التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0523-3
الصفحات: ٦٧١

ولقد كان إبراهيم متكملا بالملّة الحنيفية وأرادها لأولاده ، فوصّى بها بنيه ، وكذلك يعقوب قائلا : يا بني إن الله اختار لكم هذا الدين ، وهو كدين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أصول الدين العامة ، فاثبتوا على الإسلام ولا تفارقوه. فهل يتبع اليهود آباءهم إبراهيم ويعقوب أو لا؟! ثم قال تعالى : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣)) [البقرة : ٢ / ١٣٣].

نزلت في اليهود حين قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية. فرد الله تعالى عليهم :

ما كنتم أيها اليهود المكذبون بالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاضرين حين احتضر يعقوب ، فلا تكذبوا عليه ، فإني ما أرسلت إبراهيم وبنيه إلا بالحنيفية وهي ملة التوحيد والإسلام ، وبه أوصوا ذرياتهم ، بدليل أن يعقوب قال لأولاده : أي شيء تعبدون بعد موتي؟ فقالوا : نعبد إلهك الله الواحد وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ، ونحن له منقادون خاضعون لحكمه.

وقد ردّ الله على اليهود ادّعاءهم أنهم نسل الأنبياء وحفدتهم ، فلا يدخلون النار إلا أياما معدودات ، ومضمون الرّد أن كل إنسان مسئول مسئولية شخصية عن نفسه ، والأمة الماضية لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ، لا ينتفع بعملها أحد ولا يتضرّر : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [فاطر : ٣٥ / ١٨] فلا ينفع السابقين إلا عملهم ، كذلك من بعدهم لا ينفعهم إلا عملهم ، قال الله تعالى : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤)) (١)

حدث مرة أن رؤوس يهود المدينة (كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وأبو

__________________

(١) مضت.

٦١

ياسر بن أخطب) ونصارى أهل نجران ، خاصموا المسلمين في الدين ، كل فرقة تزعم أنها أحق بدين الله تعالى من غيرها. فقالت اليهود : نبيّنا موسى أفضل الأنبياء ، وكتابنا التوراة أفضل الكتب ، وديننا أفضل الأديان. وقالت النصارى : نبيّنا عيسى أفضل الأنبياء ، وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب ، وديننا أفضل الأديان ، وقال كل واحد من الفريقين للمؤمنين : كونوا على ديننا ، فلا دين إلا ذلك ، ودعوهم إلى دينهم ، فأنزل الله تعالى : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥)) (١) [البقرة : ٢ / ١٣٥].

ثم أمر الله المؤمنين باتّباع جميع الأنبياء دون تفريق بين أحد منهم فقال : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧)) (٢)

صبغة الله (شريعته وسنّته وفطرته)

أمر الله عزوجل المسلمين بأمرين أساسيّين جوهريّين وهما : أن يقولوا : إنما نؤمن بالله وكتبه ورسله ، لا نفرّق بين أحد من رسله وكتبه ، وأن يقولوا : صبغنا الله بصبغة الإيمان والدين الذي فطر الناس عليه ، وبتطهير النفوس من أدران الوثنية والشرك ، والرياء والأحقاد والضغائن ، فالمسلم يعلن التزامه بوحدانية الله دين الفطرة ، ويصفي نفسه من كل ما يؤدي إلى زرع الحقد والضغينة في القلوب ، فهو

__________________

(١) مائلا عن الباطل إلى الدين الحق.

(٢) أولاد يعقوب وأحفاده.

٦٢

صافي النفس والفؤاد ، مهذّب المشاعر والإحساسات ، قال الله تعالى : (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨)) (١) [البقرة : ٢ / ١٣٨].

ثم أمر الله نبيّه بأمر خاص به : وهو أن يقول لأتباع الأديان الأخرى الذين زعموا أنهم أبناء الله وأحبّاؤه ، وادّعوا أنهم أولى بالله من المسلمين ، لقدم أديانهم وكتبهم : أتجادلوننا في دين الله ، والدين واحد ، وتدّعون أن دينه الحق ما أنتم عليه ، وتظنون أن دخول الجنة والاهتداء مقصور عليكم ، فالله ربّ الجميع ، ودخول الجنة مرتبط بالأعمال الصالحة الصادرة من أي إنسان دون تعصب ولا تفريق ولا حجر على فضل الله ورحمته ، الله ربّنا وربّكم ، لا فرق بيننا وبينكم في العبودية لله ، فهو مالك أمرنا وأمركم ، ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم الحسنة والسّيئة ، ونحن لله مخلصون في تلك الأعمال ، لا نقصد بها إلا وجهه ، فكيف تدّعون أن لكم الجنة والهداية دون غيركم؟

قال الله تعالى : (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩)) [البقرة : ٢ / ١٣٩].

ثم حدّد القرآن هوّية الأنبياء السابقين ، وأنهم يلتقون مع خاتم النّبيّين على دعوة واحدة هي دعوة التوحيد الخالص لله عزوجل ، وعبادة الله وحده ، والعمل بالفضائل ، والبعد عن الرّذائل ، وكل أمة مسئولة عن أعمالها الحسنة والسيئة ، والجيل المتأخر لا يسأل عن أعمال الجيل المتقدم ، ولا داعي للافتخار بالآباء والاتّكال على الماضي ، فهذا شأن العاجز الضعيف الذي ينظر إلى الماضي ، ولا يتّجه إلى المستقبل. وأما العاقل فهو الذي يبني مجده بنفسه ، وينجز الأعمال الطيّبة بذاته ، ويعيش عصاميّا معتمدا على ما يقدم ، لا عظاميّا يعيش على أمجاد غيره. هذا طريق

__________________

(١) الزموا دين الله وفطرته.

٦٣

البناء والتّحضر ، وسبيل التفوق والاحترام وكسب السمعة وتحقيق مجد الأمة والوطن ، قال الله تعالى : (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١)) (١) [البقرة : ٢ / ١٤٠ ـ ١٤١].

إذا كان الآباء أولياء وأصفياء ، أو عظماء وعباقرة ، وأنت الوارث لم تعمل شيئا ، أفينفعك هذا أم لا؟ إن مبدأ الإسلام واضح معروف وهو :

(وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) (٤٠) [النّجم : ٥٣ / ٣٩ ـ ٤٠].

وسطية الإسلام

الإسلام وسط بين أمرين ، فلا تشديد فيه ولا تساهل ، ولا إفراط ولا تفريط ، ولا غلو فيه ولا تعصب ولا تهاون ، يقرن في تشريعه بين المادة والروح ويحرص على التوازن وتحقيقه في جميع الأمور ، فيشرع ما يحقق التواءم والانسجام بين مطالب الروح ومطالب الجسد ، ويقيم التوازن بين مصالح الفرد والجماعة ، فلا رهبانية في الإسلام ، ولا تضييع لمصلحة الفرد والأمة.

والمسلمون أمة وسط عدول خيار ، بلا إفراط ولا تفريط في أي شأن من شؤون الدنيا والدين ، جاء في الأثر ومعناه صحيح ثابت في الكتاب والسّنة : (خير الأمور أوساطها) أي خيارها ، وقد أهّلت هذه الوسطية المسلمين العدول أن يكونوا شهداء

__________________

(١) أي أولاد يعقوب وحفدته وذرّيته.

٦٤

على الأمم يوم القيامة ، ويكون الرسول عليهم شهيدا ، روي أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء عليهم‌السلام لهم برسالة الله والتوحيد ، فيطالب الله الأنبياء بالبيّنة على أنهم قد بلّغوا ـ والله أعلم بكل شيء ـ فيؤتى بأمة محمد العدول ، فيشهدون ، وتقول الأنبياء : أمة محمد تشهد لنا ، فتقول الأمم لهم : من أين عرفتم ذلك؟ فيقولون : عرفنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق ، على لسان نبيّه الصادق ، فيؤتى عند ذلك بالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويسأل عن حال أمته ، فيزكّيهم ، ويشهد لهم ، وذلك قوله تعالى :

(فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١)) [النّساء : ٤ / ٤١].

ويقول الله للأمة الإسلامية العادلة : كيف شهدتم على ما لم تحضروا؟ فيقولون : أي ربّنا جاءنا رسولك ، ونزل إلينا كتابك ، فنحن نشهد بأنك عهدت إلينا ، وأعلمتنا به ، فيقول الله تعالى : صدقتم.

وهذا معنى قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً (١) لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : ٢ / ١٤٣].

وردت هذه الآية بين آيتين تدلان على مقدمات تحويل القبلة ، لأن صلاة المسلمين أولا إلى بيت المقدس ثم تحويلهم إلى الكعبة المشرفة ، دليل على هذا التوسط والجمع بين أحكام الدين قديمه وجديدة ، والربط بين مشاعر المؤمنين الأولين والمتأخرين ، فالدين واحد لله تعالى ، والجهات كلها ملكه ، فلا اختصاص لناحية دون أخرى ، ولا مزية لها ، وإنما الأمر بيده يختار ما يشاء ، فأينما تولوا فثم وجه الله ، قال الله

__________________

(١) خيارا ، أو متوسطين معتدلين.

٦٥

تعالى منكرا الاعتراض على حكم تحول القبلة : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢)) (١) [البقرة : ٢ / ١٤٢].

ثم بعد أن ذكر تعالى في الآية التالية مزية وسطية المسلمين والإسلام ، قال مبيّنا الحكمة من التّوجه إلى الكعبة : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣)) (٢) (٣) (٤) [البقرة : ٢ / ١٤٣].

ومعنى الجزء الأخير من الآية بيان قاطع بقبول عبادة الذين ماتوا قبل تحويل القبلة ، ردّا على المرجفين القائلين : ما حال المسلمين قبل التحويل ، وكيف نحكم على صلاتهم وإيمانهم؟ فأجابهم الله بأنه يقبل صلاتهم وثباتهم على الإسلام ، ولا يضيع أعمالهم وعبادتهم ، لأن الله بالناس رؤف رحيم بهم.

حكمة تحويل القبلة

بيّنا في حديث سابق أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان يتشوّف لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ، لتثبيت ذاتية الإسلام ، ولأنها قبلة أبيه إبراهيم ، ولأنها أدعى إلى إيمان العرب المعوّل عليهم في نشر الرسالة ، ولا يعد تطلّعه إلى تحويل القبلة متعارضا مع أمر ربّه ؛ لأن صفاء روحه وقوة يقينه يجعله يتطلع إلى ما يظنه خيرا ، ويعتقد أن فيه الرّضا والخير والمصلحة ، لذا أجابه الله إلى طلبه ، فقال : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي

__________________

(١) أي خفاف العقول ، المضطربون في الرأي والفكر والخلق ، والمراد بهم هنا المنكرون تغيّر القبلة من اليهود والمشركين والمنافقين.

(٢) يرتدّ عن الإسلام عند تحويل القبلة.

(٣) لشاقة ثقيلة على النفوس.

(٤) أي صلاتكم المسببة عن الإيمان إلى بيت المقدس.

٦٦

السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤)) (١) [البقرة : ٢ / ١٤٤].

ثم ذكر الله تعالى سبب الفتنة وإعراض أكثر أهل الكتاب عن الإسلام وإيمان بعضهم فقال :

(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧)) (٢) [البقرة : ٢ / ١٤٥ ـ ١٤٧].

ولئن جئت اليهود والنصارى بكل برهان وحجة على أن الحق وهو تحويل القبلة من ربّهم ، أملا في اتّباع قبلتك ، ما اقتنعوا ولا صدّقوا به ، ولا اتّبعوك ، عنادا منهم ومكابرة ، فهم لن يتبعوا قبلتك ، ولست أنت بتابع قبلتهم بعد اليوم ، قطعا لأطماعهم في الاتجاه إلى بيت المقدس ، وكيف يرجى ذلك؟ فهم ليست لهم قبلة واحدة ، ولئن اتّبعت أهواءهم أيها النّبي ، مداراة لهم ، وحرصا على اتّباعك والإيمان بك ، بعد ما جاءك من الحق الثابت والعلم القاطع : وهو الدلائل الدّالة على اليقين ، لتكونن من الظالمين أنفسهم ، المستحقّين للعقاب في الدنيا والآخرة.

والدليل على أن أهل الكتاب يعرفون الحق : أنهم يعرفون النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما بشّرت به كتبهم ، وذكرته من صفات لا تنطبق على غيره ، فهم يعرفون النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كمعرفتهم التامة بأبنائهم ، وإن فريقا منهم عاندوا وكتموا الحق الواضح الذي يعلمونه من

__________________

(١) تلقاء الكعبة المشرفة.

(٢) الشّاكّين في كتمانهم الحق مع العلم به.

٦٧

كتبهم ، وهو نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن الكعبة قبلة له. والحق ما كان من عند الله وحده ، لا من غيره ، وذلك ما أمر الله به في قرآنه ، فلا تكونن من الشّاكّين في صدق ما أنت عليه ، وهو ما أتاك من ربّك من الوحي. نزلت هذه الآية في مؤمني أهل الكتاب : عبد الله بن سلام وأصحابه ، كانوا يعرفون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنعته وصفته وبعثه في كتبهم ، كما يعرف أحدهم ولده ، إذا رآه مع الغلمان.

ثم أبان الله تعالى أن لكل فريق من الأمم قبلة هو موليها ، فلليهود قبلة ، وللنصارى قبلة ، وللمسلمين قبلة ، فليس هناك جهة واحدة قبلة لكل الأمم ، وليست القبلة ركنا من أركان الدين ، وإنما المهم هو وجود التسابق إلى الخيرات ، وإعلان الإيمان بما أنزل الله ، واحترامه والدفاع عنه ، سواء نزل في شريعة قوم أم في شريعة أخرى ، فقال الله تعالى :

(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩)) [البقرة : ٢ / ١٤٨ ـ ١٤٩].

ثم بيّن الله تعالى ثلاث حكم لتحويل القبلة ، الحكمة الأولى : لئلا يحتج أحد على الله ، فأهل الكتاب يعرفون أن النّبي المبشّر به عندهم ، قبلته الكعبة ، فجعل القبلة إلى البيت المقدس دائما على مدى الزمان طعن في نبوّته. وكان المشركون العرب يرون أن نبيّا من ولد إبراهيم عليه‌السلام جاء لإحياء ملّته ، فلا يعقل أن يتّجه إلى غير قبلته وبيت ربّه الذي بناه إبراهيم ، فكان التحويل متفقا مع ما يرى كلا الفريقين : أهل الكتاب والمشركون. ثم استثنى الله سبحانه الذين ظلموا أنفسهم ، فهم سفهاء لا يهتدون بكتاب ، ولا يقتنعون بحجة وبرهان ، وهؤلاء لا يخشاهم أحد ، لأن الخشية تكون لأصحاب الحق والمنطق السليم.

٦٨

والحكمة الثانية في تحويل القبلة : هي إتمام النعمة على العرب المسلمين ، فإن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم عربي من ولد إبراهيم ، والقرآن المنزل عليه عربي ، وإذا آمن العرب أحبّوا أن تكون وجهتهم الكعبة ، وأن يحيوا سنّة إبراهيم الخليل في تعظيم الكعبة ، لأنه معبدهم وموطن عزّهم وفخارهم.

والحكمة الثالثة : إعداد المسلمين بتحويل القبلة للاهتداء إلى الطريق الأقوم ، والثبات على الحق ، وقبول ما يريده الله.

قال الله تعالى مبيّنا هذه الحكم الثلاث :

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠)) [البقرة : ٢ / ١٥٠].

ثم ذكّر الله تعالى المؤمنين بأن إتمام نعمته عليهم بتحويل القبلة ، كإتمام نعمته بإرسال رسول من العرب يتلو عليهم القرآن بلسان عربي مبين ، فقال سبحانه : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢)) (١) [البقرة : ٢ / ١٥١ ـ ١٥٢].

الصّبر والقتل في سبيل الله

يتعرّض دائما أهل الحق والفضيلة والدين لإيذاء غيرهم واعتداء أعدائهم عليهم بقصد تغليب الشّر على الخير ، ونصرة الفساد على الصلاح ، والضّلال على الهدى ،

__________________

(١) الكتاب : القرآن ، والحكمة : السّنة النّبوية والفقه في الدين.

٦٩

وتأييد الباطل على الحق ، والانحراف عن جادة الاستقامة والرشاد. وبما أن هذا الصراع بين الخير والشّر يدوم طويلا ، ويريد الله لمصلحة الناس إعلاء كلمة الحق والخير ، أمر الله المؤمنين في مسيرة الحياة أن يستعينوا بأمور ثلاثة : هي الصبر ، والصلاة ، والشهادة في سبيل الله.

أما الصبر فهو نصف الإيمان ، ودرع أهل العزيمة والإرادة القوية ، وهو طريق النصر والغلبة والفلاح ، والله أكّد في آيات كثيرة أنه مع الصابرين ، يؤيدهم بولايته ورعايته ، وينصرهم بتوفيقه وتثبيته ، ويجيب دعاءهم ، ويعزّز موقفهم ويحميهم من الأذى.

وأما الصّلاة والاستعانة بها فلأنها أمّ العبادات ، وصلة العبد بالله تعالى ، وطريق الفرج بعد الكرب ، واليسر بعد العسر ، وهي تعصم المؤمنين من الانحراف ، وتهذّب النفوس ، وتنهى أصحابها الخاشعين فيها عن الفحشاء والمنكر.

وأما القتال في سبيل الله فهو طريق الحفاظ على الحقوق ، والظفر بالجنة والشهادة ، وأساس تحقيق المجد والعزة والكرامة واستقلال الأوطان ، وصدّ عدوان المعتدين ، واسترداد الحقوق المغتصبة كاغتصاب الصهاينة بلاد فلسطين العزيزة. وقد صحح القرآن الكريم مفاهيم الناس عن الشهداء ، فهم خالدون على مدى التاريخ ، ولهم الدرجات العليا عند الله تعالى. لما قتل بضعة عشر رجلا من قتلى بدر ، ثمانية من الأنصار ، وستة من المهاجرين ، كان الناس يقولون للرجل يقتل في سبيل الله :

مات فلان ، وذهب عنه نعيم الدنيا ولذّتها ، فأنزل الله في قرآنه بيانا قاطعا بأن الشهداء أحياء في قلوب الناس والتاريخ ، وأحياء في قبورهم ، وأرواحهم الطاهرة في حواصل طير خضر تعلق من ثمر الجنة. وجمع الله في آيات خمس بين الصبر والصلاة والاستشهاد في سبيل الله ، فقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ

٧٠

إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)) (١) (٢) [البقرة : ٢ / ١٥٣ ـ ١٥٧].

أخبر الله بأن المؤمنين يتعرضون للمصاب بشيء قليل من الخوف والجوع ونقص الأموال بضياعها ، والأنفس بموتها ، والثمرات بقلّتها ، لتهدأ القلوب وتسكن ، وتستسلم إلى الله ، راضين بقضائه وقدره إذا ما أصابهم شيء من ذلك في الدنيا ، محتسبين الأجر والثواب عند الله ، قائلين : إنا لله وإنا إليه راجعون. والصابرون يوفون أجورهم بغير حساب ، والشهداء تنزل عليهم المغفرة والرحمة من ربّهم الذي ربّاهم وتولّى أمورهم ، وأولئك هم المهتدون إلى الأفعال النافعة وخير البلاد والوطن.

السّعي بين الصّفا والمروة وحكم كتمان آيات الله

من المعلوم أن السّعي بين الصّفا والمروة من شعائر الحج ومناسكه ، وهو ركن لدى بعض الفقهاء لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الحاكم وغيره : «اسعوا فإن الله كتب عليكم السّعي». وهو أيضا من أعمال العمرة ، فمن قصد البيت الحرام للحج أو العمرة ، فلا إثم عليه أن يسعى بين الصّفا والمروة ، ويسنّ أن يدعو الله متّجها إلى الكعبة ، ويرتفع الحاجّ والمعتمر فوق الصّفا الذي كان عليه في الجاهلية صنم على صورة رجل يقال له : (إساف) وعلى المروة صنم على صورة امرأة تدعى (نائلة). زعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة ، فمسخهما الله تعالى حجرين ، ووضعهما على الصّفا والمروة

__________________

(١) لنختبرنّكم.

(٢) ثناء ومغفرة من الله تعالى.

٧١

ليعتبر بهما ، فلما طالت المدة ، عبدا من دون الله ، فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بينهما مسحوا الوثنين ، فلما جاء الإسلام وكسّرت الأصنام ، كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصّنمين ، فأنزل الله تعالى هذه الآية :

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨)) (١) (٢) (٣) [البقرة : ٢ / ١٥٨].

وقد فهم عروة بن الزبير خطأ أن السّعي بين الصّفا والمروة غير مطلوب شرعا ، فقال لخالته عائشة رضي الله عنها : «أرأيت قول الله : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) فما أرى على أحد شيئا أن لا يطوف بهما ، فقالت عائشة : بئس ما قلت يا بن أختي ، إنها لو كانت على ما أوّلتها عليه ، كانت (فلا جناح عليه أن لا يطّوف بهما) ولكنها إنما أنزلت لأن الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلّون لمناة الطاغية (٤) ، وكان من أهلّ لها يتحرّج أن يطوف بالصّفا والمروة ، فسألوا عن ذلك رسول الله ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا كنا نتحرّج أن نطوف بالصّفا والمروة في الجاهلية ، فأنزل الله : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) إلى آخر الآية.

ثم بيّن الله تعالى جزاء أحبار اليهود وأمثالهم على كتمان ما أنزل الله وإخفائه على الناس مع شدة الحاجة إليه ، أو وضع شيء مكذوب من عندهم مكانه ، وذلك الجزاء هو الطّرد من رحمة الله وغضب الله عليهم ، إلا من تاب منهم ورجع عن كتمان كلام الله ، وأصلح ما أفسده بأن أزال ما وضعه من عنده ، وأعلن الأصل الصحيح ،

__________________

(١) معالم دينه في الحجّ والعمرة.

(٢) زار البيت الحرام.

(٣) يكثر الطواف والسعي بينهما.

(٤) أي يرفعون صوتهم بإحرامهم ملبّين بحجّ أو عمرة.

٧٢

وبلّغ ما أنزل الله من غير تحريف ولا تبديل ، قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢)) (١) (٢) (٣) (٤) [البقرة : ٢ / ١٥٩ ـ ١٦٢].

وهذا حكم عام في كل من كتم حكما شرعيّا أو علما نافعا ، أو رأيا خالصا لوجه الله ولمصلحة الوطن ؛ لأن كتمان المعارف والعلوم خيانة للأمة والمجتمع.

وحدانية الله ورحمته وبرهان ذلك

أقام الله تعالى الأدلة الكثيرة على وحدانيته ورحمته وفضله ، بما لا يدع مجالا للشّك والشّبهة ، ويعرف العقلاء المتأملون فيها صحة البراهين وصدق الأدلّة. قال عطاء : أنزلت بالمدينة على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣)) [البقرة : ٢ / ١٦٣]

فقالت كفار قريش بمكة : كيف يسع الناس إله واحد؟ فأنزل الله تعالى :

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤)) (٥) [البقرة : ٢ / ١٦٤].

__________________

(١) يطردهم من رحمته.

(٢) أي الملائكة والناس جميعا.

(٣) أي لم يتوبوا وعاندوا ، وظلّوا يغيّرون ، ويحرّفون حتى الموت.

(٤) يؤخّرون لحظة عن العذاب.

(٥) تقليبها في مهابّها

٧٣

وقال أبو الضحى : لما نزلت هذه الآية : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) تعجّب المشركون ، وقالوا : إله واحد؟ إن كان صادقا فليأتنا بآية ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلى آخر الآية المذكورة.

أرشدت آية التوحيد السابقة إلى أن الإله الذي يعبد هو واحد لا شريك له ، فلا معبود بحق في الوجود إلا هو ، وهو الرّحمن الرّحيم بخلقه ، اللطيف بعباده ، الذي يتولى شأن مخلوقاته من النشأة أو الولادة إلى العدم أو الموت. ولا يدرك عظمة الله ورحمته إلا إنسان عاقل يدرك مدى عجزه وحاجته إلى ربّه ، فإذا كان المريض يسعد سعادة عظمي بمساعدة غيره من الأطباء والممرضات ، فكيف بعون الله ورعايته للإنسان في كل لحظة وثانية من لحظات وثواني العمر المديد ، وفي تقلّبات الحياة الخطيرة الرّهيبة.

وأدلّة وحدانية الله ورحمته ملموسة واضحة في الكون المشاهد ، ألم ير الإنسان أن الله هو الذي خلق السموات وما فيها من عوالم وأفلاك ، وكواكب ومجرّات ، ذات نظام دقيق ، تسير في مداراتها دون تصادم مع غيرها بقدرة الله الذي أودع فيها ما يسمى بالجاذبية؟

والله هو الذي خلق الأرض وما فيها من إنسان وحيوان ونبات ، ومعادن وأنهار وجبال ووديان ، تسير فينا كأننا في سفينة ، وتدور بنظام محكم ، لا اضطراب فيه ، مما يدلّ على وحدانية الله ورحمته الواسعة. والله الذي أوجد الليل والنهار ، وجعلهما متعاقبين ، متفاوتين طولا وقصرا على مدى العام ، ومختلفين برودة وحرارة ، وحركة وهدوءا ، وأوجد فصول السّنة ، مما يدلّ على وحدانية الرّحمن الرّحيم.

والله الذي ألهم الإنسان صناعة السفن ، وعلّمه كيفية تسييرها في البحر بعد معرفة

٧٤

طبيعة الماء وقانون ثقل الأجسام ، وطبيعة الهواء والرياح والبخار والكهرباء ، مما يرشد إلى وجود إله واحد رحمن رحيم.

والله أنزل المطر لإحياء الأرض بعد موتها ، فأنعش النبات والإنسان ، فمن تأمّل في تكاثف البخار ، وتكوّن السّحب ومناظرها الخلابة التي يراها كل من ركب الطائرات ، وتسييرها بالرياح لإنزال المطر بحكمة الله وتقديره ، مما يدل على الإله الواحد الأحد الرّحمن الرّحيم.

إن هذه الظواهر والمخلوقات والأسرار المودعة في المواد آيات دالات على الوحدانية والرحمة بالعباد ، ولا يعرفها إلا العقلاء.

علاقة المشركين بآلهتهم

الشّرك بالله وثنية وخرافة ووهم ، والشّرك وكر الخرافات والأباطيل ، وعلاقة المشركين بآلهتهم من الأصنام والأوثان والملائكة والجنّ علاقة ضعيفة واهية أوهن من بيت العنكبوت ، لا تفيدهم شيئا ولا تضرّهم ، وتتبدّد جميع الآمال المعقودة عليهم في الآخرة ، وتنقطع الصلات والأنساب ، ويتبرأ المتبوعون من الأتباع ، والأتباع من المتبوعين ، يتبرأ كل معبود من الملائكة والجنّ المتبوعين من الذين اتّبعوهم وعبدوا غير الله.

ويظهر المشركون حبّا وتعاطفا وتفانيا في خدمة آلهتهم المزعومة ويحبونهم كحب الله ، مع أن الله واحد لا شريك له ، لا إله إلا هو ولا ندّ ولا نظير له ، ولا شريك معه ، فعلاقة المشركين علاقة واهية كاذبة. على عكس علاقة المؤمنين المخلصين بربّهم ، فهم أشد حبّا لله ، وأكثر حبّا لله ، ومن تمام محبّتهم وتعظيمهم لربّهم أنهم لا يشركون به شيئا ، بل يعبدونه وحده ، ويلجأون إليه في جميع أمورهم قائلين دائما :

٧٥

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)) [الفاتحة : ١ / ٥].

والمشرك متناقض مع نفسه ، عاجز عن جلب النفع لنفسه ودفع الضّرر والسوء ، فتراه إذا وقع في محنة أو أزمة لجأ إلى الله ، ثم نسيه ، وإذا ركب المشركون في السفن دعوا الله مخلصين لكي ينجيهم من المخاطر والأهوال ، فإذا ما نزلوا على الأرض ، اتجهوا إلى آلهتهم ، وقالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) فهم في الشّدة مع الله ، وفي الرّخاء يسوّون بالله غيره ، فإذن هم يحبّون آلهتهم كحبّ الله ، والذين آمنوا لا يحبّون إلا الله وحده لا شريك له.

حكى القرآن أحوال المشركين مع آلهتهم في الدنيا والآخرة ، فقال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧)) (١) (٢) (٣) (٤) [البقرة : ٢ / ١٦٥ ـ ١٦٧].

وأتبع ذلك بمناسبة كون أوضاع المشركين خبيثة المنافع ، أمر الله بالطيب النافع فقال تعالى :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩)) [البقرة : ٢ / ١٦٨ ـ ١٦٩]

__________________

(١) أي نظراء وأمثالا مخالفين من الآلهة يعبدونها.

(٢) الأسباب : الصلات والعلاقات.

(٣) أي رجعة إلى الدنيا.

(٤) أي ندامات شديدة.

٧٦

يا أيها الناس كافّة كلوا مما يوجد في الأرض حلالا أحلّه الله لكم ، طيبا لا شبهة فيه ولا إثم ، ولا يتعلق به حق الغير ، وألا تأكلوا الخبائث التي منها ما يأخذه الرؤساء من الأتباع ، فهو حرام خبيث لا يحل أكله. وألا تتبعوا طرق الشيطان بالإغواء والإضلال والوسوسة ، فهو يوسوس بالشّر والمنكر ، وهو لكم عدوّ ظاهر العداوة من عهد أبينا آدم عليه‌السلام ، فلا يأمر بالخير أصلا ، ولا يأمر إلا بالقبيح من الذنوب ، فاحذروه ولا تتبعوه ، ويأمركم أن تقولوا على الله في دينه ما لا تعلمون يقينا أنه شرع الله في العقائد والشعائر الدينية ، أو تقدموا على تحليل الحرام وتحريم الحلال ، للتوصل لإفساد العقيدة وتحريف الشريعة.

ثم حكى الله عن المشركين وبعض اليهود ما هم عليه من التقليد الأعمى ، قال ابن عباس : دعا رسول الله اليهود إلى الإسلام ، ورغّبهم فيه ، وحذّرهم عذاب الله ونقمته ، فقال رافع بن حرملة ومالك بن عوف : بل نتّبع ما وجدنا عليه آباءنا ، فهم كانوا أعلم وخيرا منا ، فأنزل الله في ذلك : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١)) (١) (٢) [البقرة : ٢ / ١٧٠ ـ ١٧١].

أي إن هؤلاء الكفار في تقليدهم الأعمى آباءهم كالببغاوات وكرعاة السّوائم التي لا تعي ولا تفقه ما يقال لها ، فكل من الفريقين لا يعي شيئا مما يسمع ، وإنما يسمع بجرس اللفظ ورنينه فقط ؛ لأن الله قد ختم على قلوب الكفار ، وجعل على أسماعهم وأبصارهم غشاوة.

__________________

(١) يصوّت ويصيح.

(٢) خرس عن النّطق بالحق.

٧٧

إباحة الطّيبات وتحريم الخبائث

أذن الله لعباده المؤمنين وغير المؤمنين أن يتناولوا الحلال الطيب المفيد الذي لا شبهة فيه ولا إثم ، ولا يتعلق به حق للغير مهما كان ، ونهاهم عن اتّباع الأهواء والشياطين الذين يوسوسون بالشّر ، ويزيّنون المنكر ، ويوقعون الناس في الإثم والضلال ، فالشيطان لا يأمر إلا بالقبيح ، فكل ما يأباه الطبع السليم والعقل الراجح وينكره الشّرع هو من أعمال الشيطان وأماراته ، فيجب الحذر منه وتجنّب ما يوهمه من الخير ، والشيطان يأمر الناس عادة أن يقولوا على الله ما لا يعلمون من أمور الشرع والدين ، قال الله تعالى مبيّنا هذا كما تقدّم :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩)) [البقرة : ٢ / ١٦٨ ـ ١٦٩].

ثم أكّد الله تعالى في الآيات التالية إحلال الطّيبات بلا إسراف ولا تقتير ، وأمر عباده بشكر نعمة الله ، وإخلاص الشكر لله إن كانوا يعبدونه حقّا ، فذلك غذاء الروح ووفاء المعروف. قال الله سبحانه :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢)) [البقرة : ٢ / ١٧٢].

ثم أبان القرآن الكريم تحريم المضارّ والخبائث مما لا يفيد الجسم ، وإنما يضرّه ويؤذيه ، إما في صحته وعافيته ، وإما في روحه وعقيدته ، فقال الله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ (١) (٢)

__________________

(١) أي ما ذكر عليه اسم غير اسمه تعالى ، والإهلال رفع الصوت بهذا.

(٢) ألجأته الضرورة لتناول المحرّم.

٧٨

باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣)) (١) (٢) [البقرة : ٢ / ١٧٣].

إن تحريم الميتة : بسبب ما فيها من الدم المحتبس الضّار ، الذي قد يكون ملوّثا بالأمراض والسّمّيات في الغالب ، والنفوس تعاف الميتة التي قد يمضي عليها ساعات أو يوم فتتلوث بالجراثيم والميكروبات وتفترسها الديدان. وحرّم الله الدّم السائل المسفوح لما فيه من السّميات ولتلوثه بالأمراض وكونه مباءة الجراثيم والميكروبات.

وحرّم الإسلام تناول لحم الخنزير وشحمه لأنه حيوان قذر لا يتمثل الطعام ولا يهضمه ، ولا يأكل إلا من القاذورات والنجاسات حتى وإن ربّي في أرقى الحظائر ، وينقل الدودة الوحيدة للإنسان ، والطب ، وشرع الله القديم كاليهودية ، والجديد كالإسلام ، يحرّم الخنزير وينفّر منه.

وحرّم القرآن الكريم ما ذبح لغير الله وما ذكر عليه غير اسم الله تعالى عند الذبح ، فقد كان المشركون يذبحون في الجاهلية للأصنام ، ويقولون عند ذبحها باسم اللات والعزى ، وبما أن الذّبح تعظيم ، وتعظيم غير الله لا يجوز ، ويسيء إلى العقيدة النّقية ، فإن الله حرّم كل ما ذبح لغير الله حماية لمبدأ الإيمان بالله تعالى ، وإبعادا للناس من التّقرب للأصنام ونحوها. ثم راعى الشرع حالة الضرورة حفاظا على النفس البشرية فأباح أكل شيء من الميتة والدّم والخمر والمذبوح لغير الله إذا لم يجد الإنسان شيئا من المباحات يأكله ، بشرط ألا يكون طالبا المحرّم لذاته ولا باغيا ، ولا متجاوزا الحدّ في سدّ جوعه ، فيأكل بقدر الضرورة فقط ؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات ، والضرورة تقدر بقدرها.

__________________

(١) غير طالب للحرام للذّة.

(٢) ولا متجاوز حدود الضرورة.

٧٩

جزاء كتمان آيات الله

إن العلماء أمناء على ما يقولون وعلى ما ينقلونه ويخبرون عنه من شرع الله ودينه ، فإذا خان العالم الأمانة ، وغيّر وبدّل ، وحرّف وشوّه الحقائق ، فقد الثقة به من العالم أجمع ، واستحقّ العذاب في نار جهنم.

ولقد هدد الله تعالى في قرآنه بعض علماء أهل الكتاب وأحبارهم وأنذر المشركين الذين حرّموا بعض الحلال ، وابتدعوا في الدين أمورا ليست منه ، فقال الله سبحانه : (١) (٢) (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦)) (٣) [البقرة : ٢ / ١٧٤ ـ ١٧٦].

قال ابن عباس : نزلت هذه الآيات في رؤساء اليهود وعلمائهم ، كانوا يصيبون من أتباعهم الهدايا ، وكانوا يرجون أن يكون النّبي المبعوث منهم ، فلما بعث من غيرهم خافوا ذهاب مأكلتهم وزوال رياستهم ، فعمدوا إلى صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فغيّروها ، ثم أخرجوها إليهم ، وقالوا : هذا نعت النّبي الذي يخرج في آخر الزمان ، لا يشبه نعت هذا النّبي الذي بمكة ، فإذا نظرت الأتباع إلى النعت المتغيّر ، وجدوه مخالفا لصفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا يتّبعونه.

إن سبب نزول هذه الآيات كما ذكر عن ابن عباس يبين المقصود من الآيات ويحدد المراد منها ، ومعناها : إن الذين يكتمون ما أنزل الله في الكتاب المنزل عليهم من وصف النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيان زمانه وغير ذلك مما يشهد بصدق نبوّته وكمال رسالته

__________________

(١) أي يبيعونه بثمن قليل.

(٢) أي لا يطهّرهم من دنس الذنوب.

(٣) أي في مخالفة شديدة ومنازعة.

٨٠