التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٢

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0522-5
الصفحات: ٣٩٢

والمقصود كما تبين : تنبيه الناس إلى تبرؤ الشيطان من وساوسه في الدنيا ، وحضهم على الاستعداد ليوم الحساب ، وتذكر أهوال الموقف يوم القيامة. وهذا حال الأشقياء.

وتذكيرا بأحوال السعداء ، أتبع الله تعالى ذلك ببيان ما يلقونه من فضل إلهي في موقف الحساب والجزاء بين يدي الله تعالى ، فقال سبحانه : (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا ..) أي ويدخل الملائكة الذين صدّقوا بالله ورسوله ، وأقروا بوحدانيته ، واتبعوا أوامره ، واجتنبوا نواهيه ، يدخلونهم جنات (بساتين) فيها الأنهار الجارية في كل مكان ، وهم ماكثون فيها إلى الأبد ، لا يحوّلون عنها ولا يزولون منها ، بإذن ربهم ، أي بتوفيقه وفضله وأمره. وتحييهم الملائكة بالسلام بإذن ربهم ، والإذن هنا عبارة عن القضاء والإمضاء. وتحية السلام من الملائكة تكريم للمؤمنين والمؤمنات ، كما جاء في آيات أخرى ، منها : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [الزمر : ٣٩ / ٧٣].

والسلام : رمز الأمان والاطمئنان ، والإشعار بالنعمة والاستقرار ، وإفادة الرضا والقبول من الله ، والإظلال بالرحمة والفضل الإلهي.

الكلمة الطّيّبة والكلمة الخبيثة

الكلمة أمانة ، والمقصد الأسمى من التشريع الإلهي والوحي الرّباني : هو تهذيب الإنسان وتربيته ، بالقول والفعل ، فقوله أو كلامه ينبغي أن يكون طيّبا ليّنا مجاهرا بالحق ، آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر ، وفعله يلزم أن يكون صالحا حسنا ، يتفق مع أوامر الله تعالى ، ويكون للكلمة الطيبة تأثير السّحر في النفس ، ومفعولها دائم شامل ، يصدر عنها كل فضيلة وخير وإحسان ، وأما الكلمة الخبيثة فلها مردود

٢٦١

عكسي وتأثير سلبي ، تضرّ ولا تفيد ، وهي كالوباء ، ولا خير فيها ولا بقاء. والله سبحانه يثبّت أهل الحق ، ويضلّ أصحاب الظّلم والجور ، قال الله تعالى واصفا ومقارنا بين الكلمة الطيّبة كلمة الحق ، والكلمة الخبيثة : كلمة الباطل ومبيّنا مثل كلّ منهما :

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧)) (١) (٢) (٣) [إبراهيم : ١٤ / ٢٤ ـ ٢٧].

هذه مجموعة من المعارف المتعلقة بالكلام وضرب الأشباه والأمثال لكل نوع منه ، سواء أكان كلاما حسنا وحقّا ثابتا ، أم كلاما سيّئا وباطلا زائلا. وهو تشبيه المعنويات بالحسّيات المشاهدات ، لترسيخ المعاني في الأذهان ، كما هو الشأن في بيان القرآن الوصفي البليغ المحكم. والمعنى :

ألم تعلم أيها المخاطب العاقل كيف ضرب الله لك مثل الكلمة الطيّبة ومثل الكلمة الخبيثة ، إن الكلمة الطيّبة وهي كلمة الحق والتوحيد والإسلام ودعوة القرآن كالشجرة الطيبة وهي النخلة ذات الأوصاف الأربعة :

ـ فهي شجرة طيبة الرائحة والطعم والمذاق ، جميلة المنظر والشكل. وطيبة المنفعة ، يستلذّ بها الآكل ، وينتفع بها الإنسان نفعا شاملا.

ـ وأصلها ثابت ، أي راسخ باق متمكّن في الأرض ، لا ينقلع ، يدوم صيفا وشتاء.

__________________

(١) تعطي ثمرها المأكول.

(٢) اقتلعت من أصلها.

(٣) استقرار.

٢٦٢

ـ وفرعها في السماء ، أي شامخة مرتفعة في الجو الأعلى ، بعيدة عن العفونات الأرضية ، خالية عن الشوائب.

ـ تؤتي أكلها كل حين بإذن ربّها ، أي تثمر في أدوار متعاقبة ، كل وقت وقّته الله لإثمارها ، بإرادة ربّها وإيجاده ، وذلك في كل عام مرة.

قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره : الكلمة الطّيبة : هي (لا إله إلا الله) مثّلها الله بالشجرة الطّيّبة ، وهي النّخلة في قول أكثر المتأوّلين ، فكأن هذه الكلمة أصلها ثابت في قلوب المؤمنين ، وفضلها وما يصدر عنها من الأفعال الزكية ، وما يتحصل منها من عفو الله ورحمته ، هو فرعها يصعد في السماء من قبل العبد ، ويتنزل منها من قبل الله تبارك وتعالى ، وهي نافعة في كل وقت.

وهكذا يضرب الله الأمثال للناس ، فإن في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير ، وعظة ، وتصوير للمعاني ، وما أرسخ تشبيه المعنويات والمعقولات بالحسيات المشاهدة.

وبعضهم جعل المؤمن هو مثل الشجرة الطّيبة ، فهو في جميع أيامه في عمل ، وإذا كانت الشجرة لا تخلّ بالإتيان بالأكل أو الثمر في الأوقات المعلومة ، فكذلك هو المؤمن لا يخلّ بما يسّر له من الأعمال الصالحة. وهذا مقبول فأصحاب الكلمة الطيّبة هم المؤمنون.

ومثل الكلمة الخبيثة ، أي صفتها وهي كلمة الكفر وما قاربها من الكلام السوقي في الظلم ونحوه ، كشجرة خبيثة وهي شجرة الحنظل أو الثوم ، وتتصف بأوصاف ثلاثة هي :

ـ أنها خبيثة الطعم ، ضارّة الرائحة.

ـ وأنها اقتلعت واستؤصلت ، وليس لها أصل ثابت ولا عرق دائم.

٢٦٣

ـ وليس لها استقرار ولا دوام ، وتقلبها الريح بعد اقتلاعها.

وأصحاب الكلمة الخبيثة هم الكافرون والعصاة ، فالكافر لا يستقر بيده شيء ، ولا يغني عنه كفره ، كهذه الشجرة التي يظن من بعد أنها شيء نافع ، وهي خبيثة الثمرة ، غير باقية.

وأصحاب الكلمة الطّيبة : هم الفائزون بمرادهم في الدنيا. والله تعالى يثبّت أهل الإيمان بكلمة الإخلاص والنجاة من النار : (لا إله إلا الله) والإقرار بالنّبوة ، يثبّتهم الله في الدنيا ، أي مدة حياة الإنسان ، ووقت السؤال في القبر بأن يخلق الله للإنسان في قبره إدراكات وتحصيلا. وفي يوم القيامة يثبّتهم عند العرض على الله. والتثبيت بحمايتهم من التّعرض للفتنة في دينهم في دار الدنيا ، وبالتصريح بصحة المعتقد دون تلعثم ولا تحيّر من أهوال الحشر يوم القيامة. وكل هذا جائز في قدرة الله تعالى.

ويضلّ الله الظالمين أي يمنع الله الكافرين عن الفوز بثوابه ، أو يتركهم وضلالهم لعدم استعدادهم للإيمان ، وتجاوبهم مع الأهواء والشهوات.

ولله المشيئة المطلقة في الفريقين ، يفعل الله ما يشاء ، من هداية بعض وإضلال بعض ، عملا بماله من حق الملك والسلطان.

والخلاصة : إن الآيات دعوة قوية صريحة للإيمان ، وتحذير ورفض للكفر والضّلال.

أفعال الكفار والمؤمنين ومصير كلّ

إن رسالة القرآن رسالة تصحيح وتقويم ، ونصح وإرشاد ، وتحذير وترهيب ، فترى آيات القرآن تحمل حملة عنيفة شديدة على الكفر وأهله ، وما يصدر عنهم من أفعال ضارّة بأنفسهم وأمّتهم ، وما يستحقونه من عذاب وعقاب في النار ، وفي الواجهة

٢٦٤

الأخرى تمدح الإيمان والمؤمنين ، وتزكّي أعمالهم الصالحة ، وتدعوهم دائما إلى فعل الخير الفردي والجماعي ، وتعدهم بجنان الخلد والعاقبة الطيبة ، وهذا أنموذج للحالتين ، قال الله تعالى :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١)) (١) (٢) (٣) (٤) [إبراهيم : ١٤ / ٢٨ ـ ٣١].

هذا في الآية الأولى تنبيه على مثال عملي من الظالمين ، حيث بدّلوا شكر نعمة الله كفرا ، كقوله سبحانه : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢)) [الواقعة : ٥٦ / ٨٢].

ونعمة الله المشار إليها في هذه الآية : هو محمد عليه الصّلاة والسّلام ودينه. أنعم الله به على قريش ، فكفروا النعمة ، ولم يقبلوها ، وتبدّلوا بها الكفر ، والمراد بالذين كفروا : قريش جملة ، بحسب ما اشتهر من حالهم.

الآيات دعوة إلى التعجب من أمر كفار مكة وأمثالهم ، الذين صدرت منهم أفعال عجيبة غريبة :

أولها ـ أنهم بدّلوا شكر نعمة الله كفرا وجحودا ، وتسّببوا في إنزال قومهم الذين شايعوهم وأطاعوهم في الضّلال والتّبديل دار البوار ، أي الهلاك في الآخرة الذي لا مثيل له ، وهو إصلاؤهم وإدخالهم في نار جهنم ، وبئس المستقرّ قرارهم.

وثانيها ـ أنهم جعلوا لله أندادا ، أي اتّخذوا لله شركاء عبدوهم معه ، ودعوا الناس إلى عبادة الشركاء من الأصنام والأوثان.

__________________

(١) دار الهلاك.

(٢) يدخلونها.

(٣) أمثالا يعبدونها.

(٤) الخلال : المخالّة والصّداقة. من خالّك : إذا وادّ وصافي.

٢٦٥

وثالثها ـ أنهم اتّخذوا الشركاء ذات الصفة الوثنية ، لتكون عاقبة أمرهم وصيرورته إضلال من شايعهم واتّبعهم ، وصرفهم عن دين الله ، وإبقاءهم في مستنقع الكفر والضّلال.

والأنداد جمع ندّ : وهو المثل والشّبيه المناوئ ، والمراد الأصنام. واستوجب هذا كله أن يهدّدهم الله ويتوعّدهم بقوله : (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) أي استمتعوا بما قدرتم عليه من نعيم الدنيا ، فإن جزاءكم ومصيركم إلى النار ، كما قال الله تعالى في آية أخرى : (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤)) [لقمان : ٣١ / ٢٤].

ونظير هذه الآية في التهديد : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصّلت : ٤١ / ٤٠] وقوله سبحانه : (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) [الزّمر : ٣٩ / ٨].

وبعد هذا التهديد للكفار ، أمر الله نبيّه بأن يبلّغ الناس ويأمرهم بإقام الصلاة التي هي صلة بين العبد وربّه وأجلّ العبادات البدنية ، ويأمرهم أيضا في سبيل المجتمع بالإنفاق في سبيل الله الذي هو عبادة مالية ، وذلك مما رزقهم الله ، بأداء الزكوات ، والنفقة على الأقارب ، والإحسان إلى الأباعد ، والتّصدق على المحتاجين.

وإقامة الصلاة : أداؤها مستكملة الأركان والشروط ، مع المحافظة على وقتها ، والخشوع لله في جميع أجزائها.

ويكون الإنفاق مما رزق الله ، في السّر (أي في الخفاء) وفي العلانية جهرا ، قال البيضاوي : والأحب إعلان الواجب (أي في النفقة) وإخفاء المتطوع به.

وتكون المبادرة للصلاة والإنفاق وغيرهما من الطاعات ، للخلاص بالأنفس والنّجاة من الهلاك ، من قبل أن يأتي يوم القيامة ، الذي لا بيع فيه ولا تجارة ولا فدية ، ولا تنفع فيه صداقة ومخالّة ، للصّفح والعفو والإنقاذ من العذاب ، بل إنه يوم

٢٦٦

تكون فيه العدالة المطلقة والقسط ، والقصاص من الظلمة وإنصاف الحقوق وردّها إلى أصحابها ، كما قال الله تعالى في آية أخرى : (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الحديد : ٥٧ / ١٥] وقوله سبحانه : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا (تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣)) [البقرة : ٢ / ١٢٣].

وكل ما فيه مسارعة إلى الطاعة والتّقرب من الله ومرضاته : فيه الخير والسعادة للإنسان. وكل تباطؤ أو تقصير أو إهمال أو ترك لعبادة الله وطاعته : شرّ للإنسان ودمار وهلاك وتضييع للمصلحة بالخلود الأبدي في جنّات النّعيم.

التّذكير بآلاء الله والتّنبيه على قدرته

يتعهّد الله تعالى بفضله ورحمته عباده بين الفينة والأخرى ، فيذكّرهم بما أنعم عليهم من نعم كثيرة لا تعدّ ولا تحصى ، ليحملهم على الشكر والطاعة ، وينبّههم على قدرته التي فيها إحسان إلى البشر ، لتقوم الحجة عليهم من وجهين. وهذا كله دليل قاطع على وجود الله ووحدانيته ، وسلطانه وتصرّفه في الكون والأنفس ، مما يوجب على العباد الإيمان بربّهم ، والثّقة بوعده ، وشكر إحسانه ونعمه. قال الله تعالى معدّدا آلاءه ومذكّرا بقدرته :

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤)) (١) (٢) [إبراهيم : ١٤ / ٣٢ ـ ٣٤].

__________________

(١) دائمين.

(٢) لا تطيقوا عدّها.

٢٦٧

أورد الله تعالى في هاتين الآيتين عشرة أدلة على وجوده وقدرته وهي :

ـ خلق السماوات : فالله هو خالق السماوات سقفا محفوظا مزيّنا بالكواكب.

ـ وخلق الأرض فراشا ممهّدا للعيش ، وأقام فيها المنافع الكثيرة.

ـ وأنزل المطر من السّحاب ، فأحيا به الأرض بعد موتها ، وأنبت به الزرع والشجر ، وأخرج الأثمار والأرزاق المختلفة ذات الألوان والطّعوم والرّوائح والمنافع المتباينة. والتذكير هنا بالثمار النافعة ، أما ما كان منها سمّا أو ضارّا فيسقط ، وهذا أيضا نعمة أخرى.

ـ وسخّر لكم الفلك ، أي ذلّل لكم السفن ، بتعليم صنعها ، وتسييرها على وجه الماء من بلد لآخر للركوب والحمل ، بإذن الله ومشيئته.

ـ وسخّر لكم الأنهار ، أي فجّر لكم ينابيع الماء الجاري في الأنهار ، ويسّر توزيعها وتفرعها لسقي أكبر مساحة من الأرض والشجر والزرع.

ـ وسخّر لكم الشمس والقمر دائبين ، أي ذلّلهما وجعلهما يسيران في حركة دائمة ، لدوام الخدمة والعمل. فهما دائمان في الطلوع والغروب وما بينهما من توفير منافع للناس لا تحصى كثرة ، يفيدان على الدوام لإصلاح حياة الإنسان والحيوان والنبات والزروع والأشجار والثمار.

ـ وسخّر لكم الليل والنهار ، أي جعلهما يتعاقبان ويتعارضان في وصال دائم ، فمرة يطول الليل ، كما في الشتاء ، ومرة يطول النهار ، كما في الصيف ، ويقصر الآخر ، وعلى العكس ، وفي هذا التعاقب والتفاوت طولا وقصرا في الليل والنهار تحقيق الفائدة والخير للإنسان ، فالليل للنوم والسكن فيه ، وللراحة وقطع الأعمال ، والنهار للسّعي والكسب والمعاش والتّقلب في شؤون الدنيا.

٢٦٨

ـ وآتاكم من كل ما سألتموه ، أي أعطاكم يا جنس البشر سؤلكم وحقّق مطلبكم ، من كل ما شأنه أن يسأله الإنسان وينتفع به ، ولا يطرد هذا في واحد من الناس ، وإنما تفرقت هذه النعم في البشر ، فهم الأسرة الكبرى الذين ينتفعون بنعم الله ، موزعة بحكمة إلهية ، ونسب حسابية على وفق المصلحة التي يعلم بها الله لكل إنسان.

ومقتضى هذا أن النّعم كثيرة ومتنوعة ومتجدّدة أيضا ، في الزمان والمكان. وهذا ما نشاهده في عصرنا الحاضر حيث امتلأت ساحات الحياة بألوان من النّعم في النفس والمنزل والشارع ومجالات العمل المختلفة.

لذا قال الله تعالى بعدئذ : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) أي إن أردتم أيها البشر تعداد نعم الله المنعم بها عليكم لا تستطيعون حصرها وتحديدها وإحصاءها لكثرتها ، وعظمها في الحواس والقوى ، وإيجادها من العدم ، إلى هداية الإيمان ، ومدد الأرزاق المتواصلة.

(إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) : أي إن الإنسان مع الأسف لا يقدّر النعمة ويظلمها بإغفال شكرها ، والجحود بها ، وعدم مقابلتها بالوفاء والعرفان. وهاتان الصفتان : الظلم والكفر موجودتان في الوسط الإنساني ، قائمتان في كل إنسان ، فإن كانت هذه الخلال من جاحد فهي بصفة ، وإن كانت من عاص فهي بصفة أخرى ، كما ذكر العلامة ابن عطية في تفسيره العظيم ، فيكون الناس متفاوتين في اقتراف الظلم والكفر ، فهناك من يلازم هاتين الصّفتين ، وهناك من يصدر منه نسبة معينة منهما ، والسعيد من تخلّص منهما بصفة نهائية تامّة.

٢٦٩

دعاء إبراهيم عليه‌السلام في البيت الحرام

يلجأ الإنسان عادة للدعاء إما لدفع ضرر أو لجلب نفع ، وهذا دليل على حاجة الإنسان لربّه ، وإقرار بعبوديته له ، واعتراف بربوبية الله وتوحيده ، وإشعار بعظمة الله وقدرته ، وتوجّه من الضعيف العاجز إلى صاحب السلطان المطلق والهيمنة التامة على المخلوقات. لكن قد يكون الدعاء تشريعا كدعاء إبراهيم عليه‌السلام وهو مستقبل البيت الحرام ، الذي كان فيه دلالة على مكانة البلد الحرام مكة ، وسوء عبادة الأصنام ، وإبانة لحقيقة الاعتقاد ، وشكر على نعم الله ، وطلب المغفرة منه لنفسه ووالديه والمؤمنين. وهذا إظهار للإخلاص ، ومحبة أهل الإيمان ، وتعظيم أماكن الشعائر الدينية. قال الله تعالى مدوّنا على الدوام شمول هذا الدعاء :

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١)) (١) (٢) [إبراهيم : ١٤ / ٣٥ ـ ٤١].

تكرّرت كلمة (رَبِ) في هذا الدعاء لإبراهيم الخليل عليه‌السلام ثلاث مرات ، للدلالة على الصّلة الخاصة بالله والعجز والضعف أمام الله ، وشدّة الحاجة إليه.

__________________

(١) أبعدني.

(٢) تسرع إليهم شوقا.

٢٧٠

وتكرّرت كلمة (رَبَّنا) في هذه الآيات أربع مرات لتعظيم الله وتقديسه. وكان هذا الدعاء الشامل تشريعا وتعليما ، وتذكيرا من الله تعالى للمؤمنين والمشركين في مكة وغيرها بمكانة مكة والبيت الحرام فيها ، وبوجوب تطهيرها من الأصنام والأوثان ، وقيام ذرّية إبراهيم فيها بإقام الصلاة ، والالتفات إلى تهيئة الأرزاق والثمرات فيها للانصراف للعبادة وشكر النعمة الإلهية ، والله عليم بأحوال عباده كلها ، السّري منها والعلني ، وكانت الخاتمة طلب إجابة الدعاء ، والمغفرة الشاملة لأهل الإيمان. أول صيغة هذا الدعاء : طلب إبراهيم عليه‌السلام جعل مكة بلدا ذا أمان واطمئنان واستقرار لتصفو للعبادة ، وكيلا يسفك فيه دم ، ولا يظلم فيه أحد. وقد أجاب الله الدعاء ، فكانت مكة بلدا آمنا على الدوام للإنسان والطير ، والنبات والشجر.

والطلب الثاني في هذا الدعاء : جعل العبادة خالصة لله تعالى على منهج التوحيد ، واجتناب عبادة الأصنام ، والأصنام هي المنحوتة على خلقة البشر ، وما كان منحوتا على غير خلقة ، فهي أوثان. وكانت هذه الأصنام سببا للضلال ، وعرضة للإضلال والغي ، وسوء الأعمال وانحدار مستوى الكرامة الإنسانية. فمن صدّق إبراهيم عليه‌السلام في دينه واعتقاده وسار على منهجه في الإيمان بالله والتوحيد الخالص لله ، فإنه على سنّة إبراهيم وطريقته. ومن خالفه وعصاه فهو ليس على ملّة إبراهيم ، وأمره إلى الله الغفور الرحيم ، وهذه شفاعة في العصاة غير الكفار.

وفي الطلب الثالث : إعلام من إبراهيم عليه‌السلام أنه أسكن بعض ذرّيته عند البيت الحرام ، في واد غير ذي زرع ، لإقامة الصلاة ، وجعله محرّما ليتمكّن أهله من العبادة ، فاجعل يا ربّ بعض القلوب تحنّ إليه ، وتهفو وتميل إلى رؤيته ، وأمدّهم برزق الثمار الموجودة في سائر الأقطار ، حتى لا يلتفتوا إلى شيء منها ، ويكون ذلك

٢٧١

عونا لهم على طاعة الله والتّفرغ لها ، فيكون ذلك سببا لشكر الله على جزيل نعمته وفيض فضله ورحمته.

وإبانة لعنصر الإخلاص ضمّن إبراهيم عليه‌السلام دعاءه بإظهار أن ربّه عليم بقصده في دعائه ، وهو التوصل إلى رضاه والإخلاص له ، وأن الله يعلم بجميع أحوال العباد ومصالحهم ، ويعلم بالأشياء كلها ظاهرها وباطنها لا يخفى عليه شيء منها في الأرض ولا في السماء ، فلا حاجة لتحديد المطالب الجزئية ، وإنما تدعو الله لإظهار العبودية لله ، وبيان الافتقار لرحمته والحاجة لفضله.

والطلب الرابع في الدعاء : إظهار الحمد والشكر لله على إنعامه بولدين لإبراهيم : إسماعيل وإسحاق ، في وقت الكبر ، علما بأن الله سامع الدعاء من كل داع ، مجيب من تضرّع إليه.

والطلب الخامس في هذا الدعاء : التوفيق لإقامة الصلاة من إبراهيم عليه‌السلام ومن ذرّيته ، ورجاء إجابة هذا الدعاء كله.

والطلب السادس في دعاء إبراهيم : طلب المغفرة له ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات في يوم الجزاء والحساب على الأعمال كلها خيرها وشرها ، وهذا دليل المحبة لجميع أهل الإيمان.

وكل هذه الأدعية تعليم لنا بأن ندعو بها ، ونداوم على التوجّه بها إلى الله ربّنا.

التّذكير بأهوال القيامة

لا شكّ في عقيدة أهل العقل والإيمان بوجود عالم آخر بعد الدنيا ، هو عالم القيامة ، المشتمل على أحداث جسام وأهوال عظام ، وتصفية للحساب الشامل

٢٧٢

للعباد ، فيكون التذكير بيوم القيامة وما فيه من مشاهد ضرورة دينية تشريعية ، ينبغي أن يشتمل القلب عليها ، ويستعدّ العبد للقاء ربّه في هذا اليوم الرهيب. وهذا ما تفضّل الله ببيانه في هذه الآيات الشريفة :

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦)) (١) (٢) (٣) (٤) [إبراهيم : ١٤ / ٤٢ ـ ٤٦].

هذه الآيات بجملتها فيها وعيد للظالمين ، وإيناس للمظلومين. وتتضمن قرارا حتميّا بأن الله مطّلع على أعمال الظالمين الكافرين ، غير غافل عنها ، وإنما هو يمهلهم ويؤخرّهم للحساب على أعمالهم في الوقت المناسب ، وفي اليوم الحاسم الموصوف بالصفات الآتية :

ـ أنه يؤخّرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ، أي شديد الأهوال ، ومن شدّتها تظل فيه الأبصار مفتوحة ، لا تطرف ولا تغمض ، من شدة الفزع والحيرة والدهشة.

ـ ويأتي الناس فيه من قبورهم مهطعين ، أي مسرعين إلى المحشر بالذّل والهوان ، لشدة خجلهم من سوء الاعتقاد والأفعال والأقوال.

ـ ويكونون فيه أيضا مقنعي رؤوسهم ، أي رافعي رؤوسهم ، ينظرون في ذلّ وخشوع ، ولا يلتفتون إلى شيء ، كأن رؤوسهم يابسة محنّطة.

__________________

(١) ترتفع دون أن تطرف.

(٢) مسرعين إلى الدّاعي بذلّ.

(٣) رافعيها ناظرين للإمام.

(٤) خالية من الفهم.

٢٧٣

ـ ولا يرتدّ إليهم طرفهم ، أي لا يرجع إليهم تحريك الأجفان ، بل تظل أبصارهم شاخصة ، مفتوحة ، تديم النظر ، لا يطرفون ولا يغمضون ، لشدة الهول والفزع. والمراد دوام الشخوص والنظر.

ـ وتكون أفئدتهم هواء ، أي تصير قلوبهم خاوية خالية ، لا شيء فيها من القوة ، مضطربة ، لكثرة الخوف. والمراد أن قلوب الكفار في يوم القيامة تكون خالية من الخواطر والآمال والسرور ، لعظم الحيرة والدهشة ، لما رأوه من عقاب ، وما ينتظرهم من عذاب.

ثم جاء الإنذار الإلهي المقصود به تلافي الأسباب المؤدية للعذاب ، ومضمونه : وخوّف أيها النّبي الناس جميعا من أهوال عذاب القيامة ، حين يأتي العذاب ، ويقول الذين ظلموا أنفسهم حين معاينة العذاب هلعا واضطرابا : ربّنا ردّنا إلى الدنيا ، وأمهلنا إلى وقت قريب آخر ، قريب العودة إليك ، نتدارك فيه ما فرّطنا في الدنيا ، من إجابة دعوتك إلى التوحيد ، وإخلاص العبادة لك ، واتّباع رسلك فيما أرسلتهم به.

فردّ الله تعالى عليهم موبّخا : أولم تكونوا حلفتم من قبل هذه الحالة ، حينما كنتم في الدنيا : أنكم إذا متم لا زوال لكم عما أنتم عليه ، وأنه لا بعث ولا معاد ولا جزاء ، فكنتم تنكرون القيامة والحساب ، وتزعمون أنه لا انتقال لحياة أخرى.

والحال أنكم سكنتم أو أقمتم في مساكن الظالمين أنفسهم المفسدين في الأرض ، ورضيتم بأفعالهم وصاحبتم الظالمين الكافرين ، وسرتم مسيرتهم ، ورأيتم ما فعلنا بهم من الإهلاك والعقاب لتكذيبهم وجحودهم وصدودهم عن دعوة الحق ، وعاينتم آثار عذابهم ، وضربنا لكم الأمثال والعبر ، وهو أن الله قادر على الإعادة ، كما قدر على ابتداء الخلق ، وهو قادر على العذاب المؤجل ، كما قدر على العقاب المعجّل ، ولكنكم لم تتعظوا ولم تعتبروا.

٢٧٤

والحال أيضا أنه لم تتغير حالكم عن حال من سبقكم ، فإنهم مكروا مكرهم جهد طاقتهم في إبطال الحق وتقرير الباطل ومعارضة الرّسل ، وعند الله العلم بمكرهم وتدبيرهم ، وأن الله سيجازيهم على مكرهم ، الجزاء العادل ، والحساب الشديد ، وإن كان مكرهم شديدا ، أي كافيا لتذهب به عظائم الأمور ، ويصلح لزحزحة الجبال عن أماكنها. ومعنى الآية : تعظيم مكرهم وشدته.

الجزاء العادل يوم القيامة

إن وجود يوم القيامة من أجل إقامة الحق المطلق والعدل الشامل ، فإذا تشكك المشككون بوجود هذا اليوم ، فإنهم مخطئون ؛ لأنهم يعارضون الحقيقة ، ويصادمون الحكم العقلي الصائب في أنه لا بد من يوم يتحقق فيه التناصف ، فيعاقب الظالم وينتصف المظلوم ، لذا أنذر الله تعالى الناس قاطبة بهذا اليوم الذي ينتظرهم ، ليجزي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، وهو يوم تتغير فيه معالم السماوات والأرض. قال الله تعالى واصفا هذا اليوم :

(فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) [إبراهيم : ١٤ / ٤٧ ـ ٥٢].

هذه الآيات تثبيت للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولغيره من أمّته ، ولم يكن النّبي ممن يحسب مثل

__________________

(١) مقرونا بعضهم مع بعض.

(٢) القيود.

(٣) ثيابهم.

(٤) تغطيها.

(٥) تبليغ كاف في العظة.

٢٧٥

هذا ، ولكن خرجت العبارة هكذا ؛ لأن النّبي قائد الأمة ، فيبدأ بخطابه. والمراد بها الزجر واستئصال الشّك في مجيء القيامة. والمعنى : لا تظنّن أيها الرسول أن الله مخلف رسله وعده ، بل هو منجز لهم ما وعدهم به. ويراد بهذا الخبر زرع الثقة بوعد الله بنصر المؤمنين وتعذيب الظالمين ، كما جاء في آية أخرى (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١)) [المجادلة : ٥٨ / ٢١]. وبعبارة أخرى :

لا تحسب يا محمد ـ أنت ومن اعتبر بالأمر من أمّتك ـ وغيرها أن الله لا ينجز وعده في نصر رسله ، وإظهارهم على أعدائهم ، ومعاقبة من كفر بهم في الدنيا والآخرة ، فإن الله عزيز قوي لا يمتنع منه شيء ، ذو انتقام من الكفرة ، ولا سبيل إلى عفوه عنهم.

ثم أخبر الله تعالى عن وقت انتقامه من أعدائه ، وهو اليوم الذي تبدّل فيه الأرض غير الأرض ، فتصبح على غير الصفة المألوفة ، وتبدل أيضا السماوات غير السماوات. أما الأرض الحالية فتصبح كالدخان المنتشر ، وأما السماوات فتتبدّد وتزول كواكبها وشمسها وقمرها ، وتسقط وتتلاشى. وفي ذلك اليوم يبرز الناس في فضاء واحد ، وتخرج الخلائق جميعها من القبور ، انتظارا لحكم الله الواحد ، الذي قهر كل شيء وغلبه ، كما في آية أخرى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ٤٠ / ١٦]. وفي هذا تهويل وتخويف.

ولما وصف الله تعالى ذاته بكونه قهارا ، وصف عجز الناس أمامه ، وذكر من صفاتهم :

ـ كون المجرمين مقرنين في الأصفاد ، أي جعل الذين أجرموا بكفرهم وفسادهم مقيّدين بعضهم إلى بعض في الأغلال أو القيود ، يجمع الله بين النظراء المتماثلين في الجرم ، كل صنف مع نظيره.

٢٧٦

ـ وسرابيلهم من قطران ، أي قمصهم وثيابهم وجلود أهل النار تطلي بالقطران ، حتى تصبح الجلود كالسرابيل.

ـ وتغشى وجوههم النار ، أي تحيط النار بأجسادهم. وإنما ذكرت الوجوه ؛ لأنها أشرف الأعضاء وأعزّها.

وأنفذ على المجرمين هذا العقاب ، ليكون في ذلك جزاء المسيء على إساءته ، ويجازى المحسن أيضا بإحسانه خيرا. وفي هذا عدل تام ، حيث يجازى كل شخص بما يليق بعمله وكسبه من خير أو شرّ ، كما في قوله تعالى : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) [النّجم : ٥٣ / ٣١].

والله سريع الحساب ، يحاسب جميع العباد بسرعة فائقة ، وذلك في قدر نصف نهار من أيام الدنيا ، كما جاء في الحديث ؛ لأن الله تعالى محيط علمه بدقيق أمور الخلائق وجليلها ، لا إله غيره. قيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : كيف يحاسب الله العباد في وقت واحد مع كثرتهم؟ قال : كما يرزقهم في وقت واحد.

هذا القرآن والوعيد الذي تضمنه : تبليغ للناس وكفاية في الموعظة ، ومعنى الآية : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) : هذا ذو بلاغ للناس ، وهو ليكون منذرا للناس بالعقاب ، ومحذّرا من العذاب ، وليستدلّوا بما في القرآن من حجج ودلالات على أنه لا إله إلا هو ، وليتذكر ويتّعظ به ذوو العقول ، فيكون لهذا البلاغ ثلاث فوائد : وهي التخويف من عذاب الله ، والاستدلال به على وجود الخالق ووحدانيته ، والاتعاظ به وإصلاح شؤون الإنسان. سئل بعضهم : هل لكتاب الله عنوان؟ فقال : نعم ، قيل : وأين هو؟ قال : قوله تعالى : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢)) [إبراهيم : ١٤ / ٥٢].

٢٧٧

تفسير سورة الحجر

لا عقاب قبل البيان الإلهي

ليس في ميزان الشّرع والعقل عقاب أحد قبل بيان التّكليف ، والإنذار قبل العذاب ؛ لأن المكلف بشيء يحتاج لفترة يتمكن بها من تنفيذ الخطاب التكليفي ، وفي تلك الفترة يظهر كونه طائعا أو عاصيا. وهذا منهاج القرآن في كل أمّة ، لم يهلكها بسبب فواحشها قبل إنزال كتاب إلهي ، يطالبها بأن تفعل الخير ، وتتجنب الشّر ، وتعمل المعروف ، وتحذر المنكر. وهذا ما نجده واضحا في مطلع سورة الحجر في قوله تعالى :

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥)) (١) (٢) (٣) [الحجر : ١٥ / ١ ـ ٥].

ابتدأت سورة الحجر كغيرها من بعض السور بالحروف المقطعة (الر) بقصد التّنبيه وتحدّي العرب أهل البلاغة والفصاحة بأن يأتوا بمثل القرآن أو بعضه ، علما بأنه مكوّن من هذه الحروف الهجائية التي تتركّب منها لغتهم.

__________________

(١) ربّ للتقليل و (ما) زائدة.

(٢) اتركهم.

(٣) أجل مقدّر.

٢٧٨

لذا اقترنت هذه الحروف غالبا بالكلام عن القرآن : لتلازم الأمرين معا ، فأخبر سبحانه أن آيات القرآن الكريم في هذه السورة وغيرها ، هي آيات الكتاب الكامل في كل شيء ، وآيات البيان الفصيح المعجز ، مما يدلّ على أن القرآن المبين هو الكتاب الجامع للكمال ، والغرابة في البيان ، كما قال الزمخشري رحمه‌الله.

ولكنّ الكفار والمشركين سيندمون حتما يوم القيامة على ترك الإيمان بالقرآن ، وعلى ما كانوا عليه في الدنيا من كفر وضلال ، ويتمنّون لو كانوا في الدنيا مسلمين مؤمنين ، كما في آية أخرى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧)) [الأنعام : ٦ / ٢٧].

فعند دخول الكفار النار ، ومعرفتهم بدخول المؤمنين الجنّة ، يودّون لو كانوا مسلمين ، فينجون النجاء الذي مانعة أن لم يكونوا مسلمين. فإن النجاة في الآخرة بالإيمان والإسلام وحده دون غيره.

وإذا كان هذا حال الكفار ، فهم بأشد الحاجة إلى التذكير والتنبيه ، فكان مناسبا إيراد الوعيد والتهديد ، فقال الله تعالى : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) أي اترك يا محمد الكفار في ملاهيهم وتمتّعهم باللذات في دنياهم ، يأكلون كما تأكل الأنعام ، وتلهيهم الآمال عن التوبة والإنابة ، أو عن الآخرة ، وأجل الموت ، فسوف يعلمون عاقبة أعمالهم وأمرهم ، ثم ختمت الآية بوعيد ثان ، وهو قوله تعالى : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) قال بعض العلماء كما ذكر الطبري : الوعيد الأول في الدنيا ، والثاني في الآخرة ، فكيف تطيب حياة بين هذين الوعيدين؟!

ومعنى قوله تعالى : (وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) أي يشغلهم أملهم في الدنيا ، والتزيد فيها عن النظر والإيمان بالله ورسوله.

ثم جاء البيان الإلهي العظيم ، والاعلام بأنه لا عقاب قبل بيان ، ولا عذاب قبل

٢٧٩

إنذار وكتاب إلهي ، فقال سبحانه : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤)) أي لا تستبطئن هلاكهم ، فليس من قرية أهلكت إلا بعد قيام الحجة عليهم ، وإبلاغهم طريق الرّشد والحق ، ولم يكن الهلاك إلا بأجل مقرر محدود ، وكتاب واضح الشرائع والأحكام ، وإنذار سابق بالعذاب ، حتى تترك الفرصة لهم بالعدول عن عصيانهم ، ومبادرتهم إلى سلوك جادة الاستقامة.

والمقصود بالآيات : أنه لو شاء الله ، لعجّل العذاب للكفار المستكبرين ، ولكن اقتضت حكمته إمهالهم لعلهم يتوبوا ، فإن لكل أمّة أجلا معيّنا ، لا تأخير فيه ولا تقديم ، والله تعالى يمهل ولا يهمل.

وهذا تنبيه وتحذير شديد لأهل مكة وأمثالهم ، وإرشاد لهم إلى الإقلاع عما هم عليه من الشّرك والعناد والإلحاد الذي يستحقّون به الهلاك ، كما قال ابن كثير.

وأما الناس اليوم وربما في المستقبل ، على الرغم من تقدم العقل البشري ونضجه ، واكتشاف آفاق العلوم والمعارف الكونية ، فإنهم فيما يتعلّق بالدين ما يزالون متأثّرين بالتقاليد الموروثة ، وبالبيئات المعايشة ، وبما يوجّههم إليه رجال الدين وسدنة الإرث القديم. ولكن التّمسك بالتقليد وإهمال دور العقل مرفوض في ميزان الحق والمسؤولية والحساب الإلهي في الدنيا والآخرة.

الرّد على مطاعن المشركين بالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

على الرغم من أن انتقادات المشركين وهم كفار قريش حول القرآن والرسول واهية ساقطة وسخيفة ، فإنها كانت خطيرة تستوجب الإبطال والرّدع والتّوبيخ ، لأنها لا تستند إلى منطق صحيح ، ولا لحجة مقبولة ، فضلا عن أنها تصادم الآداب والأعراف والواقع المشاهد ، فهم يتّهمون النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجنون والسفاهة ، ويطالبون

٢٨٠