التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٢

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0522-5
الصفحات: ٣٩٢

ذكر الله تعالى في سورة هود سبع قصص للأنبياء : وهي قصة نوح ، وهود ، وصالح ، وإبراهيم ، ولوط ، وشعيب ، وموسى عليهم‌السلام ، ثم عقبها ببيان جلي لما فيها من العظة والعبرة. وهي دليل على صدق نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لإخباره عن تلك القصص الغائبة أو المجهولة ، من غير مطالعة كتاب ، ولا مدارسة مع معلم ، وهي معجزة عظيمة تثبت النّبوة ، كما قال تعالى : (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ...) [يوسف : ١٢ / ١١١].

ومعنى الآيات : ذلك النبأ المذكور عن العقوبات النازلة بالأمم المتقدمة ، ـ والأنباء : الأخبار ـ مقصوص عليك أيها النّبي ، لتخبر به الناس ، ويتلوه المؤمنون إلى يوم القيامة ، تبليغا عنك. ومن تلك القرى الظالمة المهلكة ماله أثر باق قائم كالزرع القائم على ساقه كقوم صالح ، ومنها ما اندرس وباد ، حتى لم يبق له أثر كالزرع المحصود ، مثل قرى قوم لوط.

هذا وصف لأوضاع تلك القرى ، وأعقبه بيان مبدأ العقاب الجوهري : أنه قائم على العدل وعدم الظلم ، فذكر الله تعالى أنه ما ظلمناهم بإهلاكهم من غير ذنب ، ولكن ظلموا أنفسهم بتكذيبهم الرسل وكفرهم بهم ، وشركهم وإفسادهم في الأرض ، وادّعائهم أن آلهتهم المزعومة تدفع عنهم المخاوف والمخاطر المستقبلية ، ولكنها في الواقع ما نفعتهم شيئا ، ولا دفعت عنهم بأس الله ، بل ضرّتهم أوثانهم التي كانوا يعبدونها ويدعونها من دون الله ، إنها لم تنقذهم من الهلاك. والمراد بقوله تعالى : (الَّتِي يَدْعُونَ) أي التي كانوا يعبدون من دون الله ، حينما جاء أمر ربك بالعذاب ، (وَما زادُوهُمْ) أي ما زادتهم عبادة الأصنام غير الوقوع في العنت والخسران والهلاك ؛ لأن سبب هلاكهم ودمارهم إنما كان باتّباعهم تلك الآلهة الباطلة ، فخسروا الدنيا والآخرة.

١٤١

ومثل ذلك الأخذ بالعذاب وإهلاك الأمم الظالمة المكذبة لرسل الله ، كذلك نفعل أي الإله بأشباههم ، فنأخذ القرى ونهلكها ، وهي في حالة الظلم الشديد ، إن أخذ ربّك وجيع شديد ، لا يرجى منه الخلاص ، وهو إنذار وتحذير من سوء عاقبة الظلم في الدين والانحراف عن مقتضى اليقين بالله تعالى. وقوله تعالى : (وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي إن أهل تلك البلدان ظالمون ، مثل قوله سبحانه : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ١٢ / ٨٢]. أي أهلها. ومعنى قوله سبحانه : (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) أي إن عقابه لأهل الشّرك موجع شديد الألم.

ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله ليملي للظالم ، حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ).

فالقرآن والسّنة النّبوية مجمعان دالان على أن الظلم المقترن بالشرك والكفر ، موجب للعقاب والعذاب في نار جهنم. وقد يمهل الله تعالى عقاب بعض الكفرة ، وأما الظلمة في الغالب فمعاجلون ، وإن أملى الله لبعضهم وأجّل عذابهم فهو لحكمة : وهي ترك الفرصة لهم أن يتوبوا ويصلحوا أحوالهم ، ويقلعوا عن ظلمهم وشركهم ، وذلك بمقتضى الرحمة الإلهية الشاملة ، وهو منهاج التربية الأقوم.

الاعتبار في قصص القرآن بعذاب الآخرة

الاعتبار والاتّعاظ في بيان قصص الأمم الظالمة السابقة وما حلّ بها مفيد في الدنيا ، ومفيد أيضا في تربية الإنسان واهتدائه للخوف من أمر الآخرة ، والترهيب من عصيان الله والكفر به ، لئلا يكون الإنسان من الأشقياء الذين يصلون النار. وفيه أيضا الترغيب بالإيمان بالله وطاعته ، ليكون المؤمن التّقي الطائع مع السعداء الذين

١٤٢

يتمتعون بالجنة. وهذه آيات تحدد بدقة موضع العبرة بالنسبة للآخرة وتبين مصير السعداء والأشقياء :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩)) (١) (٢) (٣) (٤) [هود : ١١ / ١٠٣ ـ ١٠٩].

معنى الآيات : إن في بيان قصص أمر أهل القرى الظالمة وما تعرضت له من عقاب لعبرة وعلامة اهتداء لمن خاف أمر الآخرة ، وتوقع أن يناله عذابها ، فنظر وتأمل. يعلم بعد نظره أن وعد الله صادق في مجيء الآخرة ، وأن ما أخبر به الأنبياء من البعث والجزاء حقّ مؤكد لا شك فيه. وأن من عذّب الظالمين في الدنيا قادر على أن يعذبهم في الآخرة. وأن ما أصاب المجرمين في الدنيا ما هو إلا شيء يسير بالنسبة لعذاب الآخرة.

ذلك اليوم يوم عذاب الآخرة يجمع فيه الناس جميعا ، أولهم عن آخرهم ، ليحاسبوا عن أعمالهم ، ثم يجازوا عليها ، وذلك يوم مشهود ، تحضره الخلائق جميعا ، من الإنس والجنّ والدّواب ، وتحضره الملائكة والرسل ، ويحكم فيه الملك العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة ، وإن تك حسنة يضاعفها.

__________________

(١) أي يشهده جميع الخلائق.

(٢) إخراج النفس من الصدر.

(٣) رد النفس إلى الصدر.

(٤) أي غير مقطوع عنهم.

١٤٣

وما تأخير يوم القيامة وما فيه من أهوال وعذاب إلا لمضي مدة محددة في علم الله تعالى ، لا زيادة عليها ولا نقص ، وهي عمر الدنيا ، لإعطاء الفرصة الكافية للناس لإصلاح أعمالهم ، وتصحيح عقيدتهم ، كما هو قانون الله وسنّته في صريح قرآنه : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨)) [الكهف : ١٨ / ٥٨].

ثم وصف الله المهابة يوم القيامة ، وذهاب العقل ، وهول القيامة ، وذلك في قوله سبحانه : يوم يأتي يوم القيامة لا يتكلم أحد إلا بإذن الله تعالى ، فهو صاحب الأمر والنهي المطلق ، ويكون أهل المحشر صنفين : شقي معذب لكفره وعصيانه ، وسعيد منعّم في الجنان لإيمانه واستقامته ، كما قال تعالى : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشّورى : ٤٢ / ٧]. فمن اختار الغواية والشّر فهو من أهل الشقاوة ، ومن أراد الهداية والخير ، فهو من أهل السعادة ، وكلّ ميسّر لما خلق له.

وأحوال الفريقين ما يلي : فأما الأشقياء فهم مستقرون في جهنم ، بسبب اعتقادهم الفاسد وعملهم السيّئ ، ولهم من الهمّ والكرب وضيق الصدر وشدة العذاب زفير تنفّسهم ، شهيق نفسهم ، على عكس المعتاد ، لما يعانون من العذاب. وهم ماكثون في النار على الدوام مدة بقاء السماوات والأرض ، وهذا مجرد تمثيل لإفادة التأبيد ونفي الانقطاع. والمراد بالاستثناء في قوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) بيان أن الخلود في النار بمشيئة الله تعالى ، لا يخرج فيها شيء عن إرادته ومشيئته. قال ابن جرير : من عادة العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبدا قالت : هذا دائم دوام السماوات والأرض ، وكذلك يقولون : هو باق ما اختلف الليل والنهار. أو أن الله يبدل السماء والأرض يوم القيامة ، ويتأبد ذلك.

إن ربّك يفعل ما يشاء ، على وفق علمه ومقتضى حكمته.

١٤٤

وأما أهل السعادة أتباع الرّسل ، فمأواهم الجنة ، ماكثين فيها أبدا ، مدة دوام السماء والأرض بمشيئة الله ، والمراد الأبدية ، ونعيمهم فيها عطاء غير منقطع ولا ممنوع ، ولكنه ممتد إلى غير نهاية : (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) [الانشقاق : ٨٤ / ٢٥]. ثم خاطب الله نبيّه ، والمعنى له ولأمّته ، موجّها إنذاره الدائم ، ومضمونه : فلا تكن يا محمد وكل سامع في شك في عاقبة ما يعبد المشركون وفي نهايتهم ، فكل ما يعبدون باطل وجهل وضلال ، وتقليد للأسلاف من غير وعي ، وعذابهم محقق لا شك فيه ، والله موفّيهم نصيبهم من العذاب غير منقوص منه شيء ، وهو العقوبة التي تقتضيها أعمالهم. وهذا وعيد وتهديد.

سبب الاختلاف في التوراة وطريق الاتّفاق

أراد الله تعالى التّسرية عن هموم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبب إعراض قومه عن دعوته ، من طريق إيراد سوابق تاريخية من سيرة الأنبياء عليهم‌السلام ، ومنها ما تعرّض له موسى عليه‌السلام من صدود وإعراض قومه عن دعوته ، فلا يعظم عليك أيها النّبي أمر من كذّبك ، فهذه هي سيرة الأمم ، فقد جاء موسى بكتاب ، فاختلف الناس عليه. ثم حدّد القرآن سبيل إنقاذ الأمة من طريق الاستقامة والعمل بأوامر الله تعالى ، فقال الله تعالى :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) (١) (٢)

__________________

(١) موقع في الرّيبة.

(٢) لا تجاوزوا الحدود.

١٤٥

وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣)) (١) [هود : ١١ / ١١٠ ـ ١١٣].

والمعنى : والله لقد آتينا موسى الكتاب الذي هو التوراة ، فاختلف فيه بنو إسرائيل من بعده ، ظلما وبغيا ، وتنازعا على الزعامة والمصالح المادية ، فآمن به قوم ، وكفر به آخرون. مع أن الكتاب الإلهي نزل لتوحيد الكلمة وجمع الناس على منهج واحد ، فلا تبال أيها النّبي محمد باختلاف قومك في القرآن ، فلك بمن سلف من الأنبياء قبلك أسوة ، فلا تحزن ولا تهتم لتكذيبهم.

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي لولا سبق القضاء والقدر بتأخير العذاب إلى أجل مسمى ، لقضي بينهم في الدنيا ، بإهلاك العصاة ، وإنجاء المؤمنين ، كما حدث لأم آخرين. وإن المكذّبين لفي شكّ موقع في الريبة والقلق ، سواء أكانوا من قوم موسى أم من قوم محمد عليهما الصّلاة والسّلام. والكلمة من ربك هنا : عبارة عن الحكم والقضاء. وقوله تعالى : (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي لفصل بين المؤمن والكافر بنعيم هذا وعذاب هذا.

وإن كلّا من المؤمنين والكافرين المختلفين في كتاب الله ، ليوفينّهم الله جزاء أعمالهم ، وما وعدوا به من خير أو شرّ ؛ لأنه خبير بتلك الأعمال كلها ، ولا يخفى عليه شيء منها. وهذا تهديد ووعيد لقوم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكل مكذب برسالته.

وبعد هذا التهديد والتقريع للمختلفين في توحيد الله والنّبوة ، أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويقصد بالخطاب الأمر بالدوام والثبات ، أمره بالاستقامة مثلما أمر بها غيره ، والاستقامة شاملة كل ما يتعلق بالعقيدة والعلم والعمل والأخلاق.

__________________

(١) لا تطمئنوا وتميلوا بالمحبة.

١٤٦

والمعنى : فالزم وثابر يا محمد ومن آمن معك على طريق الاستقامة في الاعتقاد والأعمال ، وتطبيق أوامر القرآن في العبادات والمعاملات ، وهي درجة تتطلب جهاد النفس ، والترفع عن الأهواء والشهوات. ولا يعني أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستقامة أنه لم يكن مستقيما ، وإنما كان على العكس في غاية الاستقامة ، وإنما المقصود كما ذكرت في هذا الموضوع : هو الدوام والاستمرار على ما هو عليه ، وذلك طريق النصر على الأعداء. وفي هذا دليل على وجوب اتّباع النصوص الشرعية من غير تصرّف ولا انحراف ، ولا تقليد وعمل برأي فاسد غير صحيح ، ومن حاد عن ذلك زاغ وأزاغ. والتزام جادة الاستقامة ليس بالأمر الهيّن ، وإنما يتطلب جهادا متواصلا.

روى الطبراني في الكبير في حديث صحيح عن عقبة بن عامر وأبي جحيفة : أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «شيّبتني هود وأخواتها» فقال له بعض العلماء : فما الذي شيّبك من هود؟ قال له : قوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ).

وبعد الأمر بالاستقامة ، نهى الله تعالى عن ضدّها وهو الطغيان ، وهو البغي وتجاوز حدود الله في قوله سبحانه : (وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي إن الطغيان مزلقة إلى الهلاك ، والله تعالى بصير بأعمال العباد ، لا يخفى عليه شيء ، فيجازي عليه. وهذا تحذير واضح من الانحراف والمخالفة.

ثم نبّه الله تعالى إلى خطر الميل مع الظالمين ، فقال : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي ولا تميلوا مع الظالمين بمودة أو مداهنة أو رضا بأعمالهم ، أو استعانة بهم ، أو اعتماد عليهم ، فتصيبكم النار بركونكم إليهم ، فذلك ظلم ، وليس لكم من غير الله أنصار أبدا ينفعونكم ، ويمنعون العذاب عنكم ، ثم لا ينصركم الله في حال الظلم ، لأن الله سبحانه لا يحب الظلم لأحد ، ولا ينصر الظالمين ، كما قال تعالى : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) [البقرة : ٢ / ٢٧٠]. وقال أيضا : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [الحج : ٢٢ / ٧١ ، فاطر : ٣٥ / ٣٧].

١٤٧

الأمر بالصلاة والصبر

الطريق لتقوية الإيمان والإرادة ، وامتثال أوامر الله وتكاليفه شيئان مهمّان ، يقرن القرآن بين الأمر بهما أحيانا ، وهما إقامة الصلاة ، والصبر في الحياة. أما الصلاة فهي معراج المؤمن ، وصلة الوصل بالله عزوجل ، والاستمتاع بالتوجّه نحو الذات العليّة في أوقات منتظمة. وأما الصبر فهو فولاذ الإرادة الحازمة ، وإعداد القوة اللازمة للتغلب على مصاعب الحياة ومتاعب الدنيا ، وبغير الصلاة لا تسعد النفس ، وبغير الصبر لا يكتب النجاح. لذا أمر القرآن الكريم بهما في مناسبات متعددة ، منها في سورة البقرة : [الآية ٢ / ١٥٣]. ومنها في سورة هود :

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥))(١) [هود : ١١ / ١١٤ ـ ١١٥].

سبب نزول هاتين الآيتين : ما رواه البخاري ومسلم وابن جرير عن ابن مسعود : أن رجلا أصاب من امرأة قبلة ، فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخبره ، فأنزل الله : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) فقال الرجل : إلي هذه؟ قال : لجميع أمتي كلهم. وتكررت روايات أخرى في معنى ذلك.

موضوع الآيتين الاستعانة بالصلاة والصبر. أما ما يتعلق بالصلاة فالآية الأولى في تحديد أوقاتها الخمسة ، ولا خلاف في أن المراد بها الصلوات المفروضة. والمعنى : أقم الصلاة أيها النبي وكل مؤمن تامة الأركان والشروط والأوصاف ، باعتبارها صلة بين العبد وربه ، مطهرة للنفس ، مرضاة لله ، مانعة عن الفحشاء والمنكر ، في جميع أجزاء اليوم. فقوله سبحانه : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) يشمل ثلاث صلوات :

__________________

(١) أجزاء منه قريبة من النهار.

١٤٨

وهي الصبح ، والظهر والعصر ، وقوله تعالى : (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) يشمل صلاتي المغرب والعشاء. فتكون الآية شاملة جميع أوقات الصلاة.

وتنوع فرضية الصلاة في الليل والنهار تعليم لضبط الوقت ، وربط المؤمن بالله تعالى في جميع أجزاء الوقت العامل المتحرك ، لا في حال السكون والنوم. وفائدة الصلاة بانت بعد تحديد الأوقات في قوله سبحانه : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) أي إن فعل الخيرات ومنها الصلوات الخمس تكفّر الذنوب السالفة الواقعة في جميع أجزاء النهار ، وتغسل آثار السيئات الصغائر ، كالنظر الحرام والقبلة والضرب باليد أو الرجل. والحسنات : جميع الأعمال الصالحة ، والسيئات : الذنوب الصغائر ، أما الكبائر فلا يكفّرها إلا الحد (العقوبة المقدرة) أو التوبة ؛ لقوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١)) [النساء : ٤ / ٣١].

ويؤكد مدلول الآية الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان مكفّرات ما بينهن ، إن اجتنبت الكبائر». قال جمهور أهل السنة في شرط : «إن اجتنبت الكبائر» هو شرط في معنى الوعد كله ، أي إن اجتنبت الكبائر ، كانت العبادات المذكورة كفارة للذنوب ، فإن لم تجتنب لم تكفّر العبادات شيئا من الصغائر. والأولى أن يقال : الشرط موضح أن الصلاة تسقط الذنوب الصغائر بشرط اجتناب الكبائر ، بدليل حديث خروج الخطايا مع قطر ماء الوضوء وغيره. ويعدّ الإصرار على الصغائر من الكبائر.

ثم قال الله تعالى : (ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) أي إن أداء الصلوات ، والنصح بفعل الحسنات ، والاستقامة على أمور الدين ، وعدم الركون إلى الظلمة عظة للمتعظين الذين يعقلون الأحداث ، ويخشون الله عزوجل.

١٤٩

والأمر الثاني هو الصبر ، ومعنى الآية : والزم الصبر على الطاعة ومشاقّها ، وعن المعصية ومغرياتها ، وابتعد عن المنكر والمحرّمات ، وفي حال الشدائد والمصائب ، فإن الله لا يهدر ثواب المحسنين أعمالا ، الصابرين على مراد الله وقدره. وهذا دليل على أن الصبر إحسان وفضيلة.

والصبر مطلوب في الصلاة وسائر الطاعات ، لقوله تعالى : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) [طه : ٢٠ / ١٣٢]. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أبو نعيم والبيهقي من حديث ضعيف : «الصبر نصف الإيمان ، واليقين : الإيمان كله». وجاءت هذه الآيات في أواخر سورة هود في نمط واحد ، أعلم الله نبيه أنه يوفي جميع الخلائق أعمالهم ، المسيء والمحسن ، ثم أمره بالاستقامة والمؤمنين معه ، ثم أمره بإقامة الصلوات ووعد على ذلك ، ثم أمره بالصبر على التبليغ والمكاره في ذات الله تبارك وتعالى ، ثم وعد بقوله : (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).

سبب هلاك الأمم السابقة

لا ظلم ولا جور في حكم الله تعالى على الإطلاق ، وإنما العدل الذي تطوقه الرحمة أساس القضاء في شرع الله ، وذلك لأن الله غني عن العالمين ، ولا مصلحة له مع أحد ، وهو ربّ العباد جميعا ، ولا يخشى أحدا من الخلائق حتى يحابيه على حساب غيره ، ولا حاجة له لبشر أبدا حتى يتقرب إليه في حكمه ، وإنما خير القضاء وعدل الحكم يرجع إلى العباد أنفسهم. وقد ذكر الله سبحانه سبب إيقاع عذاب الاستئصال وهلاك الأمم السابقة ، وهو أمران :

الأول ـ أنه لم يكن فيهم قوم ينهون عن الفساد في الأرض.

والثاني ـ أن الظالمين اتّبعوا طلب الشهوات واللذات ، واشتغلوا بتحصيل

١٥٠

الرياسات والزعامات. والظالمون : هم متقرفو المنكر ، تاركو المعروف. قال الله تعالى مبيّنا هذين السببين :

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩)) (١) (٢) (٣) (٤) [هود : ١١ / ١١٦ ـ ١١٩].

حضّ الله بكلمة (فَلَوْ لا) التي هي للتحضيض والحثّ على الفعل على وجود جماعة من الأقوام والجماعات الماضية التي أهلكها الله بسبب ظلمها ، يتصفون برجاحة العقل والرأي ، والبصيرة والخير ، والحزم والثبات في الدين ، ينهون أقوامهم عما كان يقع منهم من فساد في الأرض ، وهو الكفر وما اقترن به من المعاصي. والآية تنبيه لأمة محمد وحضّ على تغيير المنكر ، والنّهي عن الفساد.

ثم استثنى الله تعالى القوم الذين نجاهم مع أنبيائهم ، وهم قليل بالإضافة إلى جماعاتهم ، أي لكن قد وجد قليل من المصلحين ، نهوا عن الفساد في الأرض. وهذا كما يقول اللغويون : استثناء منقطع.

والأكثرية هم الظالمون الذين اتّبعوا أنفسهم وشهواتهم ، وما أترفوا فيه من نعيم وعزة وسلطان. والمترف : الذي أبطرته النعمة وسعة العيش. والذين ظلموا : هم تاركو النهي عن المنكر. واتّباعهم التّرف : اشتغالهم بالشهوات والمال واللذات

__________________

(١) القرون هنا الجماعة المقترنون في زمان طويل أكثره مائة سنة.

(٢) أصحاب خير وعقل.

(٣) ما أنعموا فيه من الخصب.

(٤) وجبت.

١٥١

والرياسات ، واستمرارهم على ما هم عليه من المعاصي والمنكرات ، وعدم التفاتهم إلى إنكار المصلحين منهم والناصحين لهم.

والحال أنهم كانوا مجرمين ، أي ظالمين ، فالله تعالى لم يهلك قرية إلا وهي ظالمة لنفسها ، كما قال تعالى : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [هود : ١١ / ١٠١]. وفي الآية إشارة إلى أن الترف مدعاة إلى الإسراف ، والإسراف يفضي إلى الفسوق والعصيان ، والظلم والانحراف.

ثم أوضح الله تعالى قانونه العام وسنته في البشرية بقوله : (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧)) أي ليس من شأن الله تعالى أن يهلك أهل القرى ظالما لها ، وأهلها قوم مصلحون ، تنزيها لله تعالى عن الظلم ، وإعلاما بأن إهلاك المصلحين من الظلم. والمراد أن الله تعالى لا ينزل عذاب الاستئصال على مجرد كون القوم مشركين أو كافرين ، بل إنما ينزل العذاب إذا أساؤوا في المعاملات ، وسعوا في الإيذاء والظلم ، كما فعل قوم شعيب في مدين ، وقوم هود في الأحقاف شمال حضرموت ، وقوم فرعون في مصر ، وقوم لوط في ديار سدوم في الأردن ، وقوم صالح في الحجر بين الحجاز والشام. ويؤيد ذلك أن الأمم تبقى مع الكفر ، ولا تبقى مع الظلم.

وهناك قانون إلهي عام آخر وهو أن الله تعالى قادر على جعل الناس على ملة واحدة من الإيمان أو الكفر ، ولكنه سبحانه ترك لهم الاختيار الذي هو أساس التكليف ، فاختار بعضهم الحق ، وبعضهم الباطل ، فوقع الانقسام والاختلاف بينهم ، وظلموا مختلفين متنازعين في الدين والاعتقاد والمذهب والرأي بسبب من أنفسهم ، إلا من رحم ربّك ، أي إلا أناسا هداهم الله ولطف بهم وهم أتباع الرسل ، فاتفقوا على دين الحق ، غير مختلفين فيه.

١٥٢

ولذلك المذكور من تمكين الناس من ممارسة حرياتهم ، والاختيار الذي كان عنه الاختلاف ، خلقهم ، ليثيب مختار الحق بحسن اختياره ، ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره كما قال الزمخشري في الكشاف. وذكر أهل السّنة أن اللام في قوله تعالى : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) ليست لام التعليل ، فليس الاختلاف والرحمة علة الخلق ، وإنما هي لام الصيرورة ، أي خلقهم ليصير أمرهم إلى الاختلاف ، وإن لم يقصد بهم الاختلاف ، فهذا تعبير عن ثمرة الأمر ومقتضاه.

وسبق في قضاء الله وقدره لعلمه التّام وحكمته النافذة أن ممن خلقه من يستحق الجنة ، ومنهم من يستحق النار ، وأنه لا بد من أن يملأ جهنم من الجنّ والإنس أجمعين ، وهم الذين تمردوا وعصوا أوامر الله ، ولم يهتدوا بما أرسل الله به الرسل من الآيات والأحكام.

فائدة القصة القرآنية للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

بعد أن أخبر الله تعالى في سورة هود بقصص الأنبياء السابقين مع أقوامهم ، ذكر فائدة تلك القصص بالنسبة للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحصرها في فائدتين :

الأولى ـ تثبيت الفؤاد على أداء الرسالة وعلى الصبر واحتمال الأذى.

والثانية ـ بيان ما هو حق وعظة وذكرى للمؤمنين.

ثم ختم الله تعالى السورة بما بدأها به وهو الأمر بالعبادة والتوكل على الله ، وعدم المبالاة بعداوة المشركين.

وهذه هي الآيات المبينة لهذه الأهداف :

(وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ

١٥٣

وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣)) (١) [هود : ١١ / ١٢٠ ـ ١٢٣].

والمعنى : وكلّا من السورة والآيات التي ذكر فيها قصص الأنبياء المتقدمين نقصّها عليك أيها النّبي بقصد تحقيق فائدتين :

الفائدة الأولى ـ ما به يقوى الفؤاد على أداء الرسالة وعلى الصبر واحتمال الأذى ، لأن الأنبياء السابقين من قبلك تحملوا في جدال أقوامهم الأذى الكثير ، فصبروا على ما كذّبوا به ، فنصرهم الله ، وخذل أعداءهم الكافرين ، فلك بالمرسلين السابقين أسوة حسنة وقدوة تقتدي بها.

الفائدة الثانية ـ وتبيّن لك في هذه السورة وفي قصص الأنبياء ما هو الحق والصدق واليقين : وهو وحدانية الله وعبادته وحده ، وإثبات البعث ، وفضل التقوى والأخلاق الكريمة. كما أن في تلك الأنباء عظة وعبرة يرتدع بها الكافرون ، وذكرى يتذكر بها المؤمنون.

وخصّ الله هذه السورة ـ سورة هود بوصفها بالحق ـ والقرآن كله حق ـ لأن ذلك يتضمن الوعيد للكفرة والتنبيه للناظر ، لما فيها من أخبار الأنبياء ووصف الجنة والنار وبيان المستحق لكل منهما.

والحقّ : ما تضمنت سورة هود من وعيد الكفرة وبيان الأدلة الدّالة على التوحيد والعدل والنّبوة. والموعظة : التنفير من هيمنة الدنيا ومتاعها على النفس وإيثارها على الآخرة وسعادتها. والذكرى : الإرشاد إلى الأعمال الصالحة الباقية.

وبعد هذه التذكرة المشتملة على الترغيب والترهيب ، ذكر الله آية وعيد ، وهي :

__________________

(١) غاية تمكنكم من أمركم.

١٥٤

(وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ ..) الآية ، أي وقل أيها الرسول للكافرين الذين لا يؤمنون بما جئت به من ربّك ، على سبيل التهديد : اعملوا على حالاتكم وطريقتكم التي أنتم عليها من كفركم ، وافعلوا ما تريدون من إيقاع الشّرّ بي ، فنحن أيضا عاملون على طريقتنا ومنهجنا وهو الإيمان الصحيح والدعوة إلى الخير ، وهذه مقولة تشبه مقالة شعيب عليه‌السلام لقومه في مدين. وانتظروا بنا نهاية أمرنا ، إما بموت أو غيره مما تأملون ، إنا منتظرون عاقبة أمركم ، وما ينزل بكم من عقاب نزل بأمثالكم ، إما من عند الله بالاستئصال الشامل ، أو بأيدي المؤمنين بالحروب والمعارك. وانتظار مصير الفريقين له شبيه بقوله تعالى : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [الأنعام : ٦ / ١٣٥].

وألفاظ هذه الآية تصلح للموادعة ، وتصلح أن تقال على جهة الوعيد المحض والحرب قائمة.

ثم ختم الله تعالى سورة هود بآية تدلّ على انفراد الخالق بالعظمة وبما لا يمكن للبشر معرفته ، وهو علم الغيب ، وتبيين أن الخير والشّر وجليل الأشياء وحقيرها ، متعلّق بأحكام المالك الحقيقي : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) أي إن الله تعالى مختص بعلم الغيب في السماوات والأرض في كل زمان من الماضي والحاضر والمستقبل ، ومرجع جميع الخلائق والكائنات إلى الله تعالى ؛ لأنه مصدر الكل ومبدأ الكل ، وصاحب القدرة الشاملة ، والمشيئة النافذة.

وإذا كان الله هو المتّصف بما ذكر ، فاعبده وحده ومن معك من المؤمنين ، وفوّض أمرك كله لله ، وثق به تمام الثقة في كل شيء ، وليس بخفي على الله كل ما يعمل به المكذّبون والمصدقون ، وما عليه أحوالهم ، وما تصدر عنه أقوالهم ، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء في الدنيا والآخرة ، وسينصرك الله أيها النّبي على أعدائك ، ويكتب لرسالتك ودعوتك الخلود والفوز ، فلا تبال بهم.

١٥٥

تفسير سورة يوسف

الوحي القرآني

يظل الوحي القرآني الإلهي حجة الله تعالى على خلقه ، ومنار السبيل إلى عباده ، وطريق الإنقاذ من الضلالة والرّدى إلى الهداية والحياة السوية ، وتميز هذا الوحي بالبيان العربي الواضح المشرق ، وبالثروة المعرفية الخصبة التي تزداد نموّا واتّساعا كلما تقدم العلم والمدنية ، وكلما ازداد التأمل والتفكر في عظمة البيان الإلهي واتّساعه وشموله ، وخلوده مع ممرّ الزمان ، وإعرابه وإفصاحه عن أسرار الكون والإنسان والحياة. ولقد تبدلت حياة الأمة العربية تبدّلا جذريّا وشاملا بالهدي القرآني والبيان الرّباني الرفيع ، فقال الله تعالى مبيّنا خواص هذا التبدل السريع في مطلع سورة يوسف المكية على المعتمد :

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣)) (١) [يوسف : ١٢ / ١ ـ ٣].

روى ابن جرير عن ابن مسعود : أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ملّوا ملّة ، فقالوا : لو قصصت علينا يا رسول الله ، فنزلت هذه الآية : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ

__________________

(١) نخبارك ونبين لك.

١٥٦

بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) ثم ملّوا ملّة أخرى ، فقالوا : لو حدثتنا يا رسول الله ، فنزلت : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣)) [الزّمر : ٣٩ / ٢٣].

سمي القرآن قرآنا ؛ لأنه يقرأ ، وهو اسم جنس يقع على القليل والكثير ، وقال أبو عبيد : سمّي قرآنا ؛ لأنه يجمع السور ، فيضمّها.

وسميت سورة يوسف بأنها أحسن القصص لأسباب ذكرها العلماء منها : أن كل من ذكر فيها كان مآله إلى السعادة ، يتبين ذلك من أحوال يوسف وأبيه وإخوته وامرأة العزيز والملك والساقي مستعبر الرؤيا. ومنها : انفراد السورة بما فيها من أخبار لم تتكرر في غيرها ، ومنها أنها ذكرت جملة من الفوائد التي تصلح الدنيا والدين ، كالتوحيد ، والفقه ، والسّير ، والسياسة ، والمعاشرة ، وتعبير الرؤيا ، وتدبير المعاش.

ومعنى الآيات في مطلع سورة يوسف : التنبيه بحروف (الر) إلى إعجاز القرآن ، وتحدّي العرب بالإتيان بمثله ، ما دام مكونا من الحروف نفسها التي تتألف منها لغتهم ، ويصوغون بها بيانهم الفصيح خطابة وشعرا ونثرا. والآيات التي أنزلت عليك أيها النّبي في هذه السورة آيات ظاهرة الإعجاز ، وهي آيات القرآن البيّن في نفسه ، الظاهر في إعجازه ، الواضح الجلي الذي يفصح عن الأشياء المبهمة ويفسرها ويبيّنها ، ويوضح الحلال والحرام ، والحدود والأحكام ، والهدى والبركة والنور.

يقرر الله تعالى أنا أنزلنا هذا القرآن على النّبي محمد العربي الهاشمي ، بلغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس ، لتتعلموا ما لم تكونوا تعلمون من قصص وأخبار ، وآداب وأخلاق ، وأحكام وتشريعات ،

١٥٧

ومناهج سياسة واجتماع واقتصاد ، ولتتدبروا وتتأملوا ما فيها من معان وأهداف ، تبني الفرد والجماعة على أقوم بنيان ، وأثبت أساس.

قال ابن كثير : فلهذا أنزل أشرف الكتب ، بأشرف اللغات ، على أشرف الرّسل ، بسفارة أشرف الملائكة ، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض ، وابتدئ إنزاله في أشرف شهور السنة ، فكمل من كل الوجوه.

ثم يتابع الله إخباره لنبيّه بأنا نحن نخبرك بأحسن الأخبار ، بسبب إيحائنا إليك هذا القرآن ، الذي جاء تامّا كاملا ، مفصّلا كل شيء ، وجاءت قصة يوسف كاملة تامة ، مفصلة ، ذات أهداف سامية ، وعبر كثيرة ، وإن كنت من قبل ما أوحينا ، أي من قبل إيحائنا إليك ، من الغافلين عما عرّفناك به من القصص وأعلمناك من شؤون الأمم ، أي من الجاهلين به ، فلا علم لك به قط ، شأنك شأن قومك ، لا يعلمون من قصص الماضين وأخبارهم شيئا.

إن قصة يوسف قصة جامعة ، شاملة للدين والدنيا ، والحياة الاجتماعية ، والاقتصادية ، والسياسية ، والأدبية الخلقية ، الملأى بالعبر والعظات ، ومن أهمها الصبر على الأذى ، والعفو عند المقدرة.

رؤيا يوسف عليه‌السلام

قد تكون الرؤيا المنامية الروحانية عجيبة جدا ، لا مثيل لها في الكتب المدونة ، ويصعب تصورها في اليقظة والوجود الواعي ، ومن الرؤى ما هو إخبار عن مشاهد ستقع حتما ، أو تصورات عن كوارث مستقبلية ، يستغربها الرّائي والسامع ، ويتخوف منها صاحبها ، إذ يرى ما لا تتصوره العقول البشرية أو الأفكار العلمية ، لأنها غير خاضعة لموازين الحس الواقع أو الأمر المشاهد. ومن غرائب الرؤى ما رآه يوسف

١٥٨

عليه‌السلام في طفولته ليلة القدر ، ليلة الجمعة ، ثم تحققت رؤياه بعد أربعين سنة أو بعد ثمانين سنة.

أخبر القرآن الصادق : كلام الله اليقيني عن رؤيا يوسف في هذه الآيات ، فقال تعالى : (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦)) (١) (٢) [يوسف : ١٢ / ٤ ـ ٦].

تتحدث هذه الآيات عن رؤيا يوسف الطفل ، وقد نزل بها وحي دائم لما فيها من العظات والعبر للأمم والآباء والأبناء ، لذا بدئت بالتذكير ، فاذكر أيها الرسول محمد لقومك قصة يوسف حين قال لأبيه يعقوب عليه‌السلام : إني رأيت في منامي أن أحد عشر كوكبا أو نجما ، والشمس والقمر تسجد لي ، سجود احترام وتقدير ، لا سجود عبادة وتقديس ، والأحد عشر كوكبا تبيّن فيما بعد : أنهم إخوة يوسف الأحد عشر نفرا ، والشمس والقمر أبوه وأمه ، لأن الكواكب لا تسجد في الحقيقة ، فيحمل الكلام على الرؤيا ، لذا قال يعقوب عليه‌السلام : (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ). وقد أخبر نبيّنا عليه الصلاة والسلام بتعليم جبريل عن أسماء هذه الكواكب التي طالب يهودي ببيان أسمائها.

والظاهر الراجح أن إخوة يوسف لم يكونوا أنبياء ، لما وقع منهم من صفات لا تتفق مع عصمة الأنبياء ، كالحسد الدنيوي ، وعقوق الآباء ، وتعريض مؤمن للهلاك والقتل. وبما أن هذه الرؤيا غريبة عجيبة ، وتحتاج إلى وقت طويل لتحققها في

__________________

(١) يصطفيك لمهام عظام.

(٢) تعبير الرؤيا وتفسيرها.

١٥٩

الواقع ، وهو أربعون سنة أو أكثر ، قال يعقوب لابنه يوسف حين قصّ عليه ما رأى : لا تخبر إخوتك بما رأيت ، حتى لا يحسدوك ، ويحتالوا لك حيلة توقعك في مكروه ، فإن الشيطان عدوّ واضح العداوة للإنسان. وقد أدرك يعقوب من هذه الرؤيا أنه سيكون ليوسف شأن عظيم ، ويسود قومه حتى أباه وأمه وإخوته ، فحذر يوسف من التحدث بهذه الرؤيا.

روى الإمام أحمد وغيره عن معاوية القشيري أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبّر ، فإذا عبّرت وقعت».

وأضاف يعقوب مبشرا ابنه يوسف ببشارة عظيمة ، وهي النّبوة وتعبير الرؤيا ، فقال له : وكما اختارك ربّك ، وأراك هذه الكواكب ، مع الشمس والقمر ساجدة لك ، يختارك لنفسه ويصطفيك لنبوّته على آلك وغيرهم ، ويعلّمك تعبير الرؤيا. والرؤيا : وإن كان مصدرا في الأصل ، لكن كثر إطلاقه على المتخيّل في النوم ، فجرى مجرى الأسماء. وتعبير الرؤيا : الإخبار بما تؤول إليه في الوجود ، وتعليم الله يوسف التأويل : إلهامه الصواب فيها ، أو صدق الفراسة.

والله سبحانه يتم نعمته عليك يا يوسف ، بإرسالك رسولا ، وجعلك نبيّا وإيحائه إليك ، ويتم هذه النعمة أيضا على آل يعقوب وأسرته ، وهم أبوك وإخوتك وذريتك ، فآل الإنسان : أهله ، وهو خاص بمن لهم مجد وشرف ، وإتمام هذه النعمة على آل يعقوب ، كإتمامها من قبل هذا الوقت على جدّك إسحاق وجدّ أبيك إبراهيم ، وقدّم إبراهيم في البيان الإلهي على إسحاق ؛ لأنه الأشرف وأبو الأنبياء ، إن ربّك عليم بخلقه وبمن يستحق الاجتباء والاصطفاء ، فهو أعلم حيث يجعل رسالته ، إنّ ربّك حكيم في صنعه وتدبيره ، يفعل الأشياء على ما ينبغي ويتفق مع المناسبات والأوضاع الصحيحة.

١٦٠