التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٢

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0522-5
الصفحات: ٣٩٢

وجه أبي ، يعد بصره إليه بعد أن عمي بسبب شدة الحزن ، وأتوني بجميع أهليكم من الرجال والنّساء والأولاد ، وكانوا سبعين رجلا وامرأة وولدا. وكان هذا كله بوحي وإعلام من الله تبارك وتعالى. ويروى أن هذا القميص كان لإبراهيم عليه‌السلام ، حين كساه الله إياه بعد خروجه من النار.

معجزة القميص

يختلف أفق النّبوة غير المعتاد عن الأحوال المعروفة المعتادة للناس ، فإن في النّبوة أعمالا خارقة للعادة ، تسمى معجزات ، وكانت معجزة قميص يوسف من أبهر المعجزات النّبوية في تاريخ الرّسل ، وكان الخبر العجيب من يعقوب عليه‌السلام أنه يشمّ ريح يوسف ابنه المفقود من زمان طويل. وتحقّقت نبوءة يوسف وأبيه يعقوب ، وتمت الفرحة الغامرة باكتشاف وجود يوسف عليه‌السلام ، وأنه ما زال حيّا ، وأنه ذو مكانة وسلطان ، وعمت البهجة والسرور أرض مصر وفلسطين معا ، وكان البشير المبشر بهذا هو الابن الأكبر ليعقوب ، وهو يهوذا الذي اعتصم بمصر ، والذي كان قد جاء بقميص الدم. وصف القرآن المجيد هذه المعجزة في قوله سبحانه :

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨)) (١) (٢) (٣) [يوسف : ١٢ / ٩٤ ـ ٩٨].

__________________

(١) فارقت القافلة العريش في مصر.

(٢) أي تنسبوني إلى الفند : وهو ضعف العقل أو الخرف ، أي تسفهوني أو تكذبوني.

(٣) انحرافك عن الصواب.

٢٠١

أحسّ يعقوب عليه‌السلام برائحة يوسف ابنه الحبيب ، وأشعره الله به ، حين أقبل به إليه ابنه الأكبر يهوذا من مسيرة ثلاثة أيام أو ثمانية ، إذ حملته إليه ريح الصّبا ، فلما خرجت إبل أولاده من مصر ، وانفصلوا عنها ، قال يعقوب ـ وهو النّبي الرسول الصادق ـ لأهله : إني لأشمّ رائحة يوسف وقميصه ، لولا أن تنسبوني إلى الفند (أي الخرف وضعف العقل) والكبر.

أخرج عبد الرزاق عن ابن عباس قال : لما خرجت العير ، هاجت ريح ، فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف ، فقال : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) فوجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام. قال الإمام فخر الدين الرازي : والتحقيق أن يقال : إنه تعالى أوصل تلك الرائحة إليه على سبيل إظهار المعجزات ؛ لأن وصول الرائحة من هذه المسافة البعيدة أمر مناقض للعادة ، فيكون معجزة ليعقوب عليه‌السلام على الأظهر أو الأقرب.

وهذا هو الراجح بتقدير الله وإرادته وقدرته حيث يطلع أنبياءه على عجائب الأمور على سبيل إظهار المعجزات على أيديهم.

قال الحاضرون في مجلس يعقوب له : والله ، إنك لفي ضلالك القديم أي حيرتك أو خطئك القديم الذي طال أمده ، بظنّك أن يوسف حيّ يرزق ، ويرجى لقاؤه.

وليس هو بالضّلال الذي هو في العرف ضدّ الرشاد ؛ لأن ذلك من الجفاء الذي لا يسوغ لهم مواجهته به. وكان حزن يعقوب قد تجدّد بقصة بنيامين ، فلذلك يقال له : ذو الحزنين.

فلما أن جاء البشير المبشّر ، وهو يهوذا ، يحمل قميص يوسف ، مبشّرا له ببقائه حيّا ، هو وأخوه بنيامين ، ألقاه على وجه يعقوب ، فانقلب فورا بصيرا كما كان ، من شدّة الفرح. وتلك معجزة أخرى ، وقال يعقوب حينئذ لمن حوله : ألم أقل لكم يا

٢٠٢

أولادي ، إني أعلم من الله أشياء لا تعلمونها. ألم أقل لكم حين ذهبتم إلى مصر : ابحثوا عن يوسف ، ولا تيأسوا من روح الله ورحمته ، وإني لأعلم يقينا أن الله تعالى سيردّ يوسف إلي.

وحين ذاك قال الأولاد لأبيهم يعقوب مترفّقين معتذرين : (اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) أي اطلب من الله أن يغفر لنا ذنوبنا ، فإنا كنا مذنبين عاصين ، وقد تبنا وندمنا على ما فعلنا معك ومع أخوينا : يوسف وبنيامين.

روي أن يوسف عليه‌السلام لما غفر لإخوته ، وتحقّقوا أيضا أن والدهم يعقوب يغفر لهم ، قال بعضهم لبعض : ما يغني عنا هذا ، إن لم يغفر الله لنا ، فطلبوا حينئذ من يعقوب أن يطلب لهم المغفرة من الله تعالى ، واعترفوا بالخطإ.

فقال لهم يعقوب : (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) أي في المستقبل القريب ، في وقت السّحر آخر الليل ، لأنّ ربي غفور ستّار للذنوب ، رحيم بالعباد. وهذا الوقت ـ وقت السّحر ـ هو وقت يجاب فيه الدعاء ، لقوله تعالى : (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) [آل عمران : ٣ / ١٧]. وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي والموطأ والإمام أحمد (أي الجماعة ما عدا النّسائي) عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ينزل ربّنا كل ليلة إذا كان الثلث الآخر ـ أي من الليل ـ إلى سماء الدنيا ، فيقول : من يدعوني فأستجيب له ، من يستغفرني فأغفر له؟». وروى ابن عباس ـ فيما أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ ـ عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أخّرهم يعقوب ، حتى تأتي ليلة الجمعة». والتوفيق بين الرّأيين : أنه أخّرهم لسحر ليلة الجمعة ، ووافق ذلك ليلة عاشوراء ، وهو رأي أكثر المفسّرين.

٢٠٣

اللقاء المبارك لأسرة يعقوب كلها

كانت قصة يوسف عليه‌السلام مع أبيه وإخوته من العجائب ، وتمت فصولها ومشاهدها على مدى طويل ، لتعليم الناس وإرشادهم إلى ضرورة التصديق أولا بأخبار الأنبياء الذين يخبرون عن الله بالوحي ، وإلى لزوم الاعتصام بالإيمان بالله عزوجل ، وبالصبر الجميل على الأحداث ، وإلى تفويض الأمر لله تعالى دون تعجيل بالثأر أو الانتقام أو اقتراف الخطأ والذنب ، كما حدث من إخوة يوسف. وأدّت فصول هذه القصة إلى الهدف المرجى ، وهو لقاء الأسرة اليعقوبية لقاء كريما مباركا فيه ، وذلك في المرة الرابعة من رحلات أولاد يعقوب إلى مصر ، وتم في هذا اللقاء تأويل رؤيا يوسف من قبل بسجود أحد عشر كوكبا له ، وهم أهله وإخوته ، قال الله تعالى موضحا هذا التأويل وذلك اللقاء العظيم :

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠)) (١) (٢) (٣) [يوسف : ١٢ / ٩٩ ـ ١٠٠].

بعد أن طلب يوسف عليه‌السلام من إخوته أن يأتوه بأهله أجمعين ، فرحلوا من بلاد كنعان ـ فلسطين ـ إلى مصر ، للإقامة معه فيها ، فحضر يعقوب أبوه وخالته وإخوته وأسرهم ، فلما أخبر يوسف عليه‌السلام باقترابهم من أرض مصر ، خرج لتلقّيهم ومعه الأمراء وأكابر الناس ، فلما دخلوا على يوسف في أبهة الملك

__________________

(١) ضمهما إليه.

(٢) البادية.

(٣) حرّش وأغرى.

٢٠٤

والسلطان ، ضمّ إليه أبويه وعانقهما ، على ما رجح ابن جرير ، أو أباه وخالته ؛ لأن أمه كانت قد ماتت ، فتزوج يعقوب بهذه الخالة.

وقال يوسف لأسرته جميعا : (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) أي تمكّنوا واسكنوا واستقرّوا في بلاد مصر ، بمشيئة الله ، آمنين على أنفسكم وأموالكم وأهليكم ، لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.

ورفع يوسف أبويه على سرير ملكه ، بأن أجلسهما معه ، تكريما لهما ، وسجد له الإخوة الأحد عشر والأبوان سجود تحية وإكرام له ، لا سجود عبادة وتقديس ، وكان سجود الانحناء هو تحية الملوك والعظماء في زمنهم.

وبعد هذه التحية قال يوسف : (يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) أي إن هذا السجود هو تأويل رؤياي القديمة حال صغري ، وهي : (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) [يوسف : ١٢ / ٤]. وتأويل رؤياي : ما آل إليه الأمر.

إن تلك الرؤيا العجيبة الغريبة ، أصبحت حقيقة واقعة ، وصحيحة صدقا ؛ فإن رؤيا الأنبياء حقّ ثابت ، فكما أن رؤيا إبراهيم ذبح ولده إسماعيل ، صارت سببا لوجوب ذلك الذبح عليه في اليقظة والواقع ، فكذلك صارت هذه الرؤيا ليوسف سببا لوجوب ذلك السجود : سجود التّحية.

وأضاف يوسف قائلا : وقد أحسن الله تعالى إلي وأفاض علي من نعمه وأفضاله ، وعبّر بقوله : (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) أي أوقع وناط إحسانه بي ، إذ أطلق سراحي من السجن ، ورزقني الملك ، وجاء بكم من البادية ، وكانوا أهل بادية وماشية وشظف عيش ، فنقلكم من الشقاوة إلى النعمة ، ومن البادية لسكون الحاضرة والمدينة ذات الترف والسعة والرفاه.

ولم يذكر يوسف قصة إخراجه من البئر ، تكريما لإخوته ، وحفظا لحيائهم ،

٢٠٥

وحدث كل هذا من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي ، أي فعل فعلا أفسد به ، وأغوى وأساء العلاقة بيني وبين إخوتي ، ونسب النّزغ للشيطان ؛ لأنه سبب الإفساد. وإنما ذكر يوسف هذا القدر من أمر إخوته ليبيّن حسن موقع النّعم ؛ لأن النعمة إذا جاءت إثر شدة وبلاء ، فهي أحسن موقعا. وأما نزغ الشيطان فهو حقيقة واقعة لقول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما يرويه البخاري عن أبي هريرة ـ : «لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح ، فإنه لا يدري ، لعل الشيطان ينزع في يده ، فيقع في حفرة من النار».

والمعنى : يرمي به في يده ويحقق ضربته. ومن رواه «ينزغ» فمعناه الإغراء ، أي يزيّن له الشيطان تحقيق الضربة.

ثم قال يوسف : (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) أي إن الله إذا أراد أمرا ، قيّض له أسبابا ، وقدّره ويسّره ، إنه هو العليم بمصالح عباده ، الحكيم في أقواله وأفعاله ، وقضائه وقدره ، وما يختاره ويريده.

نهاية قصة يوسف والعبرة منها

تضمنت قصة يوسف عليه‌السلام مجموعة من المبادئ الاعتقادية والأخلاقية والدينية ، كوّنت همزة وصل وجسور التقاء بين رسالة يوسف ورسالة النّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أساسها شكر النعمة لخالق الأرض والسماء ، ومبناها الإيمان بالغيب ، وفيها براهين لإثبات وجود الله تعالى وتوحيده تقوم على أساس التّفكر والتأمل في آيات الله الكونية ، وتتضمن وصف أكثر الناس بعدم الإيمان ، وتهديدهم بإتيان العذاب أو مجيء القيامة ، مما يجعل دعوة خاتم الأنبياء تقوم على هذه الأسس القديمة القويمة ، وعلى الإقناع والعقل والتبصّر في الأمور ، وإثبات توحيد الله ، ورفض الشّرك والوثنية. وصف الله تعالى هذه الجسور بين رسالات الأنبياء بقوله تعالى :

٢٠٦

(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) [يوسف : ١٢ / ١٠١ ـ ١٠٨].

ختمت قصة يوسف بخاتمة مؤثرة تصلح عبرة للملوك والحكام ، حيث جمع الله ليوسف بين الملك والسلطة ، والنّبوة ، وأنعم عليه بنعم كثيرة نقلته من السجن والبئر إلى عزّة الإدارة والحكم والسلطة في مصر ، فبادر إلى شكر ربّه ، بهذا الدعاء الجامع الذي سأل الله فيه أن يجزل له ثواب الآخرة كما أجزل له العطاء في الدنيا. فقال : يا ربّ ، قد آتيتني ملك مصر ، وعلّمتني بعض التأويلات للأحاديث وتعبير الرّؤيا ، ومعرفة أسرار كلامك. يا ربّ يا فاطر السماوات والأرض (أي خالقهما ومبدعهما في أبدع نظام وأحكم ترتيب) أنت ناصري ومتولّي أمري في الدنيا والآخرة ، توفّني مسلما خاضعا لك منقادا لأمرك ، وألحقني بالصالحين من آبائي : إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ، فأنت الرحيم الكريم ، القادر على كل شيء.

ذلك الإيراد لقصة يوسف عليه‌السلام وأخباره من أخبار الغيب التي أوحاها الله لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يكن موجودا في وقت أحداثها ، ولا مشاهدا لها ، حين عزم

__________________

(١) يا مبدع.

(٢) عزموا على الكيد ليوسف.

(٣) كم من آية أي كثير.

(٤) أي نقمة تغشاهم أو عقوبة تحيط بهم.

(٥) فجأة.

٢٠٧

إخوة يوسف على إلقائه في البئر ، وهم يمكرون به ، أي يدبّرون شيئا به وبأبيه ، وإنما ذلك من تعليم الله تعالى له.

علما بأنه ليس أكثر الناس بمصدّقين بدعوتك ورسالتك يا محمد ، ولو كنت حريصا على إيمانهم ، لتصميمهم على الكفر وعنادهم. وما تسأل منكري نبوّتك يا محمد على تبليغ الرسالة ونصحهم ودعوتهم إلى الخير والرّشد أجرا ولا عوضا ، وإنما تفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله وإفادة خلقه ، فما عليهم بعد هذا البيان إلا قبول دعوتك ، فإن هذا القرآن الذي أرسلك به ربّك هو محض تذكير وموعظة لكل العالمين من الجنّ والإنس.

والسبب في أن أكثر الناس ليسوا بمؤمنين : أنهم في غفلة عن التفكّر في الآيات الكونية والدلائل الدّالة على وجود الله الصانع وتوحيده ، وكمال علمه وقدرته ، في أنحاء السماوات والأرض من الكواكب والنجوم ، والجبال والسهول ، والبحار والنباتات والأشجار ، والأحياء والأموات ، يمرون على تلك الآيات والدلائل ويشاهدها أكثرهم ، وهم غافلون عنها ، لا يتفكرون بما فيها من عبر وعظات ، وكلها تشهد بوجود الله ووحدانيته.

وما يكاد يؤمن أو يصدّق أكثر المشركين بوجود الله إلا وهم ملازمون للشّرك ، عاكفون على عبادة الأصنام والأوثان. هذه الآية نزلت بسبب قول قريش في الطّواف والتّلبية : لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك ، تملكه وما ملك. فأنذرهم الله بقوله : أفأمن هؤلاء المشركون بالله أن تأتيهم عقوبة تغشاهم وتشملهم ، أو يأتيهم يوم القيامة فجأة ، وهم لا يحسّون أو لا يشعرون بذلك. وهذا كما في آية أخرى فيها إنذار وتوبيخ وتهديد : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ

٢٠٨

أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩)) [الأعراف : ٧ / ٩٧ ـ ٩٩].

ثم أمر الله نبيّه أن يعلن مضمون دعوته للثّقلين : الإنس والجنّ بأن طريقته التي يتّبعها ، ودعوته إلى توحيد الله ، يدعو فيها هو أتباعه على تبصّر ويقين ، وتأمّل وإقناع ، وبرهان ساطع وحجة دامغة ، وسبحان الله ، أي أنزّه الله وأقدّسه من أن يكون له شريك أو نظير ، وأنا بريء من جميع المشركين على اختلاف أنواعهم. والخلاصة : إن آية (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) إشارة إلى دعوة الإسلام والشريعة الإلهية بأسرها.

العبرة من القصة القرآنية

يتذرّع أعداء الرّسالات الإلهية بذرائع واهية وشبهات قديمة من أجل تسويغ ضلالهم وكفرهم ، والتماس العذر لسلوكهم ومنهاجهم ، ومن شبهاتهم إنكارهم بشرية الرّسل ، وأن الرسول في زعمهم ينبغي أن يكون ملكا نورانيّا ، كما حكى القرآن عنهم : (لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) [فصّلت : ٤١ / ١٤]. ونسوا ما يرون في الكون من آيات دالّة على صدق الرّسل ، وثبوت الوحي الإلهي لهم. فإذا ما أصرّوا على كفرهم جاءهم العذاب الشامل. وعلى الناس أن يدركوا أن في إيراد القصص القرآنية عبرة وعظة لذوي العقول ، وليس حديثا مفترىّ أو مكذوبا. وهذا ما أبانته الآيات التالية :

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ

٢٠٩

(١٠٩) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) [يوسف : ١٢ / ١٠٩ ـ ١١١].

الآية الأولى : (.. إِلَّا رِجالاً ...) تتضمن الرّد على مستغربي إرسال الرّسل من البشر ، كالطائفة التي قالت : (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ١٧ / ٩٤] ، وكالطائفة التي اقترحت ملكا وغيرهما. والمعنى : وما أرسلنا يا محمد من قبلك رسلا إلا رجالا ، لا ملائكة ولا إناثا ، فهم من العنصر البشري القوي الكامل ، وكانوا من أهل المدن مدنيّين ، لا أعرابا من البوادي ، وكنا ننزل عليهم الوحي والتشريع. وهذا يدلّ على أن الرّسل من البشر ، لا من الملائكة ، ومن أهل المدن المتحضّرين لا من البدائيين ، ومن الذّكور الرجال ، لا من النّساء ، فلم تكن امرأة قطّ نبيّا ولا رسولا ، ولم يبعث الله رسولا من أهل البادية ، لأن فيهم عادة الجهل والجفاء ، ولتتبعهم المدن الأخرى ، ولأن أهل المدن أرقّ طبعا وأكثر خبرة وتلطّفا من أهل البوادي.

ثم هدّد الله المشركين على تكذيبهم بالرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أفلم يسر هؤلاء المكذّبون لك يا محمد في الأرض ، فينظروا ويروا كيف كان مصير الأمم المكذّبة للرّسل ، كيف دمّر الله عليهم ، كقوم نوح وهود وصالح ولوط عليهم‌السلام ، وللكافرين أمثال تلك الألوان من العذاب ، فإن عاقبة الكافرين الهلاك ، وعاقبة المؤمنين النّجاة. ثم حضّ الله تعالى على العمل للدار الآخرة والاستعداد لها ، فهي خير للذين خافوا لقاء الله ، فلم يشركوا به ولم يعصوه ، فهي أفضل من دار الدنيا لأولئك المشركين المكذّبين

__________________

(١) يئسوا من النّصر.

(٢) توهّم الرّسل.

(٣) كذبهم رجاؤهم النّصر في الدنيا.

(٤) عذابنا.

(٥) عظة.

(٦) يختلق.

٢١٠

بالرّسل ، أجهلتم أيها الناس الضّالّون المكذّبون بالآخرة ، فلا تعقلون مصائركم ، فإنكم لو عقلتم ذلك ، لآمنتم واستقمتم.

ثم بشّر الله نبيّه بالنّصر بإخباره بسنّة إلهية دائمة : وهي مجيء النصر الإلهي للرّسل عليهم‌السلام ، عند اشتداد الأزمة وانتظار الفرج الرّباني ، وتيقن الرّسل أن المشركين كذبوهم تكذيبا لا إيمان بعده ، وصمموا على ذلك ، وألا انحراف عنه ، وتكون العاقبة هي الإتيان بنصر الله فجأة ، فينجّي الله من يشاء ، وهم النّبي والمؤمنون معه ، ويحلّ العقاب بالمكذّبين الكافرين ، ولا يردّ بأس الله ، أي لا يمنع عقاب الله وبطشه عن القوم الذين أجرموا ، فكفروا بالله ، وكذّبوا رسله. وهذا تهديد ووعيد لكفار قريش وأمثالهم ، لإعراضهم عن الإيمان بالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبدعوته ، وبما أنزل الله من القرآن المجيد ؛ لأن في قوله تعالى : (وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا) أي عذابنا وعيدا بيّنا ، وتهديدا صريحا لمعاصري محمد عليه الصّلاة والسّلام.

ثم أبان الله تعالى الهدف العام من قصص القرآن الكريم ، فلقد كان في سرد أخبار الأنبياء المرسلين مع أقوامهم ، وإنجاء المؤمنين ، وإهلاك الكافرين عبرة وعظة وذكرى لأولي العقول السّوية ، والأفكار الصحيحة ، ولم يكن هذا القرآن المبين لقصة يوسف وغيرها حديثا مختلقا مكذوبا من دون الله ؛ لأنه كلام أعجز البلغاء والفصحاء ، وإنما هو كلام الله من طريق الوحي والتّنزيل ، لتصديق ما تقدمه من الكتب السماوية في صورتها الأولى الصحيحة ، كالتّوراة والإنجيل والزّبور ، أي تصديق ما جاء فيها من عند الله من الصحيح والحق ، ونفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير ، فالقرآن مصدق أصولها الصحيحة ، وهو أيضا مهيمن عليها ، وحارس لها. وفي القرآن أيضا تفصيل كل شيء من العقائد والأحكام والحلال والحرام ، والمحبوب والمكروه ، والأمر والنّهي ، والوعد والوعيد ، وهو أيضا هدى وإرشاد للعالمين إلى طريق الحق والاستقامة ، وهو كذلك رحمة عامّة من الله ربّ العالمين للمؤمنين في الدنيا والآخرة.

٢١١

تفسير سورة الرّعد

أدلّة قدرة الله تعالى

تعدّدت البراهين الدّالة على قدرة الله تعالى من إنزال القرآن المجيد ، وإبداع السماوات والأرض ، وتدبير الخلق ، وتسخير الشمس والقمر ، وإيجاد أنواع الجبال والأشجار والزروع والثمار وكروم العنب وبساتين النّخيل ذات الطعوم والألوان المختلفة. وهذه أدلّة حسّية مشاهدة تثبت القدرة الإلهية لمن كان له عقل أو فكر أو سمع أو بصر ، أشار إليها القرآن في آيات ومناسبات متعددة ، كما في مطلع سورة الرّعد المدنيّة :

(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١) اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) (٧) [الرّعد : ١٣ / ١ ـ ٤].

__________________

(١) بغير دعائم.

(٢) بسطها في مرأى العين.

(٣) جبالا ثوابت.

(٤) نوعين.

(٥) يغطي الليل ضوء النهار.

(٦) أي نخلات من أصل واحد ، أو من أصول مختلفة ، متماثلات وغير متماثلات.

(٧) الثّمر والحبّ.

٢١٢

افتتحت هذه السورة كسورة البقرة بأحرف هجائية للتّنبيه والتّحدي والدّلالة على إعجاز القرآن المتكوّن من حروف هجائية هي مادّة لغة العرب التي يتفاخرون أنهم سادة البيان فيها. وآيات هذه السورة وآيات القرآن كلها آيات عظام القدر والشّأن ، أنزلها الله تعالى على قلب نبيّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي حقّ لا شكّ فيه ، تمثّل جميع الشريعة القرآنية ، ولكن أكثر الناس لا يصدّقون بالمنزل إليك من ربّك ، ولا يقدرون ما في القرآن من سمو التشريع والأحكام ، ورعاية المصالح المناسبة لكل عصر وزمان. وهذا إخبار واقعي عن علم إلهي غيبي دالّ على إعجاز القرآن ، ينبئ عن أحوال الناس. وإنزال القرآن مظهر من مظاهر القدرة الإلهية.

ومن مظاهر قدرة الله تعالى وعظيم سلطانه : أنه سبحانه هو الذي خلق السماوات بغير أعمدة نشاهدها بالعين المجردة ، ثم استوى الله على أعظم المخلوقات وهو العرش استواء يليق به ، وسخّر أي ذلّل الشمس والقمر ، وجعلهما طائعين لما أريد منهما من المنافع للناس ، من دوران وضياء ، وظهور واختفاء ، وكل منهما كغيرهما من الكواكب السّيارة يجري لأجل مسمى ، أي لمدة معينة ، هي نهاية الدنيا ومجيء القيامة ، أو أن الشمس تتم دورتها في خلال سنة ، والقمر في أثناء الشهر ، قال الله تعالى : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [الحجّ : ٢٢ / ٦٥].

يدبّر الله أمر الكون ويصرّفه على وفق إرادته ومقتضى حكمته ، فيحيي ويميت ، ويعزّ ويذلّ ، ويغني ويفقر ، ويهيّئ الأسباب للنتائج والمسبّبات ، يفصّل الآيات ، أي يبيّن الدلائل الدّالة على وجوده تعالى ، ووحدانيته ، وقدرته ، وحكمته وعلمه ورحمته ، رجاء أن تتيقّنوا أيها الناس ، أو لتعلموا علم اليقين أن القرآن حقّ ، وأن الله قادر على البعث والإعادة ، والحساب والجزاء يوم القيامة. فالذي قدر على خلق السماوات والأرض وما بينهما ، ودبّر نظام الكون والحياة وشؤون الخلق بدقّة

٢١٣

فائقة ، قادر على إحياء الموتى ، وإعادة الأرواح إلى أجسادها مرة أخرى ، وحساب أصحابها.

والله تعالى أيضا هو الذي بسط الأرض وفرشها ومهّدها ، وجعل فيها رواسي ، أي جبالا شامخة ، وأجرى فيها الأنهار والجداول والعيون ، لسقاية ما فيها من الثمرات المختلفة الألوان والأشكال ، والطعوم والرّوائح. وجعل في كل صنف من أصناف الثمار زوجين اثنين ، أي ذكرا وأنثى ، ليتم التّلاقح وحمل الثمرات ، يغطّي الله ضوء النهار بظلمة الليل ، ويطرد ظلام الليل بنور النهار ، كما في آية أخرى : (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١)) [النّبأ : ٧٨ / ٩ ـ ١١] ، إن في مخلوقات الله ، وعجائب خلقه لدلائل وبراهين لمن يتفكّر فيها ، ويتأمّل في عظمتها ، فيستدلّ بها على وجود الله تعالى ، وقدرته ، وكمال علمه وإرادته.

ومن الآيات الأرضية أجزاء فيها يجاور بعضها بعضا ، ويقترب بعضها من بعض ، تربتها واحدة ، وماؤها واحد ، وهي مع تجاورها مختلفة متغايرة الخواص ، فيها بساتين الأعناب ، والزروع المختلفة ذات الحبوب المتنوعة للإنسان والحيوان ، وفيها أنواع النّخيل المتماثلات وغير المتماثلات (صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ) يسقى كله بماء واحد ، ويتغذى بغذاء واحد ، ويتفاضل بعضها على بعض في الأشكال والطّعوم ومذاق الأكل ، إن في هذا التّفاوت مع وجود مصادر التّشابه لأدلّة باهرة على قدرة الله ، لقوم يتدبّرون ويفكّرون فيها ويعقلون أنّ لها خالقا أوجدها ورتّبها. والتّفضيل في الأكل يشمل الأذواق والألوان والملمس وغير ذلك.

٢١٤

إنكار البعث

من المشكلات الكبرى عند الماديين والملحدين والمشركين إنكار وجود عالم آخر بعد عالم الدنيا ، لظنهم أن الإنسان مخلوق مادي بالطبيعة ، وينتهي وجوده من العالم بالموت ، والموت فناء لا رجعة بعده في زعمهم ، قائلين كما حكى القرآن عنهم : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧)) [المؤمنون : ٢٣ / ٣٧].

ونسوا أن الله الذي خلقهم أول مرة قادر على إعادة خلقهم وإحيائهم مرة أخرى ، كما جاء في قول الله سبحانه : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) [الأحقاف : ٤٦ / ٣٣].

وتعددت ألوان التقريع والتهديد بالعذاب والاستغراب في آي القرآن من مواقف هؤلاء المنكرين ليوم البعث ، كما جاء في الآيات التالية :

(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧)) (١) (٢) [الرّعد : ١٣ / ٥ ـ ٧].

المؤمن في هذا العالم مطمئن مستقر مرتاح ، والكافر قلق متردد يحس بالضيق ويشعر بالمرارة والتأنيب الداخلي ، فلا عجب أن يصدر من الكفار حماقات ومكابرات وألوان من العناد ، فتراهم كما تصور هذه الآيات ، بالإضافة لإنكارهم البعث والقيامة ، يستعجلون العذاب والانتقام في الدنيا ، ويطالبون بآيات تعجيزية.

__________________

(١) القيود أو أطواق الحديد.

(٢) أي عقوبات أمثالهم من المكذبين.

٢١٥

لذا بدئت هذه الآيات بأنه إن تعجب أيها الرسول النبي من تكذيب المشركين لك ، وعبادتهم مالا يضر ومالا ينفع من الأصنام ، مع ما يشاهدونه في واقعهم من آيات الله الكونية الدالة على قدرته التي لا حدود لها ، فالأدعى للعجب والأغرب تكذيبهم بالبعث والقيامة ، وقولهم : هل تمكن الإعادة بعد الفناء ، أو التفتت ترابا؟ وهل يمكن أن نعود لخلق جديد؟! فحكم الله تعالى عليهم بأحكام ثلاثة لا نجدها في غير هذه الآيات :

الحكم الأول : أنهم أولئك الكافرون الذين جحدوا بربهم وكذبوا رسله ، وتمادوا في عنادهم وضلالهم ، لأن إنكار قدرة الله تعالى إنكار لوجوده ووحدانيته.

والحكم الثاني : وصف لأحوال عذابهم ، فهم أولئك المقيدون بالسلاسل والأغلال ، يسحبون بها سحبا في غاية القهر والذل والمهانة.

والحكم الثالث : زجهم في نار جهنم ، أولئك هم أصحاب النار خالدون فيها في الآخرة ، ملازمون لها ، يمكثون فيها على الدوام ، لا يحولون عنها ولا يزولون ، بسبب كفرهم ، وإنكارهم البعث وتكذيبهم الرسول.

ولم يقتصر إنكارهم على عذاب الآخرة ، وإنما تهكموا وأنكروا أيضا عذاب الدنيا ، فقال الله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) أي ويستعجلك هؤلاء المكذبون بالعقوبة في دار الدنيا ، وهذا غاية الحماقة والتحدي والإمعان في الكفر ، فهم يكذبونك أيها النبي بالعذاب الذي أنذرتهم به استهزاء ، قبل الحسنة من الإمهال أو الإيمان ، والسلامة والعافية من البلاء.

علما بأن هناك أمثلة واقعية يعرفونها ، فقد خلت من قبلهم المثلات ، وأوقعنا أنواع النقم ، وشدائد العقاب بالأمم الخالية ، وجعلناهم عبرة لمن اعتبر ، وعظة لمن اتعظ. وهذا تبيين لخطئهم في أن يتمنوا المصائب ، ويطلبوا إنزال أو إسقاط جزء من

٢١٦

السماء ، أو إرسال حجارة تمطر عليهم ، ولو كان ذلك لم يحدث قط ، لكان لهم العذر.

ثم فتح الله لهم باب الأمل ، ورجّاهم بقوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) أي إن الله تعالى صاحب عفو وصفح وستر للناس على ذنوبهم في الآخرة ، مع أنهم ظلموا أنفسهم ، وأخطئوا بالليل والنهار ، ولكن الله حليم رؤف بالناس ، فهو سبحانه يمهل مع ظلم الكفرة ، ويعفو عند التوبة ، وهو أيضا شديد العقاب للعصاة الذين أصروا على الكفر والعصيان. قال ابن المسيب : لما نزلت هذه الآية ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لولا عفو الله لما تمنى أحد عيشا ، ولولا عقابه لا تكل كل أحد». وقال ابن عباس : «وليس في القرآن أرجى من هذه الآية».

ثم ازداد إمعان المشركين في الكفر والعناد ، فطلبوا معجزات مادية على وفق هواهم ، وميولهم ، وقالوا : لولا يأتينا محمد بآية حسية من ربه ، كما أرسل الأولون ، مثل عصا موسى ، وناقة صالح ، ومائدة عيسى ، فيجعل لنا جبل الصفا ذهبا ، وأن يزيح عنا الجبال ، ويجعل مكانها مروجا وأنهارا. فرد الله عليهم متجاوزا مطالبهم ، بأن النبي مجرد منذر لقومه من العذاب ، وهاد للخير والسداد ، ولكل قوم داعية من الأنبياء ، يدعوهم إلى الله عزوجل وإلى الدين الحق ، وسبيل الخير والرشاد ، كما قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر : ٣٥ / ٢٤].

علم الغيب

هناك صفات تختصّ بالله عزوجل ، لا يعلم بها البشر ، ولا يقدرون على علمها ، بسبب كون عقولهم محدودة ، وأفكارهم قاصرة ، ومن أهم تلك الصفات التي تحدّى الله بها البشر ، وأثبت عجزهم وضعفهم : هو علم الغيب في المستقبل القريب أو

٢١٧

البعيد ، فالله سبحانه عالم الغيب (ما وراء الطبيعة) والشهادة (عالم المحسوسات المرئية والمسموعة) ليكون ذلك دليلا على ألوهية الله ووحدانيته ، دون شريك ولا منافس أو معارض أو شبيه ونظير ، قال الله تعالى مبيّنا بعض مظاهر علمه الغيبي :

(اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) (٧) (٨) [الرّعد : ١٣ / ٨ ـ ١١].

أبانت هذه الآيات تمام علم الله تعالى وعلمه بدقائق الأشياء وعظائمها ، فهو سبحانه يعلم ما في بطون الأجنّة من ذكورة وأنوثة ، ووحدة وتعدّد ، وأوصاف وخصائص ، وآجال لها ، وكل ما يطرأ على ما في الأرحام من بدء تخلّق الحمل ، وولادة ، وهو ما تغيض به الأرحام ، أي ما تنقصه في زمن أو جسم ، وما تزداد من نموّ الجنين ومدة مكثه في البطن ووقت ولادته ، وكل شيء يدخله التقدير ، عند الله تعالى ، بأجل معيّن ، وبمقدار محدد ، لا يزيد عنه ولا ينقص. وجمهور المتأوّلين على أن غيض الرحم إرسال الدّم على الحمل. وقال الضّحاك : غيض الرّحم : أن تسقط المرأة الولد ، والزيادة : أن تضعه لمدة كاملة ، تامّا في خلقه. ودلّ الإحصاء العلمي على أن الجنين لا يزيد بقاؤه في بطن أمه عن ٣٠٥ أو ٣٠٨ أيام.

والله سبحانه عالم الغيب ، أي ما غاب عن الإدراكات ، وعالم الشهادة : ما

__________________

(١) ما تنقصه.

(٢) بقدر لا يتعدّاه.

(٣) العظيم الأعظم.

(٤) المستعلي على كل شيء.

(٥) ظاهر ذاهب.

(٦) أي له تعالى ملائكة تتعاقب على حفظ الإنسان ورعايته وكتابة أقواله وأفعاله.

(٧) أي بأمر الله وتقديره.

(٨) ناصر أو ولي أمر.

٢١٨

شوهد من الأمور ، وهو الكبير الأكبر من كل شيء ، المتعال على كل شيء ، قد أحاط بكل شيء علما ، أي شمل علمه كل شيء ، وقهر كل شيء ، فخضعت له الرّقاب ، وذلّ له العباد طوعا وكرها.

والآية تشمل علم الله بالجزئيات والمفردات والدقائق ، وتشمل علم الله بمقادير الأشياء وحدودها ، وما يتخصص به كل شيء من أوصاف ، ويعلم أشياء خفية لا يعلمها إلا هو ، وهو ما غاب عن الحس ، وما حضر من المحسوسات.

والله تعالى عالم علما تامّا بأحوال جميع مخلوقاته ، سواء ما أسرّوه منها وأخفوه ، أو ما أعلنوه وأظهروه ، وما هو مختف في ظلام الليل في قعر البيت وجوانبه ، وما هو ظاهر ماش بسرعة في ضوء النهار ، فإن كلاهما في علم الله على السواء. فكل ما هو بالليل في غاية الاختفاء ، وما هو متصرّف بالنهار ، ذاهب لوجهته ، سواء في علم الله تعالى وإحاطته بهما.

ولله تعالى وسائل تخزين للمعلومات والمعارف وهم الملائكة الحفظة على العباد أعمالهم ، والحفظة لهم ، فمن حكمته ورحمته تعالى أن جعل للإنسان ملائكة حفظة ، يتعاقبون على حفظ الإنسان في الليل والنهار ، لحمايته وصونه من المضارّ والطوارئ الجسام ، وملائكة آخرون يتعقّبون أعمال العباد ويتّبعونها بالحفظ والتّدوين وكتابة كل ما يصدر عنهم من خير أو شرّ. فالمعقّبات : الجماعات التي يعقب بعضها بعضا ، وهم الملائكة. روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل ، وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ، ثم يعرج الذين باتوا فيكم ، فيسألهم ربّهم وهو أعلم بهم : كيف تركتم عبادي؟ فيقولون : تركناهم وهم يصلّون ، وأتيناهم وهم يصلّون».

ثم أوضح الله تعالى مبدءا إلهيّا عظيما : وهو أنه لا عقاب بدون جريمة ، فقال : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ...) أي إن الله لا يبدّل ما بقوم من

٢١٩

نعمة وعافية ، وراحة وسلامة ، فيزيلها عنهم إلا بتغيير ما بأنفسهم ، بأن يصدر منهم الظلم والعصيان والفساد وارتكاب الشرور والآثام.

وإذا أراد الله تعالى بقوم سوءا من فقر أو مرض أو احتلال وغير ذلك من أنواع البلاء ، فلا يستطيع أحد أن يدفع ذلك عنهم ، وما لهم من غير الله تعالى ناصر يلي أمورهم ، ويدفع عنهم الضّرر ، فلا أحد يجلب لهم النفع ، ويدفع عنهم الضّرّ. وهذا دليل واضح على أن الله قادر على كل شيء ، ومتمكّن من إيقاع العذاب بالناس في أي زمن ومكان ، فليس من الحكمة والمصلحة في شيء استعجال العذاب ، فلكل أجل كتاب ، ولكل عمل ميعاد. والشّر والخير بمنزلة واحدة ، إذا أرادهما الله بعبد لم يردّ ، وهذا تخويف وإنذار.

قدرة الله تعالى

أقام الله تعالى في قرآنه أدلّة واضحة قاطعة على قدرته وحكمته ، منها نعمة وإحسان أحيانا ، ومنها عذاب ونقمة وقهر أحيانا أخرى ، والتّردد بين الحالين : حال النعمة وحال النقمة دليل على الشمول والعموم ، لكل حال من الأحوال ، ليعرف العبد أن الله ربّ العالمين صاحب السلطان المطلق ، والإرادة النافذة التامّة في كل أمر من الأمور ، وفي كل شأن من الشؤون. والتذكير بهذا لفت نظر إلى أن الله تعالى لا يغيب وجوده وتأثيره عن أي شيء. قال الله تعالى مبيّنا هذا التّلازم بين الوجود الإلهي في جميع الأشياء وبين مختلف الأشياء :

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ

(١)

__________________

(١) المحملة بالماء.

٢٢٠