التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0523-3
الصفحات: ٦٧١

الحياة ، ما دام يتناول ما يسدّ به رمقه ، أو يدفع ضرر هلاكه. وهذه المحرّمات تحريمها دائم مستمرّ ؛ لأن التحريم لأسباب ذاتية.

وأما الأشياء التي حرّمها الله على اليهود فهو تحريم مؤقت ، عقوبة لهم ، لا لذات الأشياء ، كما قال تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠)) [النّساء : ٤ / ١٦٠].

وانصبّ التّحريم عند اليهود على شيئين : الأول ـ كل ما له ظفر : وهو ما ليس منفرج الأصابع كالإبل والنّعام والأوز والبط. والثاني ـ الشحوم الزائدة التي تنتزع بسهولة ، على البقر والغنم دون غيرهما ، وهي ما على الكرش والكلى فقط ، أما شحوم الظّهر (السّنام) والذّيل (الألية) فليست محرّمة ، لقوله تعالى : (إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ). والحوايا : الأمعاء. وهذا التحريم بسبب الظلم والبغي ـ وخبر الله صادق يقينا ـ وظلمهم : هو قتل الأنبياء بغير حق ، وصدّهم عن سبيل الله ، وأخذهم الرّبا ، وأكل أموال الناس بالباطل. وهذا تكذيب لليهود في قولهم : إن الله لم يحرّم علينا شيئا ، وإنما حرّمنا على أنفسنا ما حرّمه إسرائيل على نفسه ، فإن كذبوك يا محمد بما أخبرتك به ، فقل لهم على سبيل التّعجب من حالهم والتعظيم لافترائهم الكذب : إن الله ذو رحمة واسعة ، إذ لا يعاجلكم بالعقوبة مع شدة جرمكم ، ولا تغتروا أيضا بسعة رحمته ، فإنّ لله عذابا لا يردّ عن المجرمين إما في الدنيا وإما في الآخرة. وهذا جمع بين أسلوب الترغيب والترهيب في آن واحد ، ترغيب في امتثال أمر الله ، وترهيب من مخالفة الله والرّسول.

٦٢١

الاحتجاج بالقدر الإلهي والمشيئة

زعم المشركون أن شركهم بالله وتحريمهم الأشياء المباحة إنما هو بقدر الله ، فقالوا : «لولا المشيئة لم نكفر» و «لو شاء الله منا ألا نكفر لمنعنا عن هذا الكفر ، وحيث لم يمنعنا عنه ، ثبت أنه مريد لذلك ، فإذا أراد الله ذلك منا ، امتنع منا تركه ، فكنا معذورين فيه» فردّ الله هذا الزعم الباطل ، وذم الله تعالى ظن المشركين أن ما شاء الله لا يقع عليه عقاب ، فقال الله تعالى حاكيا قولهم :

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠)) (١) (٢) (٣) [الأنعام : ٦ / ١٤٨ ـ ١٥٠].

هذه شبهة تمسّك بها المشركون في شركهم وتحريم ما حرّموا ، فإن الله مطّلع على ما هم فيه من الشّرك وتدخّلهم في التحريم ، إنهم يقولون : إن شركهم وشرك آبائهم ، وتحريم ما أحلّ الله من الحرث (الزرع) والأنعام (المواشي) هو قائم بمشيئة الله وإرادته ، ولولا مشيئته لم يكن شيء من ذلك ، كمذهب الجبرية تماما.

فردّ الله عليهم شبهتهم بقوله : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وفي الكلام حذف يدلّ عليه السياق ، أي سيقول المشركون كذا وكذا ، وليس في ذلك حجة لهم ، ولا شيء يقتضي تكذيبك ، ولكن كذلك كذب الذين من قبلهم بنحو هذه الشبهة ، من

__________________

(١) تكذبون على الله تعالى.

(٢) أحضروا أو هاتوا.

(٣) يسوون به غيره في العبادة.

٦٢٢

ظنهم أن ترك الله لهم دليل على رضاه بحالهم. فتكذيبهم وتكذيب من قبلهم لا أساس له من العلم والعقل ؛ لأنهم كذبوا الرّسل ، ولو كان قولهم صحيحا لما عاقبهم الله تعالى على كفرهم ؛ لأن الله عادل. والله سبحانه أذاقهم بأسه ، أي عذابه بناء على اختيارهم وإرادتهم ، وإن كان كل شيء لا يقع في الكون إلا بإرادة الله ومشيئته.

ثم أمر الله نبيّه أن يطالبهم بالبرهان على ما زعموا بقوله : (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا ..) أي هل لديكم أمر معلوم وبرهان واضح يصحّ الاحتجاج به فيما قلتم ، فتظهرونه وتبيّنونه لنا لنفهمه. وحقيقة حالهم هي أنه لا حجة ولا برهان على ما يقولون ، وما يتّبعون إلا الوهم والخيال والاعتقاد الفاسد ، وما هم إلا يكذبون على الله فيما ادّعوه.

ثم أورد الله تعالى الدليل القاطع على الدين الحق بقوله : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) والمعنى : قل أيها الرّسول لهؤلاء المشركين الجاهلين بعد بطلان حجتهم : لله تعالى الحجة الكاملة على ما أراد من إثبات الحقائق وإبطال الباطل ، وحجته بالغة غاية المقصد في الأمر المحتجّ به ، فإن مشيئة الله تعالى لا تعني رضاه عن أعمالهم ، والله بيّن الآيات ، وأيّد الرّسل بالمعجزات ، وألزم أمره كل مكلف ، وإرادته وعلمه وكلامه غيب لا يطلع عليه أحدا إلا من ارتضى من رسول ، وليس الإنسان مجبرا على الإيمان أو الكفر والمعصية ، وإنما هو بنفسه الذي يختار عمله ومنهاجه ، ولو كان المكلف مجبرا لما اقتضى العدل الإلهي تكليفه بشيء ، وإثابته وعقابه في الآخرة. والله قادر على هداية الناس أجمعين.

ومن أدلة إبطال تذرّع المشركين بشبهتهم : مطالبتهم بأن يأتوا بشهود يشهدون على صحة ما يدّعونه من تحريم الله هذه المحرمات ، وهذا هو قوله تعالى : (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ) أي أحضروا شهداءكم الذين يشهدون لكم عن عيان أن الله حرّم عليكم هذا الذي زعمتم تحريمه وكذبتم وافتريتم على الله فيه.

٦٢٣

فإن شهدوا على سبيل الفرض فلا تشهد معهم ، أي لا توافقهم على أقوالهم ، ولا تصدّقهم ولا تقبل شهادتهم ، فهم شهود زور كذبة ، ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآيات الله الدّالة على وحدانيته وربوبيته ، ومنها حقّه في التشريع والتحليل والتحريم ، ولا تتبع أهواء هؤلاء الجاهلين المتّبعين لأهوائهم الذين لا يوقنون بمجيء الآخرة وما فيها من حساب ، وهم يشركون بربّهم ، ويجعلون له عديلا يشاركه في جلب الخير ، ودفع الضّر ، والحساب والجزاء.

وبهذا بطل ادّعاء المشركين واحتجاجهم بالمشيئة الإلهية ، فإن المشيئة أمرها لله ، وما على الناس إلا تنفيذ التكليف الإلهي ، لأنهم لا علم ولا اطّلاع لهم على مراد الله وعلمه ومشيئته.

الوصايا العشر

أورد القرآن الكريم الوصايا العشر المتّفق عليها في الأديان كلها ، في التوراة والإنجيل والفرقان ، وأمر الله نبيّه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدعو جميع الخلق إلى سماع تلاوة ما حرّم الله بشرع الإسلام الخالد المبعوث به إلى جميع الناس ـ الأسود والأحمر والأبيض ـ قال الله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) (٧)

__________________

(١) أقرأ.

(٢) أي فقر.

(٣) الكبائر من المعاصي.

(٤) أمركم.

(٥) يرشد ويقوى.

(٦) بالعدل.

(٧) طاقتها.

٦٢٤

فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣)) [الأنعام : ٦ / ١٥١ ـ ١٥٣].

قال ابن عباس : في الأنعام آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب ، ثم قرأ : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)

تضمنت هذه الآيات الثلاث الوصايا العشر التي وردت خمس منها بصيغة النّهي ، وخمس بصيغة الأمر.

الوصية الأولى ـ نبذ الشّرك بالله تعالى ، فالشّرك أعظم جريمة في الدين ، لأنه نسبة الشريك إلى الله في الألوهية ، وهذا مرفوض عقلا ؛ لأن الشّركاء ، سواء أكانوا من الكواكب كالشمس والقمر ، أم من الملائكة والنّبيين ، أم من الجمادات كالأصنام والأوثان ، كلهم مخلوقون لله ، والمخلوق مهما عظم عبد للخالق ، والخالق وهو الله تعالى هو المستحق للعبادة والتعظيم والتقديس.

والوصية الثانية ـ الإحسان إلى الوالدين إحسانا كاملا ، بإخلاص وشعور قلبي بالاحترام والتزام أوامرهما بالمعروف ، ومعاملتهما معاملة كريمة قائمة على المحبة والمودّة والبر ، لا الخوف والرّهبة. وبرّهما سلف ودين ، فكما تبر أبويك يبرك أولادك ، قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الطبراني عن ابن عمر : «برّوا آباءكم تبركم أبناؤكم ، وعفّوا تعفّ نساؤكم».

والوصية الثالثة ـ تحريم وأد البنات وقتل الأولاد خشية الفقر أو العار ، فالله يرزقكم أيها الآباء وإياهم رزقا مكفولا دائما ، فلا تخشوا الفقر المتوقّع ولا العار اللاحق ؛ لأن الله يرزق العباد ويحفظ البنات إذا حسنت التربية ، ودانت البنات بالدين الحق والخلق الكريم.

٦٢٥

والوصية الرابعة ـ تحريم اقتراف الفواحش : وهي كل ما عظم جرمه وإثمه وقبحه من الأقوال والأفعال كالزّنى والقذف والنظر إلى الأجنبية والاختلاط بها والمنكرات السّرية التي يمارسها بعض الناس في خفية وتستّر ، فإن الله حرّم الفواحش الظاهرة والباطنة ، وكانوا في الجاهلية لا يرون بأسا في الزّنى سرّا ، أما في العلانية فكانوا يعدّونه قبيحا ، فحرّم الله النوعين ، لضرر الزّنى وقبحه شرعا وعقلا.

والوصية الخامسة ـ منع قتل النفس بغير حق ، لأن قتل النفس المسلمة والمعاهدة جريمة كبري ومنكر عظيم ، واعتداء شنيع على صنع الخالق ، ولا يحل القتل إلا عقابا قانونيّا بالحق على أحوال ثلاث : زنا المحصن المتزوج ، والقتل العمد ، والرّدة عن الإسلام ، لما فيه من خروج على قواعد النظام العام في المجتمع ، ذلكم أمركم الله به لتعقلوا وتتدبروا المخاطر والسيئات.

والوصية السادسة ـ المحافظة على مال اليتيم ، فلا يجوز أخذ شيء منه إلا بحق ، كمقابل الإشراف على الاستثمار والتنمية ، والمحافظة والإنفاق للتربية والتعليم وكان الولي فقيرا محتاجا. فإن بلغ الولد رشيدا ، وجب دفع ماله إليه من غير تلكؤ ولا تردّد ، لقوله تعالى : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ..) [النّساء : ٤ / ٦].

والوصية السابعة والثامنة ـ إيفاء الكيل والميزان بالقسط أي بالعدل ، دون زيادة ولا نقص في البيع والشراء والقرض والإيفاء والاستيفاء ؛ لأن العدل أساس الحقوق ، والتطفيف بالكيل والميزان هضم للحق وضياع للمال.

والوصية التاسعة ـ العدل في القول ، أي الشهادة والحكم والقضاء ؛ لأن العدل ميزان الحقوق ، وأساس القبول والرّضا دون أحقاد ولا عداوات.

والوصية العاشرة ـ الوفاء بالعهد الإلهي ، سواء أكان عهدا مع الله ، أم مع الناس. ذلكم وصاكم وأمركم الله بهذا لعلكم تتذكرون وتتعظون بهذا.

٦٢٦

وختم الله تعالى هذه الوصايا العشر ببيان أنها منهاج الحق وطريق الاستقامة ، فمن اتّبعها وفق ورشد ، ومن أعرض عنها ضلّ وغوى ، وحاد عن سبل الهداية وطريق الله المستقيم ، وقد وصّاكم الله بهذا وأمركم لتحققوا تقوى الله ، وتميزوا المنافع والمضارّ في الدين ، وتحققوا الفضائل وتتركوا الرذائل. وبما أن المحرّمات الأوائل مخاطر لا يقع فيها عاقل ختمت الآية الأولى بالتعقل ، وجاء بعد المحرّمات الأخر التي هي شهوات الأمر بالتذكر ، وختمت الآيات بالتّقوى ؛ لأن امتثال الوصايا يتضمن فعل الفضائل ، وتلك درجة التقوى.

خصائص التّوراة والقرآن

أخبر القرآن الكريم بكل حيدة وموضوعية عن خصائص التوراة والقرآن الكريم ، والغاية المقصودة من إنزال كلّ منهما ، وخصّص الله تعالى كلاما عن التوراة لاشتهارها عند مشركي العرب وسماعهم أخبارها ، ثم ذكر الله تعالى مكانة القرآن العظيم وكونه كتاب هداية ورحمة للعالمين ، قال الله سبحانه :

(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧)) (١) [الأنعام : ٦ / ١٥٤ ـ ١٥٧].

__________________

(١) أعرض عنها.

٦٢٧

من المعلوم أن موسى عليه‌السلام متقدّم في الزمان على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكتابه متقدّم وفيه تلاوة ما حرّم الله تعالى ، فالتحريم والتحليل وبيان أحكام التشريع قديم في البشرية ، والتوراة أشبه بالقرآن من الإنجيل والزّبور لاشتمالها كثيرا على الأحكام أو التكاليف الشرعية ، لذا أمر الله نبيّه بأن يخبر المشركين بما أنزل الله على موسى عليه‌السلام وإيتائه التوراة تماما للكرامة والنعمة على الذي أحسن في اتّباعه والاهتداء به وهو موسى ومن تبعه ، كما قال تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) [الأنبياء : ٢١ / ٧٣]. وفي التوراة تفصيل لكل شيء محتاج إليه من أحكام الشريعة : عبادتها ومعاملتها ، وهدى لمن اهتدى به ، ورحمة لمن تمسّك به ، فينجيه من الضلالة ، ليجعل قومه يؤمنون بلقاء ربّهم ، أي لقاء ما وعدهم الله به من ثواب وعقاب في دار الكرامة والسّلام.

ثم وصف الله تعالى القرآن الكريم بقوله : (وَهذا كِتابٌ ..) أي وهذا القرآن كتاب عظيم الشأن ، كثير الخير والنّفع في الدين والدنيا ، ثابت لا ينسخ ، جامع لأسباب الهداية الدائمة والنجاة والفلاح ، فاتّبعوا أيها الناس ما جاء فيه ، واتّقوا النار والجحود بما نهاكم عنه ومنعكم منه ، لتظفروا برحمة الله الواسعة في الدنيا والآخرة.

لقد أنزلنا إليك القرآن أيها النّبي محمد ، فيه إرشاد للتوحيد وتزكية النفوس وتطهيرها من لوثات الشّرك والفسوق ، لئلا تقولوا معشر العرب يوم الحساب : لو أنزل علينا مثل ما أنزل على اليهود والنصارى من قبلنا بغير لساننا ، لكنّا أهدى منهم فيما أوتوه ، لأننا أكثر وعيا وتفهّما وأعمق بصيرة وأشدّ عزيمة ، وإبطالا لتلك التعللات ومحاولات التهرب من مسئولية العمل بشرع الله ، فقد جاءكم على لسان رسولنا النّبي العربي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرآن عظيم ، فيه بيان للحلال والحرام ، وهدى لما في القلوب ، ورحمة من الله لعباده الذين يتبعونه ، ويقتفون ما فيه ، ففيه العقيدة والآداب والأحكام.

٦٢٨

ثم أوضح الله تعالى سوء عاقبة من كذب بالقرآن ، فذكر أنه لا أحد أظلم ممن كذّب بهذه الآيات البيّنات ، بعد أن عرف صحتها وصدقها ، وأعرض عنها ، ومنع الناس عن التفكير فيها والإيمان بها ، كما كان يفعل زعماء مكة ، كما قال تعالى : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) [الأنعام : ٦ / ٢٦].

ثم هدّد الله وأوعد بالعقاب لكل معرض عن القرآن العظيم ، فذكر أنه سبحانه سيجازي المعرضين الحائدين عن آيات الله أشدّ العذاب بسبب حجب عقولهم ونفوسهم وغيرهم عن هداية الله والإعراض عنها ؛ لأنهم يتحملون وزرهم ووزر من منعوهم عن الحق ، وحالوا بينهم وبين هداية الله ، والإيمان بما أنزل الله ، كما جاء في آية أخرى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨)) [النّحل : ١٦ / ٨٨].

أي زدناهم عذابا غير عذابهم ، بسبب إفسادهم وصدّهم عن سبيل الحق. وبهذا يتبيّن أنه لا عذر لأحد في الجهل بما جاء عن الله من أحكام وشرائع ، ففي القرآن بيان كاف من الله ، وهدى للزائغين ، ورحمة للمؤمنين. ومن اهتدى بهدي الله فاز ونجا ، ومن استنكف خسر وهلك ، ولا يضرنّ إلا نفسه ، وسيجزي الله الشاكرين.

تهديد المعاندين وترغيب المحسنين

رسالة القرآن المجيد رسالة إصلاح وتغيير شامل للفرد والجماعة ، تبدأ بالعقيدة فالعبادة فالمعاملة ، وتنتهي بنظام المجتمع والأمة ، وإذا أراد الناس بأنفسهم خيرا ، استمعوا لتوجيهات الله تعالى في الحياة ، وبما أن القرآن منبر تربية وتوجيه حكيم حذر من ترك الإيمان بالله تعالى ربّا واحدا لا شريك له ، وحذّر من الفرقة

٦٢٩

والاختلاف ورغّب بفعل الحسنات والأعمال الصالحات ، ونفّر من اقتراف السيئات وقبائح الأعمال ، قال الله تعالى مبيّنا هذا المنهج السّديد :

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠)) (١) [الأنعام : ٦ / ١٥٨ ـ ١٦٠].

كان القرآن الكريم صريحا واضحا مع مشركي العرب حين أعرضوا عن دعوة الله ورسوله لإصلاح العقيدة والحياة والأخلاق ، فبعد أن أنذرهم بسوء العقاب وتعجيل العذاب ، وصف موقفهم بأنهم ما ينتظرون إلا أحد أمور ثلاثة ، وهي مجيء الملائكة أو مجيء الرّب ، أو مجيء الآيات القاهرة من الله تعالى ، هل ينتظرون لإنزال العذاب إلا أن تأتيهم ملائكة الموت الذين يصحبون عزرائيل المختصّ بقبض الأرواح ، فتخلع رقابهم وتعصف بهم ، أم هل ينتظرون مجيء الرّب تبارك وتعالى لموقف الحساب يوم القيامة ، أم هل ينتظرون مجيء بعض آيات ربّك الدّالة على قرب قيام الساعة؟ يوم يأتي بعض آيات الله القاهرة الموجبة للإيمان الاضطراري ، كطلوع الشمس من مغربها ، لا ينفع هذا الإيمان نفسا لم تكن آمنت من قبل ، فإن الإيمان تكليف اختياري في وقت عادي غير قهري ، ولا يقبل إيمان اليأس مثل إيمان فرعون حينما أحدق به الغرق. كما لا ينفع في وقت الأزمة الخانقة ومجيء أمارات العذاب توبة لم تكن حدثت في وقت السّعة والرّخاء قبل الغرغرة ووصول الروح إلى الحلقوم.

قل : يا محمد على سبيل التهديد والوعيد ، سترون من يحقّ كلامه ، ويتضح ما أخبر

__________________

(١) فرقا وأحزابا ضالّين.

٦٣٠

به ، وانتظروا وقت نزول العذاب الساحق ، إننا منتظرون أمر ربنا ووعده الصادق لنا بالنصر ، ووعيده المتحقق لأعدائنا ، إنكم تنتظرون الهزيمة لنا ولفكرنا وعقيدتنا ، ونحن ننتظر مجيء العذاب الشديد على بغيكم وعدوانكم وإعراضكم عن صراط ربّكم.

ثم أخبر الله تعالى عن عاقبة التفرّق والتمزّق ، فذكر أن الذين فرقوا دينهم ، وهم أهل البدع والشّبهات ، وأهل الضّلالة من هذه الأمة ، والقائمون على تفريق الأمة ، هؤلاء لا تتعرض لهم يا محمد ودعهم وشأنهم ولا تقاتلهم ، وإنما عليك تبليغ الرسالة ، وإعلان شعائر الدين الحق ، إنك أيها النّبي بريء منهم وهم برآء منك ، والله يتولى أمرهم وحسابهم ، ثم يخبرهم في الآخرة ، ويجازيهم على تجزئة الدين ، بالإيمان ببعضه والكفر ببعضه الآخر.

والجزاء على الأعمال واضح وأمر حتمي ، فمن جاء يوم القيامة بالخصلة الحسنة والفعلة الطيبة من الطاعات وأداء الفرائض والتزام شرائع الله ، فله جزاؤها عشر حسنات أمثالها ، والمضاعفة بعدئذ إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة بحسب فضل الله وبمقتضى مشيئته وحكمته وعلمه بأحوال المحسنين. ومن جاء بالسيئة فاقترف منكرا أو ارتكب ذنبا ، فله عقوبة مماثلة لها فقط لا يظلمون ، أي لا ينقصون من أعمالهم شيئا. جاء في الحديث النّبوي عند أحمد والبخاري وغيرهما عن ابن عباس : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فيما يرويه عن ربّه تبارك وتعالى : «إن ربّكم عزوجل رحيم ، من همّ بحسنة فلم يعملها ، كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشر حسنات إلى أضعاف كثيرة ، ومن هم بسيئة فلم يعملها ، كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له واحدة ، أو يمحوها الله عزوجل ، ولا يهلك على الله إلا هالك» والملائكة الكرام هم الموكلون بكتابة الحسنات والسيئات ، بأمر الله لهم.

٦٣١

اتّباع ملّة إبراهيم عليه‌السلام

ربط القرآن الكريم عقيدة المسلمين بعقيدة التوحيد وهي ملّة أبينا إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، وألزم بضرورة الإخلاص في الاعتقاد والعمل ، وحاسب كل امرئ على ما عمل بنفسه فلا يسأل عن عمل غيره ، وردّ جميع الأعمال للحساب والجزاء يوم القيامة ، فلم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا حاسب الله عليها ، قال الله تعالى مبيّنا هذه الأصول العامة :

(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) [الأنعام : ٦ / ١٦١ ـ ١٦٥].

لكل شيء بعيد الآثار كثير الجوانب منهج عملي واضح ، وخطة تفصيلية تجمع الوسائل مع الغايات ، وتربط الفروع بالأصول ، وتجمع بين العقيدة والقول والعمل ، وهذا هو منهاج القرآن المجيد.

أمر الله عزوجل نبيّه عليه الصّلاة والسّلام بإعلان شريعته ، ونبذ ما سواها من أضاليل المشركين ، ووصف الشريعة بما هي عليه من الحسن والفضل والاستقامة ، لقد أمر الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخبر بما أنعم الله عليه من الهداية إلى الطريق القويم الذي لا عوج فيه ولا انحراف وهو الدين القيّم المؤدي إلى سعادة الدنيا والآخرة ،

__________________

(١) مستقيما لا اعوجاج فيه.

(٢) مائلا عن الباطل إلى الدين الحق.

(٣) عبادتي.

(٤) لا تحمل نفس آثمة.

(٥) يخلف بعضكم بعضا فيها.

(٦) ليختبركم.

٦٣٢

القائم بالحق ، الثابت الأصول ، القائم على التزام ملّة إبراهيم الخليل عليه‌السلام الذي كان مائلا عن جميع أنواع الشّرك والضلالة إلى ملّة التوحيد الخالص ، ولم يكن يوما من الأيام من زمرة المشركين المنحرفين ، كما قال الله سبحانه في آية أخرى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) [البقرة : ٢ / ١٣٠] وقال عزوجل : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) (١) (قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠)) [النّحل : ١٦ / ١٢٠]. أي لم يكن أبدا من المشركين ، وإنما كان مؤمنا بالله ، موحدا إياه ، مخلصا له عبادته.

ثم أمر الله نبيّه أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله ، ويذبحون لغير اسمه : بأنه مخالف لهم في ذلك كله ، فإن صلاته لله ، ونسكه أي الذبائح والعبادة وأداء شعائر الحج وغيرها كله لله ، والمعنى : إن مقصده في صلاته وطاعته في ذبيحة وغيرها ، وتصرفه مدة حياته ، وحاله من الإخلاص والإيمان عند مماته ، إنما هو لله عزوجل ، وإرادة وجهه وطلب رضاه ، فإن عاش فلله ، وإن جاهد فلله ، وإن صلّى وحجّ واعتمر فلله ، وإن مات فلله ، له الحكم وله الأمر ، وبيده مقاليد أمور الخلائق والعوالم كلها.

وفي هذا إرشاد للمؤمنين وإلزام بالتّأسي به ، حتى يلتزموا في جميع أعمالهم قصد وجه الله عزوجل. والله واحد لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في ربوبيته ، فله العبادة وحده ، والتشريع منه وحده ، بذلك أمر الله ربّي ، ويقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمر الله عن نفسه : وأنا أول المسلمين ، أي الخاضعين المنقادين إلى امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه ، هذا إثبات لتوحيد الألوهية.

ثم أعقبه بتوحيد الرّبوبية ، فقال تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا ..) أي أغير الله أطلب ربّا سواه ، مع أنه هو مالك كل شيء ، خلقه ودبّره ، وهو مصدر النفع ومنع الضّر ، فكيف أجعل مخلوقا آخر ربّي؟!

__________________

(١) رجلا جامعا للخير كله.

٦٣٣

وما من عمل يكسبه الإنسان إلا عليه جزاؤه دون غيره ، ولا تتحمل نفس حاملة حمل نفس أخرى وثقلها ، فكل إنسان مجزي بعمله : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) [الطّور : ٥٢ / ٢١] وسيجزي كل عامل بما عمل ، إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ ، والرجوع في نهاية المصير من الذين يلقبون أنفسهم بالحنفاء إلى الله وحده دون غيره ، فهو الذي يخبركم بجميع أحوال اختلاف الناس في الدين والمعاش ، ومجازيكم عليه بحسب علمه وإرادته ، ويعلّمكم أن العقاب على الاعوجاج تبيين لموضع الحق.

ثم فتح الله للناس ميدان العمل ، مطلقا لهم الحرية والخلافة في الأرض ، يخلف بعضهم بعضا فيها ، بعد إهلاك جيل وإحياء جيل آخر ، وهم متمايزون يرفع الله بعضهم فوق بعض درجات في الغنى والفقر ، والشّرف والجاه ، والعلم والجهل ، والخلق والشكل ، والعقل والرزق ، لاختبار الناس في مواهبهم وما أعطاهم الله ، وبعد هذا الإفساح في ميدان العمل ، والحضّ على الاستباق إلى الخير ، توعّد الله ووعد ، تخويفا منه وترجية ، فالله سريع العقاب إما في الدنيا وإما في الآخرة ، وكل آت يحكم عليه بالقرب ويوصف به ، وإن الله غفور لمن أذنب وأراد التوبة ، رحيم بالعباد.

٦٣٤

تفسير سورة الأعراف

اتّباع القرآن الكريم وحده

القرآن الكريم وما تضمنه من أحكام وتشريعات هو آخر الكتب السماوية ، وخاتمة الشرائع الإلهية التي ضمها بين جناحيه ، وأصبح هو الكتاب الإلهي الوحيد الواجب الاتّباع دون غيره من الكتب السابقة ، ومن خالف هذا ، وعصى أمر الله تعرّض للعقاب في الدنيا والعذاب في الآخرة ، قال الله تعالى مبيّنا هذا الحكم المبرم في مطلع سورة الأعراف المكّية :

(المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) [الأعراف : ٧ / ١ ـ ٥].

الحروف المقطعة : (المص (١)) في أول سورة الأعراف كغيرها من بعض السّور للتنبيه والتحدي بالإتيان بمثل القرآن الكريم ، ما دام مكوّنا من الحروف العربية مادة صياغة الكلام العربي الذي يفتخر العرب بأنهم سادة البلاغة فيه. لذا اقترنت هذه الحروف بالتّنويه بالقرآن الكريم ، وهنا يصفه الله بأنه كتاب عظيم الشأن ، أنزله الله

__________________

(١) ضيق من تبليغه.

(٢) كثير من القرى.

(٣) أي عذابنا وهلاكنا.

(٤) أي ليلا.

(٥) مستريحون نصف النهار.

٦٣٥

على نبيّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، للدلالة على عظيم قدرة الله تعالى ، فلا يكن أيها النّبي وكل عالم بعده ضيق ومشقة من الإنذار به وتبليغه للناس ، وتذكير أهل الإيمان به ذكرى تنفعهم وتؤثر فيهم. وفي هذا إثبات للوحدانية والبعث ، والنّبوة والوحي.

وبما أن هذا القرآن العظيم ذو مهام خطيرة ، فاتبعوا أيها الناس جميع ما فيه مما أنزل إليكم من ربكم مربيكم وخالقكم ومدبر أموركم ، والمشرع لكم الحلال والحرام ، والعبادة والأحكام ، ولا تتبعوا من دون الله أعوانا ونصراء ، كأنفسكم أو الشياطين التي توسوس لكم ما فيه الضّرر والضّلال ، والشّر والفساد ، والإيهام بأن الأصنام شركاء ذات تأثير عند الله ، مع أنها إما جمادات صماء لا نفع فيها ، وإما مخلوقون أو مخلوقات عاجزة عن جلب الخير لنفسها أو دفع الضّرر عنها ، فمن ألّهما أو عبدها وقع في الضّلال والانحراف عن حكم الله إلى حكم الشيطان والأهواء ، ولكنكم تتذكرون قليلا ، وتنسون الواجب عليكم نحو ربّكم ، كما قال تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣)) [يوسف : ١٢ / ١٠٣].

وضمانا وتأييدا لوجوب امتثال أحكام الله ، هدّد الحق تعالى العباد بالعقاب الشديد على المخالفة والعصيان ، من أمثال عقوبات الأمم السابقة ، وما جرى على المثيل يجري على مثله. يذكر الله تعالى أن كثيرا من القرى التي أرسل إليها الرّسل مبشّرين ومنذرين ، عصوا رسلهم ، وخالفوا أمرهم ، وكذبوهم ، فجاءهم العذاب أو الهلاك مرة ليلا كقوم لوط ، ومرة نهارا كقوم شعيب ، أتاهم العذاب فجأة وقت القيلولة وسط النهار ، وهم غافلون لاهون ، كما قال الله تعالى : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) (١) (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩)) [الأعراف : ٧ / ٩٧ ـ ٩٩].

__________________

(١) أي تدبيره الخفي.

٦٣٦

ولم يكن موقفهم وقولهم أو ادّعاؤهم حين نزل العذاب بهم بالهلاك إلا أن أقروا بذنوبهم واعترفوا بمعاصيهم وقالوا : إنا كنا ظالمين ، وأنهم حقيقون بهذا ، أي لم يصدقوا بوحدانية الله ، ولم يقروا بصدق الأنبياء والرسل عند الإهلاك إلا الإقرار بأنهم كانوا ظالمين ، وفي هذه عبرة وعظة.

قال ابن جرير الطبري : في هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قوله : «ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم».

ولنا في واقعنا المعاصر أصدق الشواهد ، فإن المسلمين لما أعرضوا عن كتاب الله ، وانشغلوا بملاذ الدنيا ، ضعفت نفوسهم وفقدوا الثقة بوجودهم ، فهانوا على أئمة الاستكبار العالمي والظلم العنصري والتعصب الحاقد ضد أهل الإسلام تحت شعارات واهية وافتراءات كاذبة.

عاقبة الكفر والعصيان في الآخرة

التهديد بالعقاب والإنذار بالجزاء الرادع في كل نظام من أهم العوامل لتقليل الجريمة ومحاربة الانحراف ، لذا لم تخل دولة من الدول من قوانين جزائية رادعة ، تنصّ على الجرائم والعقوبات المقررة لها ، لينزجر المواطنون ، ويبتعدوا عن المساس بالأمن ، وهكذا شأن الأحكام الإلهية بأشد الحاجة إلى مؤيدات رادعة وزواجر قامعة ، كي يصلح حال الناس ، وتستقيم أوضاع البشر ، فلا جريمة ، ولا إخلال بالأمن والاستقرار. قال الله تعالى مبيّنا وجوب السؤال عن الأعمال وحساب الناس عليها :

(فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ

٦٣٧

خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠)) (١) (٢) [الأعراف : ٧ / ٦ ـ ١٠].

هذا وعيد من الله عزوجل لجميع العالم ، تضمن أن الله تعالى يسأل الأمم أجمع يوم القيامة عما بلغ إليهم عنه ، وعن جميع أعمالهم ، وعما أجابوا به الرّسل المرسلين إليهم ، ويسألون الرّسل أيضا عما بلّغوا من الرسالات. والسؤال يوم القيامة صعب وعسير ؛ لأنه موقف الفصل الحاسم في مصير دائم للناس ، فيشتد الخوف ويعظم الرجاء وتكثر الأعذار ، حتى ينجو الإنسان من هول الحساب وشدة العذاب.

يسأل الله في الآخرة كل إنسان عما أجاب به الرسل ، وعن مدى قبول دعوة الأنبياء ، وعما صدر منه من إيمان أو كفر ، ويسأل الله الأنبياء المرسلين عما بلّغوا. والمراد بالسؤال تقريع الكفار وتوبيخهم ، لأنهم لما أقروا بأنهم كانوا ظالمين مقصّرين ، سئلوا بعد ذلك عن سبب ذلك الظلم والتقصير.

وليس السؤال عن الذنب الواقع ، وإنما عن الأسباب والدواعي التي دعت الناس إلى العصيان ، وعن الموانع التي حالت بينهم وبين امتثال الأحكام والتكاليف الشرعية. وأكّد الله تعالى أنه عالم بما وقع علما تامّا ، فيخبر عن علم وإحاطة تامة الرسل وأقوامهم بكل ما حدث منهم ، فلا يغيب عنه شيء قليل أو كثير ، وإن كان مثقال ذرة من خردل في أعماق الأرض أو في عالم السماء. وكل ذلك يدلّ على أن سؤال الناس يوم القيامة ليس للاستعلام والاستفهام عن شيء مجهول عن الله تعالى ، بل للإخبار بما حدث منهم توبيخا وتقريعا على تقصيرهم وإهمالهم. والمخبر عنه هو المحاسب عنه ، وهو الذي يعقبه الجزاء.

__________________

(١) جعلنا لكم مكانا وقرارا.

(٢) ما تعيشون به

٦٣٨

ووزن الأعمال للرسل وأقوامهم والتمييز بين راجحها وخفيفها يوم القيامة يكون على أساس من الوزن الحق والعدل التام ، وعبّر تعالى عن نتيجة الحساب بالوزن والميزان ، لأن البشر لا يعرفون أمرا أكثر دقّة منه وأقرب إلى العدل والإنصاف. فمن ثقلت موازينه ورجحت صحائف حسناته على سيئاته ، فأولئك هم الفائزون بالجنة ، الناجون من العذاب. ومن خفت موازين أعماله وغلبت سيئاته بسبب كفره ومعاصيه ، فأولئك الخاسرون أنفسهم ؛ إذ حرموها السعادة والظفر بالنعيم الأبدي ، وصيّروها إلى عذاب النار. والفريق الأول وهم المؤمنون إيمانا صحيحا ، على تفاوت درجاتهم في الأعمال ، هم المفلحون ، وإن عذّب بعضهم بقدر ذنوبه. والفريق الثاني وهم الكافرون ، على تفاوت دركاتهم ومراتبهم في النار هم الخاسرون حقّا.

ثم ذكّر الله تعالى بجلائل نعمه على الناس ، ليحملهم الإقرار بالنعمة على الوفاء للخالق المنعم ، فأقسم سبحانه بأنه مكّن في الأرض للنوع الإنساني ، وخلق للبشر جميع المنافع والخيرات ، وجعل لهم أمكنة يستقرّون بها في الدنيا ، وجعل لهم في المعايش التي تقوم عليها حياتهم من خلق النبات والزرع ، والفاكهة والثمر ، والماء والشجر ، والسمك والجوهر ، والحيوان المسخّر المذلّل لهم ، ليسهل أمر المعيشة ، وكل ذلك يقتضي الشكر وعرفان الجميل ، ولكن الشكر من العباد قليل ، كما أخبر سبحانه : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ : ٣٤ / ١٢].

أمر الملائكة بالسّجود لآدم

نبّه الله تعالى على موضع العبرة ، والتعجيب من غريب الصنعة وإساءة النعمة ، فبدأ بالخلق الذي هو الإيجاد بعد العدم ، ثم بالتصوير في هذه البنية المخصوصة للبشر ، وإظهارا لتفضيل البشر على سائر المخلوقات وإبداء لتكريمهم ، أمر الله تعالى الملائكة

٦٣٩

بالسجود لآدم أبي البشر عليه‌السلام ونبّه على عداوة الشيطان لذرّيّته ، فقال سبحانه :

(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) [الأعراف : ٧ / ١١ ـ ١٨].

هذا تمجيد وتكريم لا مثيل له للعنصر البشري يتمثّل في إيجاد الله وخلقه للبشر ، بدءا من أبينا آدم عليه‌السلام من الماء والطين المتحجّر ، ثم تصويره في أحسن شكل وتقويم بصورة البشر السّوي ، والنّفخ فيه من روح الله ، ثم أمر الملائكة بالسجود لآدم سجود تحية وتكريم.

وبادر الملائكة لتنفيذ أمر الله ، فسجدوا جميعا لآدم عليه‌السلام ، إلا إبليس من الجنّ أبى واستكبر وكان من الكافرين الفاسقين الخارجين عن أمر الله. فسئل من قبل الله تعالى : ما منعك من السجود؟ فأجاب معتذرا : إني أنا خير منه ، خلقتني من النّار ، وخلقته من الطّين ، والنّار بما فيها من خاصية الارتفاع والنّور أشرف ـ في زعمه ـ من الطين الراكد الخامل ، والشريف لا يعظم من دونه. وهذا قياس فاسد باطل ، إذ لا يستدلّ بطبائع الأشياء على الأفضلية ، وإنما تكون بالمعاني والخواص ، لا بالنظر إلى المادّة.

__________________

(١) ما دعاك.

(٢) الأذلاء المهانين.

(٣) أخّرني.

(٤) أضللتني.

(٥) مذموما.

(٦) مطرودا.

٦٤٠