويلهمهم صناعة وسائل نقل كثيرة مما نشاهده من النّعم الحديثة من قطارات وطائرات وسفن وسيارات وغيرها. مما لا يعلم به الإنسان ، فإن مخلوقات الله تعالى من الحيوان وغيره لا يحيط بعلمها بشر ، بل ما يخفى عنه أكثر مما يعلم ، وقد روي أن الله تعالى خلق ألف نوع من الحيوان ، منها في البر أربع مائة ، وبثّها بأعيانها في البحر ، وزاد فيه مائتين ليستا في البر.

__________________

(١) سميت الخيل خيلا لاختيالها في المشية.

٣١٣

ثم قال الله تعالى مضيفا نعمة أخرى : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) (١) وهذه من أجلّ نعم الله تعالى ، أي على الله تقويم طريق الهدى وتبيينه ، بإقامة الأدلة ، وبعث الرسل ، وذلك تفضّل وتكرم من الله ببيان الطريق الواضحة الموصلة إلى الحق والخير ، ومن الطرق المخلوقة للعبرة والامتحان طرق جائرة حائدة عن الاستقامة ، مؤدية إلى الضلالة ، وعلى العاقل أن يكون حذرا منها ، غير متورط بها.

ولو شاء الله لهدى الناس جميعا إلى ما يحبه ويرضاه ، أي لو شاء لخلق الهداية في قلوب جميع الناس ، ولم يضل أحد. ولكن الله سبحانه لم يفعل ذلك لترك الحرية للبشر ، يختارون الطريق التي يرونها ، فيكون الحساب على هذا الاختيار والعمل بموجبه.

براهين أخرى على قدرة الله تعالى

لم يكتف القرآن الكريم بإيراد بعض الأدلة على قدرة الله تعالى ، وإنما من أجل تقرير العقيدة وتمكينها في القلب ، أورد الله سبحانه أدلة وبراهين أخرى كثيرة على قدرته الخارقة ، لإثبات ألوهيته وربوبيته ووحدانيته ، كيلا يبقى عذر لأحد في إنكار وجود الله ، وسلطته الشاملة ، وتفرده بإمداد النعم ، والأفضال على بني الإنسان. وهذه الآيات : آيات كونية فيها تعداد نعمة الله في المطر والزرع والنبات والثمار ، وتبيان منافع الليل والنهار والكواكب والنجوم ، وخلق أشياء كثيرة في الأرض اليابسة وفي البحار والمحيطات المائية ، وتسخير السفن التي تجري فيها ، وإلقاء ثوابت الجبال في الأرض وتفجير الأنهار فيها ، وفتح الطرق في أنحائها وإقامة الأمارات والعلامات والنجوم على السير ليلا في آفاقها ، قال الله تعالى :

__________________

(١) السبيل : تذكر وتؤنث.

٣١٤

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) [النّحل : ١٦ / ١٠ ـ ١٦].

هذه جملة عظيمة من النعم الإلهية تدل على وجود الله ووحدانيته وقدرته وفضله وكرمه ، وأول هذه النعم : إنزال المطر من السماء ، أي السحاب ، يستقي منه الإنسان والحيوان شرابا عذبا سائغا ، ويسقي الأرض ، فينبت عن هذا السقي الشجر والنبات مطلقا ، لرعي الأنعام. ينبت الله بالمطر الزرع وشجر الزيتون والنخيل والعنب ، ومن كل الثمار المختلفة اللون والنوع والطعم والمذاق والرائحة ، إن في ذلك المذكور من إنزال الماء والإنبات لدلالة واضحة على وحدانية الله ، لقوم يتفكرون في تلك الأدلة ؛ لأنه لا مبدع ولا موجد لها غير الله الخالق الأحد.

وهناك أدلة أخرى على قدرة الله من الآيات الكونية المشاهدة ، وهي تعاقب الليل والنهار للاستراحة والعمل ، ودوران الشمس والقمر ، للإنارة والنفع ، وتزيين السماء بالنجوم الثوابت والسيارات في أرجاء السماوات ، نورا وضياء ، أي إن هذه المخلوقات مسخرات مذللات على نحو ينتفع به البشر من السكون في الليل ، والمعايش

__________________

(١) أي ترعون.

(٢) خلق.

(٣) جواري فيه.

(٤) جبالا ثوابت.

(٥) أي خوف أن تضطرب وتميل بكم.

٣١٥

والمكاسب بالنهار ، ومنافع الشمس والقمر للإنسان والنبات أكثر من أن تحصى ، والنجوم هدايات وأضواء ، إن في ذلك المذكور لدلالات واضحات لقوم يعقلون أسرارها ، ويدركون فوائدها.

وفي الأرض عجائب ، خلق الله فيها للناس أشياء مختلفة الألوان والأشكال والمنافع والخواص ، من نباتات ومعادن وجمادات وحيوانات ، إن في ذلك المذكور لدلالات على قدرة الله لقوم يتذكرون آلاء الله ونعمه ، وأفضاله ومواهبه ، فيشكرونه عليها. ومن نعم الله تعالى أيضا تذليله البحر للناس ، وتيسيره للركوب فيه ، وإباحته الأسماك المختلفة المستخرجة منه ، واستخراج الحلي واللآلئ منه للبس والزينة ، والاستفادة من المرجان ، وعبور الفلك (السفن) فيه جيئة وإيابا ، وطلب فضل الله ورزقه بالتجارة فيه ، مما يوجب شكر نعمه وإحسانه على الناس بما يسّره لهم في البحار. وفي الأرض نعم كثيرة ، أهمها ثلاث :

وهي تثبيت الأرض بالجبال الراسيات ، كيلا تضطرب الأرض وتتحرك بأهلها ، وإجراء الأنهار على وجه الأرض لتيسير الانتفاع بها ، ففيها حياة الإنسان والحيوان والنبات ، وإيجاد الطرق والمسالك التي تسهّل العبور والانتقال من أرض إلى أخرى ، ومن بلد إلى غيره.

وفي الأرض أيضا علامات مخصوصة ومعالم طرق تشير إلى المواقع والبلدان ، وهي الجبال والهضاب والرياح ونحوها التي يستدل بها المسافرون برا وبحرا ، ويهتدي الناس في ظلام الليل بالنجوم. قال ابن عباس : العلامات : معالم الطرق بالنهار ، والنجوم هداية بالليل.

وفي الجملة ، أثبتت الآيات وجود الله ووحدانيته أولا بأجرام السماوات ، وثانيا ببدن الإنسان ، وثالثا بعجائب مخلوقات الحيوان ، ورابعا بعجائب طبائع النباتات ،

٣١٦

وخامسا بأحوال العناصر وأولها عنصر الماء ، وسادسا بعالم البحار والمحيطات وما فيها من عجائب ، وسابعا بالجبال والأنهار والطرق في الأراضي ، وثامنا بالنجوم المضيئة في الظلمات.

الله الخالق العالم

تظل قوى البشر وعلومهم مهما كانت عاجزة ضعيفة محدودة أمام قدرة الله ، وعلمه الشامل للسر والعلن ، والظاهر والباطن ، فالله سبحانه هو المبدع الخالق الموجد للأشياء من العدم دون أن يسبق بشيء موجود ، وأما الإنسان فقدرته لا تتجاوز تركيب الأشياء الموجودة والاستفادة من خواص المادة القائمة ، والله عزوجل يعلم السر وأخفى الحاضر والمستقبل ، ويعلم جميع ما في السماوات والأرض من أحوال الكائنات ، وعلم الإنسان مقصور على بعض الظواهر المحيطة به ، وعلى ما هو حاضر غير غيبي ، وتفرّد الله بالقدرة الخلاقة المطلقة والعلم الذي لا حدود له دليل على ألوهيته ، وعلى أن العاجز عن الخلق لا يستحق التأليه ولا العبادة ، وهذا ما صرحت به الآيات التالية :

(أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣)) (١) (٢) [النّحل : ١٦ / ١٧ ـ ٢٣].

__________________

(١) لا تحصروها.

(٢) أي حقا أو لا محالة.

٣١٧

إن خواص الألوهية : هي الخلق والإبداع ، وعلم السر والعلن ، والحياة الأبدية دون أن يسبق الإله بشيء ، ولا ينتهي عند حد ، وهذه الآيات تذكر هذه الخواص ، للإدلال على عظمة الله ، وأنه لا يستحق العبادة والتقديس سواه ، دون ما عداه من الأصنام والأوثان وغيرها التي لا تخلق شيئا ، بل هي مخلوقة ، أفمن يخلق الأشياء كمن لا يخلقها ويعجز عن إيجادها ، أفلا تعتبرون وتتعظون أيها الناس؟! فإن معرفة ذلك لا تحتاج إلى تدبر وتفكر ونظر. ويستمر خلق الأشياء للناس بإيجاد النعم وأنواع الإحسان ، وإن أردتم أيها البشر تعداد نعم الله وحسابها ، لم تستطيعوا إحصاءها وضبط عددها ، فإن نعم الله كثيرة دائمة ، وفضله لا ينقطع في كل دقيقة من الأحوال ، وهو سبحانه كثير المغفرة يتجاوز عن السيئات وعن التقصير في شكر النعمة ، رحيم بالعباد ، ينعم عليهم مع استحقاقهم للحرمان بسبب جحودهم وكفرهم.

إن قدرة الله على الخلق والإبداع هي أولى خواص الإله الحق ، ودليل وجود الله ، والخاصية الثانية هي أن الله يعلم الضمائر والسرائر ، كما يعلم الظواهر ، وسيجزي كل عامل بعمله يوم القيامة ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، فهو سبحانه عالم الغيب والشهادة ، والظاهر والباطن.

وأما الأصنام وأمثالها من المخلوقات ، فلها ثلاثة أوصاف ، هي أنها لا تستطيع خلق شيء ، بل هي مخلوقة ، وهي جمادات لا أرواح فيها ولا حياة لها أصلا ، أما الإله فهو الحي الدائم الذي لا يطرأ عليه موت أصلا ، وتلك الأصنام لا تدري متى يبعث عبدتها من القبور ، ومتى تقوم الساعة ، فكيف يرتجى منها نفع أو تستطيع منع ضرر ما؟!

وإذا كانت الأصنام وجميع المخلوقات لا تستحق التأليه لفقدها خواص الألوهية ،

٣١٨

فإن الله تعالى هو إلهكم جميعا أيها الناس ، وهو إله واحد ، لا إله إلا هو ، وهو المعبود الذي يستحق العبادة والطاعة بحق ، ولا شريك له ولا ندّ ولا نظير ، والإله يوم القيامة واحد أيضا. وفي هذا توعّد ، فالذين لا يؤمنون بالآخرة وينكرون وجودها ، ولا يؤمنون بوحدانية الله ، قلوبهم منكرة لتوحيد الله ، وهم مستكبرون عن رفض معتقدهم فيها ، وترك طريقة آبائهم في عبادتها ، وهم يجمعون بين التكذيب بالله تعالى وبالبعث ، لأن من صدّق بالبعث من القبور ، فمحال أن يكذّب بالله تبارك وتعالى.

وختم الله هذه الآيات التي تسفّه عقول المشركين وتوبّخهم على شركهم بتهديد ووعيد على أعمالهم ، فقال الله : (لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) أي حقا ؛ إن ربك القدير العليم يعلم ما يسرّ هؤلاء المشركون وغيرهم وما يعلنون ، ويعلم إصرارهم على كفرهم ، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء ، إنه سبحانه يمقت ويجازي المستكبرين عن التوحيد ، بل وكل مستكبر ، إنه يعاقبهم ويجازيهم على أعمالهم ، وقوله سبحانه : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) وعيد عام في الكافرين والمؤمنين ، يأخذ كل واحد منهم بقسطه. جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن ابن مسعود : «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من كبر.»

صفات المستكبرين

إن كل من يتنكر لعبادة الله جل جلاله ، ويعرض عنها هو ممن اتصف بالاستكبار والغرور ، والحماقة والجهل ، وشأن المستكبرين البعد عن دائرة الحق والخروج عن دواعي المنطق والعقل ، والاسترسال في الغواية والأهواء ، ومصادمة الحقائق ، ولو تأمل المستكبرون من كفّار مكة وأمثالهم حقيقة القرآن ، وترفعوا عن

٣١٩

الغرور ، لكان خيرا لهم ، ولو تفكروا في مستقبل الحياة بشيء من التعقل وبعد النظر ، لبادروا إلى الإذعان لأوامر الله وعبادته وإعلان وحدانيته. قال الله تعالى مبينا أمراض هؤلاء المستكبرين وشبهاتهم الباطلة :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) (٧) (٨) (٩) [النّحل : ١٦ / ٢٤ ـ ٢٩].

تذكر هذه الآيات شبهات الذين لا يؤمنون بالآخرة ، وينكرون النبوة ، وهم مكذبون مستكبرون ، والشبهة الأولى الخطيرة هي طعنهم في القرآن بأنه أساطير الأولين ، أي أباطيل وترّهات القدماء. فإذا قيل لهؤلاء المتكبرين المكذبين الكافرين بالآخرة ، وهم كفار مكة وأمثالهم : أي شيء أنزل ربكم؟ قالوا معرضين عن الجواب : لم ينزل شيئا ، إنما هذا الكلام المتلو علينا أكاذيب وخرافات المتقدمين.

والسائل هو من بعض المشركين كالنضر بن الحارث وأمثاله من أعداء القرآن. إنهم بوصفهم القرآن بالأساطير يؤول أمرهم ويصير قولهم لتحمّل أوزارهم وآثامهم كاملة غير منقوصة يوم القيامة ، وتحمل أوزار الذين يتّبعونهم جهلا بغير علم ، فلا يعلمون.

__________________

(١) أباطيلهم المسطرة في كتبهم.

(٢) آثامهم.

(٣) الدعائم.

(٤) يذلهم بالعذاب.

(٥) تخاصمون وتعادون الأنبياء فيهم.

(٦) الذل والهوان.

(٧) العذاب.

(٨) أظهروا الاستسلام.

(٩) مأواهم.

٣٢٠