التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0523-3
الصفحات: ٦٧١

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) (٧) [المائدة : ٥ / ٤١ ـ ٤٣].

نزلت آية المسارعة في الكفر ـ كما روى أبو داود ـ في رجل وامرأة من اليهود زنيا ، فقال بعضهم لبعض : اذهبوا إلى هذا النّبي فإنه نبي بعث بالتخفيفات ، فإن أفتى بفتيا دون الرجم قبلناها ، واحتججنا بها عند الله ، وقلنا : فتيا نبي من أنبيائك قال. فأتوا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو جالس في المسجد في أصحابه ، فقالوا : يا أبا القاسم ، ما ترى في رجل وامرأة زنيا؟ فلما سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، نهض في جملة من أصحابه إلى بيت المدارس (٨) ، فجمع الأحبار هنالك ، وسألهم عما في التوراة من حكم الزّناة المحصنين أي المتزوجين ، فقالوا : يحمم وجه الزّاني ، أي يطلى وجهه بالسّواد من فحم أو قار (زفت) ويجبّه الزانيان (٩) ، وقالوا أيضا : إنا لا نجد الرّجم في التوراة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن فيها الرّجم ، فانشروها ، فنشرت ، ووضع أحدهم يده على آية

__________________

(١) يغيّرونه أو يؤولونه بالباطل.

(٢) ضلاله وكفره.

(٣) ذلّ وعقاب.

(٤) السّحت : المال الحرام والخبيث من المكاسب.

(٥) بالعدل.

(٦) العادلين فيما حكموا به.

(٧) يعرضون عن حكمك.

(٨) المدارس : بيت الدراسة والتعليم عندهم.

(٩) أي يحملان على بعير أو حمار بحيث يجعل قفا أحدهما إلى قفا الآخر.

٤٦١

الرّجم ، فقال عبد الله بن سلام : ارفع يدك ، فرفع يده ، فإذا آية الرّجم ، فحكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها بالرجم وأنفذه.

والآية تحذير عام وتذكير ، وتثبيت وتقوية لنفس النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعناها : قد وعدناك أيها النّبي النصر والغلبة على هؤلاء المنافقين واليهود ، فلا يحزنك ما يقع منهم خلال بقائهم ، ولا يهمنك أمر الذين يسرعون بالوقوع في الكفر ، فإنهم أحد فريقين : إما أنهم منافقون يظهرون الإيمان بألسنتهم ، دون أن تؤمن قلوبهم ، وإما أنهم يهود يبالغون في سماع الكذب من أحبارهم ، الذين يلقون إليهم الأخبار الكاذبة في حقّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفيما يتعلّق بأحكام دينهم ، ويبالغون في سماع أقوام آخرين من اليهود هم يهود فدك لم يأتوا مجلسك يا محمد لشدة كراهيتك والحسد عليك ، أو هم بمعنى كونهم جواسيس يتنصتون للكلام لينقلوه لقوم آخرين.

وهم أيضا يحرّفون كلام التوراة من بعد أن وضع الله مواضعه ؛ ببيان فروضه وإحلال حلاله وتحريم حرامه ، يقولون لمن أرسلوهم للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسؤاله عن حكم الزانيين : إن أفتاكم بالتسخيم أو التحميم (تسويد الوجه) والجلد ، فاقبلوا منه وارضوا به ، وإن أفتاكم بالرّجم فاحذروا قبوله ، ولا ترضوا به ، ثم يقطع الله لنبيّه الرجاء منهم ، قائلا له : لا تتبع نفسك أمرهم ، فهم في مرصد الاختبار ، والامتحان بالكفر والتعذيب في الآخرة ، وقد اختاروا الضّلال ، وسبق في علم الله ألا يطهّر قلوبهم من السّوء ، وأن يكونوا مدنّسين بالكفر ، فقرّر الله لهم الخزي في الدنيا ، أي الذّل والمسكنة ، وقرّر لهم العذاب في الآخرة بكفرهم.

ثم أكّد الله تعالى اتّصافهم بصفة دائمة أنهم سماعون للكذب ، أكّالون للسّحت أي المال الحرام من أخذ الرّشوة وغيرها ، فإن جاؤوك أيها النّبي وكل حاكم بعدك للاحتكام أو التّقاضي ، فأنت مخيّر بين الحكم بينهم أو الإعراض عنهم ، وإن

٤٦٢

أعرضت عنهم فلن يلحقك شيء من ضررهم وعداوتهم ؛ لأن الله حافظك وعاصمك من الناس ، وإن حكمت بينهم في قضية ، فاحكم بينهم بالعدل الذي أمرك الله به ، وهو شريعة القرآن ، إن الله يحبّ العادلين ويرضى عنهم. وتخيير الحكام باق ، وهو الأظهر إن شاء الله كما قال ابن عطية.

وكيف يحكّمونك أيها النّبي في قضية مثل الزّانيين؟ وعندهم التوراة فيها شريعتهم وحكم الله ، ثم يتولون ويعرضون عن حكمك بعد ذلك ، وما أولئك بالمؤمنين أبدا.

أجل! إن التّلاعب بأحكام الله وشرائعه ومحاولة التهرّب منها لا تفيد شيئا ، فإن الحقائق ناصعة ، ومن تنكّر للحقيقة تعرّض للخزي والهوان في الدنيا ، والعذاب الشديد في الآخرة ، وقانا الله تعالى من الانحراف وألهمنا الاستقامة على شرعه ودينه.

تشريع القصاص

تميّز القرآن الكريم بالحيدة والموضوعية وإظهار الحقائق في بيان الأحكام التشريعية فلا تعصّب فيه لشريعة أو اتّباعها على حساب شريعة أخرى ؛ لأن مصدر التشريع الإلهي واحد وهو الله عزوجل ، فكما أن القرآن المجيد نور وهداية دائمة ، كذلك التوراة والإنجيل هدى ونور ، وكما أن القصاص أو عقوبة الإعدام أمر مقرر في الشريعة الإسلامية ، فهو كذلك مقرر واجب في الشريعة الموسوية ، وإنكار ذلك كفر وظلم وفسق.

قال الله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا (١) (٢) (٣)

__________________

(١) انقادوا لحكم التوراة.

(٢) العلماء : الفقهاء والعبّاد.

(٣) علماء اليهود.

٤٦٣

عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥) وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧)) (١) (٢) [المائدة : ٥ / ٤٤ ـ ٤٧].

نزلت هذه الآيات في اليهود الذين بدّلوا حكم التوراة في الرجم ، فجعلوا مكانه الجلد والتسخيم ، أي تسويد الوجه وطلاءه.

والمعنى العام : إنا أنزلنا التوراة على موسى عليه‌السلام ، مشتملة على الهدى والنور ، والهدى : الإرشاد في المعتقدات والشرائع ، والنور : ما يستضاء به من أوامرها ونواهيها. وهي قانون يحكم بها الأنبياء المخلصون لله من عهد موسى بن عمران عليه‌السلام إلى مدة مجيء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يحكمون بمقتضى التوراة لبني إسرائيل وعليهم ، ويحكم بها أيضا الرّبانيّون ، وهم العلماء الحكماء الذين يسوسون الناس بالعلم ، ويحكم بها الأحبار : وهم العلماء رجال الدين ، بسبب ما استحفظوا على كتاب الله شهداء ورقباء وحفاظا يحمونه من التغيير والتحريف.

وإذا كان الحال كما ذكر فلا تخافوا الناس أيها الأحبار ، ولا تكتموا الحق ، من صفة النّبي والبشارة به ، طمعا في نفع دنيوي عاجل ، وخافوا الله وحده ، فلا تحرّفوا كتابه ، خوفا من أحد أو مجاملة لأحد ، فتسقطوا الحدود الواجبة عليهم ، ولا تستبدلوا بآياتي وأحكامي منفعة قليلة عاجلة تأخذونها من الناس ، من رشوة أو طمع

__________________

(١) أي في التوراة.

(٢) أتبعنا على آثار الأنبياء.

٤٦٤

في مال أو جاه أو رضا الآخرين ، فمتاع الدنيا قليل ، والرشوة سحت حرام لا بقاء لها ولا بركة فيها ، واعلموا أيها العلماء أن من لم يحكم بما أنزل الله ، فأولئك هم الكافرون الذين ستروا الحق.

واعلموا أيها الأحبار العلماء أننا أنزلنا التوراة ، وفرضنا فيها على بني إسرائيل عقوبة القصاص من القتلة ، على أساس المساواة والمماثلة ، فتقتل النفس بالنفس ، وتفقأ العين بالعين ، ويجدع الأنف بالأنف ، وتقطع الأذن بالأذن ، ويقلع السّن بالسّن ، ويجري القصاص أي التماثل في الجروح والاعتداءات على الأعضاء. لكن من عفا عن الجاني وتصدق بحقه في القصاص ، فالتّصدق كفارة له ، يستر الله بها ذنوبه ويعفو عنه ، والعفو أفضل ، قال الله تعالى : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [البقرة : ٢ / ٢٣٧]. ومن أعرض عن تشريع القصاص القائم على العدل والمساواة بين الناس ، ولم يحكم به في القضاء ، فأولئك هم الظالمون أنفسهم وغيرهم ، الذين يتعدون حدود الله ، ويضعون الشيء في غير موضعه.

ثم ذكر الله تعالى في قرآنه أن التوراة شريعة أنبياء بني إسرائيل ، فقال : وأتبعنا مجيء النّبيين وذهابهم والسّير على آثارهم بعيسى ابن مريم عليه‌السلام ، فهو آخر نبي لبني إسرائيل ، مصدّقا للتّوراة التي تقدمته قولا وعملا ، أي مقرّا بأنه كتاب من عند الله وأنه حق واجب العمل به ، يعمل بها فيما لم يغاير الإنجيل ، وأخبر الله تعالى أنه أعطى عيسى الإنجيل فيه الهدى ، أي الإرشاد والدعوة إلى توحيد الله وإحياء أحكامه وشرائعه ، وفيه النّور : وهو أن ما فيه مما يستضاء به ، وأن الإنجيل مصدق ومؤيد لما جاء في التوراة ، وهو أيضا سبب للاهتداء به وإرشاد الناس في المستقبل لما يأتي بعد الإنجيل وهو القرآن ، ونبي الإسلام ، والإنجيل كذلك موعظة حسنة للمتقين لاشتماله على النصائح والإرشادات البليغة ، وخصّ المتقون بالذكر ؛ لأنهم المقصودون به في

٤٦٥

علم الله ، ولأنهم الذين ينتفعون بتلك المواعظ. ثم أمر الله تعالى بأن يعمل أهل الإنجيل بالأحكام التي أنزلها الله فيه ، ومن لم يحكم بما جاء في الإنجيل فأولئك هم الفاسقون ، أي المتمرّدون الخارجون عن حكم الله وشرعه.

شريعة القرآن

الشرائع الإلهية حلقة متصلة الروابط ، متكاملة متساندة فيما بينها ، يؤكد بعضها بعضا ، ويكمل آخرها أولها ، لتتآزر فيما بينها وبين أتباعها على تحقيق مراد الله تعالى فيما يحقق المصالح ويدفع المضارّ والمفاسد ، وينقل الناس إلى ما هو الأفضل والأمثل بحسب مقتضيات الحاجة ومراعاة قانون التطور ومنجزات الحضارة والتقدم ، لذا جاء القرآن الكريم مؤيدا ما سبقه من التوراة والإنجيل ، فقال الله تعالى مخاطبا نبيّه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)) (١) (٢) (٣) (٤) [المائدة : ٥ / ٤٨ ـ ٥٠].

نزلت آية (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ..) في جماعة من اليهود ، قال ابن

__________________

(١) رقيبا مؤتمنا عليها.

(٢) شريعة وطريقا واضحا في الدين.

(٣) ليختبركم.

(٤) يصرفوك.

٤٦٦

عباس : قال كعب بن أسيد ، وعبد الله بن صوريا ، وشاس بن قيس : اذهبوا بنا إلى محمد ، لعلنا نفتنه عن دينه ، فجاءوه ، فقالوا : يا محمد ، إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم ، وأنا إن اتّبعناك اتّبعتنا يهود ، ولم يخالفونا ، وأن بيننا وبين قومنا خصومة ، فنحاكمهم إليك ، فتقضي لنا عليهم ، ونؤمن بك ، فأبى ذلك ، وأنزل الله فيهم : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ..) إلى آخر الآية وما بعدها وهي قوله : (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).

ومعنى الآيات الكريمات : وأنزلنا إليك أيها النّبي القرآن الكريم الذي أكملنا به الدين ، مشتملا أو متضمّنا الحقائق من الأمور ، وهي تمثل الحق في نفسه ، وصلاح العباد جميعا ، والقرآن مصدق ومؤيد ما تقدمه من الكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل والزبور ، وهو أيضا مهيمن عليها ، أي حاكم عليها ، وشاهد لها وعليها ومبيّنا حقيقة ما جاء فيها وما طرأ عليها ، فهو أمين مؤتمن عليها.

وإذا كان هذا شأن القرآن ومنزلته ، فاحكم يا محمد ومن جاء بعدك بما أنزل الله إليك فيه من الأحكام ، دون ما أنزله إليهم ، ولا تتبع أهواءهم ، أي آراءهم التي اصطلحوا عليها ، ولا تعدل عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء وشهوات أولئك الذين يريدون الميل عما أنزل إليك ، والعدول عن حكم الرجم والقصاص في القتلى.

فلكل أمة من الأمم جعلنا شريعة أوجبنا عليهم إقامة أحكامها ، ومنهاجا وطريقا واضحا فرضنا عليهم سلوكه ، بحسب مراعاة الأحوال والأوضاع والتطورات ، وهذا كله في الأحكام الفرعية ، وأما في المعتقد فالدين واحد لجميع العالم ، توحيد وإيمان بالبعث (اليوم الآخر) وتصديق للرّسل ، والله قادر على جعل الناس على ملّة واحدة أو دين واحد ، ولكنه تعالى شرع لكل رسول شريعة على حدة بحسب عصره وزمانه ، وأراد الله اختبار العالم فيما شرع لهم من الشرائع.

٤٦٧

وإذا كان الأمر كذلك ، فسارعوا أيها الناس إلى الخيرات ، أي الطاعات وجدّوا في التسابق في الأعمال الصالحات ، لخيركم وصلاحكم وإنقاذكم ، ولإحراز الفضل والرضا الإلهي ، والبدار البدار فإنه إلى الله معادكم ومصيركم ، يوم القيامة ، فيخبركم إخبار إيقاع بما كنتم تختلفون فيه من الحق ، وسيجازيكم عليه كله ، وحينئذ يظهر الله الثواب والعقاب. وقوله تعالى : (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) آية بارعة الفصاحة ، جمعت المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة ، كسائر كتاب الله تعالى.

ثم أكّد الله تعالى لنبيّه الأمر بالحكم بما أنزل الله ، فقال : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ..) أي اقض بما أمر الله به ، ولا تتبع أهواء المعاندين أو المعارضين فيما يخبرونك من أمور ، ويقترحون من حلول ، واحذر أيها النّبي أن يفتنك أعداؤك عن بعض ما أنزل الله إليك ، أي يميلوا بك من الحق إلى الباطل ، فإن تولوا وأعرضوا عما تحكم به من الحق ، وخالفوا شرع الله ، فلا تبال بهم ، واعلم أن الله يريد أن يعذّبهم في الدنيا قبل الآخرة على ذنوبهم ومعاصيهم وتركهم أحكام الشريعة ، ولا غرابة في ذلك فكثير من الناس لفاسقون ، أي خارجون عن حدود الحق والدين والعقل الرشيد.

والعجب كل العجب من هؤلاء الذين يريدون إحياء فوضى الجاهلية والأخذ بالثأر وترك الدين الحق والحكم العادل في القصاص وعقاب الزّناة والتمييز الطبقي وإضاعة الحقوق وإشاعة الجور والظلم وحماية المجرمين ، ولا حكم أعدل من حكم الله لقوم يدركون الحق ، ويوقنون أنه لا أعدل من الله ، ولا أحسن حكما من شرعه القويم.

٤٦٨

موالاة غير المؤمنين

أوجب القرآن الكريم التعاون بين أبناء أمة الإيمان وحدهم ، والاعتماد على أنفسهم ، وإشاعة الثقة والمناصرة فيما بينهم ، وتكوين أمة واحدة قوية متعاضدة متآزرة في السّراء والضّراء ، لها شخصيتها المستقلة ، وكيانها الذاتي المتين ؛ لأن تكامل الأمة يقتضي الاحتفاظ بأسرارها ، ومنع تسرّبها إلى أعدائها ، وبناء وجودها بناء حصينا يمنع اختراقه وتمكين الآخرين من إضعافه ، قال الله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) [المائدة : ٥ / ٥١ ـ ٥٣].

نزلت هذه الآيات في شأن رجلين أحدهما ـ عبادة بن الصامت الذي تبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود ، وتولى الله ورسوله ، والثاني ـ عبد الله بن أبي زعيم المنافقين الذي أصرّ على موالاة يهود قائلا : إني رجل أخاف الدوائر.

نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآيات الشريفات عن اتّخاذ اليهود والنّصارى أولياء في النّصرة والخلطة المؤدية إلى الامتزاج والمعاضدة. فإياكم أيها المؤمنون أن تتحالفوا معهم ، أو تسرّوا إليهم بأسراركم ، ولا تطمئنّوا إلى صداقتهم ومحبّتهم أو موادتهم ، إذ لن يخلصوا أو ينفّذوا العهد لكم ، فبعضهم أولياء أو أنصار بعض ، ومن يناصرهم أو يعينهم أو يستنصر بهم ، فإنه في الحقيقة من جملتهم وكأنه مثلهم ، وليس من صف

__________________

(١) أي أنصارا وحلفاء توالونهم وتوادونهم.

(٢) نتعرض لنوائب الدهر.

(٣) بنصر رسوله.

(٤) آكد أيمانهم.

(٥) بطلت.

٤٦٩

المؤمنين الصادقين ، وإن الله لا يوفق إلى الحق والخير القوم الظالمين أنفسهم بموالاة أعدائهم والاعتماد عليهم أيّا كان السبب.

وهذا النهي متعلق في شأن تعميق الصّلات والرّوابط والأحلاف مع غير المؤمنين ، أما مجرد المعاملة والمتاجرة من غير مخالطة عميقة الجذور ، فلا تدخل في النّهي ، فقد عامل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهوديا ، ورهنه درعا.

ثم ميّز الله تعالى بين الموالي لأمّته وبين المعادي لها ، المنضمّ إلى صفّ الأعداء ، فأخبر الله نبيّه بقوله : ترى يا محمد أولئك المنافقين الذين في قلوبهم شك ونفاق ، وإيمانهم ضعيف غير صحيح ، ترى هؤلاء يبادرون في موالاة الأعداء ، ويرغبون فيها رغبة أكيدة خالصة للشيطان ، ويتصادقون معهم صداقة حميمة ، ويقولون معتذرين بسبب انهزام نفوسهم وضعفها : نخاف أن نتعرض لدائرة تدور علينا ، من دوائر الدهر ، وأن تكون لهم الغلبة والتّفوق ، وأن تكون لنا الهزيمة والضعف ، والدائرة معناها : النازلة من الزمان ، والحادثة من الحوادث التي تحوجنا إلى موالينا وأنصارنا من اليهود الأعداء.

ولكن هؤلاء المنافقين الانهزاميين نسوا جانب الله وتركوا مقتضى الإيمان ، فالله يعد المؤمنين وعدا جازما بالنصر والغلبة ، والفصل بين أهل الإيمان وجند الشيطان ، فيصبح المتواطئون مع الأعداء نادمين على ما أسرّوا في أنفسهم من مناصرة أهل الباطل وجند الشيطان وأعداء أهل الإيمان. وقوله تعالى : (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) وعد قاطع من الله ؛ لأن عسى من الله واجبة التحقيق.

وظاهرة الفتح في هذه الآية : علو كلمة الإسلام ، وتغلّب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أعدائه الذين يخططون للقضاء على دعوته وإضعاف أنصاره.

لذا يقول الذين آمنوا متعجّبين من فعل المنافقين ومخاطبين الأعداء : أهؤلاء الذين

٤٧٠

أقسموا بالله وحلفوا الأيمان المغلّظة المؤكّدة : إنهم معكم ، وإنهم مناصروكم على أعدائكم ، ثم انكشفوا على حقيقتهم ، وتبينت عداوتهم كما قال الله تعالى : (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦)) [التّوبة : ٩ / ٥٦].

أي إنهم جماعة خائفون يظهرون الإسلام تقية أو مناورة أو سياسة ، لا حقيقة. ثم يضيف المؤمنون قائلين : هؤلاء المنافقون بطلت أعمالهم ، التي يؤدّونها نفاقا من صلاة وصيام وحج وجهاد ، فخسروا بذلك الدنيا ، والأجر والثواب في الآخرة.

وهكذا الزمن كفيل بإظهار الأمور على حقيقتها ، فلا بد من أن ينهزم أهل الشّر والباطل ، وينتصر أهل الحق وجند الإيمان بعد الاستعداد الصحيح والتفافهم مع بعضهم ، وإعزاز إيمانهم ودينهم كما قال الله تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣)) [الصّافّات : ٣٧ / ١٧١ ـ ١٧٣].

تهديد المرتدّين

إن الثّبات على الحق والإيمان بالله تعالى مهما حدث من الحوادث والكوارث هو شأن المؤمن العاقل ، الصحيح العقيدة ، فلا يتزحزح عن إيمانه مهما اختلفت المصالح ، أو تعرّض للإغراءات والمصائب ، ويظل ثابتا على العهد والدين كأنه الجبل الأشمّ والصخرة العاتية. أما ضعاف الإيمان ، والانهزاميون والمتذبذبون الجبناء ، فهم الذين لا يصمدون للمحنة أو الأزمة ، وتراهم سريعي التّبدل والتّحول من ساحة الإيمان إلى بؤرة الكفرة ومستنقع الشيطان وأعوانه.

لذا هدّد المرتدّين بأنهم لن يضرّوا إلا أنفسهم ، فقال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

٤٧١

مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) [المائدة : ٥ / ٥٤ ـ ٥٦].

من المعلوم أنه ارتدّ عن الدّين إحدى عشرة فئة ، ثلاث قبائل أيام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وهم بنو مدلج بزعامة الأسود العنسي ، وبنو حنيفة بزعامة مسيلمة الكذاب ، وبنو أسد بزعامة طليحة بن خويلد ، وسبع قبائل في عهد أبي بكر الصّديق ، وهم غطفان وفزارة وبنو سليم ، وبنو يربوع ، وبعض بني تميم بزعامة سجاح الكاهنة ، وكندة ، وبنو بكر. وارتدّ جبلة بن الأيهم من الغساسنة وتنصّر ولحق بالشام والروم.

فنزلت هذه الآيات السابقة خطابا للمؤمنين عامة إلى يوم القيامة ، وأشارت إلى القوم الذين قاتلوا أهل الرّدة والذين يأتي الله بهم وهم : أبو بكر الصّديق وأصحابه رضوان الله عليهم.

ومعنى الآيات الكريمات : أن الله وعد هذه الأمة أن من ارتدّ منها ، فإنه تعالى يجيء بقوم ينصرون الدين ، ويستغنى بهم عن المرتدّين ، فكان أبو بكر وأصحابه ممن صدق فيهم الخبر في ذلك العصر السابق في صدر الإسلام. فمن يرتد عن دينه في المستقبل ، فسوف يأتي الله بقوم بديل عنهم ، وصفهم القرآن الكريم بستّ صفات :

١ ـ إنهم أناس يحبّهم الله تعالى ، أي يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم ، ويرضى عنهم.

__________________

(١) متواضعين رحماء بهم.

(٢) أشدّاء عليهم.

(٣) اعتراض معترض.

(٤) كثير الفضل والجود.

(٥) ناصركم.

٤٧٢

٢ ـ ويحبّون الله تعالى باتّباع أوامره واجتناب نواهيه.

٣ ـ وهم أذلّة على المؤمنين ، متواضعون لهم ، متفاهمون معهم ، متعاونون.

٤ ـ وهم أعزّة على الكافرين ، أي أشدّاء متعالون عليهم ، معادون لهم كما قال الله تعالى في وصف المؤمنين في آية أخرى : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح : ٤٨ / ٢٩].

٥ ـ وشأنهم أنهم يجاهدون في سبيل إعلاء كلمة الله ودينه ، ومن أجل مناصرة الحق والخير والفضيلة وتوحيد الإله ، ويدافعون عن الأوطان والأهل والديار والبلاد.

٦ ـ وهم لا يخافون في الله لومة لائم ، أي لا يخشون لوم أحد واعتراضه ونقده ، لصلابتهم في دينهم ، ولأنهم يعملون لإحقاق الحق ، وإبطال الباطل ، على نقيض المنافقين الذين يخافون لوم حلفائهم وأنصارهم من الأعداء.

هذه الصفات السّت التي اتّصف بها هؤلاء المؤمنون المخلصون هي من فضل الله العظيم ، والله سبحانه يؤتي فضله من يشاء ، ويوفق إليه من يريد ، والله واسع عليم ، أي ذو سعة فيما يملك ويعطي ، كثير الأفضال ، عليم بمن هو أهلها ، يمنح فضله وإحسانه ونعمه على من يجد فيهم الاستعداد الطيب لها.

وبعد أن نهى الله تعالى عن موالاة الأعداء ، أمر بموالاة ومناصرة الله ورسوله والمؤمنين ، فأنتم أيها المؤمنون إنما وليّكم وناصركم بحق هو الله ومعه رسوله والمؤمنون الذين يقيمون الصلاة ، أي يؤدّونها كاملة تامّة الأركان والشروط ، ويؤتون الزّكاة ، أي يعطونها بإخلاص وطيب نفس لمن يستحقّها ، وهم خاضعون لأوامر الله ، بلا ضجر ولا رياء. وإيتاء الزّكاة هنا لفظ عامّ يشمل الزّكاة المفروضة والتّطوع

٤٧٣

بالصّدقات والقيام بكل أفعال البر ؛ إذ هي تنمية للحسنات ، مطهرة للمرء من دنس الذنوب. وهذه الآية في جميع المؤمنين.

ثم أوضح القرآن المجيد مبدأ عامّا ، مفاده : أن من يناصر دين الله بالإيمان به والتوكل عليه ، ويؤازر رسول الله والمؤمنين دون أعدائهم ، فإنه هو الفائز النّاجي ، وهو الذي يحقق النّصر والغلبة على المناوئين ، وحزب الله بحق ، دائما هو غالب ، كما قال الله تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة : ٥٨ / ٢١] إلى قوله : (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة : ٥٨ / ٢٢].

العلاقة مع غير المؤمنين

من الطبيعي أن تحتفظ كل أمة أو جماعة بأسرارها فيما بينها ، ولا تبيح بشيء منها لأعدائها ، وإلا كانت جماعة حمقاء طائشة ، سرعان ما يهدّد وجودها الضّياع والذّوبان وتسلّط الأعداء عليها ، لهذا حذّر القرآن الكريم هذه الأمة من اتّخاذ الأنصار والأعوان من غيرها ، منعا من التّشتّت والهزيمة ، وحفاظا على العزّة والقوة والمجد ، قال الله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ (١) (٢) (٣) (٤) (٥)

__________________

(١) أي أنصارا ومؤيدين.

(٢) سخرية.

(٣) تعيبون.

(٤) جزاء وعقوبة.

(٥) الطاغوت : كل ما عبد من دون الله ، أي أطيع ، من وثن أو شيطان أو آدمي يرضى ذلك.

٤٧٤

سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١)وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣)) (١) (٢) (٣) (٤) [المائدة : ٥ / ٥٧ ـ ٦٣].

قال ابن عباس مبيّنا سبب نزول هذه الآيات : كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ونافقا ، وكان رجل من المسلمين يوادّهما ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ) إلى قوله تعالى : (بِما كانُوا يَكْتُمُونَ).

نهى الله تعالى المؤمنين عن اتّخاذ أعدائهم أولياء ، أي حلفاء وأنصارا ، فوسمهم بوسم يحمل النفوس على تجنّبهم ، وذلك اتّخاذهم دين المؤمنين ومشاعرهم هزوا ولعبا ، أي سخرية وازدراء ، ومظهرا من مظاهر اللعب والعبث ، حتى وإن تظاهروا بالمودة والمحبة والعطف ، كما قال الله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤)) [البقرة : ٢ / ١٤].

وشدّد الله على قطع الموالاة ، فأمر الناس المؤمنين بتقوى الله وخشية عذابه ووعيده على الموالاة مع الأعداء ، إن كنتم صادقي الإيمان تحترمون أحكامه وتلتزمون حدوده ، وكل من الأمر بالتقوى والتذكير بالإيمان للتّنفير والتّحذير من أفاعيل الأعداء وشرورهم ومكرهم ، وتنبيه النفوس إلى أن الإيمان الحق يقتضي البعد من العدو.

ومن أفاعيل الأعداء وسوء فعلهم ومظاهر شرّهم : أنكم أيها المؤمنون إذا ناديتم

__________________

(١) الطريق المعتدل وهو الإسلام.

(٢) المال الحرام كالرّشوة والربا.

(٣) العبّاد والعلماء.

(٤) علماء اليهود.

٤٧٥

إلى الصلاة بالأذان ، اتّخذوا النّداء والصلاة هزوا ولعبا ، فقالوا : قد قاموا لا قاموا ، إلى غير هذا من الألفاظ التي يستخفّون بها في وقت الأذان وغيره. وفعلهم هذا ؛ لأنهم لا يعقلون معاني عبادة الله وشرائعه ، وهم أشبه بالشيطان الذي يفرّ ويدبر إذا سمع الأذان.

ولكنهم مع الأسف لا يقدّرون تأثير الأذان في القلوب ، وتطهير النفوس وتزكيتها وربطها بعظمة الله وكبريائه ، وتذكيرها بضرورة الخوف من الله في السّر والعلن.

ثم أمر الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لأهل الكتاب : هل تعدّون ذنبا أو نقيصة إيماننا الثابت الراسخ بالله ورسله ، وإيماننا بما أنزل إلينا وبما أنزل من الكتب السابقة على الرّسل الكرام ، والحق أنهم بهذا الهزء واللعب أكثرهم فاسقون ، أي خارجون عن حدود الدين الصحيح والرأي السليم والعقل الرشيد. وليس لهم من الدّين إلا التّعصب والحقد ، والمظاهر والتقاليد الجوفاء.

ثم أجابهم الله تعالى عن استهزائهم ، فقل لهم يا محمد : هل أخبركم أيها المستهزئون بديننا ، الواصفون ديننا بأنه شرّ ، إنه لا شرّ ولا ضلال أشدّ من دين الملعونين الذين لعنهم الله وغضب عليهم بسبب سوء أفعالهم ، وطردهم من رحمته ، وغضب عليهم غضبا أبديا ، وجعل منهم القردة والخنازير ، وأطاع الشيطان ، وعبد الأصنام والعجل ، أولئك المتّصفون بتلك الصفات من الأجداد والأحفاد شرّ مكانا مما تظنون بنا ؛ لأن مكانهم النار ، وهم أضلّ الناس عن طريق الاستقامة والاعتدال والحق الواضح.

وبلغ من سوء الأعداء وخاصة المنافقين منهم أن الكفر ملازم لهم ، فإذا جاؤوا إلى الرسول والمؤمنين ، قالوا : آمنّا بالرّسول وبما أنزل عليه ، والحال أنهم دخلوا وهم كفار ، وخرجوا كذلك ، لم تنفعهم الموعظة ، ولم يؤثر فيهم التذكير ، والله أعلم بما

٤٧٦

يكتمون حين الدخول من النفاق ، وعند الخروج من العزم على الكيد والمكر ، فهم جميعا أغبياء وشذاذ. وترى أيها النّبي كثيرا من هؤلاء المستهزئين بدينك ، يبادرون إلى ارتكاب الإثم والظلم والمعاصي ، ويأكلون السّحت (المال الحرام) فبئس الاعتداء اعتداؤهم ، وقبح الفعل سوء فعلهم. ثم عاتب الله علماءهم على تقصيرهم ، ووبّخهم على سكوتهم على الباطل ، فهلا نهوا أتباعهم عن قولهم الإثم والكذب ، وأكلهم الأموال بالباطل ، تالله لبئس ما كان يصنع أولئك الأحبار (العلماء) من ترك النّصح والرّضا بالمنكر.

بعض أوصاف اليهود

من المعلوم أن البشر جميعا هم عباد الله الذين خلقهم وأراد لهم الخير ، ولا فرق بين إنسان وآخر ، ولا فضل لأحد على آخر إلا بما يقتضي التفاضل ويستدعي التفريق. واليهود كسائر الناس ميزانهم بحسب أعمالهم وأفعالهم وما يظهرونه من طبائع قبيحة وخصال سيئة ، والحكم عليهم بمقدار إساءتهم للخالق المعبود والمخلوقات البشرية.

قال الله تعالى مبيّنا بعض أوصاف اليهود الذميمة مع ربّهم ومع عباد الله :

(وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١)

__________________

(١) مقبوضة عن العطاء.

٤٧٧

(٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦)) (١) [المائدة : ٥ / ٦٤ ـ ٦٦].

سبب نزول الآيات ما قال ابن عباس ـ فيما أخرجه الطبراني وابن إسحاق ـ قال رجل من اليهود يقال له : النباش بن قيس للنّبي : إن ربّك بخيل لا ينفق ، فأنزل الله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) وفي رواية أخرى سمي الرجل بأنه فنحاص رأس يهود بني قينقاع.

هذه الآيات تعداد لألوان من الكبائر ، ووصف لأقوال وأفعال في غاية القبح والإساءة ، والخزي والجرأة على الله تعالى ، وأشد هذه الأوصاف شناعة وسوءا وصفهم الله تعالى بما لا يتفق مع ميزان العقل ، ويأباه الواقع المشاهد ، إنهم وصفوا الله تعالى بأنه فقير وهم أغنياء ، وأنه بخيل في تعبيرهم المجازي : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) وهو مجاز عن البخل والإمساك ، فردّ الله عليهم بالدّعاء عليهم بقوله : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا) إنه دعاء عليهم بالبخل والنّكد والإمساك عن الخير ، فكانوا أبخل خلق الله وأنكدهم ، والرّد الواقعي : أن يدي الله مبسوطتان ، أي هو الجواد الواسع الفضل ، الجزيل العطاء ، الذي ما من شيء لأي مخلوق إلا عنده خزائنه ومنه الرزق وحده ، فهو المنعم المتفضّل.

وتالله أيها النّبي ليزيدن ما أنزل إليك من آيات القرآن الواضحات طغيانا ، أي تجاوزا للحدّ في الأشياء ، وكفرا ، أي تكذيبا ، أي أن نعمة القرآن تكون نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم ؛ لأنها تكشف زيفهم وتفضح أوضاعهم ، وكان من جزاء الله لهم على نكدهم وتمرّدهم إلقاء العداوة والبغضاء بينهم إلى يوم القيامة ، وإن تظاهروا بوحدة الصّف وتماسك الكلمة ، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتّى ، فلا يهمنّك

__________________

(١) معتدلة ، وهم من أسلم منهم.

٤٧٨

أمرهم وتآمرهم ، ولا تغتر بما هم عليه الآن في فلسطين المحتلة ، وكلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله في الخارج والداخل بإثارة الفتنة ومحاولة التفرقة وإثارة العداوة ، وهم في مساعيهم يسعون في الأرض فسادا ، فمن سجيّتهم وطبعهم دائما الإفساد لا الإصلاح ، والتّهديم لا البناء ، والله لا يحبّ المفسدين ، وإنما يبغضهم ويعاقبهم ويسخط عليهم.

ثم فتح الله تعالى باب الأمل والتوبة والإصلاح أمامهم ، فهم لو آمنوا بالله ورسوله ، واتّقوا ما يتعاطونه من المآثم والمعاصي ، لكفّر الله عنهم سيئاتهم التي اقترفوها ، وأدخلهم جنات النعيم التي ينعمون بها. وهذا دليل واضح للبشرية جمعاء على أن العمل الصالح مع الإيمان الكامل سبب لرضوان الله وتوسيع الرزق ، وزيادة النعم وإفاضة الخيرات ، والتوفيق لسعادة الدنيا والآخرة.

ولو أنّهم نفّذوا تعاليم التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربّهم ، لكفّر الله عنهم سيّئاتهم ، وغاصوا في نعم الله من فوقهم وجوانبهم وتحتهم.

لكن من اليهود أو غيرهم جماعة معتدلة ، تؤمن بما أنزل الله ، ويحبون الخير ، ولكن الكثيرين منهم فاسقون خارجون عن الطاعة ، فبئس ما عملوا وكذبوا وحرّفوا ، وأكلوا الحرام ، وظلموا العباد.

تبليغ رسالة الوحي الإلهي

الكتب الإلهية والوحي الرّبّاني نداء دائم من الله تعالى لعباده في أن يصلحوا أمرهم ، ويوحّدوا ربّهم ، ويقبلوا على الله بطاعته وعبادته ، دون إهمال ولا تقصير ، والرّسل الكرام الذين بعثهم الله تعالى مهمتهم تبليغ الرسالة الإلهية ، وإقناع الناس بجدواها وضرورتها في حياتهم ، وترغيب الناس بالعمل بها ، وتحذيرهم من تعطيلها أو إهمالها.

والرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم الرّسل والأنبياء جميعا ، أمره ربّه بمهمة التّبليغ والبيان والجهاد في سبيل دعوته ، فقال الله تعالى له :

٤٧٩

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩)) (١) (٢) [المائدة : ٥ / ٦٧ ـ ٦٩].

نزلت آية الأمر بالتبليغ كما ذكر الحسن البصري رحمه‌الله حين قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله بعثني برسالة ، فضقت بها ذرعا ، وعرفت أن الناس مكذّبي ، فوعدني لأبلّغن أو ليعذّبني ، فنزلت الآية : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ..).

وروى ابن مردويه عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أي آية من السماء أنزلت أشدّ عليك؟ فقال : كنت بمنى أيام موسم ، واجتمع مشركو العرب وأفناء الناس (أي لا يعلم ممن هم) فنزل علي جبريل فقال : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ..) الآية ، فقمت عند العقبة ، فقلت : أيها الناس ، من ينصرني على أن أبلغ رسالات ربي ، ولكم الجنة؟ أيها الناس قولوا : لا إله إلا الله ، وأنا رسول الله إليكم ، تفلحوا ، ولكم الجنة ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فما بقي رجل ولا أمة ولا صبي إلا يرمون علي بالتّراب والحجارة ، ويقول : كذاب صابئ ، فعرض علي عارض ، فقال : اللهم اهد قومي ، فإنهم لا يعلمون ، وانصرني عليهم أن يجيبوني إلى طاعتك ، فجاء العباس عمه ، فأنقذه منهم ، وطردهم عنه.

يأمر الله تعالى رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتّبليغ على وجه الاستيفاء والكمال ، والاستمرار والدوام في ذلك ؛ لأنه كان قد بلّغ وبدأ بإبلاغ الرسالة الإلهية إلى قومه ،

__________________

(١) فلا تحزن.

(٢) عبدة الكواكب أو الملائكة ، وهو مبتدأ خبره (كذلك).

٤٨٠