التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0523-3
الصفحات: ٦٧١

وكان جزاء المخالفة من إبليس وعصيانه أن أمر الله تعالى إبليس بالهبوط من الجنّة التي خلقه الله فيها ، وكانت على مرتفع من الأرض ، وما ينبغي لأحد أن يتكبّر في جنّة الكرامة والسعادة التي لا مجال فيها للتّكبّر والشّقاء والعصيان. وأخرجه الله من الجنّة صاغرا ذليلا مهينا ، معاملة له بنقيض مقصوده ، ومكافأة له بضدّ مراده.

ثم استدرك إبليس على الطّرد من الجنّة بطلب إنظاره (إمهاله) إلى يوم البعث الذي يبعث الله فيه آدم وذرّيّته ، ليتمكّن من الثّأر من البشر بالإغواء والوسواس ، وليشهد حياة البشر وانقراضهم ، ثم بعثهم للحساب والجزاء. فأمهله الله وأجّله إلى وقت النّفخة الأولى حيث تصعق الخلائق ، وهي نفخة الفزع والرعب ، وعندها يموت إبليس أي بعد النفخة الأولى.

ولما أمهل الله إبليس إلى يوم البعث ، لجأ إلى العناد والتّمرد ، وإضلال الناس ، فصمم على تنفيذ غرضه ، لئلا يعبد الناس ربّهم ولا يوحّدوه بسبب إضلال الله له ، ووسيلته هي التزيين للمعاصي. وقال إبليس : لأقعدن للبشر على الطريق القويم ، ث م لا أدع جهة من الجهات الأربع إلا أتيتهم منها ، ولا تجد أكثرهم شاكرين لنعمة الله ، ولا مطيعين أوامر الله ، وذلك مجرد وهم وتأمّل وتمنّيات باطلة.

ثم أكّد الله تعالى إنزال اللعنة على إبليس ، والحكم عليه بالطّرد والإبعاد مذموما (معيبا) مدحورا (مطرودا مبعدا من رحمة الله). وأقسم الله تعالى على أن من تبع إبليس من الآدميين فيما يزينه من الشرك والفسوق والعصيان ، لتملأن منهم جهنّم ، هم وأتباعهم جميعا دون استثناء ولا تخفيف إلا عباد الله المخلصين الذين لا يصغون لنداء الشيطان ، ويتمسكون بأمر الرحمن. وذلك كما ورد في آية أخرى : (قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ

٦٤١

إِلَّا غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥)) [الإسراء : ١٧ / ٦٣ ـ ٦٥].

إن جزاء المخالفين لأمر الله هو جزاء عادل ، وواحد ، لأن العصيان فيه معنى التحدي ، والطاعة فيها معنى الامتثال والانقياد.

سكنى آدم في الجنّة وخروجه منها

اقتضت عدالة الله أن ترتبط المسبّبات بالأسباب والنتائج بالمقدّمات ، وعملا بهذا المبدأ أمر الله آدم عليه‌السلام بسكنى الجنّة واختباره فيها بامتثال الأمر الإلهي ، فلما خالف وعصى ، أمره ربّه بالخروج منها عدلا وجزاء موافقا لمخالفته وعصيانه ، وهذه التجربة تصلح عنوانا لكل قضية في العالم ، النعمة فيها مرتبطة بالموافقة ، والنقمة فيها ملازمة للمخالفة. قال الله تعالى واصفا هذه القصّة :

(وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) [الأعراف : ٧ / ١٩ ـ ٢٥].

__________________

(١) ألقى إليهما الوسوسة.

(٢) ما ستر وأخفي.

(٣) السّوءة : العورة لأنه يسوء الإنسان ظهورها ، أي عوراتهما.

(٤) حلف لهما.

(٥) أزلّهما عن الطاعة بخداع.

(٦) شرعا وأخذا يلزقان.

٦٤٢

يراد بهذه القصة إرشاد الناس إلى طرق الهداية ، وتحذيرهم من وساوس الشّياطين ، فإن الشيطان بسبب حسده لآدم وحواء ، سعى في إخراجهما من الجنّة بمكره وخديعته ، ليسلبهما ما هما فيه من النعمة. قال الحسن البصري : كان يوسوس من الأرض إلى السماء ، وإلى الجنّة بالقوة الفوقية التي جعلها الله تعالى فيه.

والمعنى : أباح الله تعالى لآدم وحواء سكنى الجنة والأكل من جميع ثمارها إلا من شجرة واحدة. والجنّة هي جنّة الخلد ، والشجرة : نوع معين لم تعرف في القرآن ، والنّهي عن الأكل من الشجرة لحكمة معينة هي اختبار الإنسان ومعرفة مدى امتثال التكليف الإلهي ، فإنهما إن أكلا من تلك الشجرة ، كانا من الظالمين لأنفسهما.

فحسدهما الشيطان ، وسعى في خديعة آدم وحواء ، ليسلبهما نعمة السكنى في الجنّة ، فوسوس لهما لتصير عاقبة أمرهما إبداء ما ستر من عورتهما ، وقال لهما : ما نهاكما ربّكما عن هذه الشجرة إلا لئلا تكونا ملكين ، أو تكونا خالدين في الجنّة. وأقسم لهما قسما مغلّظا شديدا : إني لكما لمن الناصحين المخلصين. ثم تابع في خداعهما بالترغيب في الأكل ، وبالوعد وبالقسم ، حتى نسيا أمر الله إليهما وإخباره أن الشيطان عدوّ لهما ، ثم تمكّن من إسقاطهما عما لهما من المنزلة عند الله ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥)) [طه : ٢٠ / ١١٥]. وقوله تعالى : (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) معناه : فنزّلهما إلى الأكل من الشجرة ، بما غرّهما به من القسم بالله ، أي غرّهما بقوله وخدعهما بمكره.

فلما ذاقا ثمرة الشجرة ، ظهرت عوراتهما ، وزال عنهما النور ، وشرعا يستران العورة بورق أشجار الجنة العريض. وعاتبهما ربّهما موبّخا : ألم أمنعكما من الاقتراب من هذه الشجرة ، والأكل منها ، وأقل لكما : إن الشيطان ظاهر العداوة لكما ، فإن أطعتماه أخرجكما من دار النّعيم وهي الجنّة إلى دار الدنيا وهي دار الشقاء والتعب

٦٤٣

في الحياة ، فاحذروا الشيطان كما ورد في آية أخرى : (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧)) [طه : ٢٠ / ١١٧].

قال آدم وزوجته : ربّنا ظلمنا أنفسنا بمخالفتك وطاعة الشيطان ، عدوّنا وعدوّك ، وإن لم تستر ذنبنا وترض عنا وتقبل توبتنا ، لنكونن من الذين خسروا الدنيا والآخرة ، قال تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧)) [البقرة : ٢ / ٣٧].

ثم أمر الله آدم وحواء بالهبوط أو النزول من الجنة ، في حال من التّعادي ، يعادي بعض الذّرية بعضا في الدنيا ، ويستقرّون فيها إلى أجل مسمى عند الله ، ويكون لهم فيها تمتّع إلى أجل محدود ، وفي الأرض يحيون ويموتون ، ثم يخرجون منها إلى دار البعث والجزاء بعد الموت حسبما يريد الله تعالى ، وقد وصف ذلك في آية أخرى : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) [طه : ٢٠ / ٥٥].

ويظل الحذر من الشيطان واجب الإنسان لينجو من وساوسه وغوائله ، ويستقيم في حياته ويسعد في الدنيا والآخرة.

روي أن آدم عليه‌السلام أهبط بالهند ، وحواء بجدّة ، وتمنّاها بمنى ، وعرف حقيقة أمرها بعرفة ، ولقيها بجمع (١) ، وأهبط إبليس بميسان (٢).

__________________

(١) الجمع : هو المزدلفة ، وأيام منى تسمى أيام جمع ، ويوم عرفة يسمى يوم جمع.

(٢) ميسان : أرض واسعة كثيرة القرى والنخيل بين البصرة وواسط ، مركزها ميسان.

٦٤٤

أهمية اللباس

اللباس للإنسان مظهر تحضر وتمدن وعنوان احترام للآخرين ، أما العري وإظهار الأعضاء فهو مظهر من مظاهر البدائية والتخلف ، يتفق مع حالة الإنسان البدائي وطريقة عيشه في الصحاري والوديان ، لذا امتن الله تعالى بإنعامه على البشرية ، إذ أوجد لهم أنواع الألبسة لستر العورات والعيوب ، ومختلف الرياش والأصواف للتنعم والراحة ، وحذر القرآن من فتنة الشيطان ووساوسه التي هي سبب من أسباب نزع اللباس وإزالة النعمة ، فقال الله تعالى :

(يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) [الأعراف : ٧ / ٢٦ ـ ٢٧].

ابتدئت الآيات بقوله تعالى (يا بَنِي آدَمَ) وهو خطاب لجميع الأمم وقت النبي عليه الصلاة والسلام ، والمراد بهذا الخطاب : قريش ومن كان من العرب يتعرى في طوافه بالبيت ، وهذه الآية امتنان من الله تعالى على عباده بما جعل لهم من اللباس الساتر للعورات ، والريش : وهو ما يتجمل به من الثياب أو المعيشة. إن نعمة اللباس والثياب والاستمتاع بالزينة والجمال ، واتقاء الحر والبرد من أجلّ النعم على البشرية ، وإنزال اللباس : معناه الخلق والإيجاد للخليقة ، وهذا من فضل الله على عباده إذ حماهم بإيجاد الألبسة والأمتعة من السوء والتعرض للمتاعب والمخاطر ، وهذا من ضرورات المعيشة والرخاء في الدنيا.

__________________

(١) أعطيناكم.

(٢) يستر عوراتكم.

(٣) الريش : كل ما ستر من اللباس أو المعيشة.

(٤) الفتنة الابتلاء والاختبار ، ولا يفتنكم أي لا يخدعنكم.

(٥) يزيل عنهما.

(٦) القبيل : الجماعة والجنود.

٦٤٥

إلا أن الله تعالى فضّل اللباس المعنوي وهو التقوى : أي الإيمان والعمل الصالح على اللباس المادي ؛ لأن أثره خالد ، وحافظ للقيم والأخلاق التي تسعد المجتمع وتنشر الأمن والرخاء والاطمئنان ، وتكفل الاستقرار ودوام الحياة الكريمة.

إن خلق اللباس والريش وهما عبارة عن سعة الرزق ورفاهة العيش والتمتع بالحياة من آيات الله الدالة على قدرته وفضله وإنعامه ورحمته بعباده ، وإن هذه النعم تؤهل البشر لتذكّر فضل الله عليهم ، وتحملهم على الشكر وتقدير المنعم ، والبعد عن فتنة الشيطان (محاولة الإيقاع في البلاء) وإبداء العورات.

والوفاء للمنعم وشكره نتيجة طبيعية لكل معروف وصاحبه ، فمن قدم جميلا لغيره استحق الشكر وتقدير المعروف ، لذا ذكّر الله تعالى المؤمنين بما هو خير لهم : وهو ألا يغفلوا عن أنفسهم ، ولا يصرفنهم الشيطان عن وصايا الله وشرعه ودينه. وفتنة الشيطان : الاستهواء والغلبة على النفس. والمعنى في قوله تعالى : (لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) نهيهم أنفسهم عن الاستماع للشيطان وإطاعة أمره ، فإن للشيطان فتنة ومحاولة لإغراء الناس ، كما فتن أبوينا آدم وحواء بالإخراج من الجنة ، فإن وسوسته أدت بسبب مخالفتهما أمر الله إلى التسبب في الطرد من الجنة ، ونزع اللباس عن عوراتهما ، وهو ورق الجنة ، وإظهار سوءاتهما أي عوراتهما. وزيادة في التحذير والاعلام بأن الله عزوجل قد مكّن الشيطان من ابن آدم ، أخبرنا الله سبحانه بأن الشيطان يرى المؤمنين هو وجماعته ، وهم لا يرونه ، فيجب التخلص من وساوسه بكثرة الطاعة والقناعة برزق الله وفضله ، علما بأن للشيطان أعوانا وأنصارا ، والشياطين هم أعوان الكفار الذين لا يؤمنون بالله تعالى إيمانا حقا تزكو به نفوسهم ، وتصلح به أعمالهم ، بسبب استعدادهم لقبول وسواس الشيطان ، كاستعداد ضعفاء الأجسام لاستقبال الأمراض الفتاكة بسرعة كبيرة وتورط شديد.

٦٤٦

هذه الآية تنبيه لنا بأن الشيطان عدو الإنسان ، فيجب التنبه لمخاطره وتذكر عهد الله وميثاقه بأن نعبده وحده لا شريك له ، ونزكي النفس بالأخلاق الكريمة والآداب الحميدة ، وتهذيب الطباع ، لنحقق السعادة الأبدية في الآخرة ، ونؤدي الرسالة في هذه الحياة على الوجه الأكمل.

تقليد الآباء وتشريع الله

ليس التشريع العام للمجتمع أمرا سهلا ؛ لأن به قوام المجتمعات وحياة الأمم والشعوب ، فإذا كان التشريع سديدا صالحا ، صلحت الجماعة وإذا كان التشريع هشا بدائيا ، فسدت الجماعة وانحدرت. لذا كان مصدر التشريع في الإسلام هو الله عزوجل ، من أجل إسعاد الفرد والجماعة ، أما عرب الجاهلية المشركون فكانوا يعتمدون في تشريعاتهم وتنظيماتهم على تقليد الآباء والأجداد ، وتوارث الأنظمة دون تجديد ولا تصحيح ولا إدراك للخطأ.

ونجد في القرآن الكريم بيانا للفرق بين تشريع الجاهلية وتشريع الإسلام ، قال الله تعالى :

(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠)) (١) (٢) (٣) (٤) [الأعراف : ٧ / ٢٨ ـ ٣٠].

__________________

(١) أتوا فعلة متناهية في القبح.

(٢) بالعدل.

(٣) توجهوا لعبادته.

(٤) في وقت كل سجود ومكانه.

٦٤٧

وبّخ الله تعالى المشركين على ارتكابهم الفاحشة : وهي الفعلة المتناهية في القبح ، والمراد بها طوافهم حول البيت الحرام عرايا رجالا ونساء ، وملازمتهم لعقيدة الشرك والوثنية. وإذا عوتبوا في ذلك قالوا : نحن في هذا مقلدون للآباء ، متبعون للأسلاف ، وتوهموا أن ما يفعلونه طاعات ، وأن الله أمرهم بها ، مع أن تلك الأمور فواحش. وهذا أبطل الباطلات ، وقل لهم أيها النبي : إن الله لا يأمر بالفحشاء أصلا ، وإنما الذي يأمركم بذلك هو الشيطان.

وأما تقليد الآباء والأجداد فهو عمل ظاهر الفساد ؛ لأن لكل إنسان عقلا ووعيا يميز بين الصحيح والخطأ ، والهدى والضلال ، وليس الآباء حجة في التشريع ، ولا طريقهم أو منهجهم بمنأى عن الخطأ ، والتقليد في الأوضاع الفاسدة إلغاء للذات الإنسانية ، وإهدار للفكر والعقل البشري الذي منحه الله تعالى للإنسان ليميز به بين الخطأ والصواب.

وإذا أخطأ العقل ، وجد في الهداية الإلهية أو الوحي الرباني عاصما عن الخطأ ، ومرشدا إلى الصواب ، وموجها إلى الحق والحقيقة.

فإن الله لا يأمر إلا بالعدل والاستقامة والتوسط في الأمور ، ومن أوامره : إيفاء العبادة حقها ، والتوجه بكامل القلب وصحة القصد إلى الله وحده دون غيره عند كل صلاة ، وأداء العبادة في وقتها ، والإخلاص لله في العبادة من غير مراءاة ولا سمعة ، ولا إشراك أحد مع الله ، فإنه سبحانه وتعالى لا يتقبل عملا من الأعمال إلا إذا توافر فيه ركنان :

الركن الأول : أن يكون صوابا موافقا للشريعة ، والركن الثاني : أن يكون خالصا من الشرك بإدخال أحد من المخلوقات البشرية أو السماوية أو الأصنام شريكا في قصد العبادة والتعظيم. إن إخلاص الدين لله تعالى هو جوهر العبادة ، لأن مصائر

٦٤٨

الخلائق جميعا إلى الله تعالى ، كما أنشأ هذه المخلوقات من العدم ابتداء يعيدها مرة أخرى ، فيجازي كل إنسان على عمله ، وهذا في ميزان العقل والمصلحة يتطلب إخلاص العبادة لله.

وعند العودة إلى الله وحال البعث والحساب الناس فريقان : فريق هداه الله ووفقه للعبادة والإيمان والإخلاص ، وهم المؤمنون المسلمون الخاضعون المنقادون لله وأوامره ، وفريق الضلالة الذين استوجبوا العذاب بسوء صنيعهم واختيارهم ، واتباعهم وسواس الشيطان ، إن هذا الفريق هم الذين اتخذوا الشياطين أنصارا وأعوانا من دون الله ، فقبلوا ما دعوهم إليه ، ولم يميزوا بين الحق والباطل ، ويظنون أنهم سائرون على درب الهداية والصواب ، مع أنهم هم الأخسرون أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وهذا من فساد الرأي وسوء الفكر وضعف العقل ، فإن الحق أحق أن يتبع ، وإن من الحماقة والبلاهة أن يخطئ الإنسان ويزعم أنه على حق وسداد وهدى.

إباحة الزّينة والطّيّبات

إن الإسلام دين الوسطية والواقعية والاعتدال ، فلا يمنع النافع الموافق للطباع السليمة ، والملائم للأعراف الصحيحة ، والمنسجم مع مقتضيات الصحة والقوة ، والمدنية والحضارة. وإنما الذي يمنعه الإسلام هو الضّار أو الشيء القبيح الذي يؤذي النفوس ، ويناقض المصلحة ، ويسيء إلى الفرد والجماعة. وهذا هو منهاج القرآن الكريم الذي يبيح الزّينة وهي الثياب الساترة ، والمطعومات والمشروبات النافعة. قال الله تعالى :

٦٤٩

(يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢)) (١) [الأعراف : ٧ / ٣١ ـ ٣٢].

سبب نزول الآيتين هو : الأمر بارتداء الثياب الساترة ، وهو ما رواه مسلم عن ابن عباس قال : كانت المرأة تطوف بالبيت في الجاهلية ، وهي عريانة ، وعلى فرجها خرقة ، وهي تقول :

اليوم يبدو بعضه أو كله

وما بدا منه فلا أحلّه

فنزلت الآية : (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) ونزلت بعدها : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ). وفي صحيح مسلم عن عروة قال : كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس ، والحمس : قريش وما ولدت.

والآيتان خطاب عام لجميع العالم ، وأمر بهذه الأشياء بسبب عصيان مشركي العرب فيها. إن القرآن الكريم يأمر بكل ما فيه فضيلة ومدنية وتحضّر ونظافة ومروءة من الطّيب والسّواك والثياب الساترة ، وكل مستحسن في الشريعة لا يقصد به الخيلاء. والأمر بالسّتر عند كل مسجد : معناه عند كل موضع سجود ، وهذا يشمل جميع الصلوات التي يجب فيها ستر العورة ، ويدخل مع الصلاة : مواطن الخير كلها.

وتختلف الزينة باختلاف الزمان والمكان والشخص والعمل. وكان هذا الأمر بارتداء الثياب والتّزين سببا لارتقاء العرب وانتقالهم من مظاهر القبلية المتوحشة إلى أرقى مظاهر المدنية والحضارة.

__________________

(١) البسوا ثيابكم لستر العورات.

٦٥٠

ثم وجّه القرآن الكريم إلى قاعدة أساسية في الطّب وتناول المباحات النافعة ، وهي : الأكل والشرب من غير إسراف ولا تقتير ، فالإسراف مذموم لتجاوزه حدود الحاجة والاعتدال ، والتقتير مذموم لأنه بخل وشحّ ، وكفى بالبخل داء ، والمطلوب هو الاعتدال في المأكل والمشرب من غير تجاوز الحلال إلى الحرام ، ولا الحاجة إلى التّخمة ، ولا التقصير في الإنفاق لأنه مضرّة وبخل.

روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كلوا واشربوا ، والبسوا ، وتصدّقوا من غير مخيلة ولا سرف ، فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده».

وليس أضرّ على الإنسان والأمة من الإسراف ، فإنه ضرر وخطر بل وحرام وبطر ، كما أنه ليس من الحكمة والخير تحريم الزينة والطّيبات من الرزق التي خلق الله موادها لعباده ، وعلمهم كيفية الانتفاع بها ، فهي مستحقّة مخلوقة لعباد الله من المؤمنين وغيرهم عدلا من الله وفضلا ونعمة.

لذ أنكر القرآن الكريم على من يحرّم الانتفاع بالمباحات زهدا وترفّعا ، فهذا خطأ ، فإن الطّيبات من الرزق حلال للناس جميعا في الدنيا ، وخالصة خاصة للمؤمنين يوم القيامة ، لا يشركهم فيها أحد من الكفار ، فإن الجنة محرّمة على الكافرين.

ومثل هذا التفصيل التّام والبيان لحكم الزينة والطّيبات ، يفصل الله تعالى الآيات الدّالة على كمال الشّرع والدّين ، وصدق النّبي والقرآن وإتمام الشريعة لقوم يعلمون العلوم النافعة كعلوم الاجتماع والنفس والطّب والمصالح.

وهذا الاتجاه القرآني في الاعتدال في اللباس والطعام والشراب والانتفاع بمنافع الدنيا الحسنة دليل على أن الإسلام دين الكمال والسّمو ، والقوة والمدنيّة والحضارة ، والتّقدم والاعتدال ، والله ولي المتّقين.

٦٥١

أصول المحرّمات في الإسلام

بعد أن ذكر القرآن الكريم ما حرّمه الكفار المشركون على أنفسهم مما لم يأذن الله به ، أتبعه ذكر ما حرّم الله عزوجل ، ليميّز المخاطب بين الحق والباطل ، ويدرك أن التّحريم مرتبط بالضرر والأذى للإنسان نفسه ، وليس التحريم أمرا اعتباطيا أو عبثا لا يخدم هدفا ولا يؤدي مصلحة أو يدرأ مفسدة ، قال الله تعالى :

(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣)) (١) (٢) (٣) [الأعراف : ٧ / ٣٣].

لما لبس المسلمون الثياب بأمر الله وتشريعه وطافوا بالبيت الحرام بالزينة التّامة ، عيّرهم المشركون بذلك ، فقال الله لنبيّه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين حرموا ما أحلّ الله من الطّيبات والرزق واللباس : ما حرم ربّي هذا ، وإنما حرّم خمسة أشياء هي أصول المحرّمات الضّارة بالفرد والجماعة وهي ما يأتي :

١ ـ حرّم الله تعالى الفواحش الظاهرة والباطنة ، الجهرية والسّرية : وهي كل ما فحش وقبح من الأعمال المفرطة في الشّناعة ، ما ظهر منها للناس وما بطن أو خفي عنهم ، وتشمل المعاصي الكبائر لتفاحش قبحها ، مثل الزّنى والرّبا والسّرقة والقتل وخيانة الوطن وإذاعة السوء ، والخروج على الجماعة ، وتفتيت وحدة الأمة ، وتهديم بنيتها وحضارتها ، وغير ذلك من كل ذنب خطير أو إساءة بالغة. ويعدّ كل ما حرّمه الشّرع فهو فاحش ، وإن كان العقل لا ينكره كلباس الحرير والذهب ولو خاتما للرجال ونحوه مما يرتكبه الإنسان ظاهرا أو باطنا.

٢ ـ وحرّم الله تعالى الإثم : وهو لفظ عام يشمل جميع الأقوال والأفعال التي

__________________

(١) كبائر المعاصي.

(٢) الظلم.

(٣) حجة وبرهانا.

٦٥٢

يتعلّق بمرتكبها إثم أو ذنب ، وهو الذنوب الصغائر ، وقال بعض الناس : الإثم هي الخمر ، محتجّا بقول الشاعر :

شربت الإثم حتى ضلّ عقلي

كذاك الإثم تذهب بالعقول

٣ ـ وحرّم الله أيضا البغي : وهو الظلم وتجاوز الحدّ في الفساد والحقوق بالاعتداء على حقوق الناس الآخرين أفرادا وجماعات ، سواء أكان التّعدي مبتدءا أو كان صاحبه منتصرا ، فإذا جاوز الحدّ في الانتصار فهو باغ. وقوله تعالى : (بِغَيْرِ الْحَقِ) زيادة بيان ، إذ لا يتصور بغي بغير حق ؛ لأن ما كان بحق فلا يسمى بغيا.

٤ ـ وحرّم الله تعالى الشّرك بالله : وهو أقبح الفواحش ، وهو أن تجعل مع الله إلها آخر من صنم أو وثن أو كوكب أو ملك أو إنسان ، لم تقم عليه حجة من عقل ولا برهان من وحي ، وسميت الحجة سلطانا : لأنها ترجح قول الخصم على غيره ، ويكون لها تأثير على قول السامع وفكره. والشرك لا دليل ولا حجة عليه من عقل ولا نقل ، قال الله تعالى : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧)) [المؤمنون : ٢٣ / ١١٧].

وهذا يشعرنا أو يدلّنا أن الاقتناع بالبرهان والحجة الساطعة أساس بناء العقيدة ، وأن الإيمان لا يقبل بغير وحي من الله ، يدعمه الدليل والبرهان.

٥ ـ وحرّم الله سبحانه التّقول على الله بغير حجة ولا علم ، كالافتراء والكذب على الله ، بادّعاء أن له ولدا أو شريكا من الأوثان ، وكتحريم بعض المواشي من بحيرة وسائبة ووصيلة وحام ، وتحليل الحرام وتحريم الحلال بلا سند ولا حجة ، وهو القول بالرأي المحض من دون دليل من الشّرع ، وهو سبب تحريف الأديان ، والابتداع في الدين الحق ، واتباع الهوى والشيطان ، واستحسان الأنظمة المنافية لتعاليم الدين والشرع ، وهذا منهج أدعياء التجديد ، وتخطي الشريعة باسم الاجتهاد ، روى

٦٥٣

البخاري ومسلم أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لتتّبعنّ سنن من قبلكم ، شبرا بشبر ، وذراعا بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لتبعتموهم ، قلنا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى؟ قال : فمن؟».

إن هذه الآية شملت تحريم جميع الجنايات وهي الجنايات على الأنساب كالزّنى والقذف ، والجنايات على العقول كشرب الخمر وتناول المخدرات ، والجنايات على الأعراض والكرامات كتجاوز حقوق الإنسان والمساس بكرامته ، والجنايات على النفوس والأموال كإلحاق الظلم بالآخرين والغصب والسّرقة والنّهب والسّلب ، والجنايات على الأديان كالطّعن في توحيد الله تعالى وسبّ الله والرسول ووصف بعض الأنبياء بصفات لا تليق بهم ، فهم المعصومون من الأخطاء الكبائر منها والصغائر.

آجال الأمم والرّسل المرسلين إليها

الأمم والشعوب والأفراد ترتبط حياتهم بأزمان معينة وتواريخ محددة ، والزمان والتاريخ سجل أمين حافل بأعمال البشر ، فهم إن ملؤوا صفحة الحياة بأفعال مجيدة تفيد البلاد والأوطان ، كانوا مؤدّين رسالة الحياة بأمانة وشرف وكرامة ، وهم إن شغلوا أعمارهم وأوقاتهم بالمظالم وتوافه الأمور ، كانوا خونة الأمانة وعالة على التاريخ ، فالعقلاء هم الذين يعمرون حياتهم بجلائل الأعمال المفيدة للأمة والديار ، قال الله تعالى مبيّنا قيمة الحياة ومهمّة رسل الإصلاح :

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤) يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦)) [الأعراف : ٧ / ٣٤ ـ ٣٦].

٦٥٤

إن للوقت قيمة كبري وأهمية عظمي ، والأجيال المتلاحقة تشغل فترة من التاريخ والزمن المحدّد لها والمقدّر لوجودها وأعمالها ، فلكل أمة أي قرن وجيل ، ولكل فرد وشيء في الوجود أجل محدد معلوم ، وهو الوقت الذي قدره الله تعالى لكل كائن حيّ ، فإذا انقضى هذا الوقت ، وانتهى هذا الأجل المقدّر للأمم والأفراد ، انطوت صفحات الأعمال ، ولا يتأخّرون عن الأجل ساعة أو أقل ، ولا يتقدّمون عنها بساعة وأقل منها.

وإن عزّة الأمم وسعادتها ، وخلود تاريخ الرجال أو النّساء مرتبط بامتثال شرع الله والتّمسك بالفضيلة ، والبعد عن الفاحشة والرذيلة. وشقاء الأمم ونكبتها وطي صفحة أبنائها يكون بالبعد عن أوامر الله ودينه ، والانغماس في المنكرات ، واقتراف جرائم الغش والرشوة والفساد والإسراف والظلم ، والتخريب السّري أو العلني.

وإذا كانت الأمم المعاصرة قد تقدّمت فبسبب إصلاح شؤون حياتها ، وإذا كانت الأمة الإسلامية متخلّفة فبسبب بعدها عن شرائع ربّها ، ومن أخصّها الوحدة والبناء والعمل والتّخطيط والحزم وضبط الموارد وصرفها في أولويات الحياة العزيزة الكريمة. وأمّتنا هي أولى الأمم بالتمسك بالمثل العليا والقيم الكريمة ، لأن دينها يأمرها بذلك. والله بهذه الآية (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) يهدّد ويوعد كل من يخالف الأمر ويسير على غير هدى من الله.

وهداية الله تعالى تتمثّل في الكتب المنزلة والرّسل المرسلة ، وقوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ) خطاب لجميع العالم ، وهو إنذار وتحذير للبشر ، فإن أتاكم أيها الناس رسل من جنسكم يخبرونكم بما أوجبته عليكم وما شرعته لكم من نظم العبادة والمعاملة والأخلاق ، وما نهيتكم عنه من الشّرك وقبائح الأفعال ، فأنتم حينئذ فريقان :

فمن اتّقى الله وأصلح العمل ، وترك الحرام وفعل الطاعات ، والتزم الفضيلة

٦٥٥

واجتنب الرذيلة ، فلا خوف عليهم من عذاب الآخرة ، ولا يطرأ عليهم حزن على ما فات ، ولا جزع على ما مضى. وهذا الفريق هم أهل السعادة والنجاة ، وهم الذين شغلوا أعمارهم وأوقاتهم بالنافع المفيد.

والفريق الثاني وهم الذين كذبوا بآيات الله التّنزيلية والكونية ، ولا سيما آيات القرآن المجيدة ، وجحدوا بدلائل التوحيد والألوهية ، والأحكام والشرائع الدينية ، ورفضوا العمل بآيات الله واستكبروا عن قبولها والعمل بها كبرا وعنادا ، فأولئك أصحاب النار ، ماكثون فيها على الدوام ، ومخلّدون فيها إلى الأبد بمشيئة الله تعالى.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) فيه حالتان تعمّ جميع من يصدّ عن رسالة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإما أن يكذب بحسب اعتقاده ، وإما أن يستكبر فيكذب ، وإن كان غير مصمم في اعتقاده على التكذيب. وفي كلا الحالين يكون المكذب عن عقيدة ، والمستكبر عن غير عقيدة في التكذيب من الهالكين الخاسرين الذين ضلّوا الطريق ، وأساؤوا القصد والعمل ، وانحرفوا عن منهاج الحق الإلهي.

عاقبة الكذب على الله تعالى

ليس هناك أسوأ عاقبة ولا أشدّ افتراء من الكذب على الله تعالى ، بأن يتقوّل المرء على الله ما لم يقله ، أو يكذّب ما قاله الله ، وكأن المكذّب لا يحس في أعماق نفسه بوجود الله وعظمته ، بسبب غيابه الحسي عنه ، ويفتقر في ذاته إلى رصيد كبير من الإيمان يعوضه فراغ القلب ، وإقفار النفس ، وليته أدرك مصيره المشؤوم ومستقبله المظلم ، وهذا ما نبّه إليه القرآن الكريم في قوله تعالى :

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا

٦٥٦

وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩)) (١) (٢) [الأعراف : ٧ / ٣٧ ـ ٣٩].

قوله تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ) هذا وعيد واستفهام على جهة التقرير ، أي لا أحد أظلم ممن اختلق على الله الكذب ، بأن أوجب ما لم يوجبه ، أو حرّم ما لم يحرّمه ، أو نسب إلى دينه حكما لم ينزله ، أو نسب إلى الله ولدا أو شريكا ، أو كذّب بآيات الله المنزلة ، فأنكر القرآن مثل كفار العرب والعجم ، أو لم يؤمن بالنّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو استهزأ بالآيات أو تركها مفضلا عليها غيرها.

أولئك الكفرة جميعا ينالهم نصيبهم من الكتاب المقدّر ، وهو الشقاء والسعادة التي كتبت له أو عليه ، بحسب علم الله وعمل هذا المخلوق ، حتى إذا جاءتهم الرّسل وهم ملائكة الموت يتوفونهم ويقبضون أرواحهم ، سألتهم الرّسل تأنيبا وتوبيخا : أين الشركاء الذين كنتم تدعونهم وتعبدونهم في الدنيا من دون الله؟! ادعوهم يخلّصونكم مما أنتم فيه ، فأجابوهم : لقد غابوا عنا وذهبوا ، فلا ندري مكانهم ، ولا نرجو منهم النفع والخير ، ولا دفع الضّر. وأقروا واعترفوا على أنفسهم بأنهم كانوا بدعائهم وعبادتهم إياهم كافرين. وهذا الحوار عند قبض الأرواح زجر للكفار عن كفرهم ، ودفع لهم إلى النظر والتأمل في عواقب أمورهم.

ثم أخبر الله تعالى عن جواب الملائكة لهؤلاء المشركين المفترين الكذب على الله والمكذبين بآياته : ادخلوا النار مع أمم أمثالكم وعلى صفاتكم ، من فئة الجنّ والإنس.

__________________

(١) تتابعوا فيها.

(٢) مضاعفا.

٦٥٧

وكلما دخلت جماعة منهم النار ، ورأت العذاب والخزي والنكال ، لعنت أختها في الملّة والدّين التي ضلّت بالاقتداء بها ، كما قال تعالى : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [العنكبوت : ٢٩ / ٢٥]. حتى إذا تداركوا (أدرك بعضهم بعضا) وتلاحقوا في النار ، واجتمعوا فيها كلهم ، قالت الفئة الأخيرة دخولا وهم الأتباع والسّفلة ، للفئة المتقدّمة دخولا ، وهم المتبوعون والقادة : يا ربّنا هؤلاء السّادة أضلّونا عن الحقّ ، فأعطهم عذابا مضاعفا من النار ، فأجابهم الله تعالى : لكل منكم ومنهم عذاب مضاعف ، وقد فعلنا ذلك ، أما مضاعفة العذاب للسّادة فبسبب إضلال غيرهم وحملهم الآخرين على اتّباعهم والأخذ بآرائهم ، وأما مضاعفة العذاب للأتباع فبسبب ترويجهم أضاليل السّادة وإهمال عقولهم وأفكارهم. فالعذاب مشدّد على الأول والآخر من الفئتين ، ولكن لا تعلمون المقادير وصور التضعيف. وقالت فئة السّادة المتبوعين للأتباع : إذا كنا قد أضللناكم ، فليس لكم فضل علينا ، فقد ضللتم كما ضللنا ، فنحن وأنتم سواء في استحقاق العذاب المضاعف أو المشدّد ، فإنكم كفرتم وفعلتم كما فعلنا ، فلا تستحقون تخفيفا من العذاب ، فذوقوا وتلقّوا العذاب الإلهي بما تسبّبتم به من الكفر والضّلال.

جزاء الكافرين المكذبين

يخطئ الإنسان كثيرا حينما لا يقدر عواقب الأمور ، ولا يدرك حقيقة ما عليه حاله من انحراف أو ضلال ، حتى وإن تأثر بالتقليد أو عمل بتوجيه بعض المعلمين ، لأن مراجعة الحساب أمر مطلوب لكل عاقل ، وليس كل ما يقوله المعلم صوابا أو صحيحا ، فبعض المعلمين يتأثرون بأفكار دخيلة مغشوشة ، ويخطئون في فهم الأمور ،

٦٥٨

ثم ينقلون الخطأ إلى التلاميذ والأتباع ، وهذا يتطلب الحذر الشديد من تناقل الأفكار وتوارث الآراء عن طريق المعلمين ، قال الله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١)) (١) (٢) (٣) [الأعراف : ٧ / ٤٠ ـ ٤١].

هذه الآية عامة في جميع الكفرة قديمهم وحديثهم ، وهي تضع قرارا حاسما منكودا ، وتقرر حكما مبرما لا رجعة فيه ، وتوضح أن احتمال دخول الكفار الجنة مستحيل أبدا ، لا يحدث بحال ، فلا يطمع أحد كفر بالله في دخول الجنة ، ولا يتأمل إنسان كذّب بآيات الله الوصول إلى مستقر رحمة الله في الآخرة.

إن الذين كذبوا بآيات الله الدالة على وحدانيته وصدق نبيه وصحة النبوات وإثبات المعاد ، لا يصعد لهم عمل صالح ، لخبث أعمالهم ، ومثلهم الذين تكبروا عن آيات الله في قرآنه لا تفتحّ لأرواحهم وأعمالهم أبواب السماء ، ولا يدخلون الجنة أبدا بحال ، فهم مطرودون من رحمة الله ، فدخولهم الجنة مستحيل ، وهو معنى قوله تعالى : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) أي حتى يدخل الجمل في ثقب الإبرة ، وهذا أسلوب شائع بين العرب للدلالة على الاستحالة.

ومثل ذلك الجزاء الشديد الشنيع يجزي الله كل من أجرم في حق الله ، وفي حق نفسه ، وفي حق إخوانه المسلمين ، ليدل على أن الاجرام هو السبب المؤدي إلى العقاب ، وأن كل من أجرم عوقب ، ثم كرر ذلك في آخر الآية التالية ، فقال : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) لأن كل مجرم ظالم لنفسه.

__________________

(١) يدخل الجمل ، وهذا تعبير عن الاستحالة.

(٢) ثقب الإبرة.

(٣) فراش أي مستقر.

٦٥٩

ولهؤلاء المجرمين من نار جهنم فراش يفترشونه من تحتهم ، وأغطية من فوقهم ، والمراد أن النار محيطة بهم ، مطبقة عليهم من كل جانب ، كما قال الله تعالى : (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨)) [الهمزة : ١٠٤ / ٨]. وقال : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) [التوبة : ٩ / ٤٩] وقال سبحانه : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ) [الزمر : ٣٩ / ١٦].

ومثل ذلك الجزاء نجزي الظالمين أنفسهم وغيرهم من الناس ، وهذا دليل على أن المجرمين والظالمين هم الكافرون ، لقوله تعالى : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة : ٢ / ٢٥٤].

إن هذا الجزاء الحاسم للكفار يتطلب التأمل والاعتبار والاتعاظ ، فلا يقبل لهم عمل صالح في الآخرة ، لأن قبول العمل مرتكز على قاعدة صحيحة هي الإيمان والتقوى ، والله إنما يتقبل من المتقين ، ويقبل العمل الصالح لا الفاسد ، ويرفع إليه الكلم الطيب ، لقوله تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ٣٥ / ١٠] وقوله سبحانه : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨)) [المطفّفين : ٨٣ / ١٨].

وفي قوله : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) تشبيه المعنويات بصور المحسوسات ، فإن جهنم فراش لهم ومسكن ومضجع يتمهدونه ، وهي لهم غواش : جمع غاشية ، وهي ما يغشى الإنسان ، أي يغطّيه ويستره من جهة فوق ، فكأن النار التي من تحتهم ومن فوقهم ومن جميع جوانبهم مثل الفراش المفترش ، واللحاف الذي يتغطى به النائم ، نعوذ بالله من الخذلان ومن شدة نار جهنم.

جزاء المؤمنين المصدّقين

إن أسعد ما يفرح قلوب العاملين في الدنيا والآخرة : هو الظفر بالأجر والثواب ، لأن العدل يقتضي ذلك ، ولأنه يشعر العامل أن عمله محفوظ محترم ، وثمرة جهوده لم

٦٦٠