التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0523-3
الصفحات: ٦٧١

الله؟ والسؤال ليس لمجرد الاستفهام ، وإنما بقصد الإنكار والتوبيخ لمن ادّعى ألوهية عيسى ، فيرون تبرؤ عيسى من هذه النسبة أو الصفة ، ويعلمون أن ما كانوا فيه باطل محض البطلان ، لأن عيسى عليه‌السلام يستجير من هذا الادّعاء قائلا : (سُبْحانَكَ) أي أنزّهك عما لا يليق بك ، من ادّعاء الشريك أو الابن والولد ، وليس هذا من شأني ، ولا مما يصح أن يقع مني أن أقول قولا لا حقّ لي بقوله ، فإن قلته على سبيل الافتراض ، فأنت تعلم قولي وما في نفسي ، وسرّي وعلانيتي ، ولا أعلم ما تخفيه من علومك الذاتية في نفسك ، إنك أنت المحيط بالغيبيات ، والحسّيّات المشاهدات ، ما كان منها وما سيكون.

لم أقل لهم إلا ما أمرتني به بعبادة الله ربّي وربّكم ، وإني عبد من عبادك مثلهم ، وكنت المراقب على أحوالهم ، أشهد على ما يفعلون ، وأمنعهم من القول الباطل ، وأطالبهم بقول الحق ، فلما توفّيتني أي قبضتني إليك ، كنت أنت المراقب لأعمالهم وأقوالهم ، الحافظ عليهم ، المحاسب لهم ، وأنت الشهيد على كل شيء ، فتشهد لي حين كنت فيهم.

وأنت يا ربّ المفوض في الأمور كلها ، تعذّب المسيء بعدلك ، وترحم المقصّر بفضلك ورحمتك ، وتغفر لمن تشاء بإرادتك ، فالملك ملكك ، وأنت القوي القادر على الثواب والعقاب ، الحكيم الذي لا تجازي إلا بحكمة وصواب.

قال الله : هذا يوم القيامة هو اليوم الذي ينفع فيه صدق الصادقين في إيمانهم وشهاداتهم وسائر أقوالهم وأفعالهم في الدنيا. وجزاء الصادقين جنات تجري من تحت غرفها وأشجارها الأنهار ، ماكثين فيها على الدوام ، ثوابا خالصا من الله ، والله راض عنهم رضا لا يغضب بعده أبدا ، وهم راضون عن الجزاء الذي أثابهم الله به ، ذلك الظفر هو الظفر العظيم الذي عظم خيره وكثر ، وارتفعت منزلة صاحبه.

٥٢١

والله هو صاحب الملك الشامل ، مالك السماوات والأرض ، وكل ما فيهما من موجودات ومخلوقات ، وهو سبحانه قادر تام القدرة على كل شيء ، وشأن المملوك وهم العباد أن يكونوا عبادا لله وحده لا شريك له.

٥٢٢

تفسير سورة الأنعام

إثبات القدرة الإلهية بالمحسوسات

الله سبحانه وتعالى إله غيبي غير مشاهد لنا في الدنيا بالأبصار والمرئيات ، وإنما يمكن الاستدلال عليه بسهولة فيما نشاهده ونلمسه في هذا الكون من إبداع السماوات والأرض وإيجاد الليل والنهار ، وخلق الإنسان من بداية معينة وتقدير أجل محدد لوجوده في الحياة ، وإحاطة علمه سبحانه بدقائق الأشياء ، السّرية منها والجهرية. قال الله تعالى في مطلع سورة الأنعام المكّية :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) [الأنعام : ٦ / ١ ـ ٣].

هذه حملة إلهية قوية على أولئك المشكّكين في وجود الله وقدرته ووحدانيته ، وتمكّنه من بعث الأجساد مرة أخرى ، من غير مشقة ولا صعوبة ، وهذه الحملة تذكرنا بضرورة تخصيص كل أنواع الحمد والثناء والشكر لله تعالى ، فهو أهل للمحامد كلها على أنواعها ، وله الحمد الشامل للشكر المختص بأنه على النعم ، إنه سبحانه جدير

__________________

(١) أنشأ وأبدع.

(٢) يسوون به غيره في العبادة.

(٣) قدر زمانا للموت.

(٤) للبعث اختص بعلمه هو.

(٥) تشكون في البعث.

٥٢٣

بالحمد ولو لم يكن منه إنعام ، لأنه المبدع وخالق السماوات والأرض وما فيهما من العوالم العلوية والسفلية ، وما اشتملتا عليه من التقدير والإحكام بوجود الله سبحانه ، وسبقهم المؤمنون إلى ذلك ، قال الله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥)) [لقمان : ٣١ / ٢٥].

أما ترتيب خلق السموات والأرض ، فالمفهوم من مجموع آي القرآن : أن الله تعالى خلق الأرض ولم يدحها أو يبسطها ، ثم خلق السماء ، ثم دحا الأرض ومدّدها بعد ذلك.

ولم يخلق السماوات والأرض على شكل واحد ، وإنما جعل فيهما التنويع والتّبدل ، والحركة والتّغير ، وذلك آية الجمال والقدرة التامة الشاملة ، فجعل الله العالم متبدلا ، يلفّه الليل والنهار ، والظلمة والنور يتعاقبان ويتبادلان ، وهو وضع تجديدي يطرد السأم والملل ، ويمنح النشوة والأمل ، فلو كانت الحياة كلها على منوال واحد ، ليل مظلم أو نهار مضيء دائم ، لتضايق الإنسان ، ولم يرق له العيش الهني ولم يدرك الارتياح النفسي. ومع هذه التبدلات والتغيرات ، ووجود الأرض والسماوات ، يجحد الكفار نعمة الله الصانع ، ويجعلون لله عديلا مساويا له في العبادة ، وهو الشريك ، مع أن هذا الشريك ضعيف عاجز غير خالق ، ولا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا. وقوله تعالى : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) توبيخ للناس على سوء فعلهم بعد قيام الحجج ووضوحها.

والظلمات في الكون كثيرة ، تشمل المحسوس والمعنوي ، فالمحسوس هو ظلمة الليل وأعماق الأرض والبحر ، والمعنوي فيها ظلمات الشّرك والكفر. والنّور يشمل النهار المحسوس ، والإيمان والعلم وسائر فنون المعرفة.

ومرجع العالم في النهاية إلى الله تعالى وهو سبحانه القادر التام القدرة على إعادة

٥٢٤

الحياة في الآخرة بعد الموت في الدنيا ؛ لأنه الذي خلقنا في مبدأ الخليقة من طين ، فأوجد أبانا آدم عليه‌السلام ، ثم تكاثرت ذرّيته في المشارق والمغارب ، كما خلق سائر أحياء الأرض ، وجعل الحياة مقيدة بين بداية معينة من الميلاد ، ونهاية محددة بالوفاة. وصار قضاء الله أجلين : الأول : ما بين أن يخلق الإنسان إلى أن يموت ، والثاني : ما بين الموت والبعث ، وهو حياة البرزخ ، حياة القبر. وبالرغم من قيام هذه الدلائل على وحدانية الله والبعث ، يشكّ الكفار في إعادة الخلق أو البعث يوم القيامة مرة أخرى. وهيّأ الله تعالى للإنسان في حياته ظروف المعيشة مع ضعفه وعجزه ، ومن قدر على ابتداء الخلق من الطين ، فهو على الإعادة أقدر وأهون عليه.

وهناك دليل آخر على وجود الله ووحدانيته : أن الله لم تنته مهمته بخلق السماوات والأرض ، وإنما هو دائم الوجود والهيمنة والسيطرة ، والقائم في السماوات والأرض المعبود فيها ، المعروف بالألوهية ، يعبده ويوحّده كل من في السماوات ومن في الأرض ، ويسمّونه الله ، ويدعونه رغبا ورهبا إلا من كفر من الجن والإنس : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) يعلم السّر والجهر ، ويستوي في علمه سبحانه الخفاء والعلانية ، ويعلم جميع أعمالكم خيرها وشرّها ، ويجازي الناس جميعا عليها ، فهل بعد هذه الأدلة والبراهين أي شك في توحيد الله وقدرته على البعث والحياة الثانية بعد الأولى ، بل والخلود في عالم الآخرة.

أسباب كفر الناس بالله تعالى

العقل والواقع يقضيان بأنه لا يوجد سبب مقبول ولا برهان واضح يسوّغ جحود الناس وكفرهم بوجود الله ووحدانيته ، وإنما الكفر والجحود لون من ألوان المكابرة

٥٢٥

والعناد ، والسذاجة والسطحية ، والهروب من الحقيقة بعد تبيّنها وظهورها ، ومعاداة ما تدل عليه البراهين العلمية والمشاهدات الحسية والتأملات الفكرية.

فبالرغم من وجود الآيات الكونية التي تدلّ على إثبات الوحدانية لله ، وكمال الألوهية والربوبيّة ، وبالرغم من وجود الآيات القرآنية التي تنادي الناس للإيمان والتصديق بها ، فإن بعض الناس يتّجهون إلى التكذيب والإنكار والكفر. قال الله تعالى :

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) [الأنعام : ٦ / ٤ ـ ٦].

يذمّ الله تعالى أولئك الكفار الذين يعدلون بالله سواه ، ويجعلون الشركاء مثل الله ، يذمّهم بأنهم يعرضون عن كل آية ترد عليهم ، فكلما أتتهم معجزة أو حجة واضحة من دلائل وحدانية الله وصدق رسله الكرام ، أعرضوا عنها ، ولم ينظروا فيها ، ولم يبالوا بها ، وكلما ذكّرهم القرآن العظيم بآيات ربّهم الذي ربّاهم ، وتعهّدهم في حالتي الضعف والقوة ، وأمدّهم بالرزق ، وأعطاهم كل شيء ، وخلق لهم جميع ما في الأرض ، فإنهم مع ذلك كله يعرضون عن النظر في آيات الله ، كما قال سبحانه : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) [الأنبياء : ٢١ / ٢ ـ ٣].

__________________

(١) أخبار العقوبات.

(٢) أمة من الناس.

(٣) أمددناهم من القوة.

(٤) المطر.

(٥) غزيرا.

٥٢٦

وسبب ذلك الإعراض عن النظر في آيات الله : تكذيبهم بالحقّ الذي جاءهم ، وهو دين الإسلام والقرآن ومحمد عليه الصّلاة والسّلام.

إنهم لم ينظروا في الوجود نظرة تأمّل وتفكّر واعتبار ، ولم يحرّروا أنفسهم من رقّ التقليد الأعمى للآباء والأجداد ، ولم يترفعوا عن سيطرة العصبية وحماقة الجاهلية ، فهم إذا جاءتهم رسالة التجديد والحياة الأفضل أعرضوا وقالوا : سحر مستمر ، قال تعالى : (وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢)) [الأعراف : ٧ / ١٣٢].

والإعراض عن الحق ، والجمود على الباطل ، استدعى تهديد هؤلاء الكفار على تكذيبهم بالحقّ ، فلا بدّ من أن يأتيهم خبر ما هم فيه من التكذيب ، وسيجدون عاقبة أمرهم واستهزائهم بالإسلام والقرآن ، فإنهم سيتعرضون في الدنيا للقتل والدمار بمختلف الأسباب ، وفي الآخرة يجدون العذاب في نار جهنم يطوّق أعناقهم ويلازمهم إلى الأبد ، قال تعالى : (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [النّحل : ١٦ / ٣٤].

ثم أبان الله تعالى أن الوعيد بالعذاب سنّة الله في المكذّبين ، ألم يروا في قلوبهم وينظروا في عقولهم أن الله أهلك كثيرا من الأمم السابقة قبلهم ، مثل قوم عاد وثمود وقوم فرعون وإخوان لوط الذين كذّبوا رسلهم ، بالرغم مما كانوا يتمتعون به من أسباب القوة والسّعة في الرزق ، والاستقلال والملك ، ما لم نعطهم مثله ، وما لم نمكّن لهم شبيها به.

لقد كان قوم عاد وثمود وقوم فرعون وإخوان لوط في سعة كبيرة من العيش ، وشدة في السلطان ، وقوة في الحياة ، وسّع الله عليهم الرزق ، وأرسل عليهم الأمطار الغزيرة ، وجعل الأنهار تجري من تحت بيوتهم ووسط مزارعهم ، فلما كفروا بأنعم

٥٢٧

الله ، أهلكهم الله بسبب ذنوبهم وبسبب تكذيبهم رسلهم ، وأوجد الله من بعدهم قوما آخرين ، وجيلا جديدا يعمرون البلاد ، ويكونون أجدر بشكر النعمة.

إن هذه الإنذارات والتهديدات للكفار كفيلة بتذكير العقلاء في أنهم أخطئوا الطريق ، وإنهم سيتعرضون لعقاب مماثل لعقاب الكفار من الأمم السابقة : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [البروج : ٨٥ / ١٢ ـ ١٦].

مطالب الكفّار المادّية وشبهاتهم الواهية

إن موقف المشركين الذين عارضوا دعوة الإسلام يتمثّل في شيء من العناد الشديد ، والمكابرة في المحسوسات ، والمطالبة بألوان من المعجزات المادّية لا من أجل الإيمان والتصديق ، وإنما للإعنات والمضايقة والإحراج ، والتّهرب من مواجهة الحقائق. ولكنهم بهذا الأسلوب في المقاومة ، والاستهزاء الذي هو أمارة الإفلاس والعجز ، سيتعرضون لأشد أنواع العذاب ، والوقوع في أسوأ العواقب بسبب تكذيبهم برسالة الحق والقرآن ، وإنكارهم دعوة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى النجاة والسعادة. قال الله تعالى :

(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) [الأنعام : ٦ / ٧ ـ ١١].

__________________

(١) أي في صحيفة مكتوبة كالورق ونحوه.

(٢) لا يمهلون لحظة.

(٣) لخلطنا.

(٤) ما يخلطون على أنفسهم.

(٥) أحاط ونزل.

٥٢٨

سبب نزول هذه الآيات : ما ذكره الثّقات من العلماء ، منها : إن مشركي مكة قالوا : يا محمد ، والله ، لا نؤمن لك ، حتى تأتينا بكتاب من عند الله ، ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله ، وأنك رسول الله ، فنزلت آية : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ).

وقال جماعة من المشركين كالنضر بن الحارث : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء : ١٧ / ٩٠].

وروى ابن المنذر وغيره عن ابن إسحاق قال : «دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قومه إلى الإسلام ، وكلمهم فأبلغ إليهم ، فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب وآخرون : لو جعل معك يا محمد ملك يحدّث عنك الناس ، ويرى معك» فأنزل الله في ذلك : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ).

تحدّثنا هذه الآيات أنه لو جاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم المشركين بأشد وأشنع مما جاء به من الإخبار بعقوبات الأمم السابقة ، لكذّبوا به ، وفي هذا مبالغة تؤكد عنادهم وموقفهم المتعنّت ، إنهم اقترحوا اقتراحين :

أولهما ـ أن ينزل الله عليهم كتابا مسطورا من السماء يخبرهم بصدق نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويطالبهم بالإيمان به ، قال عبد الله بن أبي أمية : «لا أومن لك حتى تصعد إلى السماء ، ثم تنزل بكتاب فيه : من ربّ العزّة إلى عبد الله بن أبي أمية ، يأمرني بتصديقك ، وما أراني مع هذا كنت أصدّقك». ثم أسلم بعد ذلك عبد الله هذا ، وقتل شهيدا في الطّائف. إن عبد الله وأمثاله من المشركين لو جاءهم كتاب إلهي مسجّل من الله ، والتقطوه بأيديهم ، لقالوا : هذا سحر واضح. وذلك يمثّل غاية التّعنّت والمكابرة ، وهذا جواب اقتراحهم الأول.

والاقتراح الثاني ـ أن ينزل الله ملكا من السماء يرونه ويكون مؤيّدا لرسول الله

٥٢٩

صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيكون معه نذيرا ، ومؤيّدا له ونصيرا ، فردّ الله عليهم أولا بأنه لو أنزل الله معه ملكا كما اقترحوا ، لقضي الأمر بإهلاكهم ، ثم لا يمهلون ليؤمنوا ، بل لجاءهم من الله العذاب ، كما قال الله تعالى : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) [الحجر : ١٥ / ٨].

وردّ الله عليهم ثانيا بأنه لو أنزل الله مع الرسول البشر ملكا ، لكان متمثّلا بصورة الرجل ، ليخاطبهم ويخاطبوه ، وينتفعوا به ، ثم يعود الأمر كما كان ، ويقعون في اللّبس والاشتباه نفسه ، ويختلط الأمر عليهم ، لأنه سيقول : إني رسول الله كما قال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم يكذّبونه فلا يؤمنون ولا يصدّقون برسالة القرآن والنّبي والإسلام. قال ابن عباس في الآية : لو أتاهم ملك ، ما أتاهم إلا في صورة رجل ؛ لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة من النّور.

ثم أخبر الله تعالى أن اقتراحات بعض كفار مكة بإنزال كتاب مدوّن من السماء ، أو بإنزال ملك من الملائكة ، صادرة على سبيل الاستهزاء ، ولكنه قد نزل وأحاط بهم من العذاب مثلما كانوا به يستهزئون أو يسخرون. وإن ارتاب المشركون في إمكان وقوع العقاب ، فليسيروا وينتقلوا في الأرض ليقفوا بأنفسهم على الحقيقة من تاريخ عاد وثمود وطسم وجديس وقوم فرعون وإخوان لوط ، كيف عذّبهم الله ، وكيف كانت عاقبة المكذّبين لرسالات أنبيائهم ، وكيف أحاط بهم جزاء ما استهزءوا وسخروا به.

أدلّة واضحة على إثبات البعث

تضافرت الآيات الدّالة على إثبات أصول الدين الثلاثة : وهي إثبات وجود الله وتوحيده ، وإثبات البعث والمعاد والجزاء ، وإثبات النّبوة ورسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكل هذه البراهين الواقعية والحجج الدامغة من أجل خير الإنسان وإسعاده وإفهامه حقيقة

٥٣٠

الوجود الدنيوي والأخروي ، وأن رحلة الحياة الحاضرة لتنتهي بصاحبها إلى عالم الخلود الأبدي القائم على أمور يسيرة هي الإقرار بوجود الله ووحدانيته ، والاعتقاد بقدرة الله التّامة على جمع الناس وحشرهم ، والتّصديق بصحة الوحي إلى الرّسل والأنبياء الكرام وختمهم برسالة خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، قال الله تعالى :

(قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦)) (١) (٢) (٣) (٤) [الأنعام : ٦ / ١٢ ـ ١٦].

حاور الله تعالى من علياء سمائه المشركين آمرا نبيّه بهذا السؤال ، وهو : من مالك جميع ما في السماوات وما في الأرض؟ ولمن هذا الكون والوجود وما فيه؟ والمقصود من السؤال التّبكيت والتوبيخ ، لأن المشركين في الجاهلية كانوا يعتقدون بأن الله هو الخالق ، كما حكى الله تعالى عنهم : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥)) [لقمان : ٣١ / ٢٥].

أمر الله عزوجل محمدا عليه الصّلاة والسّلام بهذه الحجة الساطعة ، والبرهان القطعي الذي لا يستطيع أحد نقضه ، فيا أيها الكافرون بربّهم : لمن ما في السماوات والأرض ، ثم سبقهم في الجواب ، فقال : الله ، إذ لا يستطيع أحد إنكار ذلك ، ومن صفات الله : صفة الرحمة بجميع عباده ، فإنه تعالى أوجب على ذاته الرحمة بخلفه ، ومن

__________________

(١) قضى وأوجب تفضيلا.

(٢) مبدع.

(٣) يرزق عباده.

(٤) خضع لله وانقاد له.

٥٣١

مقتضيات رحمته : حشر الخلائق جميعهم يوم القيامة ، بلا شك ، للثواب والعقاب ، والجزاء على الأعمال ، وإقامة العدل المطلق بين الناس ، كما قال سبحانه : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١)) [النّجم : ٥٣ / ٣١].

وليعلم البشر أن الذين خسروا أنفسهم ممن يجمعون يوم القيامة ، هم الذين لا يؤمنون أبدا بالبعث والثواب والعقاب.

ثم يؤكد الله تعالى ملكيته المطلقة لجميع الكون ، فيذكر أنه تعالى مالك جميع المتحرّك والساكن في الليل والنهار ، وأنه المتصرّف تصرّفا كاملا في كل شيء ، وهو السميع لكل ما يحدث ، العليم بكل ما يقع ، المحيط علمه بكل ما دقّ وعظم ، وبكل فعل ونيّة ، والشامل سمعه كل مسموع من الأقوال والأصوات والحركات.

وهل يصح لذي عقل اتّخاذ ولي أو ناصر غير مبدع السماوات والأرض على غير مثال سبق : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤)) [الزّمر : ٣٩ / ٦٤].

وهل يتصور عاقل استمداد القوة والعون من غير الرازق المطعم لجميع خلقه ، ولا يطعمه أحد ولا يحتاج لأحد؟ يقول النبي بأمر ربه : إنني أنا نبي الله ورسوله أمرت أن أكون أول من خضع وانقاد لعظمة الله وجلاله ، وألا أكون من المشركين مع الله إلها آخر ، أيّا كان نوع الشّرك ، ومنه شرك الجاهلية القائم على اتّخاذ الأصنام واسطة ووسيلة تقرّب إلى الله زلفى. إنني أنا نبي الله أخشى إن عصيت الله ربّي أن يصيبني عذاب يوم عظيم الهول والخطر ، وهو يوم القيامة الذي يحاسب الله فيه الخلائق حسابا شديدا على أعمالهم ، ويجازيهم على ما يستحقّون. إن من يدفع عنه عذاب يوم القيامة وينجو من نار جهنم ، فقد رحمه‌الله وحماه ، وذلك هو الفوز السّاحق الذي لا فوز أعظم منه ، كما قال الله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما

٥٣٢

تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥)) [آل عمران : ٣ / ١٨٥].

كاشف الضّر وأصدق الشهود

يتعرّض الإنسان في حياته لأحداث كثيرة في النفس والأهل والمال ، ويلتمس طرق النجاة والفرج من الكرب ، وينتظر إزالة الضّر بمختلف الوسائل ، فيبذل أقصى ما لديه من جهود ، وأغلى ما لديه من أموال ، ولا يجد المضرور أو المكلوم أو المصاب بابا يطرقه غير باب الله الكريم في أوقات السّحر وخفوت الأصوات وسكون الليل ، وهذا أمر يقع بالفطرة من المؤمن والكافر والبرّ والفاجر ، وكذلك إذا كذّب النّبي وتجهّم الناس في وجه دعوته لن يجد ملاذا له يصدق قوله ويشهد له بالحق سوى الله تعالى. قال الله عزوجل مبيّنا هاتين الحالتين :

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩)) (١) [الأنعام : ٦ / ١٧ ـ ١٩].

أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس قال : جاء النّحام بن زيد ، وقروم ابن كعب ، وبحري بن عمر ، فقالوا : يا محمد ، ما نعلم مع الله إلها غيره ، فقال : لا إله إلا الله ، بذلك بعثت ، وإلى ذلك أدعو ، فأنزل الله في قولهم : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ..) الآية.

__________________

(١) من بلغه القرآن إلى يوم القيامة.

٥٣٣

ومعنى الآيات : الإخبار عن أن الأشياء كلّها بيد الله ، إن ضرّ فلا كاشف لضرّه غيره ، وإن أصاب بخير فكذلك أيضا لا رادّ ولا مانع منه. والضّرّ ـ بضم الضّاد : سوء الحال في الجسم وغيره ، والضّرّ ـ بفتح الضّاد : ضدّ النفع ، وناب الضّر في هذه الآية مناب الشّر ، وإن كان الشّر أعم منه ، فقابل الخير.

يخبر الله بأنه : إن يصبك أيها الإنسان ضرر أو شدة من ألم أو فقر أو مرض أو أي مصيبة تحصل ، أو حزن أو ذلّ ونحوه ، فلا صارف له عنك ولا مزيل له إلا الله تعالى ؛ لأنه القادر على كل شيء ، أي على كل شيء جائز أن يوصف الله تعالى بالقدرة عليه. وكذلك إن يحصل لك أيها الإنسان خير من صحة أو غنى أو عزّ ونحوه ، فهو أيضا من الله سبحانه ، لكمال قدرته على كل شيء ، ولأنه القاهر الغالب صاحب العزّة والمجد والسلطان ، والقاهر : أي المستولي المقتدر ، ولأنه سبحانه الحكيم في جميع أفعاله ، يضع كل شيء في موضعه المناسب له ، وهو عزوجل الخبير بمواضع الأشياء ، فلا يعطي إلا من يستحق ، ولا يمنع إلا من يستحق ، كما قال تعالى في آية أخرى : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢)) [فاطر : ٣٥ / ٢].

وفي مقابلته تعالى الخير بالضّر إشارة إلى أن ما يصيب الإنسان في الدنيا ليس شرّا ، بل قد يكون فيه نفع. وإذا كان الله تام القدرة والسلطان والتّصرف ، فلا سبيل للعبد إلا اللجوء إليه ودعوته رغبا ورهبا. والفوقية في قوله : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) فوقية استعلاء بالقهر والغلبة لا فوقية مكان.

ثم أيّد الله نبيّه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشهادة هي أعظم الشهادات وأجلّها ، وأصحّها وأصدقها ، وهي شهادة الله بالحق بين نبيّه محمد وبين المشركين ، شهادة تدلّ على صدق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتكشف حال أعدائه. وتتضمن هذه الآية أن الله تعالى يقال عليه :

٥٣٤

شيء ، كما يقال عليه : موجود ، ولكن ليس كمثله تبارك وتعالى شيء ، فالله شيء لا كالأشياء. وهذه الآية للرّد على المشركين القائلين للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من يشهد لك بأنك رسول الله؟ فنزلت الآية.

وأردفها الله بأمر نبيّه بأن يخبر قومه : بأنه أوحي إلي هذا القرآن لأخوّفكم به العقاب والآخرة على تكذيبي ، وأخوف به كل من بلغه هذا القرآن من العرب وغير العرب (العجم) فهو نذير لكل من بلغه وعلم به ، ينذر من عصاه بالنار ، ويبشّر من أطاعه وآمن به بالجنة ، قال تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) [البقرة : ٢ / ١١٩]. روى عبد الرّزاق عن قتادة في قوله تعالى : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بلّغوا عن الله ، فمن بلغته آية من كتاب الله ، فقد بلغه أمر الله». وفي رواية أخرى : «يا أيها الناس ، بلّغوا عني ولو آية ، فإنه من بلّغ آية من كتاب الله تعالى ، فقد بلغه أمر الله تعالى ، أخذه أو تركه».

ومن أهم خصائص دعوة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التصريح بأن الإله إله واحد ، وهو الله عزوجل ، وأن هذا النّبي بريء مما يشرك به العرب وغيرهم من الأصنام والأوثان وغيرها.

إقرار غير المؤمنين بالحق والتوحيد

من المعلوم أن الحقيقة مرّة ، وأن الاعتراف بها يحتاج إلى جرأة وصراحة ، وقوة إيمان وصفاء نفس ، ولكن هذا الإقرار تحجبه أحيانا كثيرة المؤثرات المصلحية والعوامل المادّية والتّخوف من فقدان المنصب والجاه ، وضياع الذّات ، وخسارة ولاء الأتباع والأنصار ، والدليل على حجب الحقيقة الدينية الكبرى : اعتراف أهل الكتاب بصدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعوته ، وإعلان المشركين في الآخرة أنهم ما كانوا مشركين ، قال الله تعالى :

٥٣٥

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)) (١) (٢) (٣) [الأنعام : ٦ / ٢٠ ـ ٢٤].

ذكر المؤرّخون أن كفار قريش سألوا أهل الكتاب (اليهود والنّصارى) عن رأيهم في النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي دينه ، فقالوا : ليس في التوراة والإنجيل شيء يدلّ على نبوّته. ولكنهم في هذا لم يكونوا صادقين ؛ لأنهم يعرفونه بالنّبوة والرسالة كما يعرفون أبناءهم ، لما روي أنه لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة قال عمر لعبد الله بن سلام : أنزل الله على نبيّه هذه الآية ، فكيف هذه المعرفة؟ فقال : يا عمر ، لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني ، ولأنا أشدّ معرفة بمحمد مني بابني ؛ لأني لا أدري ما صنع النساء ، وأشهد أنه حقّ من الله تعالى.

ومعنى الآيات : إن الذين آتيناهم الكتاب قبل القرآن وهم اليهود والنصارى يعرفون أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبي ، وأنه خاتم الرّسل ، كما يعرفون أبناءهم ، بما عندهم من الأخبار والأنباء عن الرّسل المتقدّمين والأنبياء السابقين ، فإن صفته في كتبهم واضحة ، ودلائل نبوّته التي ظهرت معه مؤيدة للأوصاف السابقة ، ولكنهم أنكروا ، كما أنكر المشركون.

وسبب إنكارهم ناشئ من أنهم خسروا (أي غبنوا) أنفسهم ، حين لم يؤمنوا برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا بالقرآن ، لعنادهم وحسدهم ، لا لجهلهم به. وليس أحد أظلم

__________________

(١) معذرتهم أو شركهم.

(٢) غاب وزال عنهم.

(٣) يكذبون.

٥٣٦

ممن افترى (أي اختلق) على الله كذبا ، أو كذب بعلامات الصدق ومعجزات النّبي ونحو ذلك ، ثم قرّر الله تعالى قرارا حاسما وهو أنه لا يفلح الظالمون أبدا ، أي لا يبلغون الأمل ولا ينجحون في مخططاتهم في الدنيا والآخرة. والآية تدلّ على أن المشركين جمعوا بين الكذب على الله ، والتكذيب بآيات الله الدّالة على التوحيد وعلى إثبات رسالة النّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وزيادة في الإيلام والتأنيب والتّبكيت يسأل المشركون يوم القيامة والحشر سؤال تقريع وتوبيخ : أين شركاؤكم من الأصنام والأوثان الذين كنتم تزعمون أنهم شركاء لله ، وتدعونهم كما تدعون الله؟ والزّعم : القول الأميل إلى الباطل والكذب في أكثر كلامهم.

ثم لم تكن فتنتهم ، أي لم تكن حجتهم أو قولهم عند اختبار الله إياهم اعتذارا عما سلف منهم من الشّرك بالله إلا أن أقسموا بالله يوم القيامة : ما كنا مشركين ، أي لم نكن مقرّين بالشّرك ولا معتزين به ولا بدين الآباء والأجداد.

وذلك موقف لهم في غاية التّخاذل والخزي والحيرة ، وتأمل أيها الإنسان وتعجب من تناقضهم ، فتارة يصدقون وتارة يكذبون ، وإنكارهم الشّرك يوم القيامة كذب صريح ، فانظر كيف كذبوا على أنفسهم ، بعد الاعتداد بدين الشّرك والوثنية ، وتعجب كيف ضلّ عنهم أي غاب عنهم ما كانوا يفترونه من الإشراك ، حتى إنهم بادروا إلى نفي حدوث الشّرك في الدنيا ، مع أنهم كانوا أساطين الشّرك ، وذلك مثل قوله تعالى في آية أخرى : (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً ..) [غافر : ٤٠ / ٧٣ ـ ٧٤].

إن هذا الموقف المتناقض من المشركين يتّسم بالكذب والخزي والعار ، ولكن بعد فوات الأوان وضياع الفرصة ، فإن دار الدنيا هي دار التكليف بالإيمان والفرائض ،

٥٣٧

وأما دار الآخرة فهي للجزاء من ثواب وعقاب فقط ، فلا يقبل فيها إيمان أو إقرار بصدق رسالة القرآن ونبي الإسلام.

موقف المشركين من القرآن الكريم

كان الموقف الرسمي المعلن للمشركين القرشيين من القرآن الكريم هو الرفض والإنكار جملة وتفصيلا ، لأنهم قدروا بانضمامهم للإسلام أنهم يفقدون مركز الزعامة والسيادة بين العرب ، الذي كانوا يتميزون به في الجاهلية ، ولكنهم بهذا الموقف التاريخي كانوا سبّة الدهر ، وخسروا برفضهم الدنيا والآخرة ، فقد زالت زعامتهم وانتقلت للمسلمين ، وكانوا حطب جهنم وبئس المصير ، قال الله تعالى :

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦)) (١) (٢) (٣) [الأنعام : ٦ / ٢٥ ـ ٢٦].

أبان ابن عباس رضي الله عنهما سبب نزول هاتين الآيتين فقال : إن أبا سفيان ابن حرب ، والوليد بن المغيرة ، والنّضر بن الحارث ، وعتبة وشيبة ابني ربيعة ، وأمية وأبيّا ابني خلف استمعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا للنّضر : يا أبا قتيلة ، ما يقول محمد؟ قال : والذي جعلها بيته ما أدري ما يقول ، إلا أني أراه يحرّك شفتيه يتكلم بشيء ، وما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما كنت أحدّثكم عن القرون الماضية ،

__________________

(١) أي صمما وثقلا في السمع.

(٢) أكاذيبهم المسطرة في كتبهم.

(٣) يتباعدون عنه.

٥٣٨

وكان النّضر كثير الحديث عن القرون الأول ، وكان يحدّث قريشا ، فيستملحون حديثه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

والمعنى والمقصد من هذه الآية أن مشركي مكة كانوا في أعجز موقف ، حين حاولوا ردّ الحق القرآني بالدعوى المجردة ، ومنهم فريق كانوا يستمعون للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم في أشدّ حالات الغباء وصمم الآذان ، يرون الآيات الناطقة بالحق فلا يؤمنون بها ، وإذا جاؤوا للمجادلة أي المقابلة في الاحتجاج ، قابلوا بدعوى مجردة فارغة من البرهان المقبول ، والعقل السليم ؛ لأن الله تعالى ـ بسبب عنادهم وإصرارهم على شركهم ـ جعل على قلوبهم أغطية لئلا يفقهوا القرآن ، وفي آذانهم ثقلا أو صمما عن السماع النافع لهم ، كما شبّههم القرآن بحال الطيور الناعقة بما لا تعي ولا تفهم ، فقال تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) [البقرة : ٢ / ١٧١]. لقد حجزوا عن فهم القرآن وقبوله وتدبّر معانيه بسبب التقليد الأعمى للأسلاف ، وإعراضهم الناشئ عن تصميم وعناد وحزم ألا ينظروا فيما يسمعون نظرة تأمّل وإمعان ، ليميزوا بين الحق والباطل.

فمهما رأوا من الآيات البيّنات والبراهين الصادعة بالحق لا يؤمنوا بها ، وصاروا بلا فهم ولا إنصاف ، كما قال تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)) [الأنفال : ٨ / ٢٣].

وإذا جاؤوا يحاجّون النّبي ويناظرونه في الحق وفي دعوته ، قالوا قولا تافها : ما هذا الذي جئت به إلا مأخوذ من أخبار الأولين وأقاصيصهم التي تسطر وتحكى ولا تحقق كالتواريخ ، وما هي إلا نوع من خرافات وأباطيل القدماء.

وهم بهذا الموقف اللاعقلاني والدعائي بمجرد الأقاويل المبطلة ، ينهون الناس عن

٥٣٩

اتّباع الحق الأبلج وتصديق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والانقياد للقرآن ، ويبعدون هم عنه ، فيجمعون بين الفعلين القبيحين ، لا ينتفعون ، ولا يتركون غيرهم ينتفع.

وعاقبة ذلك أنهم ما يضرّون وما يهلكون إلا أنفسهم بهذا الكفر أو الصنيع الذي يدخلهم جهنم ، ولا يعود وباله إلا عليهم ، وهم لا يشعرون بذلك ، بل يظنّون أنهم يضرّون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد أهلك الله أولئك المعادين الجاحدين ، إما بالقتل في ساحات الحرب ، وإما بالبلاء والانتقام الذي سيتبعه هلاك الآخرة. وهذا من إعجاز القرآن الذي أخبر عن المغيبات في المستقبل ، ووقع ما أخبر به ، لقد انمحى ذكرهم من التاريخ وصاروا مثلا للتخليط الذي لا حجة فيه ، والبلاهة التي لا حدود لها ، فخسروا الدنيا والآخرة.

أحوال المشركين في الآخرة

للمشركين حالتان محرجتان ورهيبتان يوم القيامة ، الحال الأولى : يوم عرضهم على النار وما يطرأ عليهم من ذعر وندم على ماضيهم في الدنيا ، والحال الثانية : يوم حسابهم ووقوفهم بين يدي ربّهم حيث يناقشهم الله على أعمالهم ، فتستولي عليهم الحيرة والدهشة وهول الأمر.

قال الله تعالى واصفا الحال الأولى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩)) (١) [الأنعام : ٦ / ٢٧ ـ ٢٩].

__________________

(١) حبسوا عليها.

٥٤٠