التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0523-3
الصفحات: ٦٧١

الكعبة : بيت مكة ، وهو أول بيت وضع للعبادة في الأرض ، وسمي كعبة لتربيعه ، قال أهل اللغة : كل بيت مربع فهو مكعب وكعبة ، وقال قوم : سميت كعبة لنتوئها ونشوزها على الأرض. وقد بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام بمكّة المكرمة.

والله سبحانه عظّم الكعبة وجعلها مقرّا موحّدا للعبادة ، وصيّرها محطة يقوم بها أمر الناس وإصلاح شأنهم في أمر دينهم بالحج إليها ، وفي أمر دنياهم بتوفير الأمن فيه لداخله ، وتحقيق المنافع وجباية الثمرات المختلفة من كل شيء إليها ، وهي تشبه الملك الذي هو قوام الرّعية وقيامهم ، ورمز تفوقهم وعزّتهم ، وأساس قوتهم ومنعتهم.

وجعل الله الكعبة مثابة للناس وأمنا ، فيه يأمن الخائف ، وينجو اللاجئ كما قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت : ٢٩ / ٦٧]. وصيّر الله الكعبة مهوى الأفئدة والقلوب ، فهي في كل مكان وزمان تهوي القلوب إليها. وهي أيضا سبب لزيادة الرزق والثمرات ، فيقوم أمر العباد ويصلح شأنهم في الدنيا والآخرة ، وهكذا يجد كل من حج حاجته أو مطلبه ، إجابة لدعاء إبراهيم عليه‌السلام : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧)) [إبراهيم : ١٤ / ٣٧].

والله سبحانه جعل الكعبة أيضا مقرّا لالتفاف المسلمين حولها ، والقيام بأداء المناسك والتّعبدات ، وتهذيب الأخلاق وضبط النفوس وتزكيتها ، وتوحيد وجهات نظر المسلمين في شؤونهم العامة والخاصة ، وتأكيد رابطة الأخوة الإيمانية ، وبعث القوة في النفوس ، وإحياء روح الجهاد ، وتذكير الوحي الإلهي ، وتجديد الإسلام في الأعماق.

٥٠١

وجعل الله الأشهر الحرم فترة سلام وأمان ، وتلك الأشهر هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي هو شهر مضر ، وهو رجب الأصم ؛ لأنه لا يسمع فيه صوت السلاح ، فيأمن الناس على أنفسهم وأموالهم ومعايشهم وتجاراتهم ، وتهدأ النفوس ، وتخمد نار الحروب ، وينصرفون إلى العبادة والحج وصلة القرابة ، وتحصيل الأقوات كفاية العام.

وكذلك الهدي (وهو كل ما يقدم من الأنعام حين زيارة البيت الحرام) والقلائد أي الإبل المقلّدة المعلمة بلحاء الشجر ، جعلها الله قياما للناس أي أمانا ، فالهدي أمان لمن يسوقه ؛ لأنه يعلم أنه في عبادة ، لم يأت لحرب ، وكذلك القلائد من الإبل التي تقلّد بلحاء الشجر أو غيره ، فتكون أمانا لمن قلّدها ، وكان هذا التقليد أو العادة المتّبعة محلّ تعظيم شديد في نفوس العرب ، حتى إن من ليس بمحرم لا يقدر أن يتقلّد شيئا خوفا من الله ، وكان هؤلاء الزّوار للكعبة إذا انصرفوا ، تقلّدوا من شجر الحرم.

قال سعيد بن جبير رحمه‌الله : جعل الله هذه الأمور للناس وهم لا يرجون جنة ولا يخافون نارا ، ثم شدّد ذلك بالإسلام.

فعل الله وجعل هذه الأمور معالم أمن ونفع ، لتعلموا أيها الناس أن الله تعالى يعلم تفاصيل أمور السماوات والأرض ، ويعلم مصالحكم أيها الناس قبل وبعد ، فانظروا لطفه بالعباد على حال كفرهم. والله تعالى علّام بكل شيء صغير أو كبير ، سرّ أو علن ، باطن أو ظاهر. وعلمه تعالى علم تامّ بالجزئيات ودقائق الموجودات ، كما قال عزوجل : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام : ٦ / ٥٩].

٥٠٢

أسباب التّرغيب والتّرهيب

يحرص القرآن الكريم على اتّباع منهج الجمع بين الترغيب والترهيب ، ليكون الترغيب دافعا إلى البناء والعمل الإيجابي ، ويكون الترهيب والتخويف سببا في البعد عن الهدم والانهزام وسلبيات الأمور والأوضاع.

ويفهم الإنسان المؤمن العاقل حين اقتران الترغيب بالترهيب ضرورة الموازنة والتفكير الجدي والعمل الحاسم بتوجيه نفسه وغيره نحو الخير ، واجتناب الشّر والمنكر. وسرعان ما تظهر نتيجة الموازنة والمقارنة سواء في الدنيا أو في الآخرة ، ففي الدنيا يظفر فاعل الخير بالسعادة وتحقيق السمعة الطيبة ، ويسقط الشرير من أعين الناس ، ويحذرونه وينأون عنه ، وفي الآخرة يحظى المؤمن الصالح بالخلود في جنّات النعيم ، والنجاة والفلاح في الحساب بين يدي الله تعالى ، ويتلقى الكافر والفاسق والعاصي في الآخرة صفعة موجعة مؤلمة ، ويتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا. قال الله تعالى :

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠)) [المائدة : ٥ / ٩٨ ـ ١٠٠].

وسبب نزول آية : (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ ..) فيما أخرج الواحدي والأصفهاني عن جابر رضي الله عنه : أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر تحريم الخمر ، فقام أعرابي فقال : إني كنت رجلا كانت هذه تجارتي ، فاعتقبت منها مالا ، فهل ينفع ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله تعالى؟ فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله لا يقبل إلا الطيب ، فأنزل الله تعالى تصديقا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠)).

٥٠٣

خوّف الله تعالى عباده ورجّاهم ، وأرهبهم ورغّبهم في قوله سبحانه : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨)). وهذا هو الذي ينبغي أن يكون عليه حال الناس ، فجدير بالإنسان أن يكون خائفا ، عاملا بحسب الخوف ، متّقيا متأنسا بحسب الرجاء ؛ لأن الله لم يخلقنا عبثا ، ولم يتركنا هملا ، بل لا بد من جزاء العاصي ، وإثابة الطائع ، والله سبحانه شديد العقاب لمن خالف أوامره ، فأشرك بالله وفسق وعصى ربّه ، وهو تعالى غفار رحيم (كثير المغفرة والرحمة) لمن أطاعه ، ونفّذ أوامره ، واجتنب نواهيه ، يرحم التّائبين المصلحين أعمالهم من وقت قريب قبل أن يدركهم الموت ، وهذه الآية تقتضي أن الإيمان لا يتم إلا بالرجاء والخوف. وأن الاعتدال هو بخشية العذاب ، وحسن الظن بالله تعالى معا. وفي تقديم العقاب على المغفرة دليل على أن جانب الرحمة أغلب ؛ لأن رحمته تعالى سبقت غضبه كما صح في الحديث النّبوي ، وكما قال تعالى : (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) [المائدة : ٥ / ١٥].

وليس من وظيفة الرسول حمل الناس على الهداية والتوفيق للإيمان ، وإنما عليه التبليغ وأداء الرسالة ، ثم يتولى الله إثابة المطيع ، ومعاقبة العاصي ، لأنه سبحانه يعلم ما ينطوي عليه صدر العبد ، ويعلم ما تبدون وما تكتمون ، ويعلم السّر وأخفى ، وإلى الله المرجع والمآب.

ثم أمر الله نبيّه بأن يعلم الناس : أنه لا يستوي الخبيث والطيب ، والكافر والمؤمن ، والضّار والنافع ، والفاسد والصالح ، والظالم والعادل ، والحرام والحلال ، ولو أعجبك أيها المشاهد كثرة الخبيث من الناس أو كثرة المفسدين أو الأموال الحرام عند شخص ما كالرّبا والرّشوة والخيانة ، أو ولو تعجبت من قلّة الطيب من الصالحين الأبرار. قال تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨)) [ص : ٣٨ / ٢٨].

٥٠٤

فاتّقوا الله يا أهل العقول ، واحذروا تسلّط الشيطان عليكم ، فتغتروا بكثرة أهل الباطل والفساد ، أو كثرة المال الحرام ، لعلكم تنجون من العذاب ، ولأن العاقل هو الذي يتذكر ويعي ويحذر ، وتقوى الله : هي سبيل الفلاح والفوز والنجاة وإحراز خيري الدنيا والآخرة. والأمر بالتقوى تأكيد لما سبق ، من الترغيب في الطاعة والتحذير من المعصية.

السؤال فيما لم ينزل به وحي

الوحي الإلهي التشريعي لتنظيم حياة المسلمين شيء واحد متكامل ، لا يهمل منه شيء ، وما كان ربّك نسيّا ، وإنما كان نزول القرآن الكريم تدريجا ، فينزل الحكم الإلهي في المكان والزمان المناسبين ، ويأتي الجواب الشافي للمسائل الطارئة أو المشكلات المختلف فيها بحسب الحكمة الإلهية ، وبمقتضى الحق والعدل الإلهي والمصلحة العامة ، لذا فإنه ليس من الأدب أو اللياقة استعجال الجواب عن بعض الأمور ، ويترك كل تفصيل ضروري لله المشرّع ، فهو من شأن الوحي وحده ، لا بحسب الأمزجة والتّطلعات ، ويكون السؤال عما لم ينزل فيه وحي مكروها ، أو حراما ، قال الله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢)) [المائدة : ٥ / ١٠١ ـ ١٠٢].

تعددت أسباب نزول هذه الآية حول المنع من الأسئلة ، منها سؤال اختبار وتعجيز أو تعنّت واستهزاء ، ومنها سؤال استفهام واسترشاد عن أحوال الفرائض ، فمن أمثلة النوع الأول وهو سؤال الاختبار : سؤال بعض الناس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن

٥٠٥

اسم أبيه ، أو عن مكان ناقته الضّالة أي الضائعة ، وعن مصيره في الآخرة ، فتنزل الآية بالنهي عن تلك الأسئلة السخيفة ، ومن أمثلة النوع الثاني ، وهو سؤال الاسترشاد : ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «يا أيها الناس ، قد فرض الله عليكم الحج ، فحجّوا» فقال رجل : أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت لما استطعتم» فأنزل الله هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ..).

والمعنى : يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله ، لا تسألوا عن أشياء عيبية أو خفية لا فائدة منها ، أو عن أمور دقيقة في الدين ، أو عن تكاليف سكت عنها الوحي ، فيشق التكليف بها على بقية المؤمنين ، فيكون السؤال سببا في التشديد والإساءة والكثرة.

وإن تسألوا عن جنس تلك الأشياء المسكوت عنها أو المعقدة أو الشائكة ، أو التكاليف الصعبة حين ينزل القرآن ، يظهرها الله لكم على لسان رسوله ، فيكون السؤال سببا في التشديد أو التضييق ، ويوضح هذا المعنى ما رواه مسلم عن عامر بن سعد عن أبيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرّم ، فحرّم من أجل مسألته». ولكن إذا كان السؤال في بيان المراد من مجمل القرآن أو غوامضه ، فلا بأس به ، للحاجة إليه ، مثل السؤال عن إيضاح حكم الخمر بعد نزول آيات تعرّض بتحريمه ، وتنبّه إلى مخاطره وكثرة مآثمه.

أما السؤال عما لا يفيد ، أو عما لا حاجة للسؤال فيه ، وكان في الإجابة عنه زياد كلفة ومشقة ، فهو حرام. عفا الله عما لم يذكره في كتابه ، فكل ما سكت عنه القرآن ، فاسكتوا عنه كما سكت ، والله غفور لمن أخطأ في السؤال وتاب ، حليم لا

٥٠٦

يعاجلكم بالعقوبة على ما تورّطتم به. وهذا معنى الحديث النّبوي الذي رواه الدار قطني وغيره عن أبي ثعلبة الخشني حيث قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى فرض فرائض ، فلا تضيّعوها ، وحدّ حدودا فلا تعتدوها ، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء ، رحمة لكم غير نسيان ، فلا تبحثوا عنها».

ثم ذكر الله بعض الأمثلة الواقعية من سجل الأقوام السابقين ، وهم قوم صالح الذين سألوا عن مسائل ، ثم أهملوا حكمها ، فقال سبحانه : (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) أي قد سأل هذه المسائل المنهي عن السؤال فيها قوم من قبلكم ، فأجيبوا عنها ، ثم لم يؤمنوا بها ، فأصبحوا بها كافرين ؛ لأنهم لم يسألوا على وجه الاسترشاد ، بل على وجه الاستهزاء والعناد ، وكذلك الذين طلبوا إنزال المائدة من السماء من عيسى عليه‌السلام ، ثم لم يؤمنوا به ولا برسالته. ومثل بني إسرائيل الذين سألوا عن أحوال البقرة المأمور بذبحها ، فإياكم أيها المؤمنون من أسئلة تكون سببا للتّشدّد فيشدّد الله عليكم ، فإن الدين يسر ، ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه ، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم ، واختلافهم على أنبيائهم».

حقّ التّشريع لله لا للنّاس

ليس لأحد من البشر في شريعة القرآن حق في التحليل والتحريم ، أو الإباحة والمنع ، وإنما الحق التشريعي في ذلك لله سبحانه منزل الشرائع ، ومبيّن الحلال والحرام ، والأنظمة والأحكام ؛ لأن التشريع الإلهي القرآني دائم خالد ، لا يتأثر بمصالح شخصية أو زمنية أو مكانية ، وإنما هو دستور الحياة الدائمة ، والمنهج الأمثل

٥٠٧

المفضّل لإصلاح الحياة ، ونفع الفرد والجماعة ، لذا أنكر القرآن الكريم على عرب الجاهلية إقدامهم على سنّ الشرائع وتقرير عبادة الأصنام ، وتحليل أو تحريم بعض الأنعام (المواشي) فقال سبحانه :

(ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) [المائدة : ٥ / ١٠٣ ـ ١٠٤].

سأل قوم عن أحكام الجاهلية ، أهي باقية ، وهل تلحق بحكم الله في تعظيم الكعبة والحرم؟ فأخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لم يجعل شيئا منها ولا سنّة أو شرّعه لعباده ، ولكن الكفار فعلوا ذلك ، إذ أكابرهم ورؤساؤهم كعمرو بن لحيّ وغيره يفترون على الله الكذب ، فيشرعون للناس عبادة الأصنام ، ويحرمون بعض المواشي ويقولون : هذه قربة إلى الله ، وأمر يرضيه ، وأكثر الأتباع لا يعقلون شيئا ، بل يتبعون هذه الأمور تقليدا وضلالا بغير حجة.

والمعنى : ما سنّ الله ولا شرع لعباده شيئا من أحكام العرب في الجاهلية ، ولا أمر بالتبحير والتّسييب وغير ذلك ، ولكنهم يفترون ويقلّدون في تحريمها كبارهم. وأكثر هؤلاء الأتباع لا يدركون أو لا يعقلون أن ذلك افتراء على الله ، وتعطيل لموهبة العقل والفكر ، وأنه مجرد وثنية وشرك ، والله لا يأمر بالكفر ولا يرضاه لعباده. وكان أول من حرّم هذه المحرمات ، وشرّع للعرب عبادة الأصنام هو عمرو بن

__________________

(١) الناقة تشق أذنها إذا ولدت خمسة أبطن آخرها ذكر ، وتخلى للأصنام.

(٢) الناقة تسيب للأصنام لنحو برء من مرض أو نجاة في حرب.

(٣) الناقة التي بكّرت بأنثى ثم ثنّت بأنثى.

(٤) الفحل إذا لقح ولد ولده فلا يركب ولا يحمل.

(٥) كافينا.

٥٠٨

لحي الخزاعي ، فهو الذي غيّر دين إبراهيم ، وبحر البحيرة وسيّب السائبة وحمى الحامي.

أما البحيرة : فهي الناقة التي كانوا يبحرون أذنها ، أي يشقونها شقّا واسعا ، إذا ولدت خمسة أبطن إناثا ، فإن كان آخرها أنثى حرم على النساء لحمها ولبنها ، وإن كان آخرها ذكرا نحروه وأكلوه. والسّائبة : هي النّاقة التي كانت تسيب بنذرها لآلهتهم الأصنام ، فتعطى للسّدنة (الخدم) وترعى حيث شاءت ، ولا يحمل عليها شيء ، ولا يجزّ صوفها ، ولا يحلب لبنها إلا لضيف. والوصيلة : هي الشّاة أو النّاقة التي تصل أخاها بأن تلد ذكرا وأنثى ، فيقال : وصلت أخاها ، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم كما كانوا يفعلون لو ولدته وحده. والحامي : الفحل الذي يضرب في مال صاحبه ، فيولد من ظهره عشرة أبطن ، فيقولون : حمى ظهره ، فلا يحمل عليه ، ولا يمنع من ماء ولا مرعى.

هذه أنظمة تحريم بعض المواشي مما كان يفعله عرب الجاهلية الوثنيون ، وهي أنظمة مفتراة مكذوبة ، لم يأذن الله بها ، زاعمين أن الله أمر بذلك وتراهم متناقضين ، فإذا قيل لهم : تعالوا إلى العمل بما أنزل الله من الأحكام المؤيدة بالبراهين ، وإلى الرسول المبلّغ لها ، والمبيّن لمجملها ، أجابوا : يكفينا ما وجدنا عليه آباءنا ، فهم لنا أئمة قادة مشرّعون ، ونحن لهم تبع ، أي إنهم مقلّدون لأسلافهم تقليدا أعمى.

لذا أنكر عليهم القرآن هذا التقليد المجافي للصواب ، الذي لا دليل عليه ، فهل يقبل منهم مثل هذا التقليد ، أيكفيهم مستندا مجرد ذلك للعمل به ، ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا أبدا من الشرائع ، ولا يهتدون إلى مصلحة أو خير أصلا في الدين والدنيا ، فهم يتخبطون في ظلمات الوثنية وخرافة المعتقدات ، ويشرّعون لأنفسهم

٥٠٩

بحسب أهوائهم ، من وأد البنات ، وشرب الخمور ، وظلم الأيتام والنساء ، وارتكاب الفواحش والمنكرات ، وشنّ الحروب لأتفه الأسباب ، وإثارة العداوة والبغضاء. وهذا إنكار صريح وتنديد بالتقليد الأعمى والتّعصب الموروث من غير وعي ولا إدراك ، وكأنهم يقولون بعد هذا التوبيخ : نعم لو كان آباؤنا كذلك ، كما قال الله تعالى في آية أخرى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠)) [البقرة : ٢ / ١٧٠].

أداء الواجب بالكلمة الطيبة

الإسلام دين الحق والصراحة في القول والعمل ، وهو يريد الخير والسعادة للناس جميعا ، فلا يكتفي من أتباعه الانطواء على النفس وإيثار العزلة ، وإبقاء الآخرين يترددون في متاهات الخطأ والضّلال ، وزيغ العقيدة والانحراف في الفكر والخلق والسلوك.

ولكن بعد محاولة التصحيح والتنبيه إلى الأخطاء الواقعة من الآخرين يظل المؤمن محتفظا بقيمه وعقيدته وأخلاقه ، ولا يتشكك في شيء منها ، ويلتزم شرعه بما فيه من أمر بالجهاد وقول بمعروف ، ولا يضره ضلال غيره إذا اهتدى ؛ لأن كل إنسان مسئول عن نفسه ، ولا يحتمل امرؤ تبعة أعمال امرئ آخر ، فذلك هو العدل ؛ لأن المؤاخذة على فعل الآخرين جور وظلم.

قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)) (١) [المائدة : ٥ / ١٠٥].

__________________

(١) الزموها وتجنّبوا المعاصي.

٥١٠

روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال فيما أخرجه أحمد وغيره : ليس هذا بزمان هذه الآية ، قولوا الحق ما قبل منكم ، فإذا ردّ عليكم فعليكم أنفسكم.

والمعنى : يا أيها المؤمنون عليكم أنفسكم ، كمّلوها بالعلم والعمل ، وأصلحوها بالقرآن وآداب السّنة النّبوية ، وانظروا فيما يقرّبها إلى الله تعالى ، حتى تكون في رفقة الأنبياء والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقا ، وبعد هذا لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم.

لا يضرّكم شيء إذا قمتم بواجب الإرشاد والنّصح ، وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكرات ، فإن الله يقول : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ٦ / ١٦٤]. ثم إلى الله المرجع والمآب ، وسيجازي كل إنسان على عمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ.

وجملة ما قرّره أهل العلم في هذا أن النّصح أو الأمر بالمعروف متعيّن إن رجي القبول ، أو رجي ردّ المظالم ، ما لم يخف المرء ضررا يلحقه في خاصته ، أو فتنة يدخلها على المسلمين ، فإذا خيف هذا ، فعليكم أنفسكم بحكم واجب الوقوف عنده.

وقد فهم خطأ هذه الآية بعض الناس في عهد أبي بكر الصّدّيق ، وتأوّلوها أنها لا يلزم معها أمر نصح وإرشاد بمعروف ولا نهي عن منكر ، فصعد أبو بكر المنبر فقال : أيها الناس ، لا تغتروا بقول الله : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) فيقول أحدكم : علي نفسي ، لقد سألت عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «بل ائتمروا بالمعروف ، وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شحّا مطاعا ، وهوى متّبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخاصة نفسك ، ودع العوام ، فإن من ورائكم أياما : الصّابر فيهن مثل القابض على الجمر ، للعامل فيهنّ أجر خمسين رجلا ، يعملون كعملكم» ، وفي رواية : قيل : يا رسول الله ، أجر خمسين رجلا منا أو منهم؟ قال : «بل أجر خمسين منكم» قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب صحيح.

٥١١

وهذا دليل واضح على أن المسلم يكمل نفسه بالعمل الصالح ، ويكمل غيره بالنصح والإرشاد أو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذا فرض لا يسقط إلا إذا وصل المرء إلى حال شديدة من الأذى ، بحيث يتعرّض للهلاك لو وعظ غيره.

ولا غرابة في هذا التوجه ، فإن الحياة مدرسة ، يستفيد الإنسان كثيرا من الأشياء من مجتمعة ، فإذا كان جاهلا بقواعد وآداب المجتمع ازدراه الناس ، فلا بدّ من أن يفيد ويستفيد ، لتبادل المعلومات ، وإقرار الأعراف الحسنة التي لا تتصادم مع الشريعة في شيء ، ولا يجزع الإنسان أو يتألم بعدئذ إذا لم يجد لكلمة الحق أذنا صاغية ، فإن القرار في النهاية والخلود للحق وأهله. وما أروع ما تضمنته الآية : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) الآية ، فهي تذكير بالحشر والحساب والسؤال عن الأعمال ، وفي هذا تزهيد بأمور الدنيا ومكروهها ومحبوبها ، والهداية والتوفيق إلى صالحات الأعمال أمر متروك لله عزوجل ، خالق الخليقة ، والقاضي العدل بينهم يوم القيامة ، وهو سبحانه ربّ العباد أجمعين.

حكم الشّهادة على الوصيّة

تطلب الشهادة ندبا في جميع العقود الزمنية التي يتطلب تنفيذها أجلا معينا ، حفظا للحقوق ، ومنعا من ضياعها ، وبعدا عن الظلم والفساد ، ويتأكد طلب شهادة اثنين عدلين على الوصيّة منعا من إنكارها أو التّلكؤ في تنفيذها والتقصير في أداء حقّها للمستحقين ، قال الله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ (١)

__________________

(١) سافرتم فيها.

٥١٢

بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧)) (١) [المائدة : ٥ / ١٠٦ ـ ١٠٧].

اتّفق المفسّرون على أن سبب نزول هذه الآية ـ فيما رواه البخاري وغيره عن ابن عباس ـ هو تميم الداري وأخوه عدي النّصرانيان حين خرجا إلى الشام للتجارة ، ومعهما بديل بن أبي مريم مولى عمرو بن العاص ، الذي كان مسلما مهاجرا ، فمات في الطريق وقبل موته أوصى بوصية من غير إشهاد عليها ، فأخذ رفيقاه إناء فضيّا منقوشا بالذهب ، وأنكرا أخذه وردّه إلى أهل بديل المتوفى ، ثم أسلم تميم ، فكان يقول : صدق الله ورسوله ، أنا أخذت الإناء ، فنزلت الآية في طلب الشهادة على الوصية في السفر ، ولو كان الشاهدان غير مسلمين.

ومعنى الآية كما ذكر ابن عطية : أن الله تعالى أخبر المؤمنين أن حكمه في الشهادة على الموصي إذا حضر الموت أن تكون شهادة عدلين ، فإن كان في سفر ـ وهو الضّرب في الأرض ـ ولم يكن معه من المؤمنين أحد ، فليشهد شاهدين ممن حضره من غير المسلمين ، فإذا قدما إلى البلد وأدّيا الشهادة على وصيته ، حلفا بعد صلاة العصر أنهما ما كذبا ولا بدّلا ، وأن ما شهدا به حقّ ، ما كتما فيه شهادة الله ، ويحكم بشهادتهما.

فإن عثر أو تبيّن بعد أنهما كذبا أو خانا في الشهادة ونحو هذا مما هو إثم ومعصية ، حلف رجلان في السفر من أولياء (أقارب) الموصي الذين هم أحق بالإرث ، بأن شهادتنا أي يميننا أحقّ وأصدق من شهادة (يمين) غيرهما ، وما اعتدينا

__________________

(١) الأقربان إلى الميت.

٥١٣

في طلب هذا المال ، وفي الحكم على الشاهدين بالخيانة ، إنا إذا اعتدينا أو خوناهما ، وهما ليسا بخائنين لمن الظالمين ، أي المبطلين الكاذبين.

والمراد بقوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) أي من الذين استحقت عليهم الوصية ، أو استحق عليهم الإيصاء ، الأوليان بالميت أي الأقربان منه. وحكمة تشريع هذه الشهادة وهذه الأيمان هي مطابقة الشهادة واليمين للواقع ، وهو المشار إليه في قوله تعالى : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨)) أي أقرب أن يؤدي الشهداء الشهادة على وجهها الحقيقي بلا تبديل ولا تغيير ، خوفا من عذاب الله ، وهذه حكمة تغليظ الشهادة بكونها بعد صلاة العصر ؛ لأنه وقت القضاء والفصل في الدعاوي ، فتكون الصلاة مذكّرة للشهود بالحق والعدل. أو خوفا من ردّ اليمين على الورثة ، وفي ذلك الخزي والفضيحة بين الناس ، فيظهر كذبهم بين الناس ، وهكذا يكون الخوف من عذاب الله أو من ردّ اليمين مدعاة الصدق والبعد عن الخيانة. ثم حثّ القرآن الكريم على مراقبة الله وتقواه ، فقال سبحانه : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي راقبوا الله واحذروا عقابه في أيمانكم أن تحلفوا بها أيمانا كاذبة ، وأن تأخذوا مالا عليها ، وأن تخونوا من ائتمنكم ، واسمعوا سماع تدبّر وقبول لهذه الأحكام واعملوا بها ، وإلا كنتم من الفاسقين ، المتمرّدين الخارجين عن دائرة حكم الله وشرعه ، المطرودين من هدايته ورحمته ، المستحقّين لعقابه ، والله لا يوفق كل من فسق عن أمر ربّه ، فخالفه وأطاع الشيطان.

هذه دقائق الأحكام الشرعية في حال من أحوال الحياة تعدّ أنموذجا لكل حال ، والآيات تحضّ على الوصية في السفر والحضر ، وتتطلب الإشهاد عليها لإثباتها وتنفيذها ، والأصل في الشهود أن يكونوا عدولا مسلمين ، وتجوز شهادة غير المسلم على المسلم للضرورة أو الحاجة ، والله مع المتّقين.

٥١٤

التّذكير بنعم الله على عيسى ابن مريم عليه‌السلام

إن حساب الأنبياء والرّسل عليهم‌السلام يوم القيامة على مهامهم وأعمالهم يكون بالتذكير بنعم الله عليهم ، وسؤالهم عن القيام بواجباتهم ، والمراد بذلك أممهم ، فيقول لهم مثلا على سبيل التوبيخ والتأديب لأقوامهم : هل فعلتم ما أمرتكم به؟ كما إذا وجه السؤال للبنت الموءودة في جاهلية العرب ، والمراد سؤال من وأدها ودفنها حيّة. وقد يوجّه السؤال للأمم مباشرة مثل قوله تعالى :

(فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦)) [الأعراف : ٧ / ٦].

وهنا نجد صورة واضحة لسؤال الرّسل ، والمراد التعريض بأممهم. قال الله تعالى :

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) [المائدة : ٥ / ١٠٩ ـ ١١١].

والمعنى : تذكّروا واحذروا أيها الناس حين يجمع الله يوم القيامة الرّسل والأمم والخلائق المرسلين إليهم ، فيكلم الله الرّسل أولا ، والمراد بذلك أقوامهم ، فيقول

__________________

(١) جبريل عليه‌السلام.

(٢) في المضجع زمن الرّضاعة.

(٣) من الثلاثين إلى الأربعين وقت القوة.

(٤) تصور وتقدّر.

(٥) الأعمى خلقة.

(٦) أنصار عيسى عليه‌السلام.

٥١٥

الحق لهم : ماذا أجابت به الأمم من إيمان وطاعة وإقرار ، أو كفر وإنكار واستكبار وعصيان ، وهذا السؤال للأنبياء الرّسل إنما هو لتقوم الحجة على الأمم ، ويبتدئ حسابهم على نحو واضح بيّن.

فيجيب الرّسل على سبيل الأدب والذّهول بسبب هول الحال وعالم الحساب : لا علم لنا بالنسبة إلى علمك ، فأنت تعلم السّر وأخفى ، إنك أنت علام الغيوب ، أي ما خفي وغاب ، مثلما تعلم المشهودات الحاضرة المعروفة لكل إنسان ، فليس علمنا بكاف ولا محقق للغاية الكاملة مثل علمك الواسع المحيط بكل شيء.

قال ابن عباس ـ ورأيه الصواب ـ : معنى الآية : لا علم لنا إلا علما أنت أعلم به منا.

واذكر يا محمد حين قال الله تعالى لعيسى عليه‌السلام معددا معجزاته ونعمه عليه : تذكّر نعمتي عليك وعلى والدتك حين أيّدتك بجبريل روح القدس عليه‌السلام ، وجعلتك نبيّا داعيا إلى الله في صغرك وكبرك ، تكلم الناس في فراش المهد وأنت طفل صغير رضيع ، أنطقتك في هذه الحال حيث لا ينطق إنسان ، فشهدت ببراءة أمّك وطهارتها ، وكان ذلك معجزة بقدرة الله وتيسيره : (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١)) [مريم : ١٩ / ٣٠ ـ ٣١].

ثم علّمتك التّوراة والإنجيل والعلم النافع الذي هو الحكمة ، وجعلتك قادرا على الكتابة والخط والفهم السّديد.

واذكر يا عيسى حين مكّنتك من صناعة الطيور وخلقها ، فتصوّر من الطين صورة كصورة الطائر ، فتنفخ فيها ، فتكون طيرا له روح وحركة بإذن الله وإرادته ، لا بقدرتك البشرية ، ولكنها معجزة تحققت على يديك ، كسائر معجزات الرّسل. والإذن

٥١٦

المتكرر في هذه الآيات معناه التمكين من الله ، مع العلم بما يصنع عيسى ، بقصد دعوة الناس إلى الإيمان برسالته ، لا من أجل المباهاة مثلا.

واذكر حين كنت تشفي المرضى وتبرئ الأكمه (الذي ولد أعمى) والأبرص بإذن الله تعالى ، وحين تخرج الموتى من قبورهم أحياء بإذن الله وتقديره. وحين كففت ورددت عنك بني إسرائيل ، فحميتك من أذاهم ومكرهم ، وأتيتهم بالبراهين القاطعة الدّالة على صدق نبوّتك ورسالتك من الله ، فكذّبوك واتّهموك بأنك ساحر ، وهمّوا بصلبك وقتلك ، فنجّيتك منهم ، ورفعتك إلي ، وكفيتك شرّهم.

واذكر يا عيسى حين ألهمت أصحابك الحواريين أن يؤمنوا بي وبرسولي عيسى ، فأعلنوا إيمانهم قائلين : آمنّا بالله وبرسوله ، واشهد بأنّا مسلمون منقادون لله سرّا وعلانية. إن المقصود من التذكير في عالم الحساب يوم القيامة بمعجزات عيسى عليه‌السلام ، هو الدعوة إلى توحيد الله تعالى ، وإظهار عيسى بأنه مجرد بشر رسول موحى إليه من ربّه ، والتذكير بتصحيح العقائد الفاسدة ، وفهم المعجزة الجارية على يد نبي أو رسول أنها بفعل الله حقيقة ، ولكنها تعلن وتظهر في الظاهر على يد الرسول. وهذه نعم ثمان تعدّ معجزات لسيدنا عيسى عليه‌السلام لحمل الناس على التّصديق بنبوّته ورسالته.

مائدة عيسى عليه‌السلام

إن العقل البشري عاجز محصور محدود ، فلا يصح لعقلاء البشر أن يفهموا مقدورات الله العظمى ومعجزات الأنبياء بالمعايير المألوفة المشاهدة بحسب العادة ؛ لأن قدرة الله أعظم وأشمل وأكبر من مجرد استيعاب الإنسان العادي ، وإذا كان الله تعالى يرزق عباده بالمواد الأولية من الأرزاق التي تحتاج إلى طبخ وطهي أحيانا ،

٥١٧

والأرزاق التي لا تحتاج إلى طبخ كالفواكه والثمار ، فإن الله تعالى قادر إتمام عملية الطبخ والتصنيع البسيطة جدّا بتأثيرات الحرارة الجوية أو الأرضية مثلا ، وهذا ما حدث في قصة المائدة الجاهزة للأكل التي أنزلها الله على عيسى وقومه.

قال الله تعالى : (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥)) (١) (٢) [المائدة : ٥ / ١١٢ ـ ١١٥].

هذه نعمة تاسعة بعد النّعم الثمانية التي أوردها الحق تعالى في آيات سابقة وأنعم بها على عيسى عليه‌السلام.

ومضمون الإخبار بهذه النعمة : إخبار محمد عليه الصلاة والسلام وأمّته بنازلة الحواريين في المائدة ، وهي تقتضي تأدّب كل أمة مع نبيّها ، فلا تطلب شيئا من المعجزات المادّية التي لا معنى لها ، فذلك امتحان يتعالى الله عنه ، فهو القادر المقتدر على كل شيء. ومع ذلك فإن الله قد يتنزل لمستوى عقول البشر وطلباتهم ، فيجيبهم عما طلبوا أو سألوا.

والمعنى : اذكر يا محمد حين طلب الحواريون أصحاب عيسى منه إنزال مائدة من السماء ليأكلوا منها ، وتكون دليلا مادّيا يؤكد صدق عيسى.

فقالوا : يا عيسى ، هل يفعل ربّك ويرضى أن ينزل علينا مائدة طعام من السماء ،

__________________

(١) خوانا عليه طعام.

(٢) يوم نعظّمه ونسرّ به.

٥١٨

وهل تقع منه تعالى إجابة لهذا الطلب؟ وليس ذلك من الحواريين تشكيكا بقدرة الله ، فهم مؤمنون. فأنكر عيسى قولهم ذلك من ناحيتين :

الأولى : بشاعة هذا اللفظ ، والثانية : إنكار طلب الآيات والتّعرض لسخط الله بها ، فإن النّبوات ليست مبنية على تعنّت الناس ومكابرتهم. قال لهم عيسى : (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فشأن المؤمن أن يلتزم الأدب مع الله ، ولا يطلب ما قد يشعر بالتّعنّت والتّشدّد. ولذا قال الحواريون معتذرين عن الطلب بهذه الصورة : نريد أن نأكل منها ، فنحن في حاجة إلى الطعام ، وإذا أكلنا تطمئن قلوبنا وتهدأ نفوسنا ، ونعلم أن قد صدقتنا في أن الله أرسلك نبيّا ، وجعلنا أصحابا أعوانا لك ، وقد رضي عنا بإجابة سؤالنا. ونحن قبل ذلك وبعد المائدة نكون من الشاهدين لله بالوحدانية ، ولك بالنّبوة والرّسالة ، وما هذه المائدة إلا دليل حسي على ذلك.

فطلب عيسى من الله إنزال المائدة ، لتكون مصدر فرح وسرور ، ويوم عيد ، يجتمع فيه الناس للعبادة والشكر ، ويعود عليهم كل عام باليمن والبركة والسعادة ، وآية على صحة دعوى النّبوة ، وتذكيرا بالدعاء وطلب الرزق من الله تعالى ، فهو خير الرازقين ، يرزق من يشاء بغير حساب.

فأجاب الله دعاء عيسى مقرونا بالتهديد بالجزاء حين مخالفة أوامر الله : (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ ..) أي من يكفر بالله بعد نزول هذه المائدة ، فإني أعذّبه عذابا شديدا ، لا أعذب مثله أحدا من سائر كفّار العالمين في زمانهم ؛ لأنهم لم يبق بعد هذا الدليل الحسي (إنزال المائدة) عذر لمن يكفر أو يستهزئ بآيات الله وأدلّته الدّالة على وجوده وقدرته. ولا حاجة للبحث عن شكل المائدة ولونها ونوع طعامها ، فذلك لا فائدة منه ، وعلينا التزام حدود البيان القرآني.

٥١٩

الألوهيّة والرّبوبيّة لله تعالى

يتجاوز بعض الناس حدودهم وإمكاناتهم البشرية ، فيصفون أنفسهم أو غيرهم بوصف الإله أو الرّبّ ، بدافع الغرور والجهل ، والمبالغة والخطأ القطعي في التقدير ، ويستمر الخطأ بالوراثة في الأجيال المتلاحقة والأبناء والبنات ، وقلّ أن تجد إنسانا يعمل فكره ويتأمّل بعقله في حقائق الأشياء ، وفي ذات الإله وما يتميز به عن سائر المخلوقات من قدرات هائلة لا حدود ولا نظير لها ، وذلك لا يستحقّه إلا الله جلّ جلاله ، خالق الخلق ، ومبدع الكون ، وفالق الحبّ والنّوى. وقد حكى القرآن الكريم وضعا من الأوضاع الشّاذّة في إضفاء صفة الألوهية على بشر ، ولد وعاش ، ومات كما يولد ويعيش ويموت سائر البشر ، وإن كان متّصفا ببعض المزايا ، ولكنها لا تؤهّله لأن يصير إلها أو يحتلّ محلّ الإله ، فقال الله تعالى :

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠)) (١) (٢) [المائدة : ٥ / ١١٦ ـ ١٢٠].

ومعنى الآيات : اذكر يا محمد للناس يوم يكون الحشر ، فيسأل الله تعالى عيسى ابن مريم سؤالا مفاده : أأنت قلت للناس ، اتّخذوني وأمّي إلهين معبودين من غير

__________________

(١) تنزيها لك عما لا يليق بك.

(٢) أخذتني وافيا برفعي إلى السماء.

٥٢٠