التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0523-3
الصفحات: ٦٧١

وحارب الوثنية والشّرك ، وأبان زيف الديانات الشائعة ، وأوضح طريق العبادة الصحيحة لله تعالى ، ووضع أسس الأخلاق وأنظمة الحياة الرشيدة في السياسة والاقتصاد ، والحرب والسّلم ، والاجتماع والحضارة والعمران وعلوم الكون ، فكان القرآن المحكم التّنزيل بهذه الشرائع برهانا واضحا للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على كون رسالته رسالة الحق ، ودينه دين الحق الذي لا معدل عنه ولا مثيل له.

وكانت هذه المقومات لكتاب الله الخالد سببا في إيجاد أنموذج واضح لأمة الإيمان ومواكب المؤمنين في العالم. وإذا كان الله تعالى قد أوعد بالنار والعذاب الأليم في آية سابقة كل من كفر به وجحد بتعاليمه ، فإنه في هذه الآية : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ ..) وعد المؤمنين بالله ، المعتصمين به ، المتمسكين بالقرآن دستورا ومنهج حياة بإدخالهم جنان الخلد وإحاطتهم برحمة الله ، وإسباغ الفضل العظيم عليهم ، وهدايتهم إلى الصراط المستقيم والمنهج القويم في الحياة ، فمن يعمل بالقرآن وأحكامه وشرائعه ، فاز بالسعادة الأبدية ، وكانت له العزّة الكاملة في الدنيا ، وتمتع في الآخرة بالجنة والرّضوان الإلهي ، والسلامة من كل سوء أو مكروه.

والمراد بالبرهان العظيم من الله لعباده : هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسمي برهانا ؛ لأن معه البرهان وهو المعجزة أو الحجة ، فإن معجزاته كلها حجة نيّرة واضحة على صدق رسالته واليقين التام بصحة دعوته.

والنور المبين : أهم معجزات النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو القرآن الكريم ، وسمي نورا ؛ لأن به تتبين الأحكام التشريعية السديدة ، ويهتدى به من الضلالة ، فهو نور مبين ، أي واضح بيّن مشرق كالشمس ، قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مفسّرا ذلك فيما ورد في كنز العمال ورواه الترمذي عن علي رضي الله عنه : «القرآن حبل الله المتين ، من تمسك به عصم».

٤٢١

والاعتصام بالله : هو التمسك بما دلّ عليه ، والاعتزاز به ، وطلب النجاة والمنعة به ، فهو سبحانه يعصم من الأخطاء والمعاصي كما تعصم المعاقل والحصون.

والمراد بالرحمة في قوله تعالى : (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ) : الجنة ، وأما الفضل : فهو ما يتفضل به الله على المؤمنين في الجنة من النعيم مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

والهداية إلى الصراط المستقيم : هي هداية طريق الجنان ، والهداية إلى هذا الفضل الإلهي العميم كما قال تعالى : (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥)). جعلنا الله تعالى ممن يظفرون برحمته وفضله وجنّته ، ومن الموفقين إلى طريقه القويم.

ميراث الكلالة أو الإخوة

لقد أنزل الله تعالى في أوائل سورة النّساء وأواخرها نظاما مفصّلا للميراث ، فيه الحق والخير والعدل ، يعتمد على قوة القرابة من نسب وزواج ، والنّسب يشمل الآباء والأجداد ، والأبناء والبنات ، والإخوة والأخوات ، والأعمام وأولادهم والعمات ، والأخوال والخالات. ورابطة الزوجية تقتصر على الزوجين : الرجل والمرأة. وفي آخر سورة الأنفال بيان ميراث ذوي الأرحام.

قال الخطابي : أنزل الله في الكلالة آيتين : إحداهما في الشتاء وهي التي في أول سورة النّساء وفيها إجمال وهي قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً) [النساء : ٤ / ١٢] ، ثم أنزلت الأخرى في الصيف ، وفيها كمال البيان ، وقيل : إنها من آخر الآيات نزولا ، وهي قوله تعالى : (١)

(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها

__________________

(١) الميت ، لا ولد ولا والد.

٤٢٢

نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦)) [النساء : ٤ / ١٧٦].

روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السّنن عن جابر بن عبد الله قال : «دخل علي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنا مريض لا أعقل ، ثم صبّ علي فعقلت ، فقلت : إنه لا يرثني إلا كلالة (١) ، فكيف الميراث؟ فنزلت آية الميراث» يريد هذه الآية. وفي رواية : اشتكيت ، فدخل علي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعندي سبع أخوات.

وكان أمر الكلالة عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه مشكلا ، فقال : «ما راجعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شيء مراجعتي إياه في الكلالة ، ولوددت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يمت حتى يبيّنها» وقال على المنبر ـ فيما أخرجه ابن ماجه وعبد الرزاق والطيالسي والبيهقي والحاكم والسعدني والساجي وابن جرير ـ : «ثلاث لو بيّنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكان أحب إلي من الدنيا : الجد والكلالة والخلافة ، وأبواب من الرّبا».

ومعنى هذه الآية ، وهي آية الصيف ، : يطلب الفتيا منك أيها الرسول أناس فيمن يورث كلالة ، وهي ما عدا الوالد والولد ، أي الإخوة الأشقاء أو لأب والأخوات الشقيقات أو لأب ، كجابر بن عبد الله الذي لم يكن له عند وفاته والد ولا ولد ، وإنما له إخوة أشقاء من أب وأم ، وهم عصبات لم يفرض لهم شيء من فرائض الإرث ، فإن كان للمتوفى أخ لأم فقط ، فنصيبه السّدس ، وإن زاد عن ذلك فكانوا إخوة لأم ، فنصيبهم الثّلث فقط كنصيب الأم ، سواء كانوا ، اثنين فأكثر ، وقد تقدّم بيان نصيبهم في الآية (١١) من أوائل سورة النّساء.

__________________

(١) أي إخوة وأخوات.

٤٢٣

وإن كان للمتوفى أخت شقيقة أو لأب ، فلها نصف التّركة (ما ترك) مع عدم الولد ، والرجل يرث أخته بالتّعصيب إن لم يكن لها ولد ذكر أو أنثى ، وهو يستغرق جميع التّركة إن كان أخا شقيقا أو لأب ، فإن كان أخا لأم ، فلا يستغرق الميراث ، وإنما فرضه السّدس.

فإن كان للمتوفى أختان فأكثر شقيقتان أو لأب ، فلهما الثّلثان مما ترك أخوهما ، أما الأختان لأم فأكثر فلهما الثّلث فقط ، والباقي لمن يوجد من العصبة.

وإن كان الإخوة الوارثون ذكورا وإناثا ، فللذكر مثل حظّ الأنثيين ، أما الإخوة لأم فهم شركاء في الثّلث.

ثم أبان الله تعالى سبب هذا التوزيع وقيامه على الحق والعدل ، فذكر أنه سبحانه يبين لكم أيها المؤمنون أمور دينكم وجميع الأحكام الشرعية من حلال وحرام ، لتعرفوها وتعملوا بها ، لئلا تضلّوا عن الحق بعد البيان في قسمة التّركات وغيرها ، وإن ما شرعه الله لكم من الأحكام فيه الخير والمصلحة لكم ، وهو صادر عن علم واسع لله ، فيكون بيانه حقّا ، وتعريفه صدقا ، فعليكم الالتزام بهذه الأحكام ؛ لأنها قائمة على الحق والخير والبركة لكم ، وتقدير مسئولية الرجال في الإنفاق على النّساء والأسرة ، دون أن تطالب المرأة بشيء من النّفقات.

ألا إن الهدى والخير فيما شرعه الله ، والضلال والشّرّ في الإعراض عن شرع الله ، والله على كل شيء رقيب.

٤٢٤

تفسير سورة المائدة

الوفاء بالعقود

من أهم وأخطر ما تميزت به شريعة القرآن : هو الوفاء بالعقود والعهود مع الناس ومع الله ، وتعظيم شعائر الله وأحكامه وحرماته ، فذلك دليل الأصالة والقوة والشجاعة والثقة بالنفس ، ولم يسوغ الشّرع نقض عقد أو عهد حتى مع الأعداء ، احتراما للالتزام والمعاهدة ، وليكون المؤمنون قدوة حسنة للبشرية في صيانة المعاهدات واحترام العقود. قال الله تعالى في مطلع سورة المائدة المدنية النزول ، أي النازلة بعد الهجرة في حجة الوداع ، أو في عام فتح مكة :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) (٧) (٨) (٩) (١٠) [المائدة : ٥ / ١ ـ ٢].

__________________

(١) بالعهود المؤكدة ومنها عقود المعاملات.

(٢) الإبل والبقر والغنم والمعز.

(٣) غير مستحلّين.

(٤) محرمون بحج أو عمرة.

(٥) لا تنتهكوا مناسك الحج.

(٦) الأشهر الأربعة الحرم.

(٧) ما يهدى من الأنعام للحرم.

(٨) ما يقلّد به الهدي.

(٩) قاصدين.

(١٠) لا يحملنكم بغضهم.

٤٢٥

نادى الله المؤمنين بصفة الإيمان ليحثّهم على امتثال ما يكلفهم به ، قائلا : يا من اتّصفتم بالإيمان وتركتم دعاوى الشيطان أوفوا بالعقود ، سواء عقود الشّرع من حلال وحرام وفرائض ، وعقود الناس بعضهم مع بعض من عقود البيع والمعاملات وعقود الزواج وغير ذلك ، لقول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الحاكم عن أنس وعائشة : «المسلمون عند شروطهم» فيجب الوفاء بالعهود والعقود على حسب الشروط المتفق عليها ما لم تصادم أوامر الشرع ، وتشمل العقود كل الارتباطات بقول موافق للحق والشرع.

ومن هذه العهود المأخوذة علينا من الله ، وهي نعم من الله : إحلال جميع بهائم الأنعام من إبل وبقر وغنم إلا ما يتلى عليكم من المحرمات العشر الآتية ، وغير سباع البهائم وكل ما له ناب يعتدي به على غيره ، وكل ما له مخلب من الطيور ، حال كونكم غير محلّي الصّيد البري في أثناء الإحرام بحج أو عمرة ، فيحرم الصيد في الإحرام ، ويحرم في الحرمين : المكّي والمدني ، ولو في غير حالة الإحرام ، إن الله يحكم ما يريد من الأحكام ، ويعلم أنه حكمة ومصلحة.

وقد نزلت آية (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) حينما عزم نفر من المهاجرين والأنصار على الاعتداء على الحطم بن هند البكري الذي قدم المدينة ، فبايع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأسلم ، ثم ارتدّ عن الإسلام لما قدم اليمامة.

ونزلت آية (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ ..) عام فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة حينما كان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحديبية في السنة السادسة مع أصحابه ، فصدّهم المشركون عن البيت الحرام ، فمرّ بهم أناس من المشركين من أهل المشرق ، يريدون العمرة ، فقال الصحابة : نصدّ هؤلاء ، كما صدّوا أصحابنا .. فقيل للمؤمنين عام الفتح وهو سنة ثمان : لا يحملنّكم البغض من أجل أن صدّوكم على أن تعتدوا عليهم.

٤٢٦

ومعنى الآية : يا أيها المؤمنون بالله ورسوله لا تحلّوا معالم الله ، ولا تتعدّوا حدود الله وطاعاته في أمر من الأمور ، وبخاصة مناسك الحج ومشاعره ، فلا تتهاونوا بحرمتها ، ولا تخلّوا بأحكامها ، ومكّنوا جميع المسلمين من أداء مناسك الحج. فالمراد بشعائر الله : مناسك الحج ، وجميع ما أمر الله به أو نهى عنه ، وما حدّ تحريمه في الإحرام.

ولا تنتهكوا بالقتال والعدوان حرمة الأشهر الحرم ، وهي أربعة : ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ورجب ، فلا تقاتلوا المشركين فيها ، ولا تبدّلوها بغيرها ، كما كان العرب يفعلون في الجاهلية من عملية النّسيء ، أي تأخير حرمة شهر حرام إلى غيره ، ولا تحدثوا في أشهر الحج ما تصدّون به الناس عن الحج. ولا تعترضوا الهدي (الشاة ونحوها) المهدي للحرم أو المسوق له ، بالغصب أو الأخذ ، أو المنع من بلوغ محلّه ، حتى لا يصل إلى الكعبة. وسمي شهرا حراما لتحريم القتال فيه في الماضي.

ولا تنتهكوا حرمة ذوات القلائد : وهي ما قلّد به الهدي مما يعلق في عنق البعير ونحوه من قلادة ليعلم أنه هدي ، فلا يتعرّض له ، وذلك يشمل الهدي المقلّد والذي لم يقلّد. ولا تحلّوا حرمة قوم قاصدين المسجد الحرام فتغيروا عليهم ، حالة كونهم يطلبون من الله الفضل ، أي الرزق والثواب ، والرضوان ، أي رضا الله عنهم. وإذا فرغتم من إحرامكم وحللتم منه ، وأنتم في غير أرض الحرم ، جاز لكم ما كان محرّما عليكم في حال الإحرام وهو الصيد ، فاصطادوا حينئذ كما تشاؤون. ولا يحملنكم بغض قوم وكراهيتهم ، كانوا قد صدّوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام ، وذلك عام الحديبية ، على أن تتعدوا حكم الله ، فتعتدوا عليهم. وتعاونوا على البر : وهو كل ما أمر به الشّرع أو نهى عنه ، ولا تتعاونوا على الإثم ، أي الذنب والمعصية : وهي كل ما منعه الشرع ، واتّقوا الله بفعل ما أمركم به واجتناب ما نهاكم عنه ، إن الله شديد

٤٢٧

العقاب لمن عصى وخالف. والبر والتّقوى كما قال قوم : هما لفظان بمعنى واحد ، وكرر باختلاف اللفظ تأكيدا ومبالغة ، إذ كل برّ تقوى ، وكل تقوى برّ.

المحرّمات العشر من المطعومات

لم يشرع الله شيئا في القرآن الكريم إلا لمصلحة الناس ، فلم يبح الشرع أو يوجب إلا النافع المفيد ، ولم يحرم إلا الضّار الخبيث ضررا مادّيا محسوسا أو معنويا يمسّ العقيدة. وقد أحلّ الله لنا من المطعومات أكل بهيمة الأنعام (المواشي) وسائر الطيبات من الحيوان الذي يعيش في البر والبحر والجو ، قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) [المائدة : ٥ / ٨٧] وقال سبحانه : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) [المائدة : ٥ / ١].

وحرّم الله علينا أربعة أنواع بالإجمال في قوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [النّحل : ١٦ / ١١٥] وفي سورة المائدة ذكر الله بالتفصيل عشرة أنواع من المحرمات ، قال الله تعالى :

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ (١) الْخِنْزِيرِ (٢) وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ (٣) بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ (٤) وَالْمُتَرَدِّيَةُ (٥) وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ (٦) السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ (٧) وَما ذُبِحَ عَلَى (٨) النُّصُبِ (٩) وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا (١٠)بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ (١١) يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)) [المائدة : ٥ / ٣].

__________________

(١) ما ذكر عليه اسم غير الله.

(٢) الميتة بالخنق.

(٣) الميتة بالضرب.

(٤) الميتة بالسقوط من علو.

(٥) الميتة بالنّطح.

(٦) ما ذبحتم وهو في حال الحياة.

(٧) حجارة الأصنام حول الكعبة.

(٨) تطلبوا معرفة المقسوم لكم بالقداح المعلمة.

(٩) خروج عن طاعة الله إلى معصيته.

(١٠) ألجئ في مجاعة شديدة.

(١١) مائل إليه عمدا.

٤٢٨

روى ابن منده في كتاب الصحابة عن حبّان قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنا أوقد تحت قدر فيها لحم ميتة ، فأنزل تحريم الميتة ، فأكفأت القدر.

والمحرمات العشر المذكورة تفصيلا وتفسيرا لقوله تعالى : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) هي ما يأتي :

١ ـ الميتة : وهي ما مات من الحيوان حتف أنفه ، من غير ذبح ولا اصطياد ، وقد حرّم الشّرع أكلها ، لما فيها من ضرر أو مرض ، أو احتباس الدم فيها ، وتعافها النفس وتنفر منها وتأنف من أكلها ، فهي ضارّة للبدن والدين ، ما عدا ميتة السمك والجراد لعدم وجود الدم فيهما.

٢ ـ الدّم : وهو الدّم المسفوح السائل ، لا الجامد كالكبد والطحال ، وتحريم الدّم ؛ لأنه مباءة تفريخ وتكاثر الجراثيم الفتاكة والسموم الضّارة ، كما أنه مستقذر طبعا ، وعسر الهضم ، ومن فضلات الجسم الضّارة كالبراز ، ولاختلاف فصائل أو زمر الدّم ، ولا تناسب فصيلة غيرها ، فهو قذر يضرّ الأجسام.

٣ ـ لحم الخنزير وشحمه وجلده وعظمه ، وتحريمه لأنه حيوان قذر لا يأكل إلا القاذورات والفضلات العفنة ، ولأنه يحتوي غالبا على الديدان كالدودة الوحيدة والشعرة الحلزونية والدودة الشريطية ، ولأنه عسير الهضم لكثرة شحم أليافه العضلية ومواده الدهنية ، كما أنه ينقل طباعا سيئة مثل فقدان الغيرة على أنثاه. والكلب مثل الخنزير حرام أكله عند أكثر العلماء لما فيهما من الضّرر والخطر.

٤ ـ ما أهلّ لغير الله به ، أي ما ذبح وذكر عليه اسم غير الله ، والإهلال : رفع الصوت ، وكان العرب في الجاهلية يرفعون صوتهم عند الذبح باسم اللات والعزى وهبل وغيرها من الأصنام ، وقد حرّم الشرع أكله لمساسه بالعقيدة ، وتعظيم غير الله ، ومشاركة المشركين والكفار في عبادة غير الله ، والتقرب لآلهتهم بالذبائح.

٤٢٩

٥ ـ المنخنقة : وهي التي تموت خنقا : وهو حبس النّفس في الحلقوم ، فهي نوع من الميتة ، وضررها ضرر الميتة ؛ لأنها لا تذبح ، والتذكية الشرعية شرط لحلّ المذبوح.

٦ ـ الموقوذة : وهي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدد كالعصا أو الحجر أو الحصاة حتى تموت بلا ذكاة شرعية ، فهي ميتة وضررها كالميتة. والوقذ حرام ؛ لأنه تعذيب للحيوان. أما المقتول بالسلاح أو الرصاص فيجوز أكله شرعا على الصحيح.

٧ ـ المتردّية : هي ما سقطت من مكان عال كجبل أو سطح ، أو الهاوية ، في بئر ، فتموت بذلك ، فلا تحل كالميتة إلا أن تذكى أي تذبح ، فإن عقرت في البئر في أي مكان من جسمها ، حلّ أكلها للضرورة.

٨ ـ النّطيحة : وهي التي نطحتها بهيمة أخرى ، فماتت ، وهي حرام كالميتة.

٩ ـ ما أكل السّبع : وهي التي افترسها حيوان كالذئب والنّمر والسّبع ، فتموت ، فلا تؤكل لأنها ميتة ، وتأنفها الطّباع. لكن ما أدركتموه حيّا بطرف عين أو رفس رجل أو يد مما سبق من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنّطيحة وأكيلة السّبع ، فذبحتموه ، جاز أكله شرعا.

١٠ ـ ما ذبح على النّصب ، أي الحجارة التي كانت حول الكعبة ، وكان عددها ٣٦٠ حجرا أي صنما ، لا يؤكل ، لأنه مما ذكر اسم غير الله عليه.

وحرم الله الاستقسام بالأزلام أي العيدان أو قداح الميسر على هيئة السهم الذي لا نصل فيه ، وهو الذي يجرح الصيد ، وهو محاولة معرفة الحظ أو القمار على بعير ونحوه ، وهو حرام لأنه كسب يعتمد على المغامرة والمقامرة ، لذا وصفه الشّرع بأنه فسق ، كما أن كل هذه المحرّمات فسق أيضا ، أي خروج عن منهج الدين. وعلى المؤمنين التّقيّد بحرمات الدين وخشية الله وترك خشية الكفار ، فإنهم يئسوا من أن ترجعوا إلى دينهم.

٤٣٠

والله سبحانه أكمل لنا الدين ، وهو الإسلام ، بإحلال الحلال وتحريم الحرام وبيان الشرائع والأحكام ، ورضي الله بالإسلام دينا للبشرية ، وأتم علينا النّعمة بالنّصر على المشركين ، وقد نزلت هذه البشارات الثلاث يوم عرفة.

ومن اضطرّ إلى تناول شيء من المحرّمات المذكورة ، فله أن يأكل منها إذا لم يوجد غيرها ، وتعرّض لخطر الموت أو الهلاك جوعا بسبب المخمصة أي المجاعة ، ولم يتجاوز قدر الضرورة ، والله غفور له ، رحيم بخلقه.

المطعومات الحلال وإباحة الزواج بالكتابيات

جعل الله الإسلام دينا سمحا سهلا غير معقّد ولا صعب ، فأحلّ لنا كثيرا من الأشياء ، ولم يحرّم علينا إلا القليل ، فالأصل في الأشياء الإباحة ، أحلّ الله الطّيبات النافعة غير المحرّمات العشر المتقدمة وغير المستخبثات ، وأباح لنا ما تقتضيه الضرورة أو الحاجة في الاصطياد بالكلاب المعلّمة والطيور الجارحة المروّضة ، وأقام جسورا من التلاقي وهمزة الوصل بين المسلمين وأهل الكتاب (اليهود والنّصارى) فأجاز لكل فريق تناول طعام الفريق الآخر ، وأباح الزواج بالنّساء المؤمنات ، والكتابيات الحرائر العفيفات بشرط دفع المهر.

قال الله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ (١) (٢) (٣)

__________________

(١) التي تجرح بأنيابها من السّباع ، وبمخالبها من الطيور.

(٢) المكلب : معلّم الكلاب الصيد ومضريها ، ويقال أيضا لمن يعلّم غير كلب.

(٣) هذا إشارة إلى الزمن والأوان ، وهو إباحة ما تستطيبه النفس.

٤٣١

وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) [المائدة : ٥ / ٤ ـ ٥].

نزلت الآية الأولى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) حينما سأل عاصم بن عدي ، وسعد بن خيثمة ، وعويم بن ساعدة ، فقالوا : يا رسول الله ، ماذا يحلّ لنا من هذه الكلاب؟ بعد أن أمر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتل الكلاب ، وكان أبو رافع هو المتولّي لقتلها. وسأل عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالا : يا رسول الله ، قد حرّم الله الميتة ، فما ذا يحلّ لنا؟ فنزلت الآية. وسأل رجل عن صيد الكلاب ، فنزلت هذه الآية : (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ).

والمعنى : يسألك المؤمنون أيها الرسول عما أحلّ لهم من المطاعم واللحوم ، قل لهم : أحلّ لكم ما تستطيبه النفوس السليمة الفطرة ، وهي غير الخبائث ، قال الإمام الشافعي : الطيّبات : الحلال المستلذّ ، وكل مستقذر كالوزغ والخنافس وغيرها فهي من الخبائث حرام.

وأحلّ لكم صيد الجوارح المعلّمة ، كالكلاب والفهود ، والبزاة والصقور والعقبان والنّسور ونحوها من الطيور ، فكل ما صاد بعد تعليم فهو جارح ، أي كاسب. تعلّمونهن من الحيلة في الاصطياد والتّأني لتحصيل الحيوان ، وهذا جزء مما علّمه الله الإنسان. ويجوز الأكل من الصيد الذي أمسكه الكلب ونحوه ، قال عدي بن حاتم : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صيد البازي فقال في الحديث المتفق عليه بين أحمد والشيخين : «إذا أمسك عليك فكل». وذلك بشرط أن تكون الكلاب الجوارح

__________________

(١) العفائف الحرائر.

(٢) مهورهن.

(٣) متعفّفين بالزواج غير مجاهرين بالزّنا.

(٤) أي صديقات أو خليلات للزّنا سرّا.

(٥) ينكر شرائع الإسلام.

(٦) بطل ثواب عمله.

٤٣٢

والطيور معلّمة ، ومرسلة من الصائد لا من نفسها ، حتى يكون قتل الجارح للصيد ذكاة شرعية ، بأن ترسل الكلب أو الطير فيرسل ، وتزجره فينزجر ، وأن يذكر الصياد اسم الله فيقول : (باسم الله ، الله أكبر) وذلك شرط عند الجمهور غير الشافعية ، وبشرط ألا يأكل الكلب المعلم شيئا من الصيد في رأي الجمهور غير المالكية.

ثم أمر الله تعالى بالتقوى في الجملة وهي التزام الأوامر ، وذكّر سبحانه بسرعة الحساب لأنه تعالى قد أحاط بكل شيء علما ، فلا يحتاج إلى محاولة عدّ ، ويحاسب جميع الخلائق دفعة واحدة.

أحلّ الله من لحظة نزول هذه الآية الطيبات المستطابات ، وأحلّ للمسلمين أكل ذبائح أهل الكتاب ، وللكتابيين ذبائح المسلمين ، ولا تحل ذبائح المشركين عبدة الأصنام والأوثان ، ولا ذبائح المجوس ونحوهم ممن لا يدين بدين سماوي ، ولا التزوج بنسائهم.

وأباح الله لكم أيها المؤمنون التزوج بالحرائر المؤمنات ، والكتابيات العفيفات من اليهود والنصارى ، إذا آتيتموهن أجورهن ، أي مهورهن ، ويطلق لفظ الأجر في اللغة والشرع على المهر ، فيشترط إيتاء مهورهن ، وأن يقصد الإحصان والإعفاف ، لا سفح الماء عن طريق الزنى العلني ، ولا عن طريق الزنى السّري وهو اتّخاذ الأخدان. وقوله : (مُحْصِنِينَ) أي متزوّجين على السّنة بعقد زواج صحيح.

ثم حذّر الله من المخالفات ، ورغّب فيما تقدم من أحكام الحلال ، فذكر أن من يكفر وينكر شرائع الإسلام وتكاليفه ، ويجحد أصول الإيمان وفروعه ، فقد أبطل ثواب عمله ، وخاب في الدنيا ، وخسر في الآخرة ، أما في الدنيا فتضيع أعماله ولا يستفيد منها ، وأما في الآخرة فخسارته بالهلاك في نار جهنم. وقوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) معناه من يكفر بالأمور التي حقّها أن يقع الإيمان بها.

٤٣٣

فرائض الوضوء ومشروعية التّيمم

حرص الإسلام على نظافة الإنسان وطهارته ، فجعل فريضة الوضوء أمرا متجدّدا في اليوم أكثر من مرة لغسل الأعضاء التي تتعرض للأوساخ والغبار ، كلما أدى فرائض الصلوات الخمس ، كما فرض القرآن الكريم الغسل من الجنابة باحتلام أو وقاع لتنظيف جميع البدن في مناسبات تتكرر في الأسبوع ، وإذا لم يوجد الماء بسبب السفر ، أو أضرّ الماء بالجسم بسبب المرض ، جاز للمؤمن التيمم بالغبار عن الوضوء أو عن الغسل ، أو عن الحدث الأصغر والأكبر ، والتّيمم رخصة اضطرارية بضربتين على التراب : ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين ، والمهم في ذلك : قصد الطهارة ، لا أن ينقل التراب للأعضاء. قال الله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)) (١) (٢) (٣) (٤) [المائدة : ٥ / ٦ ـ ٧].

نزلت هذه الآية في التّيمم ، وكان الوضوء مفروضا في مكة قبل الهجرة ، فكأن الآية لم تزد المؤمنين فيه إلا تلاوته ، وإنما أعطتهم الفائدة والرخصة في التّيمم. نزلت في غزوة المريسيع ، روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت في هذه

__________________

(١) موضع قضاء الحاجة.

(٢) واقعتموهن أو لمستم بشرتهن.

(٣) ترابا طاهرا.

(٤) ضيق في دينه ومشقة.

٤٣٤

الغزوة : «.. ثم إن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استيقظ وحضرت الصبح ، فالتمس الماء ، فلم يوجد» فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ..) الآية.

وروى أحمد والبيهقي عن جابر ـ وهو حديث حسن ـ أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مفتاح الجنة الصلاة ، ومفتاح الصلاة الطّهور». وكان كثير من الصحابة ، منهم ابن عمر وغيره يتوضئون لكل صلاة ، انتدابا إلى فضيلة. وكذلك كان يفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم جمع بين صلاتين بوضوء واحد ، وفي فتح مكة جمع بين الصلوات الخمس بوضوء واحد. روى أبو داود والترمذي وابن ماجه أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من توضّأ على طهر ، كتب له عشر حسنات».

ومعنى الآيتين : يا أيها المؤمنون ، إذا أردتم القيام إلى الصلاة ، وأنتم محدثون ، فعليكم بالوضوء ، فإنه فرض أو شرط ، إذ لا يقبل الله صلاة بغير طهور.

وإذا كان المرء متوضئا كان الوضوء مندوبا ، لما روى رزين من حديث : «الوضوء على الوضوء نور».

وفرائض الوضوء في الآية أربعة : هي غسل الوجه من أعلى منابت شعر الرأس إلى أسفل الذقن ، وما بين الأذنين عرضا ، وغسل اليدين من رؤوس الأصابع إلى المرفقين ، والمرفق أعلى الذراع وأسفل العضد ، ويجب غسل المرفق. ومسح بعض الرأس كالربع ، أو كل الرأس ، وهو المطلوب عند المالكية والحنابلة ، وغسل الرجلين مع الكعبين : وهما العظمان الناتئان عند مفصل السّاق والقدم من الجانبين. وتطلب النّية والترتيب والموالاة والدّلك والمضمضة والاستنشاق على خلاف في فرضيتها عند أئمة المذاهب.

وينتقض الوضوء بالغائط والبول والريح والنوم ، ولمس المرأة بشهوة ، ومسّ الفرج بباطن الكف عند الجمهور غير الحنفية.

٤٣٥

فإن كنتم مرضى أو مسافرين أو أحدثتم أو واقعتم النساء ، ولم تجدوا ماء ، أو تضررتم باستعمال الماء ، فعليكم بالتيمم بأن ينوي الشخص فرض التّيمم ويمسح بوجهه ويديه إلى المرفقين ، والتّيمم مشروع لكل من الحدث الأصغر والأكبر.

ويجب الغسل : وهو تعميم البدن والرأس بالماء الطاهر ، في حال الجنابة باحتلام أو جماع أو ولادة أو حيض أو نفاس ، وتجب النّية في الغسل ، لقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا).

والمراد من تشريع الوضوء والتّيمم والغسل هو التيسير على الناس ، وإتمام النعمة ببيان طريق العبادة الصحيح المفضل ، وتطهير الأعضاء المعرضة عادة للتلوث بالوضوء ، وغسل جميع الجسم حال الجنابة ونحوها وهو ما يسمى بالحدث الأكبر ؛ لأنه يعتري الجسم بعد هذا الحدث استرخاء وفتور يزولان ، بالغسل ، والنظافة من الإيمان ، فبالغسل تنظّف ، وتجديد الحيوية والنشاط.

وهذه الأحكام المشروعة نعمة عظمي من الله تعالى لصالح المؤمن ، تستوجب الشكر والتقدير ؛ لأن فيها طهارة الأبدان وطهارة الأرواح معا ، ونعم الله كثيرة علينا أن نذكرها ، ومن أهمها التوفيق للإسلام وهداية القرآن وجمع الكلمة ، وعزّة الحياة ، كما علينا أن نذكر العهد المؤكد الذي أقررنا به أمام الله ، حينما كنا في عالم الذّر ، ومضمونه : الإيمان بالله والرسول ، والسمع والطاعة ، وتقوى الله بالتزام الأوامر واجتناب النواهي ، والله عليم بخفيات الأمور من الأسرار والنوايا التي في الصدور. وفي ذلك توجيه للإخلاص والبعد عن الرّياء في جميع الأعمال الدينية.

٤٣٦

أداء الشهادات والحقوق بالعدل

الإسلام دين الحق والعدل في كل شيء ، مع النفس والأهل والقرابة ، وجميع الناس حتى الأعداء ، والعدل قائم على الخشية من الله ، وتقوى الله في السّر والعلن ، والإيمان منبع كل فضيلة ، وللمؤمنين الصلحاء جنان الخلد ، وللكافرين المكذبين بآيات الله نيران الجحيم ، والتقوى والتّوكل على الله حصن ودرع متين من كل شرّ أو سوء ، وشكر النعمة الإلهية على العافية والأمن أمر واجب شرعا وعقلا وأدبا ، وكتمان الشهادة وشهادة الزور من أكبر الكبائر.

قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١)) (١) (٢) (٣) [المائدة : ٥ / ٨ ـ ١١].

نزلت الآية الأخيرة في رأي الجمهور حينما ذهب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يهود بني النّضير يستعينهم في دية رجلين قتلهما عمرو بن أمية الضّمري ورجل آخر معه حينما أخبراهما أنهما من الأعداء رهط عامر بن الطفيل الذي جنى على المسلمين وقتلهم في بئر معونة ، فنزل الرسول في ظل جدار ، فتآمر بنو النضير بينهم على قتله بإلقاء الجدار عليه ، فجاء جبريل عليه‌السلام وأخبره بخطتهم ، فقام من المكان وتوجّه إلى المدينة ، ونزلت الآية في ذلك.

ومعنى الآيات : يا أيها المؤمنون ، أتقنوا الأعمال وأخلصوا فيها لله ورسوله ،

__________________

(١) شاهدين بالعدل.

(٢) أي لا يحملنكم بغض أو كراهية قوم.

(٣) يبطشوا بكم بالقتل.

٤٣٧

وكونوا قائمين بالحق لله تعالى ، لا لأجل الناس والرياء ، وأدّوا الشهادة بالعدل التّام الذي لا محاباة فيه لقريب أو صديق ، ولا جور ؛ لأن العدل ميزان الحقوق ، وبه سعادة الأمم ، وطمأنينة الناس ، وبالظلم والجور تنتشر المفاسد ويختل النظام والأمن.

ولا يحملنكم بغض قوم وعداوتهم على ترك العدل فيهم ، بل التزموا العدل مع كل الناس ، الصديق أو العدو.

والعدل أقرب لاتّقاء الله والبعد عن المهالك والمعاصي ، واحذروا عقاب الله إن وقع منكم الجور والمحاباة ، فإن الله بصير بأعمالكم ، ومجازيكم عليها خيرا أو شرّا.

ثم بيّن الله جزاء المستقيمين ، وجزاء العصاة ، أما جزاء الأولين ، فإن الله وعد الذين آمنوا بالله ورسوله ، وعملوا صالح الأعمال التي أمروا بها مغفرة لذنوبهم ، أي سترا لها ، وأجرا عظيما وهو الجنة ذات الخلود الدائم في نعيمها. وأما العصاة الذين كفروا بالله وتوحيده ، وكذّبوا بالآيات الكونية والآيات التنزيلية على الرّسل وأهمها آيات القرآن ، فهم أصحاب النار الملازمون لها على الدوام.

والجمع بين هذا الوعد للمؤمنين والوعيد للكافرين هو من أسلوب القرآن الرائع ، ليظل الإنسان على وعي وتذكر تامّ لمصير الفريقين ، فيرغب في الإيمان والعمل الصالح ، ويرهب الوقوع في الكفر وتكذيب آيات الله.

ثم ذكّر الله المؤمنين والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنعمة مخصوصة تستوجب التّذكر الدائم على ممرّ الزمان وهي نعمة إنقاذ النّبي القائد ونجاته من مكر الأعداء وتآمرهم والتخطيط للفتك به ، سواء من يهود بني النضير ، أو من بني ثعلبة وبني محارب في بطن نخل ، في الغزوة السابعة : غزوة ذات الرقاع ، أو من غورث بن الحارث الذي شهر سيف النّبي الذي أخذه منه ، وهمّ بقتله ، وهو لا يخاف منه قائلا له : يمنعني الله منك وهو حديث صحيح.

٤٣٨

فيا أيها المؤمنون ، اذكروا نعم الله الكثيرة عليكم ، بعد التزام التقوى ، ومن أعظم تلك النعم أن الله تعالى حمى نبيّكم من فتك الأعداء ، وصانكم من القتل حيث كنتم قلة ، وأعداؤكم كثرة وقوة ، فمدّوا إليكم وإلى نبيّكم أيديهم وألسنتهم بالسوء ، ولكن الله أيّد رسوله ونصر دينه وأتم نوره ، وكفاكم الشّر والعدوان في أمر بني النضير وفي هزيمة الأحزاب في غزوة الخندق وغيرها ، فاتخذوا من تقوى الله وحده عدة وحصنا ، تنفعكم وتحميكم من الفتن والشرور وعذاب الله ، وتوكلوا على الله وحده حق التوكل ، بعد اتّخاذ الأسباب الدنيوية الواقية من السوء ، فمن اتّقى الله وتوكّل عليه ، حماه من شر الناس وعصمه ، وكفاه الله ما أهمه ، ولا تخشوا الأعداء ولا يغرنكم كيدهم وتفننهم في أساليب الخراب والدمار ، فالله معكم وناصركم إن كنتم مؤمنين.

نقض أهل الكتاب المواثيق والعهود الدينية

إن الوفاء بالعهود الدينية وتنفيذ الواجبات الإلهية سبب لتكفير السيئات ودخول الجنات ، والظفر برضوان الله تعالى ؛ لأنه دليل الإيمان الصحيح وصدق التّدين وقوة الوازع الديني ، والإخلال بهذه العهود مؤد للعنة الإلهية والطرد من رحمة الله ، وقسوة القلوب وجمود النفوس ، ونشوب الخصومات والعداوات وإيقاع البغضاء بين خائني العهد في الدنيا ، والجزاء الأليم في نار جهنم في عالم الآخرة.

قال الله تعالى مبيّنا هذه الظواهر بين أهل الكتاب ليتّعظ بها المسلمون وغيرهم : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ (١) (٢)

__________________

(١) النقيب : كبير القوم المتكفل بالوفاء بالعهد والذي يعنى بشؤون قومه ورعاية مصالحهم.

(٢) عزرتموهم : نصرتموهم ومنعتم عنهم الأعداء.

٤٣٩

وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) [المائدة : ٥ / ١٢ ـ ١٤].

يخبر الله تعالى في هذه الآيات عن نقض الإسرائيليين مواثيق الله تعالى ، فلقد أخذ الله العهود والمواثيق على بني إسرائيل بواسطة نبيّهم موسى عليه‌السلام ، ليعملن بالتوراة ، وأمرناه أن يختار اثني عشر نقيبا منهم ، يتولون شؤون الأسباط (ذرية يعقوب) ويرعونهم ، ويتحسسون أخبار أعدائهم ليقاتلوهم ، فخان عشرة منهم العهد ، وبقي اثنان ، وأخبر الله على لسان موسى : أني مؤيّدكم وناصركم على عدوكم ، ومطّلع عليكم ومجازيكم على أعمالكم.

ومضمون الميثاق أو العهد الإلهي الشامل : لئن أقمتم الصلاة بشروطها وأدّيتموها أداء كاملا تامّا ، وآتيتم الزكاة للمستحقّين وهو شيء من المال كان مفروضا عليهم ، وآمنتم إيمانا صادقا برسلي وناصرتموهم ، وأقرضتم القرض الحسن من غير ربا ولا فائدة ، لأكفرن عنكم سيئاتكم ، ولأدخلنكم جنات تجري من تحت غرفها وبساتينها الأنهار ، فمن جحد منكم شيئا من هذه الأوامر ، وخالف مقتضى الميثاق بعد عقده

__________________

(١) إقراضا بطيب النفس.

(٢) يغيرونه أو يؤولونه بالباطل.

(٣) تركوا نصيبا وافيا.

(٤) خيانة وغدر.

(٥) أوقعنا وهيّجنا.

٤٤٠