التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0523-3
الصفحات: ٦٧١

ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢)) (١) [الأنعام : ٦ / ٥٩ ـ ٦٢].

اختصّ الله تعالى بالعلم بمغيبات الأمور ، فهو سبحانه عنده خزائن الغيب ومفاتيحها ، وهذه استعارة ، عبارة عن التوصل إلى الغيوب ، كما يتوصل في الأشياء المشاهدة بالمفتاح إلى المغيب عن الإنسان ، وهو سبحانه عالم الغيب والشهادة ، أي عالم الخفيات والمحسوسات المرئية ، ولا يعلم بالغيب أحد سواه.

والغيبيات التي اختصّ الله بها خمس ، وهي مذكورة في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤)) [لقمان : ٣١ / ٣٤].

ويعلم سبحانه حديث النفس ، ويعلم السّر وأخفى ، ويعلم دقائق الأشياء المشاهدة للبشر ، كما يعلم الغيبيات ، فيعلم كل ما هو كائن في البر والبحر ، ويعلم سقوط أي ورقة من أوراق الشجر في أي مكان وزمان ، سواء في البر أو في البحر ، ويعلم ما تسقط من حبّة في ظلمات الأرض وأعماقها ، سواء بفعل الإنسان كالزارع ، أو بفعل الحيوان كالنّمل ، أو بغير فعل الإنسان كالساقط من النبات في شقوق الأرض ، ويعلم ما يسقط من الثمار الرطبة أو اليابسة ، الحية أو الميتة ، فعلم الكائنات كلها ثابت مستقر في كتاب واضح هو اللوح المحفوظ.

وينضم إلى علم الله الشامل قدرة الله التامة على الإحياء والإماتة ، والبعث والحشر ، والمثل المشاهد للبعث من القبور : مسألة النوم واليقظة ، فذلك إماتة وبعث على نحو ما ، فالله هو الذي يتوفاكم توفّيا أصغر بالنوم كل ليلة ، ويعلم كل ما كسبتم

__________________

(١) لا يقصّرون.

٥٦١

أو عملتم أيها الناس من الأعمال بالنهار ، في حال السكون وحال الحركة ، ثم بعد التّوفّي بالنّوم والعلم بالأعمال في النهار ، يبعثكم في النهار ، أي يرسلكم ويوقظكم فيه ، وهذا التّقلّب في الليل والنّهار لأجل أن يقضى وينفذ الأجل المسمّى الذي علمه الله تعالى لكل واحد منكم ، فإن الآجال والأعمار محدودة ومقدرة ، مكتوبة سابقا.

ثم إلى الله مرجعكم يوم القيامة بعد تمام الآجال ، ثم يخبركم بأعمالكم التي قمتم بها في الدنيا ، ويجازيكم عليها ، إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ.

والله هو الذي يقهر كل شيء ، ويخضع لعظمته وجلاله وكبريائه كل شيء ، وهو القادر على بعث الأجساد والأرواح ؛ لأن من قدر على بعث من توفّي بالنوم قادر على بعث من توفّي بالموت ، وهو المتصرّف بعباده ، يفعل ما يشاء ، إيجادا وإعداما ، وإحياء وإماتة. ويرسل الله الملائكة الكرام الموكلين بكتب الأعمال ، في الليل والنهار ، يحفظون بدن الإنسان ، ويحصون أعماله ، ولا يفرطون بشيء منها. وكتابة الملائكة الحفظة أعمال الإنسان من أجل الإتيان بدليل مادّي محسوس ، لإقامة الحجة على الإنسان.

فإذا حان أجل الإنسان ، قبضت روحه الرّسل الموكلون بذلك من الملائكة ، حال كونهم غير مقصّرين في حفظ أرواح الموتى ، بل يحفظونها حيث شاء الله تعالى ، ثم يرد هؤلاء الذين تتوفاهم الرّسل إلى حكم الله وجزائه ، والله هو مولى الناس ومالكهم الذي يلي أمورهم ، له وحده سبحانه الحكم يوم القيامة ، لا حكم فيه لغيره ، ولا رادّ لقضائه ، ولا معقّب لحكمه ، وهو أسرع الحاسبين ، يحاسب الكل في أسرع وقت وأقصره ، ولا يشغله حساب عن حساب.

٥٦٢

بعض مظاهر القدرة الإلهيّة

اقتضت رحمة الله بعباده أن يعدّد لهم في مناسبات مختلفة بعض مظاهر قدرته ليرشدهم إلى الإيمان به لأنه القادر الرازق المنجي والمنتقم ، وذلك سواء في حالات الشّدة والأزمة ليعرفهم من بيده الأمر المطلق ، أو في حال التهديد والوعيد بالعذاب حين تكذيبهم برسالات الرّسل وانحرافهم عن طريق الاستقامة وانغماسهم في حمأة الرّذيلة والضّلالة ، ومن هذه المظاهر قوله تعالى :

(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) [الأنعام : ٦ / ٦٣ ـ ٦٧].

هذه الآيات الأولى لتوبيخ عبدة الأوثان ، وتعريفهم بسوء فعلهم في عبادة الأصنام ، وتركهم الذي ينجّي من المهلكات ، ويلجأ إليه في الشدائد.

ومعناها : قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين الغافلين عن آيات التوحيد : من الذي ينجّيكم من شدائد البر والبحر ، وأهوال السفر ومخاوفه إذا ضللتم في أنحاء الأرض البرية والبحرية ، فإنكم في وقت المحنة لا تجدون غير الله ملجأ تدعونه علانية وسرّا ، بخشوع وخوف ، ومبالغة في الضّراعة والتّذلل والخضوع ، حال كونكم تقسمون : لئن أنجانا الله من هذه الشدائد والظلمات وضوائق الأمور ، لنكونن من شاكري النعمة ، المقرّين بتوحيد الله ، المخلصين له في العبادة ، دون إشراك.

__________________

(١) سرّا.

(٢) يخلطكم في المعارك.

(٣) فرقا مختلفة.

(٤) شدّة بعض في القتال.

(٥) نكرّرها بأوجه مختلفة.

٥٦٣

قل أيها النّبي : الله تعالى هو الذي ينجيكم مرارا من هذه الأهوال ، ومن كل كرب أي غم وشدة ، ثم مع ذلك أنتم بعدئذ تشركون بالله غيره ، فتخلفون وعدكم بالإيمان ، وتخونون العهد مع الله سبحانه ، وتحنثون بالقسم الذي حلفتموه. وهذا مع الأسف الشديد طبع أغلب الناس ، يلجأ الإنسان عادة إلى الله في الشّدة والمكروه ، ثم بعد النّجاة ينسى العهد ، ويعود إلى الجهل والكفر ، فلا يقدر الله حقّ قدره ، ولا يعظم جناب ربّه.

قل أيها النّبي لهؤلاء المشركين على سبيل التهديد والوعيد والإنذار : الله هو القادر على أن ينزل عليكم ألوان العذاب المختلفة ، كالرّجم بالحجارة أو الصواعق ، أو البراكين والزلازل ، أو الطوفان أو أعاصير الريح أو الخسف المعهود في الأمم السابقة ، أو إيقاع الفرقة والفتن والاختلاط والاختلاف والاضطراب ، حتى تصير الأمة شيعا وأحزابا وجماعات ، كل فرقة لها اتجاه ومنهاج ، فيقع التقاتل والتحارب ، ويذيق بعض الناس بأس بعض وشدته ، حتى يقتل بعضهم بعضا. والتّفرق والاقتتال أهون وأخفّ من عذاب الاستئصال.

انظر أيها النّبي على سبيل التعجيب كيف ننوّع أساليب الكلام ، وكيف نبيّن الدلائل بوجوه مختلفة ، إما بطريق محسوس أو بطريق معقول ، لعلهم يفهمون الإنذارات ويتدبرون عن الله الحجج والبيّنات ، فتحدث عندهم العبرة والعظة وتصحيح الأحوال. والمراد بذلك صرف أولئك الغواة المشركين عن غيّهم ، وتوجيههم نحو ما يسعدهم وينجيهم.

ولكن أولئك المشركين من قريش وأمثالهم كذّبوا بالقرآن الذي جاء به محمد رسول الله ، وبالهدى والبيان وبالعذاب الذي هدّدوا به ، والحال أن القرآن وإنذاراته حق

٥٦٤

وصدق ليس وراءه أصدق منه. قل أيها النّبي للمشركين : لست بموكل بكم ولا حفيظ ، ولا بمدفوع إلى أخذكم بالإيمان وإجباركم على الهدى ، فأنتم بملء حرّيتكم تختارون الإيمان وتتركون الضلالة والكفر.

ثم أعلن القرآن قاعدة عامة في التّهديد والوعيد على التّكذيب بالقرآن أو بالعذاب ، فقال الله تعالى : (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧)) أي لكل خبر غاية ونهاية يعرف عندها صدقه من كذبه ، وسوف تعلمون يقينا صدق الخبر وحقيقة الوعد والوعيد ، وهو وعد الله رسوله بالنصر على أعدائه ، ووعيده لهم بالعذاب في الدنيا والآخرة ، قال الله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣)) [فصّلت : ٤١ / ٥٣].

وإذا تفضّل الله على هذه الأمة المؤمنة برفع عذاب الاستئصال إكراما لنبيّها ، فلم يبق بينهم داء إلا الفرقة والشّتات ، والنّزاع والخلاف ، فليحذروه ليكونوا أمة مهابة بين الأمم ، وعنوانا طيبا رفيعا لرسالة الحقّ والقرآن.

جزاء المستهزئين بالقرآن

يوجد في كل أمّة أناس يعادون القيم الدينية والإنسانية والحضارية ، لسوء في طباعهم ، وانحراف في سلوكهم ، وتأثّرا بأهوائهم وشهواتهم ، ومن هؤلاء نفر من المشركين المكيّين كانوا يستهزئون بالقرآن المجيد ، ويناصرون الأوثان والأصنام ، وذلك منتهى التّردي في الإنسانية وإهدار الكرامة وإهمال العقل ، ومثل هؤلاء لا يفيدهم نقاش ولا جدال ، وأفضل شيء معهم هو التّرفع والإعراض عنهم ، وإهمالهم وتركهم سادرين في ضلالهم ، انتظارا لعذاب الله الذي يوقعه بهم في الدنيا والآخرة.

٥٦٥

قال الله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) [الأنعام : ٦ / ٦٨ ـ ٧٠].

ذكر الطبري عن السّدّي سبب نزول هذه الآيات ، فقال : كان المشركون إذا جالسوا المؤمنين ، وقعوا في النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن ، فسبّوه واستهزءوا به ، فأمرهم الله ألا يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره. والخائضون في آيات الله : هم المكذّبون بها.

هذه الآيات أمر بترك هؤلاء العابثين وتهديد ووعيد لهم ، فإذا رأيت أيها النّبي وكل مؤمن الذين يخوضون في آيات القرآن بالتكذيب والاستهزاء ، فأعرض عنهم ولا تجالسهم ، حتى ينتقلوا إلى التّحدث بحديث آخر ، فإذا فعلوا فلا مانع من مجالستهم والتّحدث إليهم. وإن أنساك الشيطان قبح مجالسهم والمنع منها أو النّهي عنها ، فجلست مع الخائضين ناسيا ، فلا تقعد بعد التّذكر مع القوم الظالمين أنفسهم بالتكذيب والاستهزاء.

وليس نهيكم أيها المؤمنون المتّقون عن القعود ، وأمركم بالإعراض عن الخائضين ، لأن عليكم شيئا من حسابهم ، وإنما هو ذكرى لكم وموعظة ، لعلهم يتّقون الخوض في آيات الله ، ويذكرون الله وعظمته وجلاله.

__________________

(١) يطعنون ويستهزئون.

(٢) خدعتهم.

(٣) أي لئلا تبسل أي تؤاخذ وتجزى وتسلم إلى الهلاك.

(٤) تفتد بكل فداء.

(٥) حبسوا في النار.

(٦) ماء شديد الحرارة.

٥٦٦

ثم أكّد الله تعالى ترك المستهزئين بآيات القرآن بقوله : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً ..) أي اترك أيها الرسول والمؤمنون الذين اتّخذوا دينهم مجالا للعب واللهو ، فإنهم يتلاعبون بدينهم بعبادة الأصنام ، يصنعونها بأيديهم ثم يأكلونها ، فقد أضاعوا عمرهم فيما لا يفيد ، وهذا هو اللعب ، وشغلوا أنفسهم عن العمل المفيد ، وهذا هو اللهو ، وغرّتهم أي خدعتهم الدنيا الفانية ، وآثروها على الحياة الباقية ، واشتغلوا بلذّات الدنيا الحقيرة ، فخاضوا في آيات الله بدلا عما كان يجب عليهم من فهمها وامتثالها ، كما قال تعالى : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣)) [الحجر : ١٥ / ٣].

وذكّر أيها الرسول الناس بالقرآن وعظهم به ، لئلا تبسل نفس ، أي تجازى وتسلّم إلى الهلاك وتتحمل سوء عملها الذي صدر منها في الدنيا ، وذلك في حال لا قريب منها ولا شفيع لها ولا ناصر ينصرها ، بل ولا ينفعها عدل أي فداء تفتدي به ، فإن بذلت كل فداء ، لم يقبل منها ، كما قال تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) [البقرة : ٢ / ١٢٣].

وهذا إبطال لمبدأ وثني : وهو رجاء النّجاة في الآخرة ، كما في الدنيا بتقديم الفدية لله تعالى ، أو بشفاعة الشفعاء ، ووساطة الوسطاء عند الله تعالى.

إن جزاء المستهزئين بآيات الله وهو العذاب في نار جهنم ، كان بسبب سوء صنيعهم ، فأولئك الذين أبسلوا بما كسبوا ، أي أولئك المتّخذون دينهم لعبا ولهوا هم الذين جوزوا وعذّبوا بسبب عملهم في الدنيا ، وجزاؤهم شراب من حميم ، أي من ماء شديد الحرارة ، يحرق البطون ، ويقطع الأمعاء ، ثم ينبت بدلها لتكرار العذاب ، كما قال الله تعالى : (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) [محمد : ٤٧ / ١٥]. وقال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦)) [النّساء : ٤ / ٥٦].

٥٦٧

محاربة الشّرك

إن من أهم أصول شريعة الإسلام وشرائع الأنبياء السابقين القضاء على الشّرك وتصفية معاقله وإنهاء وجوده وآثاره بين الناس ؛ لأن عقيدة الشّرك صفة بدائية غير حضارية ، تسيء إلى الإنسان وتقديره ، وتجعله يرتع في مخازي الخرافات والأباطيل ، وتكون سببا لتدميره وتعذيبه عذابا شديدا في الدار الآخرة.

قال الله تعالى مبيّنا مخازي الشّرك وضلالات المشركين : (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣)) (١) (٢) [الأنعام : ٦ / ٧١ ـ ٧٣].

هذه حملة شديدة من الجدال والنقاش واللوم على الشّرك والمشركين ، قال السّدّي مبيّنا سبب النزول : قال المشركون للمسلمين : اتّبعوا سبيلنا ، واتركوا دين محمد ، فأنزل الله عزوجل : (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا ..) الآيات.

والمعنى : قل أيها النّبي في احتجاجك على المشركين : أنطيع رأيكم في أن نعبد من دون الله ما لا قدرة له على نفعنا ولا على ضرّنا ؛ لأنها أصنام صماء جمادات لا حياة فيها ولا حركة ، ثم نردّ على أعقابنا إلى إلى الشّرك والكفر ، بعد أن أنقذنا الله منه ،

__________________

(١) أوقعته في الأهواء والضلال.

(٢) القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل.

٥٦٨

وهدانا للإسلام دين المجد والحضارة ، والرّقي واحترام العقل والكرامة الإنسانية ، فيكون مثلنا مثل الذي استهوته الشياطين في الأرض ، وذهبت بعقله ، وأصبح حيران تائها ، لا يدري كيف يسير؟ والحال أن له أصحابا مخلصين ، على الجادّة المستقيمة ، يدعونه إلى طريق الهدى ، قائلين له : (ائْتِنا) أي بادر إلى اتّباع طريقتنا ، فهي حقّ وخير ورشد.

وبعبارة أخرى : أيصلح أن يكون بعد الهدى أن نعبد الأصنام ، فيكون ذلك منا ارتدادا على العقب ، فيكون كرجل على طريق واضح ، فاستهوته عنه الشياطين ، فخرج عنه إلى دعوتهم ، فيكون حائرا؟

ادع أيها الرسول أولئك المشركين لدين الحق ، وقل لهم : إن هدى الله في قرآنه هو الهدى ، وطريق الإسلام هو الحق ، وهو الصراط المستقيم ، لا ما تدعون إليه من أهوائكم ، فليس ذلك بهدي ، بل هو في نفسه كفر وضلال. وقل لهم : وأمرنا بأن نسلم لله ربّ العالمين ، أي نخلص له العبادة وحده لا شريك له ، فأسلمنا.

وأمرنا أيضا بإقامة الصلاة : وهي الإتيان بها على الوجه الأكمل ، الذي شرعت من أجله : وهو تزكية النفس بمناجاة الله ، والنّهي أو المنع عن الفحشاء والمنكر.

وأمرنا كذلك بتقوى الله ، أي اتّقاء ما يترتّب على مخالفة دين الله وشرعه ، فنكون مأمورين بأمور ثلاثة : هي الإخلاص لله دون إشراك ، وإقامة الصلاة وعبادة الله وحده دون غيره ، والتقوى في جميع الأحوال سرّا وعلنا. والسبب في هذه الأوامر الثلاثة إعداد النفوس للمستقبل ، والخلود الأبدي في الآخرة ، لأن الله يحاسبنا ، وهو الذي إليه تحشرون ، أي تجمعون يوم القيامة ، فيحاسب الخلائق على أعمالهم ، ويجازيهم عليها.

والله الذي نعبده هو خالق السماوات والأرض ومالكهما ومدبرهما بالحق

٥٦٩

والعدل والحكمة ، والخلق معناه : الابتداع والإخراج من العدم إلى الوجود ، ومعنى الخلق بالحق : أنه لم يخلق السماوات والأرض باطلا من غير معنى ، بل لمعان مفيدة ولحقائق بيّنة ، منها الاستدلال بها على وجود الصانع الخالق ونزول الأرزاق وغير ذلك.

واذكر أيها الرسول الخلق والإعادة يوم يقول الله للشيء يوم القيامة : (كُنْ فَيَكُونُ) ويوم ينفخ في الصور ، فيصعق كل من في السماوات والأرض ، ويهلك كل مخلوق حتى الملك الذي نفخ فيه. وقول الله هو الحق ، أي قضاؤه هو الحق ، والله سبحانه صاحب الملك ، المطلق في الدنيا والآخرة. ومن صفات الله تعالى أنه عالم الغيب والشهادة ، أي ما غاب عنّا ، وعالم المحسوسات الذي نراه ، وهو سبحانه الحكيم في خلقه ، فلا يفعل ولا يشرع لعباده إلا ما فيه الخير والحكمة والمصلحة ، وهو الخبير بأحوالهم ، المطّلع على سرائرهم ونيّاتهم وضمائرهم. وإذا كان الله هو المتّصف بهذه الصفات ، فهو الأحقّ بالعبادة ، فلا يصحّ لعاقل أن يدعو أو يعبد غير الله تعالى ، لذا قال سبحانه : (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) [الجنّ : ٧٢ / ١٨] ، (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ) [الأنعام : ٦ / ٤١].

مجادلة إبراهيم الخليل لأبيه

لقد تحمّل الأنبياء والرّسل عليهم الصلاة والسّلام عناء كبيرا وجهدا عظيما من أجل ترك الناس عبادة الأصنام والأوثان من قديم الزمان ، وكان لسيّدنا إبراهيم الخليل عليه‌السلام قدرة بارعة على جدال الوثنيين ، ومنهم أبوه آزر ، الذي تلطّف في مجادلته ، وحاول إقناعه بكل الوسائل ، فلم يستجب آزر لدعوة التوحيد ، بل هدّد إبراهيم عليه‌السلام بالقتل رجما بالحجارة إن لم يكف عن دعوته ، قال الله تعالى :

٥٧٠

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) (٧) [الأنعام : ٦ / ٧٤ ـ ٧٩].

هذه الآيات للاحتجاج بها على مشركي العرب الذين يدّعون أنهم على ملّة أبيهم إبراهيم ، من أجل إبطال الوثنية ، والمعنى : اذكر أيها النّبي حين قال إبراهيم عليه‌السلام لأبيه آزر : أتتخذ هذه الأصنام والأوثان الجمادات آلهة ، تعبدها من دون الله ، مع أن الله هو الذي خلقها وخلقك ، فهو المستحق للعبادة دونها ، إني أراك وقومك الذين يعبدون هذه الأصنام في ضلال واضح ، أي تائهين حيارى جهلاء ، وأي ضلال أوضح من عبادتكم صنما من حجر أو شجر أو معدن ، تنحتونه بأيديكم ، ثم تعبدونه وتقدّسونه؟! كما قال تعالى : (قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦)) [الصّافّات : ٣٧ / ٩٥ ـ ٩٦].

وكما هدينا إبراهيم إلى الدعاء إلى الله وإنكار الكفر وعبادة الأصنام ، أريناه مرة بعد أخرى ملكوت السماوات والأرض ، أي عرفناه طريق إدراك أسرار الكون ، ليستدلّ بذلك على وحدانيتنا وعظيم قدرتنا وسعة علمنا ، وليكون ممن تيقن أن شيئا

__________________

(١) لقب والد إبراهيم.

(٢) ملك.

(٣) ستره بظلامه.

(٤) غاب.

(٥) طالعا.

(٦) أبدع وأنشأ.

(٧) مائلا عن الباطل إلى الدين الحق.

٥٧١

من الأصنام والشمس والقمر والكواكب لا يصح أن تكون إلها ، لأنها حادثة ، فوراءها محدث أحدثها ، وصانع أوجدها.

ثم أوضح الله تعالى ما رآه إبراهيم من ملكوت السماوات والأرض ، أي تبيان وجه الدلالة في خلقهما على وحدانية الله في ملكه وخلقه ، فلما أظلم عليه الليل ، رأى كوكبا عظيما متميّزا عن سائر الكواكب بإشراقه ولمعانه ، وهو كوكب المشتري أو الزهرة ، فقال موهما قومه في مقام المناظرة والحجاج : هذا ربّي ، على سبيل الفرض ، فلما غرب هذا الكوكب ، قال إبراهيم : ما هذا بإله ، ولا أحب ما يغيب ويختفي ؛ لأن للإله السيطرة على الكون ، فكيف يغيب الإله ويستتر؟

ثم انتقل إبراهيم من إبطال ألوهية الكوكب إلى إبطال ألوهية القمر الأكثر إضاءة ، فلما رأى القمر بازغا طالعا عم ضوءه الأرض ، قال : هذا ربّي ، فلما غاب كما غاب الكوكب في الليلة الماضية ، قال إبراهيم مسمعا قومه : ما هذا أيضا بإله ، ولئن لم يهدني ربّي ويوفّقني لإصابة الحق في توحيده ، لأكونن من القوم الضّالين المخطئين الطريق ، فلم يصيبوا الهدى ، وعبدوا غير الله.

ولما رأى إبراهيم الشمس بازغة طالعة ، وهي أعظم الكواكب المرئية لنا ، قال إبراهيم : هذا هو الآن ربّي ، هذا أكبر من الكواكب والقمر قدرا ، وأعظم ضوءا ونورا ، فلما غابت الشمس كما غاب غيرها ، صرح إبراهيم بعقيدته ، وتبرأ من شرك قومه ، قائلا : إني توجّهت في عبادتي لخالق الأرض والسماء ، وخالق هذه الكواكب ، إني بريء مما تشركون ، باتخاذ إله آخر مع الله ، وإنما أعبد خالق هذه الأشياء ومدبّرها الذي بيده ملكوت كل شيء ، وخالق كل شيء. ومثّل إبراهيم لقومه بهذه الأمور ؛ لأنهم كانوا أصحاب علم نجوم ونظر في الأفلاك.

قال إبراهيم : إني أقبلت بقصدي وعبادتي وتوحيدي وإيماني للذي أبدع السماوات

٥٧٢

والأرض ، حنيفا أي مستقيما ، ولست أنا من المشركين مع الله إلها آخر ، كما قال تعالى : (إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ) [الممتحنة : ٦٠ / ٤].

لقد استطاع إبراهيم عليه‌السلام هدم أساس الشّرك أولا ، ثم إعلان عقيدته بتوحيد الله ثانيا ، ليكون قومه على بيّنة من الأمر ، قال تعالى : (قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦)) [الأنبياء : ٢١ / ٥٦].

الجدال بين إبراهيم وقومه

اشتدّ الصراع والنزاع بين إبراهيم الخليل عليه‌السلام وبين قومه المشركين عبدة الأصنام ، وانصبّ الجدل على ترك الشّرك والوثنية ، والإقرار بوحدانية الله خالق الأشياء ، وراجعوه في الحجة في توحيد الله ، ولما أفحمهم في المناظرة وإيراد الأدلة العقلية القطعية ، لم يجدوا أمامهم سوى التّمسك بتقليد الآباء ، وخوّفوه بالبلايا لما طعن في ألوهية الأصنام ، واستهجنوا جعل الآلهة إلها واحدا.

قال الله تعالى مبيّنا هذه المناظرة : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣)) (١) (٢) (٣) (٤) الأنعام : ٦ / ٨٠ ـ ٨٣].

هذا لون من الجدل الحادّ في مبدأ التوحيد بين إبراهيم عليه‌السلام وبين قومه ،

__________________

(١) خاصموه في التوحيد.

(٢) حجة وبرهانا.

(٣) لم يخلطوا.

(٤) بشرك أو كفر.

٥٧٣

فحينما أقام لهم الأدلة القاطعة على توحيد الله ووجوب عبادته وحده ، حاجّوه ببيان شبهاتهم في الشّرك ، فقالوا : إن تعدّد الآلهة لا ينافي الإيمان بالله ؛ لأن تلك الآلهة شفعاء عند الله ، وتمسكوا بتقليد الآباء ، فقال لهم : أتحاجّونّي وتجادلونني في أمر الله وأنه لا إله إلا الله ، وقد هداني إلى الحق ، ولا أخاف ولا أرهب الآلهة التي تعبدونها ولا أبالي بها ولا أخاف ضرّا ، إلا إذا شاء الله شيئا في أن يريدني بضرّ أو مكروه ، فإنه يقع حتما ، لأنه لا يضرّ ولا ينفع غير الله عزوجل ، ولأن الله أحاط علمه بجميع الأشياء ، فلا تخفى عليه خافية ، فلربما أنزل بي مكروها بسبب الدعوة إلى نبذ الأصنام وتحطيمها ، أفلا تتذكرون هذا وما بيّنته لكم فتؤمنوا وتبطلوا عبادة هذه الآلهة المزعومة ، وتنزجروا عن عبادتها ، وفي هذا إظهار لموضع التقصير منهم.

وكيف أخاف من هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله ، ولا تخافون إشراككم بالله خالقكم ، ما لم ينزل به حجة بيّنة بوحي ولا نظر عقل ، تثبت لكم جعله شريكا في الخلق والتدبير أو في الوساطة والشفاعة؟

فأي الفريقين : فريق الموحّدين وفريق المشركين أحقّ بالأمن من عذاب الله يوم القيامة ، وأجدر بألا يخاف على نفسه في الدنيا. إن كنتم تعلمون ، أي على علم وبصيرة بهذا الأمر ، فأخبروني بذلك ، وفي هذا دفع لهم إلى الاعتراف بالحق.

ثم أبان الله تعالى من هو أحقّ بالأمن والنّجاة والسّلام ، فقال : (الَّذِينَ آمَنُوا) أي الذين صدقوا بوجود الله ووحدانيته ، وأخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له ، ولم يخلطوا إيمانهم بمعصية توقعهم في الفسق ، إنهم الآمنون من العذاب يوم القيامة ، المهتدون في الدنيا والآخرة.

ذكر ابن أبي حاتم عن بكر بن سوادة قال : حمل رجل من العدو على المسلمين ، فقتل رجلا ، ثم حمل فقتل آخر ، ثم قال : أينفعني الإسلام بعد هذا؟ فقال رسول

٥٧٤

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعم ، فضرب فرسه ، فدخل فيهم ، ثم حمل على أصحابه ، فقتل رجلا ، ثم آخر ، ثم آخر ، ثم قتل ، قال الراوي : فيرون أن هذه الآية نزلت فيه : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ ..) الآية. وليس هناك ظلم أشد من الشرك بالله.

وتلك الحجة القوية التي احتج بها إبراهيم عليه‌السلام على قومه ، وهي إبطال عبادة الكواكب والشمس والقمر ، آتيناها إبراهيم وأرشدناه إليها ووفقناه ، لإقناع قومه بها ، إننا نرفع درجات في الدنيا من نشاء من عبادنا ، وهي درجة الإيمان ، ودرجة العلم ، ودرجة الحكمة والتوفيق ، ودرجة النبوة ، ما لم يحظ بها غيرهم ، كما قال الله تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) [البقرة : ٢ / ٢٥٣]. ونرفع درجات بعضهم أيضا في الآخرة بالجنة والثواب ، إن ربك حكيم في قوله وفعله وصنعه ، عليم بشؤون خلقه ، وبمن يهديه ومن يضله ، وإن قامت عليهم الحجج والبراهين ، كما وصفهم الله تعالى بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧)) [يونس : ١٠ / ٩٦ ـ ٩٧]. والدرجات وإن كان الأصل استعمالها في المحسوسات فهي هنا في المراتب والمنازل المعنوية.

ورفع الدرجات لبعض الناس كالمخلصين الأتقياء يكون بمقتضى الحكمة والعلم ، لا بموجب الشهوة والمجازفة ، فإن أفعال الله منزهة عن العبث والباطل ، والتفضيل ورفع المنازل إنما هو بفضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم. وقوله سبحانه في نهاية الآية (حَكِيمٌ عَلِيمٌ) صفتان تليق بهذا الموضع ، إذ هو موضع مشيئة واختيار ، فيحتاج ذلك إلى العلم والإحكام أو الإتقان.

٥٧٥

خصائص رسالات الأنبياء عليهم‌السلام

إن النّبوات قديمة في البشرية ، وهي لخير الإنسان وإسعاده ، وقد اتّصل أولهم بآخرهم في دعوة واحدة هي الدعوة إلى توحيد الله وترك الشّرك والوثنية ، والأمر بمكارم الأخلاق ، وتنظيم الحياة الإنسانية على نحو من المودّة والمحبّة والألفة والتعاون ، وجمع الكلمة وتوحيد الصّف ، والتّرفع عن الخلافات والمنازعات. وكان أغلب الأنبياء من ذرّيّة إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، لذا لقّب بأنه (أبو الأنبياء) ، وكان الفضل في الحفاظ على النوع الإنساني والحيواني لسيدنا نوح عليه‌السلام ، فلقّب بأنه (أبو البشر الثاني).

قال الله تعالى مبيّنا مهام مجموعة من الأنبياء :

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠)) (١) (٢) (٣) [الأنعام : ٦ / ٨٤ ـ ٩٠].

أكرم الله نبيّه إبراهيم عليه‌السلام ، فوهب له ولدين صالحين إسحاق ويعقوب ، وجعلهما من الأنبياء ، وهداهما كما هدى إبراهيم أباهما بالنّبوة والحكمة والفطنة إلى الحجة الدامغة.

__________________

(١) اخترناهم للنّبوة.

(٢) بطل وسقط.

(٣) الفصل بين الناس بالحق.

٥٧٦

وإبراهيم من سلالة نوح ، وكما هداه الله إلى الحق ، هدى جدّه نوحا قبله ، فآتاه النّبوة والحكمة ، وهي من أعظم النّعم ، فإبراهيم سليل نبي ، وأولاده أنبياء ، فجعل من ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون ، فهي ذرّية طيّبة ، وشجرة مباركة الأصول والفروع. وهؤلاء جمعوا بين النّبوة والملك والحكم.

وأما لوط فهو ليس من ذرّية إبراهيم عليه‌السلام ، بل هو ابن أخيه ، ويمكن نسبته لإبراهيم على رأي من يرى الخال أبا ، فدخل في ذرّية إبراهيم تغليبا.

وقوله سبحانه : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) وعد من الله عزوجل لمن أحسن في عمله ، وترغيب في الإحسان.

وهدى الله إلى النّبوة والحكمة جماعة آخرين من ذرّية إبراهيم وهم زكريا ويحيى وعيسى وإلياس ، وكل منهم من الصالحين قولا وعملا ، وهؤلاء جمعوا بين نعمة الدنيا والرّياسة ، وبين هداية الدّين وإرشاد الناس.

وهدى الله أيضا من ذرّية إبراهيم إسماعيل ابنه الصّلبي الذّبيح ، وجد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واليسع وهو يوشع بن نون ، ويونس بن متى ، ولوطا ، وكل واحد من هؤلاء فضّله الله على العالمين في عصره ، فكل واحد أفضل من قومه.

ذكرت الآيات السابقة ثمانية عشر نبيّا ، وجعلتهم متميزين بصفات معينة كما ذكرت.

ثم ذكر الله تعالى فضله على هؤلاء الأنبياء في أنه هدى بعض آبائهم وذرّياتهم وإخوانهم إلى الحق والخير ، لا كلهم ، واصطفاهم الله واختارهم وخصّصهم بمزايا كثيرة ، وهداهم إلى الصراط المستقيم : وهو الدين الحقّ القويم.

ذلك الهدى هو هدى الله الخالص وتوفيقه دون هداية من عداه ، والهداية نوعان : هداية محضة لا تنال إلا من الله وهي النّبوة ، وهداية تنال بالسّعي والكسب أو الاختيار مع التوفيق الإلهي لنيل المراد.

٥٧٧

ولو أشرك هؤلاء المهتدون بربّهم ، مع فضلهم وارتفاع درجاتهم ، لبطل أجر عملهم كغيرهم في إحباط أعمالهم ، أي تلفها وذهابها لسوء غلب عليها. وهذا غاية العدل وإحقاق الحقّ في محاربة الشّرك والمشركين.

أولئك المذكورون من الأنبياء السابقين ، رسالتهم واحدة وهي الدعوة إلى توحيد الله تعالى ، وقد آتاهم الله الكتب السماوية وهي الصّحف والتوراة والإنجيل والزّبور ، وأعطاهم الله الحكم أي الحكمة وهي الفطنة والفقه في دين الله والعلم النافع ، ومنحهم ربّهم النّبوة : وهي إنزال الوحي عليهم لتبليغ أمر الله ودينه ، فإن يكفر بالكتاب والحكم والنّبوة هؤلاء المشركون من أهل مكة ، فقد وكّل الله برعايتها والإيمان بها قوما كراما ليسوا بها بكافرين ، آمنوا بها وعملوا بأحكامها ودعوا الناس إليها.

أولئك الأنبياء ومن معهم من المؤمنين المهديين هم الذين هداهم الله ، فاقتد بهم ، أيها النّبي الرّسول واتّبع آثارهم في القول والفعل والسّيرة ، وأمر الرسول باتّباع الأنبياء أمر لأمّته ، وقل أيها النّبي لمن أرسلناك إليهم : لا أطلب على تبليغ القرآن أجرا من مال ولا غيره من المنافع الخاصة ، وما هذا القرآن إلا تذكير وموعظة للعالمين من الإنس والجنّ ، وإرشاد وهدى للمتّقين.

إثبات ظاهرة الوحي للأنبياء

ظاهرة الوحي للأنبياء والرّسل على ممرّ التاريخ حقيقة واضحة ملموسة ، كان يشاهدها الأصحاب والأتباع أمام أعينهم ، ويسهل التصديق بوجود الوحي على كل من عرف قدرة الله على إيجاد الأشياء وخلقها ، فليس الوحي مجرد أوهام ، أو تقمّصات روحانية ، أو وساوس شيطانية ؛ لأن هذه الأحوال لا ثبات لها ، ولا تنتج

٥٧٨

شيئا ذا موضوع مهم ، أما الوحي فذو حقيقة موضوعية لا يمكن إنكارها أو التّحكّم فيها ، وإنما تحدث من قبل الله تعالى بوساطة جبريل عليه‌السلام ، أو بغيره كالرؤيا الصادقة في النوم ، وإتيان الملك بصورة بشر مألوف. قال الله تعالى مبيّنا هذه الظاهرة :

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) [الأنعام : ٦ / ٩١ ـ ٩٢].

ذكر ابن أبي حاتم وغيره عن سعيد بن جبير ـ في بيان سبب نزول هاتين الآيتين ـ قال : جاء رجل من اليهود يقال له : مالك بن الصيف ، فخاصم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له النّبي : «أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى ، هل تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السّمين؟» وكان حبرا سمينا ، فغضب ، وقال : ما أنزل الله على بشر من شيء ، فقال له أصحابه : ويحك ، ولا على موسى ، فأنزل الله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ..) الآية.

الله سبحانه هو القادر على كل شيء ، والعالم بكل شيء ، والرّحيم بخلقه ، فأرسل الرّسل ، وأنزل الكتب ، وأوحى إلى الأنبياء شرائعه لهداية الناس وإرشادهم ، أما منكرو الوحي الذين يكفرون برسل الله من الوثنيين والملاحدة فما عرفوا الله حقّ معرفته ، وما عظّموه حقّ تعظيمه ، إذ كذبوا رسله إليهم ، وقالوا : ما أنزل الله كتابا من السّماء.

__________________

(١) ما عظّموه ولا عرفوه.

(٢) أوراقا مكتوبة.

(٣) باطلهم.

(٤) كثير المنافع.

(٥) أهل مكة.

٥٧٩

والرّد على هؤلاء المنكرين للوحي بأمر مشهور لهم ، لم يكذّبه العرب قاطبة ، وهو ما أمر الله به نبيّه محمدا أن يقول لهم : من أنزل كتاب التّوراة على موسى بن عمران؟ وأنتم تعترفون بالتوراة إذ قلتم : (لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) [الأنعام : ٦ / ١٥٧]. والتوراة نور للمؤمنين ، وهداية للمسترشدين ، وأنتم يا بني إسرائيل تجعلون التوراة قراطيس ، أي قطعا تكتبونها من الكتاب الأصلي الذي بأيديكم ، وتحرّفون منها ما تحرّفون ، وتبدّلون منها ما تبدّلون ، وتقولون : هذا من عند الله ، أي في كتابه المنزل ، وما هو من عند الله. وأنتم أيضا تخفون دلائل نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والبشارة به وبعض الأحكام التشريعية كحكم الزّنى ، فيجدر بكم أيها المشركون ألا تثقوا بأقوال المعادين للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عداء شديدا بقصد إبطال رسالته.

ويا معشر العرب علّمتم من الهدايات والتوحيد والإرشاد إلى الحق ما لم تكونوا عالمين به ولا آباؤكم ، وقد أصبح للعرب بالإسلام مجد وعزّة ودولة ، بعد أن كانوا قبائل شتى ، وفي جهالة عمياء.

ثم أمر الله تعالى نبيّه بالمبادرة إلى موضع الحجة والرّد الحاسم ، فقل لهم : الله تعالى هو الذي أنزل الكتاب على موسى ، وأنزل علي هذا الكتاب وهو القرآن ، ثم أمره تبارك وتعالى بترك من كفر وأعرض بقوله : (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) أي ثم دعهم واتركهم في جهلهم وضلالهم يلعبون ، حتى يأتيهم الموت الذي يطوي صحيفة هؤلاء المعاندين المكابرين. ومعنى الخوض : الذهاب فيما لا تعرف حقائقه.

ثم أبان الله تعالى أوصاف القرآن بأنه كتاب كثير البركة والخير ، أنزله الله مؤيّدا لما تقدمه من الكتب ، ومهيمنا عليها ، يبشّر بالجنّة والثواب والمغفرة من أطاع الله ، وينذر بالنار والعقاب من عصى الله ، ويخوّف أهل مكة : أمّ القرى ومركز قطب الدائرة في العالم ، ومن حولها من سائر الناس ، من أحياء العرب ومن سائر طوائف

٥٨٠