التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٢

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0522-5
الصفحات: ٣٩٢

في الآخرة ، المعذبون في نيران الجحيم عذابا مضاعفا ، وهذا ما أبانه القرآن الكريم في الآيات التالية :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) [هود : ١١ / ١٨ ـ ٢٤].

المراد من آية (وَمَنْ أَظْلَمُ ..) الرّد على المشركين الذين يزعمون أن الأصنام شفعاؤهم عند الله ، وهذا محض الافتراء على الله تعالى ، ومعنى الآية : لا أحد أشد ظلما ممن افترى الكذب على الله تعالى في صفته أو حكمه أو وحيه ، أو زعم وجود شفعاء له من دون إذنه ، أو ادّعى أن لله ولدا من الملائكة أو من البشر الأنبياء أو الرّسل أو الأولياء. أولئك الواقعون في الكفر يعرضون على ربّهم ، أي يحاسبهم ربّهم حسابا شديدا ، ويقول الشهود من الأنبياء والملائكة : هؤلاء الذين كذبوا على ربّهم وافتروا عليه ، فلعنة الله على الظالمين ، أي إنهم مطرودون من رحمة الله تعالى.

وإن هؤلاء الظالمين يردّون الناس عن اتّباع الحق والإيمان والطاعة ، ويريدون أن

__________________

(١) أي الشهداء أو الشهود من الأنبياء والملائكة.

(٢) يطلبونها معوجة.

(٣) فائتين من العذاب بالهرب.

(٤) يختلقون من ادّعاء الشريك لله.

(٥) أي حقّا وثابتا أو لا محالة.

(٦) أي خشعوا وأخلصوا لله واطمأنّوا إليه.

١٠١

تكون طريقهم معوجة غير معتدلة ، والحال أنهم جاحدون بالآخرة مكذبون بوجودها.

إن أولئك الظالمين الذين يصدون الناس عن سبيل الله الحق ، سبيل القيم العليا والحياة الطيبة ، لا يعجزون ربّهم أن يعاقبهم بالدمار والخسف ، كما فعل بغيرهم ، وإنما هم تحت قهره وسلطانه ، وهو سبحانه قادر على تعذيبهم ، وليس لهم أولياء ، أي أنصار ينصرونهم من دون الله ، ويمنعون عنهم العذاب ، ويضاعف لهم العقاب بسبب إضلالهم غيرهم ، كما ضلّوا بأنفسهم ، وكانوا صمّا عن سماع الحق ، عميا عن اتّباع سبيل الهدى والرّشاد.

أولئك المتّصفون بهذه الصفات خسروا أنفسهم وأهليهم ، وضلّ عنهم ما كانوا يفترون ، أي ذهب عنهم ما كانوا يفترونه من دون الله من الأنداد والأصنام ، فلم تجد عنهم شيئا ، بل ضرّتهم كل الضّرر : كما جاء في آية أخرى : (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦)) [الأحقاف : ٤٦ / ٦].

لا جرم ، أي حقّا إنهم في الآخرة هم أخسر الناس صفقة ، لأنهم استبدلوا بنعيم الجنة ودرجاتها عذاب جهنم ودركاتها.

أما المؤمنون المصدقون بالله ورسوله ، وعملوا الأعمال الصالحة ، فأقاموا الصلاة ، وآتوا الزّكاة ، وأدّوا الطاعات ، وتركوا المنكرات ، وخشعوا لله وأنابوا إليه ، فلهم جنان الخلد ذات النعم التّليدة ، وهم ماكثون فيها على الدوام ، لا يموتون ولا يمرضون ، ولا تلازمهم نقائص الدنيا وعيوبها ، وإنما هم متبرئون منها.

مثل هذين الفريقين المذكورين وهم الأشقياء الكفرة ، والمؤمنون البررة ، كمثل الأعمى والأصم ، والسميع والبصير ، أي إن الكافر كالأعمى ، لتعاميه عن إدراك الحق ، وكالأصم لعدم سماع الحجج والأدلة الدّالة على النّور والهدى. والمؤمن مثل

١٠٢

المبصر السّامع لكل شيء ، لاستفادته بما يرى في الأكوان ، ويسمع من القرآن ، والسمع والبصر ، وسيلتا العلم والهدى ، وطريقا تكوين العقل والمعرفة ، وإقامة الثقافة الصحيحة التي ترقى بالأمة والمجتمع ، وبالوطن والدولة.

قصة نوح عليه‌السلام مع قومه

ـ ١ ـ

دعوته ونقاش قومه

أورد الله تعالى في قرآنه مجموعة من قصص الأنبياء السابقين للعظة والعبرة ، وتمثيل الأوضاع لقريش وكفار العرب ، والاعلام بأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس ببدع من الرّسل ، وإنما هو كغيره دعا إلى عبادة الله وحده ، فعارضه قومه ، فناقشهم وجادلهم. وهذا أنموذج من قصة نوح عليه‌السلام أول رسول إلى الناس بدعوة إلهية. أذكر هنا طائفة من القصة ، قال الله تعالى :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي (١) (٢) (٣) (٤)

__________________

(١) أشراف القوم وزعماؤهم.

(٢) ظاهره دون تعمق.

(٣) أخبروني.

(٤) أي أخفيت عليكم فلم تهدكم.

١٠٣

خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١)) (١) [هود : ١١ / ٢٥ ـ ٣١].

كان قوم نوح عليه‌السلام يعبدون الأوثان ونحوها ، فأرسل الله إليهم نوحا يدعوهم إلى عبادة الله وتوحيده ، فقال لهم : إني لكم منذر واضح ، أنذركم عذاب الله وبأسه إن أنتم عبدتم غير الله ، فآمنوا به وأطيعوا أمره ، ولا تعبدوا غيره ، ولا تشركوا به شيئا ، إني أخشى عليكم الوقوع في عذاب يوم شديد الألم ، هو يوم القيامة.

فأوردوا عليه أربع شبهات :

الشبهة الأولى ـ بشرية الرسل : قال أشراف القوم وزعماؤهم : ما أنت يا نوح إلا بشر مثلنا ، ولست بملك ، فلا مزية لك علينا حتى نطيعك في أمرك.

الشبهة الثانية ـ أتباعك أراذل القوم. لم يتبعك إلا الأخسّاء أصحاب الحرف الخسيسة كالزّرّاع والصّنّاع ، وهم الفقراء والضعفاء ، في بادي الأمر وظاهره دون تأمل ولا تفكر ولا تدبّر في عواقب الأمور ، ولو كنت صادقا لاتّبعك الأشراف والكبراء.

الشبهة الثالثة ـ لا فضل لك علينا : ما رأينا لكم علينا امتيازا في فضيلة أو قوة أو نروة أو علم أو عقل أو جاه أو رأي ، يحملنا على اتّباعك.

الشبهة الرابعة نتهمك بالكذب : يترجح لدينا كذبكم في ادّعائكم الصلاح والسعادة في الآخرة. ويلاحظ أنهم خاطبوه بصيغة الجمع لإشراك أتباعه معه في التّهم.

أجابهم الله عن شبهاتهم فيما حكاه عن نوح عليه‌السلام قائلا : أخبروني يا قوم

__________________

(١) تستحقرهم وتستهين بهم.

١٠٤

عماذا أفعل إن كنت على يقين وحجة ظاهرة فيما جئتكم به من ربّي ، وآتاني رحمة من عنده وهي النّبوة والوحي ، فخفيت عليكم ، فلم تهتدوا بها ، ولا عرفتم قدرها ، أنكرهكم على قبولها ، وأنتم لها كارهون ، معرضون عنها؟!

ويا قوم ، لا أطلب منكم مالا على نصحي لكم ، أي أجرا آخذه منكم ، وإنما أجري على الله عزوجل. وليس من شأني طرد المؤمنين برسالتي ، وتنحيتهم من مجلسي. وهذا إعلان المساواة في الكرامة بين الناس من غير امتياز للأغنياء. إن هؤلاء الأتباع سيلقون ربّهم ، ويحاسبهم على أعمالهم ، كما يحاسبكم ، ويعاقب من طردهم ، وأراكم قوما جهلة في مطالبتكم بطردهم من مجلسي ، فإن المفاضلة بين الناس إنما هي بالعمل الطيب الصالح ، لا بالثروة والجاه كما تزعمون.

ويا قوم من ينصرني من عذاب الله إن طردتهم ، فذلك ظلم عظيم ، أفلا تتعظون وتتفكرون فيما تقولون؟!

وتوابع النّبوة وتملك الثروة غير متوافرين لدي ، فلا أقول لكم بموجب النّبوة : إني أملك خزائن رزق الله ، وأتصرّف فيها ، ولا أعلم من الغيب إلا ما أطلعني الله عليه ، ولست أحد الملائكة ، ولا أستطيع القول لهؤلاء الذين تحتقرونهم : لن ينالهم خير ، وليس لهم ثواب على أعمالهم ، الله أعلم بما في صدورهم وبواطنهم من القصد الحسن والنّية الطيبة ، فإن تطابق باطنهم مع ظاهرهم ، كان لهم الحسنى ، وإن حكمت على سرائرهم بغير دليل ظاهر ، كنت ظالما قائلا ما لا أعلم به. والخلاصة : إن نوحا قصر مهمته على تبليغ الوحي بالنّبوة ، وأخبرهم عن تواضعه أمام الله عزوجل.

١٠٥

ـ ٢ ـ

استعجال العذاب من قوم نوح

يقع أتباع الرّسل وأقوامهم في الحماقة والطيش حينما يعادون رسولهم ، ويصفونه بأوصاف كاذبة ، ويلصقون به التّهم الباطلة ، لتسويغ ضلالهم وزيغهم ، ومن هؤلاء الحمقى : قوم نوح حينما انهزموا أمام حجته الدامغة ، أوردوا عليه أمرين : الأول ـ أنه أكثر جدالهم ، والثاني ـ مطالبتهم بالعذاب الذي توعدهم به. وأدى هذان الأمران إلى إعلان نوح اليأس من إجابتهم لدعوته ، وزعمهم أن نوحا افترى هذا التوعد بالعذاب ، وأراد الإرهاب عليهم بذلك. وهذا ما سجّله القرآن الكريم عليهم في الآيات التالية :

(قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥)) (١) (٢) (٣) [هود : ١١ / ٣٢ ـ ٣٥].

الكلام عن قوم نوح تصوير دائم لأحوال مشابهة للكفرة في كل زمان ومكان ، فما صدر من قوم نوح متجسد في أحداث التاريخ ، وعقلية الأقوام المتلاحقة ، فليست القضية إذن مجرد تاريخ للعبرة ، وإنما هي صورة متكررة معادة لدى بعض الناس في أفكارهم وسلوكهم ، ما دام خطاب القرآن واحدا.

والمعنى : قال قوم نوح له : قد طال منك هذا الجدال ، وهو المراجعة في الحجة ومقابلة الأقوال ومناقشتها حتى تقع الغلبة ، فأتنا بما تعدنا به من العذاب والهلاك

__________________

(١) بفائتين من عذاب الله بالهرب.

(٢) يضلّكم.

(٣) عقاب ذنبي.

١٠٦

المعجل في الدنيا ، إن كنت صادقا في ادّعائك أن الله يعذبنا على عصيانه في الدنيا قبل الآخرة.

والجدال نوعان : محمود ومذموم مكروه ، أما المحمود : فهو ما كان بالحسنى مع إنسان يطمع بالجدال أن يهتدي ، ومنه قوله تعالى : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النّحل : ١٦ / ١٢٥]. وأما الجدال المذموم أو المكروه : فهو ما يقع بين المسلمين بعضهم مع بعض في طلب علل الشرائع ، وتصور ما يخبر به الشرع من قدرة الله. وقد نهى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، وكرهه العلماء.

أجاب نوح قومه عن اتّهامه بكثرة الجدال قائلا : ليس إنزال العذاب أو العقاب بيدي ، وليس لي توقيته ، وإنما ذلك بيد الله ، وهو الآتي به إن شاء وإذا شاء ، ولستم من المنعة بحال من يفلت أو يعتصم لتنجوا ، وإنما أنتم في قبضة القدرة الإلهية ، وتحت سلطان الملك الإلهي ، وليس نصحي بنافع ، ولا إرادتي الخير لكم مغنية إذا كان الله تعالى قد أراد بكم الإغواء والإضلال والإهلاك ، الله ربّكم ، أي خالقكم والمتصرّف في أموركم ، وهو الحاكم العادل الذي لا يجور ، وإليه ترجعون في الآخرة ، فيجازيكم بما كنتم تعملون في هذا العالم من خير أو شرّ.

ومعنى قوله تعالى : (إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) بيان ربط الأسباب بالمسببات ، فمن تسبب في الضّلال والغواية أضلّه الله ، وليس معنى الآية : أن الله يخلق الغواية والشقاوة فيهم ، فذلك منوط بالعمل والكسب ، والنتائج متوقفة على المقدمات.

وقوله سبحانه : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ..) إما اعتراض في قصة نوح ، كما ذكر الطّبري وغيره ، وهي في شأن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع كفار قريش الذين قالوا : افترى محمد القرآن ، وافترى هذه القصة على نوح ، فنزلت الآية في ذلك. ويحتمل كون الكلام في شأن نوح عليه‌السلام ، فإن قومه زعموا أن العذاب الذي توعّدهم به أمر مفترى

١٠٧

بقصد إرهابهم ، فيصبح اتّساق الآية مطّردا غير معترض. فأجابهم الله تعالى بأن النّبي إن افترى هذا الادّعاء بنزول العذاب ، فعليه تبعة قوله وهو مسئول عن ذنبه وجرمه ، وهو بريء من جرائم قومه وآثامهم ، وسيجزيهم الله على أعمالهم ، والنبي أعلم بما عند الله من عقوبة المكذبين ، وكل إنسان مسئول عن ذنبه ، كما جاء في آية أخرى : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١)) [يونس : ١٠ / ٤١].

والراجح أن آية (أَمْ يَقُولُونَ) هو من محاورة نوح لقومه ، كما قال ابن عباس ، لأنه ليس قبل هذا الكلام ولا بعده إلا ذكر نوح وقومه ، والخطاب منهم ولهم ، وهم يقولون : افترى ما أخبركم به من دين الله ، وعقاب من أعرض عنه.

والحقيقة أن حكاية هذه الأوضاع ستظل في سجلّ التاريخ صورة للمعارضين دعوة الأنبياء ، وستكون عاقبة المعارضة أو الاتّهام بالباطل لنبي هي التعرض للعذاب.

ـ ٣ ـ

يأس نوح من قومه وصنعه السفينة

تجاوز قوم نوح الحدود المعقولة ، وتغالوا في الإعراض عن نوح عليه‌السلام ، ورفضوا دعوته رفضا عنيدا ، واستبدادا وتكبّرا ، فيئس نوح من هدايتهم وإجابتهم لدعوته ، فمهّد ذلك لإغراقهم وإهلاكهم ، بسبب سخريتهم وتهكمهم ، وبدأ الإعداد بصنع السفينة لنجاة نوح ومن آمن معه. وهذا ما وصفه القرآن الكريم في الآيات التالية :

(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا (١)

__________________

(١) فلا تحزن.

١٠٨

يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) [هود : ١١ / ٣٦ ـ ٤١].

أخبر الله تعالى بوحيه إلى نوح عليه‌السلام أنه لن يؤمن أحد من قومك بدعوتك إلا من قد آمن سابقا ، وهم قلّة قليلة ، فلا تحزن عليهم ، ولا يهمنك أمرهم ، فدعا عليهم نوح بإذن ربّه وبعد هذا الوحي قائلا : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٧١ / ٢٦].

واصنع السفينة برعايتنا وحفظنا وحراستنا وبتعليمنا لك ما تصنعه لتنجو بها مع المؤمنين ، وكيلا تخطئ ، ولا تراجعني يا نوح ولا تدعني في شأن قومك ودفع العذاب بشفاعتك ، فقد وجب عليهم العذاب ، وتم الحكم عليهم بالإغراق.

وبدأ نوح عليه‌السلام بصنع السفينة ، وكلما مرّ عليه جماعة من أشراف قومه ، استهزءوا به ومن صناعته ، وكذبوا بما توعّدهم به من الغرق ، فقال نوح على سبيل الوعيد والتهديد الأكيد : إن تسخروا منا لصنع هذه السفينة ، فإنا سنسخر منكم في المستقبل حين الغرق ، كما تسخرون منا الآن ، فسوف تعلمون قريبا بعد تمام العمل من يأتيه عذاب يهينه في الدنيا ، وهو عذاب الغرق ، ويحل عليه عذاب مقيم ، أي دائم مستمر.

__________________

(١) بحفظنا وكلاءتنا.

(٢) ينزل به.

(٣) نبع الماء من تنور الخبز المعروف.

(٤) وقت إجرائها.

(٥) وقت إرسائها.

١٠٩

حتى إذا حان وقت مجيء أمرنا بالهلاك من المطر الغزير ، ونبع الماء من التّنور : موقد الخبز أو وجه الأرض ، وارتفع كما تفور القدر بغليانها ، وكان ذلك علامة لنوح عليه‌السلام ، كما جاء في آية أخرى : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣)) [القمر : ٥٤ / ١١ ـ ١٣].

وقلنا لنوح : احمل في السفينة من كل نوع من الحيوان زوجين اثنين : ذكرا وأنثى ، حفاظا على أصل النوع الحيواني ، واحمل فيها أهل بيتك إلا امرأتك وابنك : كنعان ، وهما من سبق عليه القول واستقرّ عليه الحكم بأنه من أهل النار ، لاختياره الكفر وإبائه الإيمان ، لا لتقديره عليه.

وخذ معك من آمن من قومك ، وإن لم يؤمن إلا عدد قليل ، أو نزر يسير ، مع طول المدة واستمرار دعوتهم إلى الإيمان ألف سنة إلا خمسين عاما. وكان المؤمنون ثمانين نفسا ، منهم نساؤهم.

وأخبر الله تعالى نوحا عليه‌السلام أنه قال لمن حملهم في السفينة أن يدعوا : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [هود : ١١ / ٤١]. أي باسم الله وبركته يكون جريها على سطح الماء ، وباسم الله يكون منتهى سيرها ، وهو رسوها على مرفأ آمن ، بتسخير الله وقدرته ، إن ربي غفور لذنوب عباده التائبين ، رحيم بهم ، فلو لا مغفرته لذنوب عباده ورحمته بهم لما نجاكم. وذكر المغفرة والرحمة بعد ذكر حكم الانتقام من الكافرين بإغراقهم أجمعين هو شأن القرآن في بيان الأضداد والمتقابلات ، كما في آية : (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأعراف : ٧ / ١٦٧]. وآية المغفرة والرحمة في هذا المقام الخطير وقت الإهلاك والغرق في غاية الإشعار بفضل الله ورحمته على عباده المؤمنين الذين نجاهم.

١١٠

أما الطوفان : ففي ظاهر الروايات وكتب التفاسير أنه نال جميع أهل الأرض المأهولة قديما ، وعم الماء جميع المعمورة ، كما ذكر ابن عباس وغيره ، ويوجب ذلك أمر نوح بحمل الأزواج من الحيوان ، خوف فناء أجناسها من جميع أنحاء الأرض.

ـ ٤ ـ

رحلة سفينة نوح

كانت سفينة نوح أول سفينة في التاريخ ، وكانت رحلتها أول رحلة بحرية لمسافة طويلة ، تكتنفها المخاطر ، وتحيط بها الجهالة والغموض ، والتّكهنات ، لكن أمان الله ووعده بنجاة المؤمنين كان بردا وسلاما ، وحماية من القلق والخوف. وتم أمر الله ومراده ونجت السفينة ، وهبطت في مكان آمن ، وكان ابن نوح من امرأته مثلا للجحود والعناد ومحاولة الإفلات من الغرق ، فطالته بسهولة إرادة الله ، وكان من الهالكين. صوّر القرآن الكريم هذه الرحلة الأولى لسفينة نوح عليه‌السلام في الآيات التّالية :

(وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤) وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦)

__________________

(١) سألتجي.

(٢) لا مانع ولا حافظ.

(٣) أمسكي عن إنزال المطر.

(٤) نقص وذهب في الأرض.

(٥) جبل قرب الموصل.

(٦) هلاكا.

١١١

عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧)) [هود : ١١ / ٤٢ ـ ٤٧].

هذه أول رحلة بحرية في التاريخ ، تسير بها سفينة نوح عليه‌السلام ، تمخر عباب البحر ، وتشقّ أوساط الأمواج العظيمة بسبب الرياح الشديدة العاصفة ، فسارت بركّابها بإذن الله ورعايته ، وهي تجري بهم بسرعة على وجه الماء الذي ارتفعت أمواجه ، كالجبال الشاهقة ، وطالت قمم الجبال ورؤوسها العالية ، ونادى نوح ابنه كنعان ـ وكان ابن امرأته ـ وكان في معزل ـ أي ناحية ـ عنه ، وكافرا برسالة نوح ، فطالبه بالإيمان والركوب معه ، حتى لا يغرق ويكون مع الكافرين الهالكين.

فردّ الابن الجاحد العاصي على نوح قائلا : سآوي وأصير إلى جبل يحفظني من الغرق في الماء ، ظنّا منه أنه ماء سيل عادي ، يمكن النّجاة منه بالتّحصّن في مكان عال أو جبل شامخ. فأجابه نوح عليه‌السلام : ليس شيء يعصم اليوم من الماء وأمر الله وعذابه الذي يعاقب به الكافرين ، لكن يحفظ من رحم الله ، ومن رحمه فهو المعصوم. وحال الماء الذي بدأ يرتفع بين الوالد والولد أثناء النقاش ، فكان من المغرقين الهالكين.

وتم الحدث الرهيب ، وغمر الماء الأرض كلها ، ولما تحقق المراد ونجى الله أصحاب السفينة ، أمر الله الأرض أن تبلع ماءها الذي نبع منها واجتمع عليها ، وأمر السماء أن تكفّ عن نزول المطر ، ونادى الرّبّ عزوجل : يا أرض ابلعي ماءك الذي تفجر منك ، ويا سماء كفّي عن المطر ، فغاض الماء ، أي نقص ، امتثالا للأمر الإلهي ، وقضي الأمر ، أي أنجز ما وعد الله به نوحا من هلاك قومه الظالمين ، واستقرّت السفينة بمن فيها على جبل الجودي بالجزيرة شمالي العراق ، في الموصل ، وقيل : هلاكا وخسارا للقوم الظالمين ، وبعدا من رحمة الله.

١١٢

وكرّر نوح سؤال ربّه قائلا : ربّ إن ابني من أهلي ، وقد وعدتني بنجاتهم ، ووعدك الحق الذي لا يخلف ، فما مصيره؟ وأنت أحكم الحاكمين وأعدلهم بالحق. وهذه الآية تقتضي أن نوحا عليه‌السلام ظنّ أن ابنه مؤمن.

فأجابه ربّه : يا نوح إن ابنك ليس من ولدك ولا من أهلك الذين وعدت بإنجائهم ، إنما وعدتك بإنجاء من آمن ، وابنك ذو عمل غير صالح ، أي تنكّر لدعوة الهدى والرّشاد والصّلاح ، وانضم إلى فئة الكافرين ، فلا تطالب مني شيئا ليس لك به علم صحيح ، ولا تعرف مدى صوابه ، وأنهاك أن تكون من جماعة الجاهلين الذين يطلبون إبطال حكمة الله وحكمه ، فلا تكن من الآثمين. وهذا دليل على أن العبرة بقرابة الدين ، لا بقرابة النّسب ، وأن حكم الله في خلقه قائم على السواء والعدل المطلق دون محاباة أحد. وأن المخالف يستوجب التقريع ، وأن الجهل كناية عن الذنب.

فقال نوح : ربّ إني ألتجئ إليك وأستعيذ بك وبجلالك أن أسألك ما ليس لي به علم صحيح ، وإن لم تغفر لي ذنب سؤالي هذا ، وترحمني بقبول توبتي وإنابتي ، أكن من الخاسرين أعمالا. وهذا طريق الصالحين بالتّذلل والانقياد لربّ العالمين ، وإن كان العبد نبيّا أو رسولا. وفي قصة نوح عبرة وعظة شديدة التأثير لكل من كفر بالله وكذب رسله.

فائدة قصة نوح عليه‌السلام

إن في إيراد قصص الأنبياء السابقين فوائد جليلة وحكما تشريعية ودينية عظيمة ، ففيها ربط الماضي بخاتمة الرسالات السماوية ، ودفعة قوية دائمة إلى الأمام بالإفادة من تاريخ الأنبياء ، ومعرفة مدى مؤازرة الله لهم ؛ لأنهم دعاة الحق ، والعلم بمواطن العبرة والعظة البالغة من القصة القرآنية التي هي منار الطريق ، وبيان السبيل لكل من

١١٣

أراد الخير للأمة والمجتمع ، والإنسان ذاته. وقصة نوح عليه‌السلام نبراس القصص القرآني ، ومنطلق كل التوجّهات والتحرّكات الدّعوية لعبادة الله وتوحيده ، وإعلان هزيمة الشّرك والوثنية ، وإنهاء تاريخ العتاة والطّغاة وعبدة الأوثان باستئصالهم وتطهير ساحة الأرض من أرجاسهم. لذا أورد القرآن آيات بليغة تصوّر مواطن العظة والعبرة من قصة نوح عليه‌السلام في الآيات التالية :

(قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩)) (١) [هود : ١١ / ٤٨ ـ ٤٩].

بعد أن نجى الله تعالى نوحا ومن آمن معه برسوّ سفينته على جبل الجودي في أرض الموصل بالعراق ، في ديار بكر ، وأهلك الظلمة الوثنيين الكفار بالغرق في الطوفان ، أبان تعالى العبرة من القصة ، ممثّلة في أمرين :

الأمر الأول : تكريم نوح عليه‌السلام والمؤمنين معه بالخروج من السفينة بسلام ، ثم بالبركة بعدئذ له وللمؤمنين معه.

والأمر الثاني : الإخبار عن أمور غائبة مجهولة عن الناس ، تكون بمثابة الإنذار لمن كفر بالله ، وبيان فائدة الصبر لأهل الإيمان.

والمعنى : قيل لنوح عليه‌السلام إما بالوحي المباشر من الله تعالى أو بواسطة الملائكة بعد انتهاء الطوفان وحبس المطر وابتلاع الأرض ماءها : اهبط من السفينة إلى الأرض على جبل الجودي بسلام وأمان وحفظ من جهتنا ، ومصحوبا ببركات : وهي النّعم الثابتة والخيرات النامية ، والبركات : تغمرك وتعمّ بهذا الوعد جميع

__________________

(١) خيرات.

١١٤

المؤمنين إلى يوم القيامة. وقوله تعالى : (مِمَّنْ مَعَكَ) تعني ذرّية من معك ومن نسلهم. وقوله سبحانه : (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ) تعني : وممن معك أمم سنمتعهم في الدنيا : وهم الكفار إلى يوم القيامة ، وهذا يشمل كل كافر إلى يوم القيامة.

فيصير المعنى : إن السّلام منا ، والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين ، ينشأون ممن معك. وممن معك أمم ممتعون في الدنيا ، منقلبون إلى النار.

وكان نوح عليه‌السلام أب الأنبياء ، والمخلوقات البشرية بعد الطوّفان منه وممن كان معه في السفينة. وهكذا عم السّلام الإلهي والتّبريك كل المؤمنين ، ولله الحمد. لكن سيكون بعض نسل المؤمنين جماعة آخرين من بعدهم ، كفرة ، يمتّعهم الله في الدنيا بالأرزاق والبركات ، ثم يصيبهم العذاب الأليم في الآخرة. ويصير الناس بعد نوح قسمين : قسم مؤمنون صالحون ممتّعون في الدنيا والآخرة ، وقسم ممتّعون في الدنيا فقط ، معذّبون في الآخرة.

ثم أورد الله تعالى العبرة من قصة نوح بقوله : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ ..) أي تلك الأخبار عن نوح وقومه من أخبار الغيبيات التي تقادم العهد عليها ، ولم يبق علمها إلا عند الله تعالى ، ولا تعلم بها أيها النّبي ، كما لا يعلم بها قومك. ونحن نوحيها إليك لتكون لك هداية وأسوة فيما لقيه غيرك من الأنبياء ، وتكون لقومك مثالا وتحذيرا ، لئلا يصيبهم إذا كذّبوك مثل ما أصاب هؤلاء وغيرهم من الأمم المعذّبة.

فاصبر على تكذيب قومك وأذاهم لك ، واجتهد في تبليغ رسالتك ، وجدّ في إيضاح الرسالة القرآنية ، واصبر على الشدائد ، كما صبر نوح عليه‌السلام على أذى الكفار ، واعلم أن العاقبة والنصر والنجاة لك ، كما كانت لنوح في هذه القصة ، كما أن النصر يكون من بعدك لأهل التقوى الذين يطيعون الله ، ويتجنّبون المعاصي. وهذه سنّة الله الدائمة بنصر المرسلين على أعدائهم الكافرين ، كما أخبر الله تعالى في

١١٥

قوله : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١)) [غافر : ٤٠ / ٥١].

هود عليه‌السلام مع قومه

ـ ١ ـ

دعوته إلى عبادة الله

هذه قصة عجيبة أخرى تثير الوجدان والضمير بعد قصة نوح عليه‌السلام أبي البشر الثاني وأول رسول إلى الناس ، وهي قصة هود عليه‌السلام أول من تكلم بالعربية من ذرّية نوح ، وفي القصّتين تشابه غريب ، ففي كل منهما تبليغ القوم الدعوة إلى عبادة الله وتوحيده ، وردّهم على رسولهم أسوأ ردّ ، ونهاية متشابهة وهي إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين. قال الله تعالى :

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) [هود : ١١ / ٥٠ ـ ٥٦].

__________________

(١) خلقني.

(٢) غزيرا متتابعا.

(٣) أصابك.

(٤) احتالوا في كيدي وضرّي.

(٥) لا تمهلوني.

(٦) مالكها وقادر عليها.

١١٦

وكما أرسلنا نوحا إلى قومه ، أرسلنا هودا إلى قبيلة عاد العربية التي كانت تسكن الأحقاف (شمالي حضرموت وغربيّ عمان) وكانت ذات قوة وبأس وزراعة وماشية ، وزادهم الله بسطة في الجسم والمال ، وهم خلفاء قوم نوح.

دعاهم هود عليه‌السلام إلى نوعين من التكاليف :

النوع الأول ـ دعاهم إلى عبادة الله وتوحيده ، مبيّنا لهم بالدليل أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، فلا تعبدوا وثنا ولا صنما ، ولا تشركوا به شيئا ، ما لكم من إله غيره ، هو الخالق والرّزاق ، وما أنتم إلا مفترون على الله الكذب باتّخاذ الشّركاء لله وأنها شفعاء لكم.

ويا قوم ، لا أطلب على دعوتي إياكم لعبادة الله وترك عبادة الأوثان أجرا أو مالا ينفعني ، فما أجري أو ثوابي إلا على الله الذي خلقني على الفطرة السليمة ـ فطرة التوحيد ـ أفلا تعقلون قول من يدعوكم إلى صلاحكم في الدنيا والآخرة ، وتدركون أنه ليس غير الله الفاطر الخالق إلها.

والنوع الثاني من التكاليف التي دعا إليها هود : الاستغفار والتوبة. والاستغفار : طلب المغفرة بالإيمان ، والتّوبة : الاعتراف بالذّنب والنّدم عليه والرجوع عنه. وإيمان الكافر : هو توبته من كفره ، لأنه هو نفسه رجوعه عنه.

يا قوم ، اطلبوا المغفرة على الشّرك والكفر والمعاصي السابقة ، وأخلصوا التوبة له ، فإذا استغفرتم وتبتم ، يرسل الله عليكم مطرا غزيرا متتابعا ـ وكانوا بأشد الحاجة إلى المطر بعد منعه عنهم ثلاث سنين ، لأنهم أصحاب زروع وبساتين ـ ويزدكم قوة إلى قوتكم بالأموال والأولاد ، وعزّا إلى عزّكم ـ وقد كانوا أقوياء أشدّاء يهمهم التّفوق على الناس ـ ولا تعرضوا عن دعوتي ، مصرّين على إجرامكم وآثامكم ، فلا تتولوا عن الحق ولا تعرضوا عن أمر الله تعالى.

١١٧

فأجابه القوم بمطالب أربعة : وهي تقديم البيّنة على صدق قوله ، والإصرار على عبادة الأصنام الآلهة المزعومة بالرغم من قوله ودعوته ، وعدم التّصديق برسالته (أي رسالة هود) حفاظا على الموروثات والتقليد ، وما نقول إلا أن بعض الآلهة لما سببتها وضلّلت عبدتها ، أصابك بجنون ، وفسد عقلك.

فأجابهم هود معتصما بالله ربّه : أشهد الله واشهدوا على أني بريء من شرككم ومن عبادة الأصنام. وإذا كنت بريئا من جميع الأصنام التي تشركونها مع الله ، فاجمعوا كل ما لديكم من أنواع الكيد لي ، ولا تمهلوني طرفة عين ، إني فوّضت أمري كله لله ربّي وربّكم ، وتوكّلت عليه ، مع ضعفي وانفرادي ، وقوتكم وكثرتكم ، إنه هو الذي يمنعني منكم ، ويحجز بيني وبينكم.

ثم وصف قدرة الله تبارك وتعالى بقوله : (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) ، والتعبير بالنّاصية لأنها في العرف حيث يسيطر عليها المالك ، أي ما من دابّة تدبّ على الأرض إلا وهي تحت سلطان الله وقهره ، فهو مصرف أمرها ومسخّرها ، وهو الحاكم العادل الذي لا يجور ، إنّ ربّي على صراط مستقيم ، أي على الحق والعدل. وهذا الجواب من هود عليه‌السلام فيه تحد وقلّة مبالاة بالقوم لعدة أمور ؛ هي : البراءة من الشّرك ، وإشهاد الله على ذلك ، وإشهادهم على براءته من شركهم ، وطلبه المكايدة له ، وإظهار قلة المبالاة بهم ، وعدم خوفه منهم ومن آلهتهم المزعومة.

ـ ٢ ـ

نهاية قبيلة عاد وقوم هود

إن نهاية الطّغاة الذين يعارضون دعوة الرّسل عليهم‌السلام نهاية وخيمة ، لأنهم هم الذين يحجبون الخير والصلاح عن أمتهم ، ويبقونها في حالة من المذلّة والتّخلف

١١٨

والهوان. وما كان أسعدهم وأنفعهم لمجتمعهم لو أخذوا بأيديهم نحو القيم العليا ، فأقرّوا بتوحيد الله ، والتزموا الأخلاق السوية ، وتسبّبوا في إمداد الله لهم بالنّعم الوفيرة ، والخيرات الكثيرة ، فاستحقّوا البقاء والعزّة والتّفوق ، وكانوا أمثولة الأمم والشعوب.

وفي القرآن الكريم بيان لنهاية أقوام عتاة ، تمرّدوا على أنبيائهم ، ومن أشهرهم قبيلة عاد قوم هود ، الذين عادوا رسولهم وأعرضوا عن دعوته ، قال الله تعالى واصفا موقفهم العنيد ونهايتهم السّيئة :

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠)) (١) (٢) (٣) (٤) [هود : ١١ / ٥٧ ـ ٦٠].

يمتلئ قلب النّبي عادة بعاطفة الحبّ لقومه ، مريدا لهم الهداية ، ويكون مهموما مغموما إذا أعرضوا عن رسالته ، منكّد العيش ، كاسف (عابس) الوجه ، حزين البال (القلب أو الحال). وهذا ما نراه في نفس هود عليه‌السلام فإنه قال لقومه : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ ..) أي إن تتولّوا وتعرضوا عما جئتكم به من عبادة الله ربّكم وحده لا شريك له ، فقد بلّغتكم رسالة ربّي التي بعثني بها إليكم ، وبقدرة الله أن يهلككم ويستخلف قوما غيركم في دياركم وأموالكم ، ويكونون أطوع لله منكم ، ولا تضرّونه شيئا بتولّيكم وكفركم ، بل يعود وبال ذلك عليكم ، ولا تضرّونه شيئا ، وإنما تضرّون أنفسكم ، إن ربّي على كل شيء رقيب ، مهيمن عليه ، فما تخفى عليه أعمالكم ، ولا يغفل عن مؤاخذتكم.

__________________

(١) شديد.

(٢) متعاظم.

(٣) معاند للحق.

(٤) هلاكا لهم.

١١٩

وتحقق ما توعّدهم به هود ، ونزل العذاب بهم ، ولما حان وقت نزول أمر الله بالعذاب ، ووقع العذاب فعلا ، وهو تدميرهم بريح صرصر عاتية ، نجى الله هودا والمؤمنين معه من عذاب شاق شديد ، برحمة من الله ولطف ، وأهلك الله القوم الظالمين ، فجعل ديارهم ـ عاليها سافلها ، ودمّرت الريح كل شيء من منازل القوم وممتلكاتهم.

وأسباب ذلك العقاب الشامل ثلاثة أمور : هي جحود عاد دلائل المعجزات على صدق نبيّهم هود ، وأدلّة المحدثات المخلوقات على وجود الصانع الحكيم ، وعصيان رسولهم ، ومن عصى رسولا واحدا ، فقد عصى جميع الرّسل ، لذا قال تعالى : (وَعَصَوْا رُسُلَهُ). وتقليدهم رؤساءهم واتّباعهم أوامر كل جبّار عات ، عنيد مكابر.

ولم يقتصر العقاب على الإهلاك والتدمير ، وإنما أتبعوا في الدنيا وفي الآخرة لعنة دائمة ، واللعنة : الإبعاد والخزي ، فلحقتهم لعنة الله وعباده المؤمنين في الدنيا كلما ذكروا ، وتجوز لعنة الذين ماتوا على الكفر ، ولا يلعن معين حي ، لا من كافر ولا من فاسق ولا من بهيمة ، وكل ذلك مكروه بالأحاديث. وينادى عليهم يوم القيامة على رؤوس الخلائق : ألا إن عادا كفروا بربّهم وبنعمه ، وجحدوا بآياته ، وكذبوا رسله ، ألا بعدا وطردا من رحمة الله لعاد قوم هود. فعلّة لعنهم هي كفرهم بربّهم ، وهذا دعاء عليهم بالهلاك والدّمار والبعد عن الرحمة.

لو علم هؤلاء قبل هذه النهاية الوخيمة ما يحلّ بهم ، لفكّروا وراجعوا حسابهم ، وأصلحوا أمورهم ، وصحّحوا عقائدهم ، واستقاموا على أمر الله ربّهم. وإذا لم يفعلوا كانوا حمقى ، ولم يكونوا مأسوفا عليهم ، لقد طواهم التاريخ ، وأنهى ذكرهم إلا من طريق التذكير والاعتبار للأجيال اللاحقة بهم ، حتى لا يتورّطوا بمثل ما فعلوا ، فيعاقبوا بمثل ما عوقبوا. وهذه هي الفائدة والعبرة التي نستفيدها من تكرار تلاوة الآيات القرآنية في شأنهم إلى يوم القيامة ، لنعلم علم اليقين أن الجزاء العادل

١٢٠