التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٢

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0522-5
الصفحات: ٣٩٢

أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩)) (١) (٢) [الرّعد : ١٣ / ٣٦ ـ ٣٩].

هذه الآيات وصف لأحوال المعاصرين للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهناك مؤمنو أهل الكتاب الذين يفرحون بما ينزل على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القرآن من تصديق شرائعهم وما يألفونه من أحكام ربّهم ، وهم جماعة من اليهود كعبد الله بن سلام وأصحابه ، وسلمان الفارسي وجماعة ، من نصارى الحبشة واليمن ونجران ، وعددهم ثمانون رجلا.

وهناك جماعة أخرى من أهل الكتاب (اليهود والنصارى) والمجوس الذين تحزّبوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مثل كعب بن الأشرف اليهودي والسيد والعاقب أسقفي نجران وأتباعهم ، هؤلاء ينكرون بعض ما جاءك أيها النّبي من الحقّ ، وهو ما لم يوافق شرائعهم أو ما حرّفوه منها.

فجاء الرّد الإلهي عليهم ، وأمر الله تعالى رسوله أن يطرح اختلافهم ، وأن يصدع بأنه إنما أمر بعبادة الله ، وترك الإشراك والدعاء إليه ، واعتقاد المآب إليه ، وهو الرجوع عند البعث إلى الله يوم القيامة. وهذا إعلان صريح بأن دعوة الإسلام تقوم على مبدأ التوحيد ورفض الشّرك ، وإثبات البعث والحساب يوم القيامة.

ثم أوضح الله تعالى منهج القرآن وأسلوبه في الدعوة إلى التوحيد والإيمان بالله ، بأسلوب عربي فصيح ، واضح ، سهل الفهم ، وقريب التّلقي. فكما أرسلنا قبلك المرسلين أيها النّبي ، وأنزلنا عليهم الكتب ، كذلك سهلنا عليهم في ذلك وتفضّلنا في

__________________

(١) إلى الله مرجعي للجزاء.

(٢) اللوح المحفوظ وعلم الله الواسع.

٢٤١

تفصيل أصول الاعتقاد ، فأنزلنا عليك القرآن الكريم محكما لا زيغ فيه ، معربا بلسان قومك : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا ..) ليسهل عليهم فهمه وحفظه ، ويبين لهم الأمور ، ويفصل بين الحقّ والباطل ، فيوضح الحلال والحرام ، والشرائع والأحكام والأنظمة المؤدية لسعادة الدنيا والآخرة. والحكم في قوله تعالى : (حُكْماً عَرَبِيًّا) : ما تضمنه القرآن من المعاني بلغة العرب الفصحى.

ولئن اتّبعت يا محمد ـ على سبيل الافتراض ـ آراء تلك الفرق الضّالة ، وهذا يتناول المؤمنين إلى يوم القيامة ، مثل مجاملتهم في باطل عقائدهم وأهوائهم ، بعد ما عرفت الحق ، وجاءك العلم الصحيح ، فليس لك ناصر ينصرك من الله ، ولا حافظ ولا مانع يمنع عنك العقاب ، وينقذك من العذاب. وهذا وعيد شديد لأهل العلم أن يتّبعوا سبيل أهل الضّلالة ، بعد ما عرفوا الدين الحق ، وهو أيضا حسم وقطع لأطماع المعارضين الكفرة في إقرار ما هم عليه ، وتهييج للمؤمنين للثبات على دينهم.

ثم ردّ الله تعالى على طعن اليهود والمشركين بتعدّد زوجات النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومضمون الرّد : كما أرسلناك يا محمد رسولا بشرا ، كذلك جعلنا الأنبياء المرسلين قبلك من البشر ، يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق ويتزوجون النساء ، وينجبون الذّرّية والأولاد ، فليس شأنك بدعا جديدا ، فقد تقدّم هذا في الأمم ، ثم زجر المقترحين من قريش بإنزال الملائكة ، المتعجبين من كون الرسول بشرا ، بأنه ليس في وسع النّبي محمد وغيره أن يأتي بمعجزة خارقة للعادة إلا بإذن وتمكين من الله ، ليس ذلك إليه ، بل إلى الله عزوجل يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، ولكل حادث أو كتاب أو كائن وقت معين وزمن محدد ، ولكل وقت حكم يقرر على العباد ، بحسب المصالح والأحوال (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) أي يبدل في الأشياء وينقلها كغفر الذنوب بعد تقريرها ، ونسخ آية بعد تلاوتها واستقرار حكمها ، وعند الله أصل الكتاب

٢٤٢

الدائم : وهو اللوح المحفوظ وعلم الله الشامل الذي لا يتغير في حقّه ، وإن تبدّل في حقّ بني آدم ، فتلك الأشياء المقدرة في الأزل ، التي دونت في أم الكتاب ، لا يصح فيها محو ولا تبديل ؛ لأن القضاء سبق بها ؛ وهي ما استقرّ في نهاية الأمر ، وإن تغيّرت مسيرته. فأمّ الكتاب : هو ديوان الأمور المخزونة التي سبق القضاء فيها بما هو كائن من غير تبديل.

الأمر بتبليغ الرّسالة

لكل رسول من الرّسل الكرام مهمة واضحة ووظيفة محددة ، من أجل صالح البشرية ، وتصحيح مسيرتها ، ووضع الأنظمة الملائمة لحياتها ، وإذا تحققت هذه المهمة أو الوظيفة ، أصبح مضمونها حجة على البشر ، ووجب عليهم العمل بها ، والتزام ما جاء فيها ، لخيرهم وإسعادهم. وفي عالم الآخرة : الحساب والجزاء على ما يقدمه الناس من خير أو شرّ ، ولا ينفع مكر أو كيد ، أو إنكار وإهمال ، أو هروب من المسؤولية. قال الله تعالى :

(وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣)) (١) [الرّعد : ١٣ / ٤٠ ـ ٤٣].

يحدّد الله تعالى في هذه الآيات موقف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ألوان طلبات المشركين

__________________

(١) لا رادّ ولا مبطل له.

٢٤٣

العنادية ، تبيانا للواقع ، وتهدئة لنفس النّبي ، ووعدا بنصره. وهذا الموقف يتجلى في أنه إن أريناك يا محمد في حياتك بعض وعيد المشركين من خزي ونكال ، أو توفيناك قبل إرادتك ذلك ، فما عليك إلا تبليغ رسالة ربّك ، فمهمتك تبليغ رسالة الله ، وقد فعلت ما أمرت به ، وليس عليك تحقيق النتائج والتوصل إلى صلاحهم ، وعلينا حسابهم ومجازاتهم على ما قدموا من خير أو شرّ. وقوله سبحانه : (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) بتخصيص البعض بالذّكر : مفهومه أن الأعمار تقصر عن إدراك جميع ما تأتي به الأقدار ، مما يوعد به الكفار ، وأن فتوحات المسلمين تأتي في المستقبل.

ألم ير أولئك المشركون في مكة أن الله يأتي إلى أرض الكفر ، فينقصها شيئا فشيئا ، ويفتحها المسلمون تدريجا ، أرضا بعد أرض ، ويتحقق لهم النصر ، وتتسع أرض الإسلام على التوالي ، حتى يعمّ الدنيا. والله يقضي القضاء المبرم ، ولا يردّ حكمه النافذ ، وليس لأحد أن يتعقّب أحكام الله ، أي ينظر في أعقابها ، فيناقشها أو يبطلها ، وينظر أهي مصيبة أم لا؟ والله محاسب عباده قريبا في الآخرة ، وعقابه آت لا محالة ، فلا تستعجل عقابهم أيها النّبي ، فإن الله محاسبهم ومعذّبهم في الآخرة بعد أن عذّبهم في الدنيا بالقتل والأسر والهزيمة. وسرعة حساب الله واجبة ؛ لأنها بالإحاطة والشمول ، وليست بعدد قليل أو كثير.

وأما مكائد قومك قريش أيها النّبي فاصبر عليها ولا تأبه بها ، فلقد مكر الكفار السابقون برسلهم ، وأرادوا طردهم من بلادهم ، وعذّبوهم ، كما فعل النمرود بإبراهيم ، وفرعون بموسى ، واليهود بعيسى ، وكما فعلت عاد وثمود وإخوان لوط ، فمكر الله بهم ، أي أحاط بمكرهم وأحبط خططهم وتدابيرهم. والمكر : ما يتمرّس بالإنسان ، ويسعى عليه ، سواء علم بذلك أو لم يعلم. وقوله سبحانه : (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ

٢٤٤

جَمِيعاً) أي العقوبات التي أحلّها بهم ، وسماها مكرا على ما عرف : تسمية المعاقبة باسم الذنب ، كقوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : ٢ / ١٥].

وفي قوله تعالى : (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) تنبيه وتحذير في طيّ إخبار ، والمعنى : أن الله تعالى عالم بجميع السرائر والضمائر ، وسيجزي كل عامل بعمله ، فينصر أولياءه ، ويعاقب الماكرين. ثم توعّدهم الله سبحانه بقوله : (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) أي سيتحقق الكفار لمن تكون العاقبة المحمودة والنهاية الحسنة من الفريقين : المؤمنين والكافرين ، حيث تكون تلك العاقبة لأتباع الرّسل في الدنيا والآخرة ، ففي الدنيا النصر ، وفي الآخرة الجنة.

ثم ردّ الله على منكري نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً ..) أي يقول الجاحدون النّبوة : لست نبيّا مرسلا من عند الله ، تدعو الناس لعبادة الله وحده ، وهجر الأصنام والأوثان ، وترك الظلم والفساد. فقل يا محمد : حسبي الله وكافيني أنه شاهد لي بصدق رسالتي ، ومؤيد دعوتي ، بما أنزله علي من القرآن المعجز ، ومن الآيات البيّنة الدالة على صدقي. وكفاني أيضا بعد شهادة الله : شهادة علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى كعبد الله بن سلام اليهودي وأصحابه وتميم الداري وسلمان الفارسي ، بما وجدوه لديهم في التوراة والإنجيل من بشارة برسالتي ، وأوصاف لا تنطبق على من سواي.

٢٤٥

تفسير سورة إبراهيم

نعمة القرآن ولغة كل رسول

إنزال القرآن الكريم أعظم نعمة على الإنسانية في تاريخها الطويل ؛ لأنه كلام الله تعالى ، ودستور العقيدة والشريعة ومنهاج الحياة والآداب والأخلاق ، ولولا هذا القرآن لكان الناس في عماية (غواية) وضلال وجهالة ، فبالقرآن وحده عرف كل إنسان ربّه ، وثاب إلى رشده ، وتربّت النفوس في مدرسة القرآن ، فصارت من طراز آخر على منهج الحق واليقين والإحسان.

وكان من فضل الله على العرب أن أنزل القرآن المجيد بلغتهم العربية ، كما أرسل كل رسول بلسان قومه ، ليفهموا رسالته ويتّبعوا دعوته ، قال الله تعالى مبيّنا هذه النعمة العظمى في مطلع سورة إبراهيم المكّية :

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) [إبراهيم : ١٤ / ١ ـ ٤].

__________________

(١) بتوفيقه لهم.

(٢) الغالب.

(٣) المحمود المثنى عليه.

(٤) هلاك.

(٥) يختارون ويؤثرون.

(٦) يطلبونها معوجة.

٢٤٦

افتتحت هذه السورة بالحروف المقطعة كسورة البقرة وأمثالها للتّنبيه والتّحدي وتذكير العرب بأن هذا القرآن كلام من عند الله ، بدليل أنه مكوّن من حروف لغتهم ومادة كلامهم ، وهم عاجزون عن الإتيان بمثله.

والقرآن كتاب كريم أنزله الله رب العالمين ، على رسوله الأمين ، لإخراج الناس من ظلمات الضلال والجهل إلى نور الإيمان الحق والهدى والرشاد ، بتوفيق الله وتيسيره وإذنه ، وبواسطة الداعية والمبلّغ له ، وهو النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يبلّغ شريعة الله ، ويرشد إلى الطريق القويم ، طريق الله القوي الغالب القاهر المدرك ، المحمود في جميع أفعاله وأقواله ، وشرعه وخبره.

فحقيقة الهداية : إنما هي راجعة لله بالاختراع والإيجاد ، والرسول مشارك في التوجيه والإنذار والدعوة إلى سبيل الهداية. وقوله سبحانه عن نبيّه (لِتُخْرِجَ النَّاسَ) تشريف للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعم (النَّاسَ) إذ هو مبعوث إلى جميع الخلق والعالم كله ، فبعثته عامة للأحمر والأسود ، كما ثبت بالتواتر وبآيات كثيرة من القرآن ، وبما شاهده الصحابة وآل البيت الكرام.

وكلمة (الظُّلُماتِ) استعارة للكفر ، وكلمة (النُّورِ) استعارة للإيمان وطريق طاعة الله ورحمته ، على سبيل التشبيه والمماثلة. وكلمة (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بعلمه وقضائه وتمكينه لهم.

وإنزال القرآن من عند الله العزيز الحميد ، وهما صفتان لائقتان في هذا الموضع ، للدلالة على قدرة الله ، واستيجاب الحمد على نعمة الإنزال على العالم كله ، في هدايتهم ، ومن أدلة القدرة الإلهية : أنه سبحانه له كل ما في السماوات والأرض خلقا وملكا وعبيدا وتصريفا وتدبيرا ، وويل ، أي هلاك وعذاب شديد يوم القيامة للكافرين برسالتك أيها النّبي ، الذين جحدوا بوحدانية الله. وهذا وعيد وإنذار وتهديد.

٢٤٧

ووصف الله تعالى هؤلاء الكافرين الجاحدين بالرسالة النّبوية بصفات ثلاث :

ـ فهم الذين يحبّون الدنيا ويؤثرونها على الآخرة ، ويعملون للدنيا ومتعها فقط.

ـ وهم الذين يمنعون من اتّباع الرّسل ويعرقلون مسيرة الإيمان بالله والقرآن والنّبي.

ـ وهم يحبّون أن تكون سبيل الله معوجة مائلة عن الحق ، لتوافق أهواءهم. وسبيل الله : طريقة هداه وشرعه الذي جاء به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أولئك الجاحدون الموصوفون بتلك الصفات السابقة في ضلال بعيد عن الحق ، وفي جهل عميق ، لا يرجى منهم عودة إلى الصلاح والفلاح.

وإذا كانت مقاصد القرآن هذه وهي التنوير والهداية ، فإن الله يسّر سبيل معرفتها للعرب حاملي رسالة الإسلام لتبليغها للعالم بجعل القرآن بلغتهم العربية لفهمه وإدراك غاياته ومعرفة شرائعه وأحكامه ، كما أن من لطف الله وإحسانه أن يرسل كل رسول بلغة قومه ، ليقع التّكلم بالبيان والعبارة المفهومة ، ثم يكون غير أهل تلك اللغة أتباعا في التبيين لأهل اللسان ، وهذه ضرورة متعيّنة إذ لا يعقل كون الكتاب الإلهي بكل لغات العالم.

وبعد هذا البيان وإقامة الحجة على الناس ، يكون الناس فريقين : فريق الضّلال لإصراره على الكفر واجتراح السّيئات ، وفريق الهداية لمبادرته إلى الإيمان ، وتقتصر مهمة الرّسول على التّبليغ والبيان ، وأما إيجاد الهداية والوقوع في الضّلال فهو بيد الله ، ينفذ فيه سابق قضائه ، ويعمل بمقتضى حكمته التي لا تعلّل ، ولا يعترض عليها ، ولا يفعل الله شيئا إلا بسابق علمه بحال كل إنسان ، فيوفّقه للهداية أو يحجبه عنها ، وهو سبحانه القوي الذي لا يغلب ، فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وهو الحكيم في صنعه وأفعاله.

٢٤٨

وما أوضح وأحكم قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) أي إن الإرسال للبيان ، لا للإضلال أو الإيقاع في المتاهات.

مهمة موسى عليه‌السلام

الأنبياء والرّسل عليهم‌السلام هم الصفوة المختارة ، والفئة العليا من البشر ، وهم أشدّ الناس إخلاصا لربّهم ، وحبّا لأقوامهم ، فيحرصون أشد الحرص على هدايتهم ، وإنقاذهم وتصحيح عقائدهم وأخلاقهم ، وتقويم طبائعهم وتهذيب نفوسهم ، فاستحقّوا من الله الرّضوان ، وبوّأهم أعلى منازل الجنان. وكان موسى عليه‌السلام أحد الخمسة أولي العزم ، الذي دأب على إرشاد قومه إلى طريق الحق والاستقامة على طاعة الله ، وذكّرهم بنعم الله الكثيرة عليهم ليتّعظوا ، وحذّرهم من عاقبة المخالفة والعصيان ، وأعلمهم أن منفعة الطاعة تعود عليهم ، وأن الله غني عن العالمين. قال الله تعالى واصفا جهود موسى في أداء رسالته :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨)) (١) (٢) (٣) (٤) [إبراهيم : ١٤ / ٥ ـ ٨].

هذه لوحة مشرّفة لقافلة الإيمان ومسيرة الحق ، يتصدّرها موسى عليه‌السلام ،

__________________

(١) يذيقونكم.

(٢) يبقونهم أحياء للخدمة.

(٣) اختبار.

(٤) أعلم من غير شبهة.

٢٤٩

موصولة النّسب والمتابعة إلى نبيّنا محمد عليه الصلاة والسلام ، فكما أرسل الله نبيّه محمدا بالهدى ودين الحق ، وأنزل الله عليه القرآن لإخراج الناس من الظّلمات إلى النّور ، كذلك أرسل نبيّه موسى إلى بني إسرائيل بالآيات التّسع (١) لإخراجهم من الظّلمات إلى النّور ، داعيا إياهم إلى الخير ، والانتقال من دائرة الظّلمة والجهل إلى نور المعرفة والهدى والإيمان الحق.

وذكّرهم ووعظهم بأيام الله ، أي وقائعه ونقمه التي أحلّها بالأمم الكافرة الظالمة قبلهم ، وبتعديد نعم الله عليهم وعلى غيرهم من أهل طاعة الله ، إن في ذلك التذكير لدلائل واضحة على وحدانية الله وقدرته ، وبيّنات وعبرا لكل كثير الصبر على الطاعة والبلاء ، مؤمن ناظر لنفسه ، شكور في حال النعمة والرخاء. والتعبير عن النّعم والنّقم بأيام الله : تعظيم لهذه الكوائن المذكّر بها.

ألحّ موسى عليه‌السلام على قومه الإسرائيليين أن يتذكروا عظائم النّعم الإلهية عليهم ، ونجاتهم من النّقم ، حيث أنجاهم من ظلم آل فرعون وما كانوا يذيقونهم من ألوان وآلام العذاب والإذلال ، وتكليفهم بالشّاق من الأعمال ، وكانوا فوق ذلك يذبّحون أبناءهم المولودين الصّغار ، خوفا من ظهور ولد إسرائيلي يكون سببا في تدمير ملك فرعون ، بحسب تفسير رؤيا فرعون مصر ، وكانوا يتركون الإناث أحياء ذليلات مستضعفات ، للمتعة والخدمة والمهانة ، وفيما ذكر اختبار عظيم من الله لهؤلاء القوم الأشرار ، سواء في حال النقمة ، أو في حال النعمة ، ليعرف مدى شكر الإنسان منهم ومدى كفره وجحود نعمة الله عليه ، كما قال الله تعالى في بيان منهاج اختبار البشر : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥)) [الأنبياء : ٢١ / ٣٥].

__________________

(١) الآيات التّسع : هي الطوفان ، والجراد ، والقمّل ، والضفادع ، والدّم ، والعصا ، ويده البيضاء ، والسنون والقاحلة في بواديهم ، والنقص في الثمرات في قراهم.

٢٥٠

وأبان موسى عليه‌السلام لقومه منهاج الإله الحق في إمداد البشر بالنّعم ، وإرهابهم بالنّقم ، وإنذارهم بالعذاب ، فلقد أعلم الله علما مقترنا بإنفاذ وقضاء قد سبقه : أنكم يا بني إسرائيل أي وغيركم ، لئن شكرتم نعمة الله عليكم ليزيدن لكم النّعم ، ويديمها عليكم ، ولئن جحدتم النّعم وسترتموها ، فلم تؤدّوا حقّها من الشكر ، ومقابلتها بالوفاء والطاعة ، فإن عقاب الله أليم ، شديد التأثير والألم ، في الدنيا بزوال النّعم وسلبها عنكم ، وفي الآخرة بالعقاب على كفران النعم. جاء في الحديث الثابت الذي رواه الحاكم عن ثوبان : «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه».

ثم هدّد موسى قومه ووبّخهم بقوله : إن تجحدوا نعمة الله عليكم أنتم وجميع من في الأرض من الثّقلين : الإنس والجنّ ، فإن الله غني عن شكر عباده ، وهو المحمود بكل حال ، حتى وإن كفر به من كفر ، كما قال الله تعالى : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) [الزّمر : ٣٩ / ٧].

وإيراد هاتين الصّفتين لله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) اللتين وصف بهما نفسه تبارك وتعالى في آخر الآية : يتضمن بيان عظمة الله تعالى ، وتحقير المخاطبين العصاة وتوبيخهم على المخالفة وجحود النّعمة ، فالله متّصف بصفة توجب المحامد كلها دائما ، كذلك في ذاته ، لم يزل ولا يزال ، وكفر بعض الناس بإله هذا حاله : غاية التّخلف والخذلان ، وإغراق في الضّلال والبعد عن الحق.

بعض ألوان التّذكير بأيام الله

أغلب الناس لا يكتفون بالأمور النظرية ، والتهديدات الشفهية ، وإنما يحتاجون إلى الأدلة الحسّية والأمثال الواقعية ، والتجارب الفعلية ، لذا لم يكتف القرآن الكريم والرّسل المصلحون بتوجيه الإنذارات ، وإنما من أجل التصديق بواقعيتها يقينا

٢٥١

وحسّا ، قرن هذا التوجيه بالتذكير بأيام الله ووقائعه في الانتقام من الأمم الكافرة الظالمة ، فقال الله سبحانه مبيّنا خطابه العام لقوم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسائر الأمم :

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢)) (١) (٢) (٣) (٤) [إبراهيم : ١٤ / ٩ ـ ١٢].

هذا تذكير بأحوال الأمم السابقة الذين كذبوا بكل وقاحة وجرأة برسالات الرّسل ، وتذكير أيضا بدور هؤلاء الرّسل في محاولة إقناع أقوامهم بتوحيد الله وقدرته وسلطانه وتصرّفه في كل شيء ، وبحاجة البشر إلى التوكّل على الله والتفويض لمشيئته.

ومفاد هذا التذكير والخطاب العام : ألم يأتكم يا أهل مكة وأمثالكم خير الأقوام السابقين من قبلكم ، وهم قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم المكذّبة للرّسل ، مما لا يحصي عددهم إلا الله عزوجل. قال ابن عباس : «كان بين زمن موسى وبين زمن نوح قرون ثلاثون لا يعلمهم إلا الله».

جاءت هذه الأقوام رسلهم بالمعجزات والأدلة الواضحة على توحيد الله وصدق

__________________

(١) عضّوا أناملهم تغيّظا.

(٢) موقع في الريبة.

(٣) أي مبدعها على أكمل نظام.

(٤) حجة تدلّ على صدقكم.

٢٥٢

رسالاتهم ، ولكن هؤلاء الأقوام اغتاظوا من الرسل وعادوهم وبالغوا في تكذيبهم والنفرة منهم ، وقالوا للرّسل تعنّتا وعنادا وتبجّحا : إنا كفرنا بما أرسلتم به من الآيات الدالة على صدق رسالتكم.

فقالت لهم رسلهم : أفي وجود الله ووحدانيته شك؟ إن الفطرة والعقل يقرّان بذلك ، والواقع والحسّ يؤيّدان هذا ، فكيف تشكّون بالله؟ والله هو مبدع السماوات والأرض وخالقهما على غير مثال سابق.

والله تعالى عدا كونه خالقا موجدا هو كامل الرحمة ، يدعوكم إلى الإيمان الكامل به ، من أجل أن يغفر لكم في الآخرة ذنوبكم ، ويؤجّلكم في حياتكم إلى وقت محدد في علم الله تعالى ، وهو منتهى العمر ، إن آمنتم ، وإلا عاجلكم بالهلاك والعذاب على كفركم ، فردّ الأقوام على رسلهم بردود وشبهات ثلاث وهي :

١ ـ ما أنتم أيها الرّسل إلا بشر مثلنا في البشرية ، ولا فضل لكم علينا ، فلم تختصون بالنّبوة دوننا؟ وفي هذا استبعاد لبعثة البشر.

٢ ـ وأنتم أيها الرّسل تريدون أن نترك ما وجدنا عليه آباءنا ، بهذه الدعوة غير الصحيحة.

٣ ـ فأتونا بسلطان مبين ، أي بحجة واضحة ظاهرة على صدق نبوّتكم ، فنحن لا نؤمن إلا بالحسّيات.

فأجابهم الرّسل : لسنا نحن إلا بشر مثلكم ، نأكل ونشرب ونمشي في الأسواق ، واختصاصنا بالنّبوة أمر متروك لله يتفضّل بها على من يشاء من عباده ، وتقليدكم للآباء لا يتفق مع العقل والكرامة الإنسانية ، ولا نستطيع الإتيان بمعجزة أو دليل حسّي لإثبات نبوّتنا إلا بإذن الله وإرادته ومشيئته ، وعلى جميع المؤمنين الاتّكال على الله في كل أمورهم ، لدفع الشّر أو جلب الخير أو الصبر على العداوة.

٢٥٣

وكيف لا نتوكّل على الله نحن معاشر المؤمنين؟! وقد هدانا إلى سبل المعرفة والحق والخير والرشاد ، ولنصبرن على ألوان أذاكم لنا بالقول أو بالفعل ، وليستمرّ المؤمنون ، ويثبتوا على توكّلهم على الله ، وليثقوا به ، وليتحملوا كل أذى في سبيل مرضاته ، ففي ذلك الخير كله والنّجاة الأبدية في عالم الآخرة.

تهديد الأقوام لرسلهم

لقد تعرّض الرّسل الكرام في التاريخ من أقوامهم المرسلين إليهم لأسوإ أنواع المعاملة ، وأقسى الكلام ، والتهديد بالطرد أو الإبعاد من البلاد أو الإعادة إلى الوثنية الموروثة والجاهلية الفوضوية ، معتمدين في هذا التهديد على مالهم من قوة وسلطان ونفوذ ، إما بسبب الكثرة العددية والأتباع أو الثروة والمال ، أو الجاه والظلم الطبقي ، ويستغلون ضعف الدّعاة إلى الله وقلّة أتباعهم ، إلا أن العبرة بالنتائج ، ففي نهاية الأمر تكون الغلبة والتفوق والنصر لأهل الحق والإيمان ، والهزيمة والمذلّة لأهل الكفر والباطل والضلال. وهذه صورة الفريقين في القرآن الكريم :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦)

__________________

(١) استنصر الرّسل بالله على الظلمة.

(٢) خسر كل متعاظم متكبّر.

(٣) معاند للحق.

(٤) ما يسيل من أجساد أهل النّار.

(٥) يتكلف بلعه لحرارته.

(٦) يبتلعه لشدة كراهته.

٢٥٤

اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨)) (١) [إبراهيم : ١٤ / ١٣ ـ ١٨].

حينما انهزم أهل الضّلال في النّقاش والحجاج العقلي أمام رسلهم ، لجؤوا إلى التهديد والوعيد والإيذاء بالقول والفعل ، وتوعّد الرّسل إما بالطّرد والإبعاد من بلادهم ، وإما بالعودة إلى الوثنية الملّة الموروثة عن الآباء والأجداد ، فأوحى الله لرسله قائلا لهم : لنهلكنّ الظالمين المشركين ، ولنسكننكم أنتم وذرّيتكم أرضهم وديارهم من بعد هلاكهم ، عقوبة لهم على تهديداتهم ، ذلك الإعلان للحكم الموحى به بإهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين ديارهم ، لمن خاف موقفه بين يدي ربّه ، وهاب وعيده بالعذاب والعقاب.

ثم أبان الله تعالى بقوله : (وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥)) أي إن الرّسل سألوا إنفاذ الحكم بنصرهم وتعذيب الكفرة ، فأجابهم ربّهم لما طلبوا ، ولم ينجح كل جبّار ، أي متعظم في نفسه ، لا يرى لأحد عليه حقّا ، معاند للحق ، منحرف عنه ، فهو عنيد ، أي يعاند ولا ينقاد للحق ، ولا ينصاع لنداء الله بالإيمان. وكان أمام هذا الجبار العنيد جهنم بانتظاره ، بعد حذره وتحفظه ، ويسقى في النار من ماء صديد ، أي مما يسيل من أجساد أهل النار من قيح ودم ، فهو ليس بماء في الحقيقة ، وإنما ماؤه هذا الصديد المتغير الذي يخرج من الجوف. يتحسّاه جرعة بعد جرعة ، ولا يكاد يبتلعه ، لكراهته ، وسوء طعمه ولونه وريحه ، مما يدل على التّألم حين ابتلاعه ، كما جاء في آية أخرى : (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) [محمد : ٤٧ / ١٥]. ويروى أن الكافر يؤتى بالشربة من شراب أهل النار ، فيتكرهها ، فإذا أدنيت منه ، شوت وجهه ، وسقطت فيها فروة رأسه ، فإذا شربها قطّعت أمعاءه.

__________________

(١) شديد الهبوب.

٢٥٥

ويأتيه ألم الموت ، وشدة نزع الروح من كل مكان ، من غير إبقاء شعرة في بدنه ، ولا يراح بالموت ، فلا يموت ، كما جاء في آية أخرى : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) [فاطر : ٣٥ / ٣٦].

وله من وراء ذلك كله عذاب غليظ ، أي شديد صعب مؤلم ، أشد غلظة مما سبقه ، وهو دائم غير منقطع.

ويتأسف الكفار على أعمالهم الصالحة في الدنيا التي ضاعت هدرا ، ولم تنفعهم في الآخرة ، ويكون لهم مثل أو صفة عجيبة ، فالذين كفروا أعمالهم الصالحة من صدقات وصلة أرحام وبرّ والدين ، كمثل الرماد الذي اشتدت به الريح العاصفة ، في يوم عاصف ، أي ذي ريح شديدة قوية عاتية ، فلم يقدروا على شيء من أعمالهم التي كسبوا في الدنيا ، إلا كما يقدرون على جمع هذا الرماد ، في يوم القيامة ، ذلك هو الضلال البعيد ، أي ذلك السّعي والعمل على غير هدى ولا استقامة ولا إيمان : مغرق في البعد عن الحق والنجاة ، حتى فقدوا ثوابه ، لفقدهم شرط قبوله : وهو الإيمان. وشبّهت أعمال الكفار ومساعيهم ـ في فسادها وقت الحاجة وتلاشيها ـ بالرماد الذي تذروه الرياح وتفرقه ، لشدّتها حتى لا يبقى لها أثر ، ولا يجتمع منه شيء. وتبديد ثمرة أعمال الكفار مقرر في القرآن الكريم في آيات كثيرة ، منها قوله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣)) [الفرقان : ٢٥ / ٢٣].

حوار أهل النار

أوضح الله تعالى في قرآنه صورة متوقعة بين أهل النار وهي الجدال والحوار الحادّ بين الضعفاء والمستكبرين ، وبين الأتباع والسادة ، يدلّ على النّدم الشديد والتّأسف العميق ، لما آل إليه الفريقان من عذاب شديد ، بسبب قصر النظر وضعف الإدراك

٢٥٦

وقلّة الوعي ، واتّباع الأهواء والشهوات ، على الرغم من إقامة الأدلة القاطعة على وضوح الرؤية والمصير ، وعلى قدرة الله ووجوده ووحدانيته ، وتتابع ، التحذيرات والتهديدات بتبدّل الأوضاع وانقلاب الأحوال. قال الله تعالى واصفا هذا الوضع :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١)) (١) (٢) [إبراهيم : ١٤ / ١٩ ـ ٢١].

أخبر الله تعالى عن قدرته في إعادة الأرواح للأبدان وبعث الناس أحياء من القبور يوم القيامة ، بدليل قدرته على خلق السماوات والأرض وما فيها من كواكب ومجرّات ونجوم ذات أحجام تبلغ مئات الملايين من المساحات. فمن قدر على هذا الخلق البديع ، قادر على إفناء الناس والإتيان بخلق جديد ، ومخلوقات ذات صفات مختلفة. ومعنى كون السماوات والأرض مخلوقة بالحق ، أي بما يحق في وجوده ، من جهة مصالح عباده ، وإنفاذ سابق قضائه ، للإدلال على وجود الخالق وعلى قدرته. ثم توعّد الله تبارك وتعالى بقوله : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) أي إن يرد الله يعدمكم ويطمس آثاركم ، ويأت بمخلوقات أخرى جديدة من بني آدم أو غيرهم ، وليس ذلك على الله بممتنع.

وبعد جمع الناس في المحشر وبعثهم من القبور ، وبروزهم أمام الله جميعا في ساحة واحدة ، وموقف حساب واحد ، تظهر الحقيقة الناصعة ، ويبدو الندم الذي يأكل الأكباد ، ويشتدّ الحوار والجدال بين أهل النار ، فيقول الضعفاء ، أي الأتباع ، للسادة القادة المستكبرين في الرأي والمواقف المعاندة والتّنكّر لعبادة الله : إنا كنا لكم

__________________

(١) خرجوا من القبور للحساب.

(٢) أي منجى ومهرب.

٢٥٧

تابعين ، مقلّدين في الأعمال ، نأتمر بأمركم ، ونفعل فعلكم ، فكفرنا بالله ، وكذّبنا الرّسل ، وهجرنا كلام الله متابعة كلام الله متابعة لكم وتأثّرا بآرائكم ، فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء ، أي هل أنتم تدفعون عن اليوم بعض عذاب الله ، كما كنتم تعدوننا وتمنّوننا؟!

فأجابهم المستكبرون القادة : لو هدانا لله لدينه الحق ، ووفقنا لاتّباع أوامره ، وأرشدنا إلى الخير ، لهديناكم وأرشدناكم إلى سلوك الطريق الأقوم ، ولكنه لم يهدنا ، فحقت كلمة العذاب على الكافرين.

ثم أعلنوا يأسهم من النجاة فقالوا : ليس لنا خلاص ولا منجى مما نحن فيه ، سواء صبرنا على العذاب ، أو جزعنا وتضجرنا منه ، فيكون الصبر والجزع سواء ، فلا نجاة لنا من عذاب الله تعالى.

عن محمد بن كعب أن أهل النار يقولون : إنما نال أهل الجنة الرحمة بالصبر على طاعة الله تعالى ، فلنصبر ، فيصبرون خمس مائة سنة ، فلا ينتفعون ، فيقولون : فلنجزع ، فيضجّون ويصيحون ، ويبكون خمس مائة سنة أخرى ، فلا ينتفعون ، فيقولون هذا القول الذي في الآية : (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ).

وظاهر الآية أنهم يقولون ذلك في موقف العرض ، وقت البروز ، بين يدي الله تبارك وتعالى.

ويتكرر هذا الحوار بعد دخول الكفار في النار ، كما قال الله تعالى : (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨)) [غافر : ٤٠ / ٤٧ ـ ٤٨].

٢٥٨

وإيراد هذا الحوار سلفا في الدنيا ليكون حافزا على العظة والعبرة ، وتحذيرا للناس من الوقوع فيه قبل أن يفوت الأوان ، وييأس كل واحد من النجاة.

حوار آخر بين الشيطان وأتباعه

يجري حوار حاد يوم القيامة بين فئتين من أهل الضلال : بين الضعفاء الأتباع ، وبين المتبوعين السادة ، كما تقدم ، وبين الشيطان وأتباعه من الإنس ، نبّه الله تعالى سلفا في قرآنه على بنود هذا الحوار بنوعيه ليحذر العاقل ، ويتجنّب الانزلاق من دعاة السوء ، وهذا الحوار الثاني أضعف من الحوار الأول ؛ لأنه يشتمل على تبرؤ الشيطان من وساوسه ، أما الحوار الأول فيتذرع فيه السادة خطأ بأن الله لم يهدهم إلى سواء الصراط. ويستوي الفريقان بتبرؤ المتبوعين من الأتباع. وصف القرآن الكريم مضمون حوار الشيطان مع أتباعه :

(وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣)) (١) (٢) (٣) [إبراهيم : ١٤ / ٢٢ ـ ٢٣].

هذا تصريح خطير بضعف كيد الشيطان ووساوسه ، وبكذبه وخيانته في الدنيا ، واعترافه بتحمّل أتباعه مسئولية ذنبهم وخطيئتهم ، فإنهم هم الذين استجابوا لدعوة الشيطان من غير وجود سلطان له عليهم ، فهو أي إبليس يقوم خطيب السوء ، ولكنه

__________________

(١) تسلط.

(٢) بمغيثكم من العذاب.

(٣) بمغيثي من العذاب.

٢٥٩

صادق بهذه الآية فيما يقول يوم القيامة. على عكس حوار البشر الضعفاء مع سادتهم ، كان للسادة نوع من السلطة والنفوذ على أتباعهم ، وكانوا أيضا مخطئين في الفهم والإدراك.

والمراد بالشيطان هنا : إبليس الأقدم نفسه ، قال لأتباعه بعد أن تم القضاء بين العباد ، فأدخل الله المؤمنين الجنة ، وأسكن الكافرين النار : إن الله وعدكم بالبعث والجزاء وعد الحق الثابت الأكيد على ألسنة رسله ، وأما أنا فوعدتكم ألا بعث ولا جزاء ، ولا جنّة ولا نار ، فأخلفتكم موعدي ، إذ لم أقل إلا باطلا من القول وزورا. ولم يكن لي عليكم فيما دعوتكم إليه سلطان ، أي غلبة وقدرة وملك ، أي ما أكرهتكم على شيء ولا خوّفتكم بقوة مني ، بل عرضت عليكم شيئا ، فأتى رأيكم عليه. فلا تلوموني ، أي لا ذنب لي ، ولوموا أنفسكم في سوء نظركم وقلة تثبتكم ، فإنكم إنما أتيتم وصرتم أتباعي عن بصيرة منكم وتكسب ومصلحة ، فأنتم الذين أسرعتم إلى إجابتي باختياركم ، فيكون الذنب ذنبكم ، لكونكم لم تسمعوا إلى دعاء ربكم الذي دعاكم دعوة الحق بالحجج والبينات ، فخالفتم مقتضى العقل والحكمة والبرهان الداعي إلى الصواب.

ما أنا بمصرخكم ولا أنتم بمصرخي ، أي ما أنا بمغيثكم ولا نافعكم ولا منقذكم من العذاب ، وما أنتم بمغيثّي لا نافعيّ بإنقاذي مما أنا فيه من العذاب والنكال.

ويتابع الشيطان إبليس خطابه لأتباعه بقوله : إني كفرت ، أي إني أنكرت وجحدت اليوم إشراككم إياي من قبل في الدنيا مع الله تعالى في الطاعة التي ينبغي أن يفرد الله بها. إن الظالمين ، أي الكافرين في إعراضهم عن الحق ، واتباعهم الباطل ، لهم عذاب مؤلم.

٢٦٠