التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0523-3
الصفحات: ٦٧١

وتوكيده ، فقد أخطأ الطريق الواضح المستقيم الذي هو الدين المشروع من الله ، وعدل عن الهدى إلى الضلال.

وبسبب نقضهم ميثاقهم الذي أخذناه عليهم ، أبعدناهم عن الحق وطردناهم عن الهدى ورحمة الله ، وغضبنا عليهم ، وجعلنا قلوبهم غليظة قاسية شديدة ، لا تقبل الحق ولا تتعظ بموعظة ، وفسدت أفهامهم وساء تصرفهم في آيات الله ، وتأوّلوا كلام الله على غير وجهه الصحيح وحرّفوه وبدّلوه بالتقديم والتأخير والزيادة والنقص ، ونسوا نصيبا مهمّا مما أمروا به في كتابهم ، وهو الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين ، وتركوا العمل به ، رغبة عنه ، مما يدلّ على سوء فعلهم بأنفسهم ، ولا تزال أيها النّبي في مستقبل الزمان تطّلع على خيانات متكررة منهم ، إلا قليلا منهم ممن آمن ، وحسن إيمانه كعبد الله بن سلام وأصحابه.

فاعف واصفح عما صدر منهم من إساءات ، وعاملهم بالإحسان ، إن الله يحب المحسنين ويثيبهم على إحسانهم ، والعفو دليل النصر والظفر.

وأخذ الله أيضا من الذين قالوا : إنا نصارى ميثاقهم على مؤازرة النّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومناصرته والإيمان برسالته ، ففعلوا كما فعل اليهود قبلهم ، وتركوا العمل بأصول دينهم ، ونسوا نصيبا مهمّا من تعاليمهم ، فكان جزاؤهم إيقاع العداوة والبغضاء بين صفوفهم ، فصاروا فرقا متعادين وفئات مختلفين ، وستظل العداوة بينهم مستمرة لازمة إلى يوم القيامة ، وسوف يخبرهم الله بما صنعوا ، ويجازيهم على ما اقترفوا بقدر ما يستحقون في عالم الآخرة.

وهذا وعيد واضح توعّدهم الله بعقاب الآخرة ، وتوبيخ متقدم للعذاب ، إذ صنعهم كفر يوجب الخلود في النار.

٤٤١

والعبرة من هذه الأخبار : تحذير المؤمنين من التّشبه بهم وترك تعاليم دينهم ، فإن الله بالمرصاد لكل من خالف أوامر الله وعصى أحكام ربّه.

مقاصد القرآن والرّسالة النّبوية

لكل كتاب إلهي أهداف عامّة ومقاصد تشريعية ، ولكل رسول مهام وخصائص معينة ، وقد أبان القرآن الكريم مقاصده وخصائص الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإيجاز ، وحصر وصف الرسول بأمرين اثنين : هما البيان الإلهي ، والعفو عن كثير مما يكتمه أهل الكتاب ، ووصف القرآن بأنه نور وبأنه الهادي إلى الصّراط المستقيم ، وبأنه يخرج الناس من الظّلمات إلى النّور.

قال الله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦)) [المائدة : ٥ / ١٥ ـ ١٦].

أخرج ابن جرير الطبري في بيان سبب النزول عن عكرمة قال : إن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاه اليهود يسألونه عن الرّجم ، فقال : أيكم أعلم؟ فأشاروا إلى ابن صوريا ، فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى ، والذي رفع الطور ، والمواثيق التي أخذت عليهم ، حتى أخذته رعدة من الخوف ، فقال : لما كثر فينا جلدنا مائة ، وحلقنا الرؤوس ، فحكم عليهم بالرّجم ، فأنزل الله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا ..) الآية.

والمعنى يا أهل الكتاب من اليهود والنصارى قد جاءكم رسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالهدى

٤٤٢

ودين الحق إلى جميع أهل الأرض ، وأنه بعثه بالبينات والفرق بين الحق والباطل. ووصف الرسول هنا بصفتين :

الأولى ـ أنه يبين لهم كثيرا مما يخفون من أحكام الكتاب الإلهي وهو التوراة ، قال ابن عباس : «أخفوا صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخفوا أمر الرّجم ، وعفا عن كثير مما أخفوه ، فلم يفضحهم ببيانه». والإخفاء أدب جمّ من القرآن ، لأن المهم أن يؤمنوا بالقرآن ، ولا داعي للإثارة المبعدة عن الإيمان وإعلان الحق.

الصفة الثانية ـ ويعفو عن كثير ، أي يترك كثيرا ولا يظهر ما تكتمونه أنتم ، إبقاء عليكم ، وإنما لم يظهره لعدم الحاجة إليه في الدين. وهذا يدعوهم إلى أن يكونوا صرحاء جريئين في بيان أحكام الشرع الإلهي دون كتمان شيء ، ولا تهرّب من إظهار الحقائق. وإذا كان العفو من النّبي عليه الصّلاة والسّلام فبأمر ربّه. وإذا كان من الله تبارك وتعالى فعلى لسان نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمعنيان متقاربان.

وقوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي الآية الدلالة على صحة نبوّة محمد ، لأن إعلامه أهل الكتاب بخفي ما في كتبهم ، وهو أمّي لا يقرأ ولا يكتب دليل على أن ذلك إنما هو وحي يأتيه من عند الله تعالى.

ثم وصف الله تعالى ما جاء به من عنده بأن محمدا الرسول أو القرآن نور يضيء درب الحق ، وأن القرآن كتاب واضح يهدي به الله من أقبل عليه ، واتّبع الدين الذي يرضى به الله تعالى ، يهدي إلى طريق النّجاة والسّلامة ومناهج الاستقامة ، وينجّي الناس من المهالك ، ويخرجهم من ظلمات الكفر والضّلال إلى نور الحق والإيمان ، ويرشدهم إلى الطريق القويم ؛ وهو الدين الحق الذي يوصل الناس إلى خيري الدنيا والآخرة. وذلك لأن طريق الحق واحد لذاته ، وطريقه مستقيم واحد ، لا اعوجاج فيه ولا غموض ، أما الباطل فله شعاب كثيرة ، وكلها معوجّة.

٤٤٣

يظهر مما تقدم أن مقاصد القرآن الكريم ثلاثة :

١ ـ إن المتّبع لما يرضي الله والمقبل على مراده يهديه القرآن إلى طريق النّجاة والسّلامة من الشّقاء والعذاب في الدنيا والآخرة ، باتّباع الإسلام ، والإسلام دين الحق والعدل والإخلاص والإنقاذ.

٢ ـ إن القرآن المجيد يخرج المؤمنين به من ظلمات الكفر والشّرك والوثنية ، والوهم والخرافة ، وانحراف التفكير ، إلى نور التوحيد الخالص.

٣ ـ إن القرآن العظيم يهدي الناس ويرشدهم إلى الطريق الصحيح الموصل إلى الهدف السديد من الدين ، وإلى خيري الدنيا والآخرة.

وكل هذه المقاصد القرآنية الموجهة إلى العالم بأجمعه إكمال لرسالات الأنبياء المتقدمين ، وبناء وتقدّم وحضارة ومسيرة في الطريق الصحيح ، وخير للبشرية جمعاء ، قال الله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠)) [الإسراء : ١٧ / ٩ ـ ١٠].

ادّعاء النّجاة في الآخرة

هذا العالم الكبير من ملكوت السماوات والأرض والوجود يشتمل على خالق قديم أزلي لم يتقدمه شيء ، ومخلوق حادث أوجده الخالق ، ومن المستحيل عقلا أن تكون صفات الخالق مثل صفات المخلوقات ، وإلا كان مثلها واحتاج إلى من يوجده ، فنقع في سلسلة من الافتراضات لا حصر لها ، وهذا ممنوع في المنطق السليم. وحينئذ لا يتصور أن يكون أحد من المخلوقات له صفات الخالق المبدع أو حظّ من الألوهية ،

٤٤٤

ولا يقبل من بشر أن يدّعي أنه أقرب إلى الله إلا بعبادته وطاعته ، فالقرب من الله قربا معنويا لا ماديا محسوسا يكون بمقدار الطاعة والتزام شرائع الله المشرّع.

ومن هنا وجدنا في القرآن إنكارا شديدا للشّرك أو وصف أحد من المخلوقات بالألوهية ، قال الله تعالى :

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩)) (١) [المائدة : ٥ / ١٧ ـ ١٩].

روى ابن جرير الطبري وغيره عن ابن عباس قال : أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جماعة من اليهود ، فكلموه وكلمهم ، ودعاهم إلى الله ، وحذّرهم نقمته ، فقالوا : ما تخوفنا يا محمد ، نحن والله أبناء الله وأحبّاؤه ، كقول النصارى ، فأنزل الله فيهم : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) الآية.

وروى ابن جرير أيضا وغيره عن ابن عباس قال : دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليهود إلى الإسلام ، فرغّبهم فيه وحذّرهم ، فأبوا عليه ، فقال لهم معاذ بن جبل وآخرون : يا معشر اليهود ، اتّقوا الله ، فو الله لتعلمن أنه رسول الله ، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل

__________________

(١) فتور وانقطاع.

٤٤٥

مبعثه ، وتصفونه لنا بصفته ، فقال رافع بن حريمة ووهب بن يهودا : إنا ما قلنا لكم هذا ، وما أنزل من كتاب من بعد موسى ، ولا أرسل الله بشيرا ولا نذيرا بعده ، فأنزل الله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا ..) الآية.

لقد دعا جميع الرّسل والأنبياء ومنهم المسيح إلى توحيد الله وتمجيده ، فلا يصح أن يوصف أحد من الرّسل بأنه هو الله ، والله قادر على أن يهلك أي بشر ، فلا مالك ولا رادّ لإرادة الله تعالى في المسيح ولا في غيره ، ومن تنفذ فيه الإرادة الإلهية تقضي العقول بأنه ليس بإله ، والله هو مالك السماوات والأرض وما بينهما من المخلوقات ، والمتصرّف في كل شيء ، وجميع الموجودات ملكه وخلقه ، والله صاحب القدرة التامة المطلقة على كل شيء ، فكيف يكون المملوك المخلوق إلها خالقا؟ إن هذا لكفر صريح.

وإذا ادّعى أهل الكتاب أنهم أبناء الله وأحبّاؤه ، سئلوا : فلم يعذّبكم الله بذنوبكم في الدنيا والآخرة؟! وأنتم قد أقررتم أنه يعذّبكم. والتعذيب على الذنوب ينافي أنهم أبناء الله وأحبّاؤه ، فأنتم بشر كسائر الناس ، وأكرم الناس عند الله أتقاهم.

والله هو المالك المطلق والمتصرّف في السماوات والأرض وما بينهما ، وصاحب الملك يفعل في ملكه ما يشاء ، لا رادّ لقضائه ، ولا معقّب لحكمه ، وإليه مصير العالم بالحشر والمعاد يوم القيامة ، وجميع العباد عبيد له ، قال الله تعالى : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣)) [مريم : ١٩ / ٩٣].

وسيعذّب الله الكافر والعاصي بحق ، ويثيب الطائع المؤمن والصالح بفضل منه ورحمة. وتكرار جملة (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) للتأكيد وتقرير المعنى في الأذهان وهو أن المالك قادر على إهلاك المملوك.

٤٤٦

يا أهل الكتاب لا حجة لكم فيما تقولون وتدّعون من النجاة في الآخرة ، فلقد جاءكم رسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد فترة من انقطاع الرّسل والوحي ، يبيّن لكم ما اندثر وضاع من الأحكام الشرعية ، وقد بشّرت به كتبكم ، وهو مصدّق لما معكم من التوراة والإنجيل ، ومكمل للشرائع ، وخاتم للرّسل ، أرسله ربّه بالهدى ، ودين الحق ، لئلا تقولوا : ما جاءنا من بشير يبشّر بالجنة من أطاع ، ولا نذير يحذّر ويخوّف من عصى بالنار ، فقد جاءكم البشير والنذير ، وقامت الحجة عليكم ، والله على كل شيء تام القدرة ، نافذ الإرادة والسلطان ، فهو المنعم والمعذّب ، والمحاسب والراحم ، والمنتقم والغفار ، لا ربّ غيره ، ولا إله سواه ، الكل في الدنيا والآخرة وجميع السماوات والأرض في قبضته وإرادته وتصرّفه ، فليعقل الناس ما هم عليه من الحقائق البشرية ، ولا يدّعي أحد أنه فوق منازل البشر ، أو أنه إله ، فالإله خالق ، ولا خالق غيره.

ألوان من النّقاش بين موسى وقومه

أقام الله تعالى في قرآنه أدلة قاطعة من التاريخ على تحقق نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمره بالإخبار بها ، حيث لا يوجد مصدر علمي آخر موثوق به يدلّ عليها ، ومن تلك الأدلة : إيراد تفصيلات دقيقة من النقاش والجدل بين موسى عليه‌السلام وبين قومه ، قال الله تعالى :

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ

٤٤٧

يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦)) (١) (٢) [المائدة : ٥ / ٢٠ ـ ٢٦].

والمعنى : اذكر لهم يا محمد أخبار موسى مع قومه ، ليصدّقوا بدعوتك ويتحققوا نبوّتك ، إذ لا يوجد مصدر آخر لهذه الأخبار من غير طريق الوحي إليك. ومشتملات هذه الأخبار : تعداد أهم النّعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل في زمان موسى ، وهي نعم ثلاث :

قال موسى لقومه : تذكروا نعمة الله عليكم بتتابع الأنبياء فيكم ، من عهد إبراهيم إلى عيسى عليهم‌السلام ، وتذكروا أن الله جعلكم ملوكا أحرارا بعد أن كنتم مملوكين في أيدي القبط المصريين ، والملوك شرف الدنيا ، فعندكم ما يكفيكم من الأزواج والخدم والدور والأراضي المشجرة وغير المشجرة ، وأمدكم الله في زمان أسلافكم الذي كانوا فيه بالخيرات وآيات موسى مثل المنّ والسلوى ، والتّظليل بالغمام ، وفلق البحر أو فرقه ، وإنجاؤكم وغرق عدوكم فرعون وجنوده في البحر.

ويا قوم ادخلوا الأرض المطهرة من عبادة الأوثان ، المباركة ؛ لأنها أرض الأنبياء الخالية من القحط والجوع ونحوه ، لتجاهدوا أعداءكم في الطّور وما حوله كما قال مجاهد ، وهي التي قسمها لكم وسماها ، ولا تتراجعوا وتنهزموا من خوف أهلها الجبارين ، ولا تتخلفوا عن الجهاد ، فتصبحوا خاسرين ثواب الدنيا والآخرة.

__________________

(١) فافصل بحكمك.

(٢) يسيرون فيها متحيّرين.

٤٤٨

قالوا : يا موسى ، إن في تلك الأرض قوما جبارين ، أي طوالا عتاة ، يجبرون الناس على ما أرادوا ، وكانوا من الكنعانيين ، وإنا لن ندخلها أبدا حتى يخرجوا منها ، فإن خرجوا منها ، فإنا داخلون فيها. قالوا هذا على سبيل الاستبعاد والتّعنت والتخلف عن الجهاد ، وهذه طبيعتهم الحالية لجبنهم وتقاعسهم.

لذا استنكر بعضهم هذا الموقف المتخاذل ، فقال رجلان من الذين يخافون الله تعالى ، وأنعم الله عليهما بالإيمان الصحيح وقوة البأس والعزيمة والثبوت في الحق ، وهما من قوم موسى النّقباء الأشراف : ادخلوا عليهم باب المدينة ، ففي ذلك إرهاب لهم وتخويف وذعر ، فإذا دخلتم الباب ، فإنكم غالبون منصورون ، وعلى الله توكّلوا إن كنتم مصدّقين به بوعده بالنصر.

فأجابوا وقالوا مصرّين على الرّفض والعناد والتّمرد ، ولم تنفعهم عظة الرجلين الصالحين شيئا : يا موسى ، إنا لن ندخلها أبدا ما دام فيها هؤلاء الجبابرة ، فاذهب أنت وربّك الذي أمرك بالجهاد ، فقاتلا ، إنا ها هنا قاعدون عن الجهاد ، منتظرون ما يحدث. وفي هذا غاية الجبن والتقاعس وقلة الأدب مع الله ، والتّنكر لموسى عليه‌السلام.

فقال موسى غاضبا حزينا : ربّي إني لا أملك إلا نفسي وأخي هارون فلا يطيعني أحد منهم ، لامتثال أمر الجهاد ، فافصل واقض بيني وبين هؤلاء القوم الفاسقين الخارجين عن طاعتك.

قال الله تعالى : فإن تلك الأرض المقدسة محرّم عليهم دخولها مدة أربعين سنة ، واتركهم خلالها يتيهون في الأرض ، فلا تحزن يا موسى على القوم المتمرّدين فيما حكمت به عليهم ، جزاء ما يستحقون ، فتلك أفعالهم الخبيثة سجية موروثة عندهم.

٤٤٩

أول جريمة قتل في الدنيا

الحق في الحياة حق مقدس ، فلا يجوز سفك دم حرام ، أو الاعتداء على إنسان بغير مسوغ ولا سبب مشروع ؛ لأن الإنسان صنيعة الله في هذا العالم ، وكل اعتداء عليه اعتداء على فعل الله وتجاوز لحكمته وتحدّ لإرادته.

لذا استنكر القرآن العظيم أول جريمة قتل حدثت في الدنيا ، وهي قتل قابيل لأخيه هابيل ، قال الله تعالى :

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١) مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢))(١) (٢) (٣) (٤) [المائدة : ٥ / ٢٧ ـ ٣٢].

والمعنى : اقرأ واسرد على مسامع القوم خبر ابني آدم : قابيل وهابيل ، ببيان صحيح واقعي لا زيادة فيه ولا نقص ، حين قرّبا قربانا إلى الله تطوّعا وتعبّدا ، وكان قابيل صاحب زرع ، فعمد إلى أردأ ما عنده فقرّبه ، وكان هابيل صاحب غنم ، فقصد إلى

__________________

(١) أي قابيل وهابيل.

(٢) ترجع بإثم قتلي.

(٣) زيّنت له.

(٤) جثّته أو عورته.

٤٥٠

أفضل كباشه فقرّبه ، وكانت العادة أن يقرّب المقرّب قربانه ، ويقوم يصلي ويسجد ، فإذا نزلت نار وأكلت القربان ، فذلك دليل القبول. فنزلت النار ، فالتهمت كبش هابيل ورفعته وسترته عن العيون ، وتركت زرع قابيل ، فحقد قابيل على أخيه هابيل ، وهدّده بالقتل ، فقال هابيل : وما ذنبي في أن الله لم يتقبّل منك ، فأصلح نفسك ، فإنما يتقبّل الله من المتّقين أعمالهم.

يا أخي ، لئن مددت إلي يدك بسوء لتقتلني ظلما وعدوانا ، ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك أبدا ؛ لأني أخاف الله ربّ العالمين ، الذي ربّانا وتعهّدنا بالعناية والرّعاية ، فمن يقتل الآخر أو يعتدي عليه ، استحقّ العذاب الشديد.

يا أخي ، لا أريد مقابلة الجريمة بمثلها ، فإنك إن قتلتني وابتعدت عن معاملتك بالمثل ، أريد أن تتحمل إثمي بقتلي ، وإثمك قبل الاعتداء علي ، فتكون من أهل النار ، وذلك جزاء الظالمين أنفسهم المعتدين على غيرهم ، أي أنه حذّره من القتل بثلاث مواعظ : الخوف من الله ، وتحمل الإثمين : إثم القتل وإثم نفسه ، وكونه من الظالمين أصحاب النار.

فحسّنت وسوّلت له نفسه قتل أخيه ، فقتله ، فأصبح من الخاسرين أنفسهم في الدنيا والآخرة بسبب جريمة القتل هذه.

ثم حار القاتل قابيل وضاقت به الدنيا ، ولم يدر كيف يفعل بجثة أخيه ، فبعث الله غرابا حيّا إلى غراب ميت ، فجعل يبحث ويحفر في الأرض حفرة ، ويلقي التراب على الغراب الميت ، ليعلّمه كيف يواري عورة أخيه أي جثّته ، فقال : يا فضيحتي ـ وهذا اعتراف منه باستحقاق العذاب ـ أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب؟! فأواري جثّة أخي ، فأصبح نادما على ما فعل ، لكنه لم تقبل توبته ؛ لأنه لم يندم ولم يتب من المعصية ، وإنما كان ندمه على قتل أخيه ؛ لأنه لم ينتفع بقتله ، وسخط عليه أبواه

٤٥١

وأختاه ، فكان من الذين سنّوا سنّة سيئة ، فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده إلى يوم القيامة.

وكان قابيل من العصاة لا من الكفار ، روى البخاري ومسلم حديثا عن ابن مسعود : «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم كفل ـ أي نصيب ـ من دمها ؛ لأنه أول من سنّ القتل».

وبسبب هذه الجريمة النكراء كتب الله على بني إسرائيل في التوراة ومن بعدهم في ديانة عيسى وشريعة محمد عليهما الصلاة والسلام : أنه من قتل نفسا بغير نفس أي بغير سبب موجب للقصاص ، أو قتل بغير سبب فساد في الأرض بالإخلال بالأمن والطمأنينة كقطّاع الطرق أو المحاربين ، فاستحلّ القتل بلا سبب ، فكأنما قتل الناس جميعا ، ومن أحيا نفسا ، أي امتنع من قتلها ، فكأنما أحيا الناس جميعا بتوفير الأمن والطمأنينة لهم ؛ إذ كل نفس عضو في المجتمع الإنساني ، وحق الحياة مقدس ومصون لجميع البشر. ولقد جاءت رسل الله الكرام بني إسرائيل بالبينات الواضحات كالشمس على الحلال والحرام ، ولكن كثيرا من الناس بعد ذلك لمتجاوزون الحدود ، يسرفون في القتل والمعاصي.

عقوبة المحاربين (قطّاع الطرق)

العقوبة في الإسلام والقوانين كلها حق وعدل ، لإصلاح الجناة وزجر المجرمين وردعهم ، والعقوبة تتفاوت بتفاوت الجريمة ومقدار خطرها ، وإخلالها بأمن المجتمع وراحتهم ، فإذا كانت عقوبة اللصوص السارقين قطع اليد ؛ لأن جريمتهم شخصية خاصة ، فإن عقوبة المحاربين قطّاع الطرق أشدّ وأنكى ، فهي إما النّفي من الأرض أو

٤٥٢

قطع اليد والرجل من خلاف ، أو القتل والصّلب ، أو القتل فقط ؛ لأن جريمتهم تهدّد أمن المجتمع برمّته ، وتنشر الذعر والإرهاب في جميع الأماكن.

قال الله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤)) (١) (٢) [المائدة : ٥ / ٣٣ ـ ٣٤].

سبب نزول آية المحاربة : ما روى البخاري ومسلم عن أنس : أن ناسا من عكل وعرينة (٣) قدموا على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتكلموا بالإسلام ، فاستوخموا المدينة (٤) ، فأمر لهم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزود من الإبل (٥) وراع ، وأمرهم أن يخرجوا إلى الصحراء ، فيشربوا من أبوالها وألبانها ، فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرّة (٦) ، كفروا بعد إسلام ، وقتلوا الراعي ، ومثّلوا به ، واستاقوا الزّود من الإبل ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبعث في طلبهم ، فأتوا فأمر بهم ، فسملوا أعينهم (٧) ، وقطعوا أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وتركوا حتى ماتوا ، فنزلت الآية : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ..).

هذه الآية في المحاربين من أهل الإسلام : وهم الذين خرجوا على الناس بقصد أخذ أموالهم أو قتلهم أو لإرهابهم ، فيختلّ الأمن والسّلم ، وتنتشر الرهبة والذّعر في كل مكان ، أو يعتدون على الحقوق الشرعية كمنع الزكاة مثلا ، كما حدث في عهد أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه ، حيث حارب المرتدّين المانعين للزّكاة بقوة وبأس.

أ ـ فإن أخافوا الطريق فقط ، ولم يقتلوا نفسا ولم يأخذوا مالا ، كانت عقوبتهم

__________________

(١) يبعدوا أو يسجنوا.

(٢) ذلّ وعقوبة.

(٣) قبيلتان مشهورتان.

(٤) وجدوها رديئة المناخ.

(٥) الزّود : من ثلاثة إلى تسعة.

(٦) الحرّة : أرض ذات حجارة سوداء نخرة كأنها أحرقت بالنار.

(٧) كحّلوها بمسامير الحديد المحماة.

٤٥٣

النّفي من الأرض ، أي الحبس في مكان عند الحنفية ، أو الإبعاد إلى بلد آخر ليسجن فيه عند الجمهور.

ب ـ وإن أخذوا المال فقط تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، أي تقطع اليد اليمنى من الرّسغ والرّجل اليسرى من المفصل.

ج ـ وإن قتلوا المارّة قتّلوا ، أي إن عقوبة القتل أمر محتوم لا يسقط ، ولو عفا أولياء الدّم ، أي أقارب المقتول ، فهذه عقوبة لا تقبل العفو أو الإسقاط. وعلى المسلمين التعاون مع الدولة لقتال هؤلاء المحاربين وكفّهم عن أذى الناس.

د ـ وإن قتلوا وأخذوا المال ، قتلوا وصلبوا بعد موتهم ، نكالا لغيرهم ، في قول الإمام الشافعي ، ويكون صلبهم أحياء لمدة ثلاثة أيام ثم يقتلون بالطعن على الخشبة في رأي جمهور العلماء ، وهذا هو الأنكى في النّكال والتّعذيب.

ذلك العقاب خذلان وذلّ وفضيحة ، وخزي وعار في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم مع العقوبة لمن شاء الله تعذيبه ، وهذا يختلف عن بقية الحدود على المعاصي المرتكبة في حديث عبادة بن الصامت المتفق عليه من قول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فمن أصاب من ذلك شيئا ، فعوقب به ، فهو كفّارة له».

ثم استثنى الله من العقوبة التائبين الذين أقلعوا عن الجريمة وندموا على ما فعلوا ، فإن تاب المحارب قبل القدرة عليه ، أي قبل إلقاء القبض عليه من السلطة (الدولة) فقد سقط عنه حكم الحرابة ، ولا عقاب عليه ، لكن يطالب بحقوق الآدميين ، أي بالحقوق الشخصية الخاصة ، فيقتصّ منهم بسبب الاعتداء على النفس والجراح ، وكان عليهم ضمان ما أتلفوه أو استهلكوه من مال ، أو أراقوا من دم. ويجوز لولي الدّم حينئذ العفو عنه كسائر الجناة غير المحاربين ، وهذا ما عبّرت عنه الآية في قوله

٤٥٤

تعالى : (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فإن توبتهم قبل القدرة عليهم دليل على أنها توبة خالصة لله تعالى.

أما إن تابوا بعد القدرة عليهم ، فيقام عليهم حدّ الحرابة ، ويكون تطبيق الحدّ عليهم أمرا حتميا واجبا بسبب العصيان والفساد ، وعلى المسلمين وغيرهم إعانة الحكام في مطاردتهم وكفّهم عن عدوانهم ؛ لأنهم متّهمون بالكذب في توبتهم والتّصنع فيها إذا نالتهم يد الحاكم وألقي القبض عليهم أثناء عدوانهم ، ولا يظلم ربّك أحدا.

أساس النّجاة في الآخرة

انزجار الناس وارتداعهم عن المعاصي والجرائم يكون بأحد أمور ثلاثة : إما بتطبيق العقوبة على الجاني ، فينزجر ويرتدع ، أو برؤية الجناة متلبسين بالمكاره وألوان التعذيب ، فيرق الرائي والسامع ويخشع قلبه ، أو بالوعظ والإرشاد والترهيب من أصناف العذاب في الدار الآخرة في نار جهنم.

والحال الثانية وهي رؤية التعذيب أبلغ من الوعظ ؛ لورودها على النفوس وهي خائفة وجلة ، وقد اعتمد القرآن عليها إذ أورد آيات التخويف بين حدّين من الحدود المقررة شرعا وهما حدّ الحرابة وحدّ السّرقة ، قال الله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧)) (١) [المائدة : ٥ / ٣٥ ـ ٣٧].

__________________

(١) الزّلفى بفعل الطاعات وترك المخالفات.

٤٥٥

تأمر الآية الأولى المؤمنين بأوامر ثلاثة : وهي تقوى الله ، وهي إذا قرنت بالطاعة تعني الكفّ عن المحارم وترك المنهيات ، والأمر الثاني : طلب القربة إلى الله وهي ابتغاء الوسيلة ، والوسيلة : القربة أي ما يتوصل به إلى تحصيل المقصود والنجاح ، والأمر الثالث : الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله ودينه ، وخصّ هنا الأمر بالجهاد لأمرين : أولهما ـ رفعة شأنه بين أعمال البر وأنه قاعدة الإسلام ، والثاني ـ أنه الطريق إلى الجنة والعبادة التي هي بديل عن المحاربة أو قطع الطريق.

وأما الوسيلة المطلوبة للنّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعائنا بعد الأذان بإيتاء الوسيلة والفضيلة ، فمعناها درجة في الجنة ، وأعلى منزلة في الجنة. والفضيلة : هي الشفاعة العظمى له في المقام المحمود بجميع الخلائق ليقدّم الناس إلى الحساب ، تخلّصا من أهوال يوم القيامة.

ومعنى الآية : يا من آمنتم بالله ورسوله ، اتّخذوا الوقاية لأنفسكم من عذاب الله ، بامتثال أمره واجتناب نهيه ، وتقرّبوا إلى الله بالطاعة والعمل بما يرضيه ، وجاهدوا أعداء الإسلام حتى يكون الدين كله لله ، ومن أجل نصرة الحق والخير والحرية للبشرية.

ثم أخبر الله عما أعدّ لأعدائه الكفار من العذاب الشديد يوم القيامة ، وأوضح أن الذين كفروا أو جحدوا بالله ربّا واحدا لا شريك له ، وأنكروا آياته الدّالة على وجوده ووحدانيته وقدرته الشاملة ، وكذبوا رسله ، لو جاؤوا بملء الأرض ذهبا ، ومثله أو ضعفه معه ، ليفتدوا بهذا الفداء من عذاب الله ، على كفرهم وعنادهم ، ما تقبّل منهم ذلك ، ولهم عذاب ثابت دائم مستمر لا خروج لهم منه ، كما قال الله تعالى في آية أخرى : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) [الحج : ٢٢ / ٢٢].

نعود إلى قوله تعالى : (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) لنحقق معنى التّوسل ، فقد استدلّ

٤٥٦

بعض الناس بهذه الآية على مشروعية الاستغاثة والتّوسل بالصالحين ، وجعلهم وسطاء ووسائل بينهم وبين الله تعالى. ولكن الله لا يحتاج إلى هذه الوسائل والوسائط لقوله سبحانه : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ). [غافر : ٤٠ / ٦٠] وقوله عزوجل : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦)) [البقرة : ٢ / ١٨٦] وقوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦)) [ق : ٥٠ / ١٦].

وتحقيق القول في التّوسل ما ذكره الألوسي في تفسيره حيث قال : جاء لفظ التوسل بثلاثة معان :

أولا ـ التوسل بمعنى التّقرب إلى الله بطاعته وفعل ما يرضيه ، وهو المراد بالآية (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ). وقد توسّل أهل الصخرة الثلاثة إلى الله عزوجل بصالح الأعمال ، أي طلبوا الفرج بصلاح أعمالهم ، لا بالولي الفلاني أو الشيخ الفلاني.

ثانيا ـ التّوسّل بالمخلوق والاستغاثة ، بمعنى طلب الدعاء منه ، لا شك في جوازه ، إن كان المطلوب منه حيّا ، كالتّوسل بالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حال حياته ، أو بعمّه العباس في صلاة الاستسقاء. أما إذا كان المطلوب منه الدعاء ميتا أو غائبا فغير جائز.

ثالثا ـ القسم على الله تعالى بأحد من خلقه ، مثل أن يقال : اللهم إني أقسم عليك ، أو أسألك بفلان إلا ما قضيت لي حاجتي. أجازه العزّ بن عبد السّلام في النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه سيّد ولد آدم ، دون غيره من الأنبياء والملائكة والأولياء ، ومنع أبو حنيفة وأبو يوسف وابن تيمية التّوسل بالذات والقسم على الله تعالى بأحد من خلقه.

٤٥٧

جزاء السّارق

السّرقة من الأموال الخاصة أو من الأموال العامة كأموال الدولة أو القطاع العام أو الخاص من أعظم الجرائم في الإسلام ، فهي حرام حرمة شديدة ، ومنكر عظيم ، وأكل لأموال الناس بالباطل ، لا يحل في شرع ولا دين ولا قانون في الدنيا ؛ لأن إباحة السرقة تخل بأمن الناس في أموالهم وتهز مبدأ الثقة والطمأنينة ، وتزعزع استقرار الاقتصاد والتجارة وغيرها من موارد الرزق. والغصب والخيانة والنهب ونحو ذلك كالسرقة أخذ ملك الآخرين بغير حق.

لذا كانت جريمة السرقة مستوجبة الحدّ وهو قطع اليد في شريعة القرآن ، وهذه العقوبة ، وإن كانت قاسية ، فهي العقوبة الوحيدة الزاجرة للاعتداء على الأموال وأخذها بغير حق. قال الله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠)) [المائدة : ٥ / ٣٨ ـ ٤٠].

نزلت هذه الآية في طعمة بن أبيرق حين سرق درع جار له ، يدعى قتادة بن النعمان في جراب دقيق به خرق ، وخبّأها عند زيد بن السمين اليهودي ، فتناثر الدقيق من بيت قتادة إلى بيت زيد هذا ، فلما تنبّه قتادة للسرقة ، التمسها ـ أي الدرع ـ عند طعمة ، فلم يجدها ، وحلف ما أخذها ، وماله بها علم ، ثم تنبهوا إلى الدقيق المتناثر ، فتبعوه حتى وصلوا إلى بيت زيد ، فأخذوا الدرع منه ، فقال : دفعها إلي طعمة ، وشهد ناس من اليهود بذلك ، وهمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجادل عن طعمة ؛ لأن الدرع وجد عند غيره ، فنزل قوله تعالى : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) [النّساء : ٤ / ١٠٧] ثم نزلت آية السّرقة لبيان حكمها.

٤٥٨

وروى أحمد وغيره عن عبد الله بن عمرو : أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقطعت يدها اليمنى ، فقالت : هل لي من توبة يا رسول الله؟ فأنزل الله في سورة المائدة : (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

والمعنى : فيما فرض عليكم أو يتلى عليكم حكم السارق والسارقة ، فمن سرق من ذكر أو أنثى ، فاقطعوا يا ولاة الأمور أيديهما أي من الرّسغ كما أوضحت السّنة النّبوية ، جزاء لهما على سرقتهما وما كسبت أيديهما ، ولانتهاك حرمة مال الآخرين ، لأن السرقة قد تجرّ إلى الدفاع عن المال وإلى القتل ، وتنكيلا وإهانة وتحقيرا لهما من الله ؛ لأن فعلهما خسيس ودنيء يستوجب الإذلال ، والزجر عن العودة للسرقة ، وإيقاع عبرة لغيرهما ، والله قوي غالب في تنفيذ أوامره ، حكيم في تدبيره وصنعه وتشريعه ، لا يشرع إلا ما فيه الحكمة والمصلحة ، واختيار الأنسب للجريمة.

أما من تاب من بعد ظلمه بالسرقة ، وأناب إلى الله ، ورجع عن السرقة ، وردّ أموال الناس إليهم ، وأصلح نفسه وزكّاها بعمل البر والتقوى ، فإن الله يقبل توبته ، فلا يعذّبه في الآخرة ، وإن الله غفور لذنوب عباده التائبين ، رحيم بهم إذا صلحوا.

ألم تعلم أيها الرسول وكل مؤمن أن الله هو المالك لجميع السماوات والأرض ومن فيهما ، يتصرف في ذلك بالعدل والحكمة والعلم الواسع والفضل العظيم ، ومن فضله ورحمته أنه يقبل التوبة عن عباده ، ويرحم التائبين ، ومن حكمته وعدله أنه وضع حدّا للسرقة لزجر اللصوص وردعهم ، توفيرا للأمن والاستقرار ، وتحقيقا لمصالح العباد ، والله هو القادر على كل شيء من التعذيب والرحمة.

ومن خلال التجربة والتطبيق تبين أن الحدود الشرعية هي المحققة لمصلحة الناس العامة والخاصة ، فلا مانع من الجريمة أحكم وأعدل وأصلح من حدود الله المقررة في القرآن المجيد.

٤٥٩

لكن ينبغي أن نعلم أن حدّ السرقة لا يقام على السراق إلا بشروط كثيرة ، فيشترط أن يكون السارق بالغا عاقلا ، لا صبيّا ولا مجنونا ، وألا يكون مأذونا له في الدخول إلى مكان الأموال ، لا ضيفا أو خادما ، ولا قريبا ذا رحم محرم من المسروق منه ، ولا مالكا للمسروق ، وأن يكون المسروق مقدّرا بنصاب شرعي وهو دينار ذهبي فأكثر في رأي الحنفية ، أو ربع دينار في مذهب الجمهور ، وأن يكون المسروق مالا متقوما ، أي يباح الانتفاع به شرعا ، لا كنحو خمر أو خنزير أو كلب أو ميتة أو دم مثلا.

وهناك شرط عام في الحدود كلها وهو ألا توجد شبهة ؛ فالحدود تدرأ بالشبهات ، وباب الشبهة واسع يجعل إمكان تطبيق الحدّ نادرا ، وينتقل حينئذ إلى عقوبة تعزيرية أخرى غير الحدّ ، كالحبس والضرب والتوبيخ. ومن تاب من فعله وأصلح نفسه ، سقطت عقوبته ، والله يحبّ التائبين.

المسارعة في الكفر

أنزل الله تعالى الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل والقرآن متضمنة الشرائع الإلهية لتنظيم الحياة البشرية ؛ لأن الحياة التي لا يضبطها تشريع أو قانون هي حياة فوضوية تشبه حياة الغابة ، لا سعادة ولا أمن ولا قرار فيها ، القوي يأكل الضعيف ، والكبير يستبدّ بالصغير ، والمتنفّذ يظلم غيره ويجور في حكمه وتعامله معه بحسب أهوائه ونزواته ومطامعه وشهواته. لذا استنكر القرآن الكريم معاداة الشرائع والكتب الإلهية ، ووصف المتجاوزين لأحكامها بأنهم يسارعون في الكفر ويبادرون إلى الضلال ويعملون بالأخلاق المرذولة ، فقال الله تعالى مسرّيا ومقوّيا نفس نبيّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبب ما كان يلقى من طوائف المنافقين وبني إسرائيل :

٤٦٠