التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0523-3
الصفحات: ٦٧١

نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً (١٢٢)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) [النساء : ٤ / ١١٦ ـ ١٢٢].

الشرك : هو منتهى فساد الروح ، وضلال العقول ، والانحراف عن أخطر قضية في هذا العالم وهو الإيمان بالله الواحد الأحد ، فهو ظلم وافتئات على الحقيقة ، وإيغال في الكفر وجحود نعمة الله على المخلوقات جميعا. لذا أعلن القرآن الكريم أن الله عزوجل لا يغفر جريمة الشرك بالله أصلا ، ويغفر غيره من الذنوب والخطايا لمن يشاء ، وهذا تحذير لأهل الضلال ، وإطماع لأهل الإيمان بفضل الله وإحسانه ، ومن أشرك بالله بالقول أو الفعل أو الاتجاه أو التقديس ، فقد ضل ضلالا بعيدا عن الخير والرشد.

وأما الشيطان : فهو داعية الشر والفساد ، ورأس الكفر والضلال ، طرده الله من رحمته ، وعباد الأوثان والأصنام لا يعبدون بدعائهم إياها إلا أسماء مؤنثة كاللات والعزى ، ومناة ، ونائلة ، وهي مؤنثات ضعيفات لا تعقل ، وجمادات وأخشاب لا تدرك ، وما يعبدون بتعظيمها إلا شيطانا متمرنا على الإيذاء ، متدربا على الخبائث ، متمردا على القيم الخيرة ، فهو الذي أمر الوثنيين بعبادة تلك الأصنام ، فكانت طاعتهم للشيطان عبادة له.

__________________

(١) مقطوعا لي به.

(٢) أي يقطعن آذان الأنعام لتميزها للآلهة.

(٣) خداعا.

(٤) أي مهربا ومخلصا.

(٥) أي قولا.

٣٨١

ومهام الشيطان كثيرة كما ذكرت الآيات : أولها : محاولة اتخاذ جزء معلوم من الناس تلامذة له ، وخلصاء وأعوانا بإغوائه وإضلاله ، وهم الكفرة والعصاة.

ثانيا : إضلال الناس ، أي صرفهم عن الحق وطريق الهدى وعن الاعتقاد الصحيح.

ثالثا : الوعد بالأماني الباطلة ، والعيش في خيال الآمال الوهمية ، والأمر بالتسويف والتأخير ، وتزيين اللذات ، وترك التوبة.

رابعا : الأمر بتقطيع وتشقيق آذان الأنعام (المواشي) للآلهة الأصنام كالبحيرة التي يتركون الحمل عليها بوسمها بعلامة معينة ، والناقة السائبة التي يسيبونها للأصنام إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث ، والوصيلة التي ولدت جديا وعناقا ، فلا يذبحون أخاها من أجلها وصلتها.

خامسا : أمر الناس بتغيير خلق الله وفطرته التي فطر الناس عليها : وهي الاهتداء إلى الحق والدين الصحيح ، والتغيير يكون بإخصاء البهائم والوشم في الوجه ونحوهما مما فيه تشوية الفطرة وتغييرها عما فطرت عليه.

ثم أوضح الله تعالى أن وعود الشيطان وأمانيه المعسولة كلها خيالات وأوهام وأباطيل ، فهو يعدهم بالمال والجاه وأن لا بعث ولا عقاب ونحو ذلك ، لكل أحد ما يليق بحاله ، وما تلك الأماني الواسعة الكاذبة إلا تغرير وباطل لا حقيقة له ولا استقرار ولا وجود.

وبعد أن حذر القرآن من ألوان وساوس الشيطان وتفنيد مهامه ومخططاته ، رغّب المؤمنين بالإيمان الصادق الخالص ، وحرّضهم على العمل الصالح : وهو فعل ما أمر الله به من الأعمال الطيبة والأمور الخيرية ، وترك ما نهى عنه من المنكرات. ووعد هؤلاء المؤمنين العاملين بجنان الخلد إلى الأبد التي تجري الأنهار من تحت غرفها

٣٨٢

وبساتينها ، وذلك الوعد الإلهي وعد حق ، وصدق قاطع ، ومن أصدق من الله حديثا ووعدا؟ أي لا أحد أصدق منه خبرا ؛ لأنه القادر على كل شيء.

الأماني والعمل

ينخدع كثير من الناس في هذه الحياة ، فيظنون أن تحقيق الآمال في الدنيا أو في الآخرة بمجرد التمنيات والأماني النفسية ، ويتركون العمل الصالح الطيب ويركنون إلى الكسل والتقاعس ، ويطمئنون إلى وعود الشيطان بالباطل التي يمنّي فيها بعض الناس بالأماني الكاذبة.

وقد نزل القرآن مفندا الاعتماد على مثل هذه التمنيات ، وباعثا حب العمل ، ومحركا النفوس البشرية للإقبال على العمل الصالح ، ليظفروا بالسعادة والغايات السامية ، وتحقيق المطالب المنشودة.

قال الله تعالى : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦)) (١) (٢) (٣) [النساء : ٤ / ١٢٣ ـ ١٢٦].

تعدّد سبب نزول هذه الآيات ، فقال ابن عباس : قالت اليهود والنصارى : لا يدخل الجنة غيرنا ، وقالت قريش : إنا لا نبعث يوم القيامة. فأنزل الله : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ ..) أي فالخطاب لكفار قريش.

__________________

(١) النقير : هو قدر النقرة في ظهر النواة ، ويضرب بها المثل في القلة.

(٢) أخلص نفسه لله.

(٣) مائلا عن الباطل إلى الدين الحق.

٣٨٣

وقال مسروق وغيره : سبب الآية أن المؤمنين اختلفوا مع قوم من أهل الكتاب ، فقال أهل الكتاب : ديننا أقدم من دينكم وأفضل ، ونبينا قبل نبيكم ، فنحن أفضل منكم ، وقال المؤمنون : كتابنا يقضي على الكتب ، ونبينا خاتم النبيين ، فنزلت الآية ، أي فالخطاب لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والمعنى : ليس تحقيق المطالب ومنها الثواب يوم القيامة يحصل بالأماني منكم أيها المسلمون ، ولا أنتم أهل الكتاب وكفار قريش ، ولكن الجزاء منوط بالعمل ، والثواب المعد في الآخرة مرتبط بالاعتقاد الصحيح ، والعمل الصالح ، والعبرة بطاعة الله عزوجل واتباع ما شرعه على ألسنة الرسل الكرام.

فمن يعمل سوءا يجز به ؛ لأن الجزاء أثر للعمل ، كما قال الله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)) [الزلزلة : ٩٩ / ٧ ـ ٨]

وفاعل السوء لا نجاة له يوم القيامة ، ولا يجد له شفيعا ينقذه ، ولا وليا يتولى أمره ، ولا ناصرا ينصره ويدفع عنه شيئا من عذاب الله.

وهذا كله لمن كفر بالله وجحد بنعمه ، فجزاء السوء أمر حتمي لكل كافر ، كما قال الله تعالى : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ (١٧)) [سبأ : ٣٤ / ١٧]. أما المؤمنون الصالحون فإن الله وعد المؤمنين أن يكفر عنهم سيئاتهم إذا تابوا وأنابوا ، وقد تكون بعض الحوادث مكفرة الخطايا لأهل الإيمان ، مثل الأمراض والبلايا والمصائب في الدنيا ، وهموم الحياة ومخاوفها.

وتكون العقيدة : أن الكافر مجازي على سيئات أعماله ، والمؤمن يجازى في الدنيا غالبا على سوء عمله ، فمن بقي له سوء إلى الآخرة فهو متروك إلى مشيئة الله تعالى ، يغفر الله لمن يشاء ، ويجازي من يشاء. وقانون القرآن في قبول الله تعالى الأعمال

٣٨٤

الصالحة والأفعال الخيرة مرتكز على قاعدة الإيمان الصحيح بالله تعالى ، فمن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وعمل صالح الأعمال التي أمر الله بها ، لا فرق بين ذكر وأنثى ، فأولئك لا غيرهم يدخلون الجنة ، دون أن ينقص من ثواب عملهم شيء مهما كان قليلا ، والله أرحم الراحمين لا يظلم العباد ، ولا يزيد في عقاب المقصرين.

وبعد أن بين الله سبحانه أن الجزاء منوط بالعمل والإيمان ، لا بالأماني المعسولة والتمنيات الموهومة الكاذبة ، أوضح لجميع الناس أنه لا أحسن دينا ممن أخلص مقصده وتوجهه لله ، وأحسن في أعماله ، واتبع ملة التوحيد الحنيفية التي هي ملة إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، وقد سمى الله إبراهيم خليلا لإخلاصه لربه في عبادته ، واجتهاده في مرضاة خالقه ، وتفانيه في حب الله والإيمان به.

ثم أعلمنا القرآن الكريم عن إحاطة علم الله بكل شيء في هذا العالم ، يعلم بأعمال جميع العباد ، وهو سبحانه واسع الملك ، له جميع ما في السماوات والأرض ملكا وخلقا وتصريفا وعبيدا ، فهو القادر على جزاء العاملين خيرا وشرا ، إذ الكل ملكه ، ولا يخرج أحد عن سلطانه وملكوته ، وهو وحده المستحق للطاعة والعبادة لأنه المالك ، وما عداه مملوك.

رعاية اليتامى والضعفاء

إن من أخص ما تميزت به شريعة الإسلام أنها شريعة المستضعفين من النساء والأولاد والكبار العاجزين والفتيان المعاقين والمشوهين وأصحاب العاهات والأمراض ، لأنها شريعة الرحمة العامة بالعالمين من الجن والإنس ، وشريعة الإنقاذ والأخذ بيد الضعيف ، ليصبح في رتبة مساوية أو مقاربة لغيره ، لا ينتقصه أحد شيئا من حقوقه ، وإنما ينال حظه المقرر له في هذه الدنيا.

٣٨٥

أما المستكبرون والمتجبرون أو العتاة والظلمة ، فالقرآن يشفق عليهم ، ويعالج أمراضهم إما بالتهديد والوعيد أحيانا ، وإما بتذكيرهم بحقوق الآخرين عليهم ، وإما بإثارة العواطف الإنسانية الخفية في مشاعرهم وإحساساتهم.

ومن مظاهر الظلم الدفين الذي يشيع أحيانا ، ولا يحس الناس بخطره ولا نجد له علاجا اجتماعيا حاسما : إلحاق الظلم بحقوق النساء من الزوجات والبنات والأخوات في المواريث واقتسام التركات ، فيكاد المستأثر بالحظ الأوفى هم الرجال ، وحرمان النساء أو انتقاص حقوقهن ، لذا قال الله تعالى مبينا علاج هذه الظاهرة :

(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧)) (١) [النساء : ٤ / ١٢٧].

نزلت هذه الآية بسبب سؤال قوم من الصحابة عن أمر النساء وأحكامهن في المواريث وغير ذلك.

روى البخاري عن عائشة في سبب نزول هذه الآية قالت : هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها ، قد شركته في مالها ، حتى في العذق (النخلة بحملها) فيرغب عن أن ينكحها ، ويكره أن يزوجها رجلا ، فيشركه في مالها ، فيعضلها (يمنعها عن الزواج) فنزلت. وروى ابن أبي حاتم عن السدّي : كان لجابر بنت عم دميمة ، ولها مال ورثته عن أبيها ، وكان جابر يرغب عن نكاحها ، ولا ينكحها خشية أن يذهب الزوج بمالها ، فسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، فنزلت.

__________________

(١) بالعدل.

٣٨٦

ومعنى الآية : يطلب الفتوى منك أيها النبي النساء ، في حقوقهن الشاملة للميراث وحقوق الزوجية المالية وغيرها ، كالعدل في المعاملة بين الزوجات ، والعشرة الطيبة ، وعلاج حالة النشوز ، فأمر الله نبيه أن يقول لهم : (اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ) أي يبين لكم حكم ما سألتم عنه ، ويوضح لكم أيضا أحكاما أخرى في المتلو عليكم في القرآن الكريم ، مثلما تقدم في أوائل سورة النساء من وحدة الناس في الإنسانية ، ما داموا قد خلقوا من نفس واحدة هي آدم عليه‌السلام ، وأحكام معاملة النساء في المواريث ، وتعدد الزوجات في قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) [النساء : ٤ / ٣] وأحكام إيتاء أموال اليتامى عند البلوغ من غير تردد ولا تباطؤ في قوله تعالى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢)) [النساء : ٤ / ٢] أي إثما عظيما.

ويبين الله لكم ما يتلى عليكم في شأن اليتيمات المستضعفات اللاتي لا تعطونهن ما فرض لهن من ميراث ومهر (صداق). وهذا نهي صريح وتحريم لما كانت العرب تفعله من ضم اليتيمة الجميلة الغنية من دون ما تستحقه من المهر ، ومن منع (عضل) الدميمة الفقيرة أو الغنية من الزواج أبدا حتى تموت ، فيرثها الولي العاضل (المانع لها من الزواج) بقصد تحقيق منفعة نفسه ، لا نفع اليتيمة. والذي كتب (فرض) الله لهن : هو توفية ما تستحقه من مهر ، وإلحاقها بأقرانها.

ويبين الله لكم كذلك ما يتلى عليكم في شأن المستضعفين من الأولاد الذين لا تعطونهن حقهم في الميراث في قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [النساء : ٤ / ١١].

والله يرشدكم إلى القيام بأداء حقوق هؤلاء اليتامى من هؤلاء النساء ، والولدان الضعفاء بالحق والعدل ، وأن تعتنوا بهم عناية خاصة ، وما تفعلوا من خير قليل أو

٣٨٧

كثير ، فإن الله به عليم ، فسيجازيكم عليه أحسن الجزاء ، وما تفعلوا من شر قليل أو كثير ، فإن الله به عليم أيضا ، ومجازيكم عليه.

يذكّر الله تعالى بالآيات السابقة ليتدبر الناس معناها ، ويوجب عليهم معاملة اليتامى والضعفاء بمبدإ العدل ، والإسلام في كل ما شرع وحكم : دين العدل والإنصاف ، وعلى المؤمنين التزام هذا المبدأ في القضاء والأحكام وفي المعاملات الخاصة بالإشراف على شؤون المستضعفين والصغار والنساء.

الإصلاح بين الزوجين والعدل بين النساء

كثيرا ما يقع النزاع وسوء التفاهم بين الزوجين ، لا سيما في السنة الأولى وما بعدها عقب الزواج ، وطريق إزالة الخلاف تقريب وجهات النظر والإصلاح بين الزوجين من قبل أنفسهما أو غيرهما بالحكمة والحق والعدل دون إلحاق جور بأحدهما أو ميل له ، فإن العدل أساس سلامة الحل ودوام العشرة الزوجية دون نزاع أو خصام يذكر.

كذلك تعد المعاملة الطيبة الكريمة والكلمة الحسنة اللطيفة أمرا مطلوبا شرعا لا يستغنى عنه.

والله تعالى أنزل في القرآن الكريم ما يرشد إلى الصلح والعدل في معاملة النساء ، فقال سبحانه : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ (١) (٢) (٣) (٤) (٥)

__________________

(١) زوجها.

(٢) نفورا ظلما.

(٣) أي لا إثم.

(٤) البخل مع الحرص.

(٥) لن تتمكنوا من العدل التام.

٣٨٨

فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠)) (١) [النساء : ٤ / ١٢٨ ـ ١٣٠].

وسبب نزول آية (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً) : ما روى الترمذي عن ابن عباس أنها نزلت بسبب سودة بنت زمعة ـ زوجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : لا تطلقني وأمسكني ، واجعل يومي منك لعائشة ، ففعل ، فنزلت : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) فما اصطلحا عليه فهو جائز.

هذه الآية حكم من الله تعالى في أمر المرأة التي تكون متقدمة في السن أو دميمة أو نحو ذلك مما يرغب زوجها عنها ، فإذا أرادت المرأة الصبر والبقاء في عصمة الزوج ، ولا تتضر بذلك ، فلها أن تتصالح مع الرجل على أمر ما ، لإبقاء رابطة الزواج المقدسة ، ولأن الطلاق أبغض الحلال إلى الله ، وقد يكون الصلح بتنازل المرأة عن بعض حقوقها أو كل حقوقها ، لتبقى في عصمة زوجها ، أو تمنحه شيئا من مالها ليطلقها من طريق ما يسمى بالخلع أو عوض الخلع : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) والصلح خير من الفراق والطلاق ، أو من النشوز والإعراض وسوء العشرة ، بل هو خير من الخصومة في كل شيء حفاظا على الرابطة الزوجية ، ومنعا من هدم كيان الأسرة وإلحاق الضرر بالأولاد.

وإن تحسنوا أيها الأزواج البقاء مع نسائكم وإن كرهتموهن ، وتصبروا على ما تكرهون ، مراعاة لحق الصحبة ، وتحسنوا المعاشرة فيما بينكم ، وتتقوا النشوز والإعراض ، وما يؤدي إلى الأذى والخصومة ، فإن الله كان بما تعملون من الإحسان والتقوى خبيرا عليما لا يخفى عليه شيء ، فيجازيكم ويثيبكم عليه.

__________________

(١) لا هي زوجة ولا مطلقة.

٣٨٩

ثم أبان الله تعالى أن الإنسان عاجز عن تحقيق العدل التام على الإطلاق ، المستوي في الأفعال والأقوال والمحبة وغير ذلك ، فخفف الله التكليف بالعدل التام ، وطالب الرجال بقدر الاستطاعة ، ففي الأمور المادية كالمبيت والنفقة والكسوة والكلمة الطيبة يتمكن الرجل من تحقيق العدل فيها ، أما الأمور غير المادية كالحب والميل لامرأة دون أخرى وغير ذلك مما يرجع إلى الشعور النفسي وميل القلب ، فلا يستطيع الرجل تحقيق العدل فيها ، فكلف الله الرجال بما يستطيعونه وهو العدل المادي ، ورفع عنهم الحرج والمشقة فيما لا يستطيعونه من الحب والاشتهاء والأمور النفسية ، فإن الحب والبغض غير مقدور للإنسان ، فلا يكون مكلفا به ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أصحاب السنن الأربعة : «اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك».

ولكن لا تميلوا كل الميل أيها الرجال ، بحيث تترك المرأة الثانية كالمعلّقة لا هي مطلقة ، ولا هي متزوجة ، بل عليكم إرضاؤها وحسن عشرتها ومحاربة الميول الجارفة لضرّتها ، حتى لا تتألم.

وإن لم ينفع الصلح وعلاج سوء التفاهم واستعصت الحلول ، فلا مانع من الفراق ، والله يتكفل كلا من الزوجين بالتعويض عما لحق به من أذى ، فيغني الرجل عن المرأة ، ويغنيها عنه ، بأن يعوضه الله من هو خير له منها ، ويعوضها عنه بمن هو خير لها منه ، وكان الله واسع الفضل ، عظيم المن والإكرام والإحسان ، حكيما في جميع أفعاله وأقداره وشرعه.

كمال القدرة الإلهية

لا يمكن للعقل الإنساني أن يحيط بتمام وكمال القدرة الإلهية ؛ لأن عقل الإنسان محدود ، والقدرة الإلهية غير محدودة ، والعقل قاصر ، وقدرة الله تامة شاملة ، وإنما

٣٩٠

قرّب القرآن الكريم كيفية تصور القدرة الإلهية بما يحيط بنا من العالم المشاهد المحسوس الذي ندركه ، ونتعامل معه ونحس به ، ويكفينا تقريب المفاهيم لنعلم أن الله جل جلاله هو خالق الكون ، المتصف بالتوحيد ، القوي القادر القاهر الذي لا يغلب ، المحيط علمه بجميع المخلوقات صغيرها وكبيرها.

قال الله تعالى مدللا على عظمته وقدرته التامة : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤)) [النساء : ٤ / ١٣١ ـ ١٣٤].

يخبر الله تعالى : أنه مالك السماوات والأرض ، والحاكم المتصرف فيهما ، وأن جميع ما فيهما له سبحانه ملكا وخلقا وإيجادا وتصريفا وعبيدا ، له الحكم المطلق ولله الأمر جميعا ، والخلق في نهاية العالم راجعون إليه للحساب والجزاء ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

ولقد أمر الله أهل الكتاب أصحاب التوراة والإنجيل والزبور ، وأمر جميع المسلمين والمؤمنين في هذا العالم بتقوى الله عزوجل ، بامتثال ما أمر به ، واجتناب ما نهى عنه ، وهذا الأمر لعباد الله أو الوصية الإلهية بالتقوى لم يزل ولم تزل موجودين ، فالوصية بذلك قائمة منذ أوجد الله الخلق ، وهذا دليل واضح على أن الأديان كلها متفقة على مبدأ التوحيد وتقوى الله ، ومختلفة في الجزئيات والفروع تبعا للزمان والمكان.

ثم هدد الله جميع العباد بأنهم إن كفروا بالله ، فليعلموا أن لله جميع ما في

٣٩١

السماوات والأرض ، وهو سبحانه الغني عن خلقه وعن كل شيء ، وعن عبادتهم جميعا ، وهو المستحق لأن يحمد بذاته وكمال صفاته لكثرة نعمه ، وإن لم يحمد أحد منهم : قال الله تعالى : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨)) [الذاريات : ٥١ / ٥٧ ـ ٥٨].

ثم أكد الله تعالى القول والتنبيه للعباد بأنه المالك المتفرد لجميع السماوات والأرض خلقا وملكا يتصرف فيهما كيف شاء إيجادا وإعداما ، إحياء وإماتة ، وكفى بالله وكيلا ، أي قائما بالأمور كلها ، المنفذ فيها ما رآه في سائر شؤون العباد.

والمراد بقوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي أن من كان بسعيه وعمله وجهاده يريد ثواب الدنيا ، أي نعيمها بالمال والجاه والمتع الدنيوية ، ولا يعتقد أن هناك نعيما سواه ، فليس الأمر كما يظن ، بل عند الله ثواب الدارين : الدنيا والآخرة ، فمن قصد الدنيا فقط ، أعطاه الله من الدنيا ما قدّر له ، وكان له في الآخرة العذاب ، كالمجاهد الذي يريد بجهاده الغنيمة فقط أو نصرة راية غير إسلامية ، فيأخذ الغنيمة ويحقق المطمع الدنيوي الرخيص ، وليس له في عالم القيامة إلا النار ، وكان الله سميعا لكل قول ، بصيرا بكل قصد وعمل ، فعلى الإنسان أن يخلص في عمله لله تعالى ، ويكون قصده إرضاء الله عزوجل ، ولا مانع أن يقصد بعمله وجهاده معا ثواب الدنيا ومكافأتها ، وثواب الآخرة ونعيمها الخالد في الجنة.

وهذه الآية مثل قوله تعالى : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ(١) (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ

__________________

(١) أي نصيب.

٣٩٢

الْحِسابِ (٢٠٢)) [البقرة : ٢ / ٢٠٠ ـ ٢٠٢]. وقال سبحانه أيضا : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠)) [الشورى : ٤٢ / ٢٠].

والدعوة للعمل لخيري الدنيا والآخرة دليل على أن الإسلام كفل لأتباعه وكل من سار على هديه سعادة الدنيا والآخرة ، وهذا المنهاج المتوازن والخط المعتدل هو قوام الحياة الإسلامية ـ القرآنية التي تعتمد الدنيا وسيلة ومزرعة ، والآخرة مقصدا وغاية ، والله يحب المحسنين أعمالهم في دنياهم ، وينشدون ثواب الله في آخرتهم.

واجب الشهود في شهاداتهم

لم نجد كالإسلام دينا يركز على مبدأ الحق والعدل في كل شيء ، في المعاملة والتعاقد ، والقضاء والشهادة ، والحكم بين الناس ؛ لأن قوام المجتمع لا يكون إلا بالعدل ، وسعادة الأفراد والجماعات لا تتوفر إلا بالعدل ، ولن يحفظ النظام وتنضبط شؤون الملك والدنيا وأحوال أهلها إلا بالعدل ، فالعدل أساس الملك الدائم ، وقاعدة الاطمئنان والاستقرار.

والعدل في القرآن الكريم قائم على قاعدة الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، إذ لا ثواب عند الله تعالى ولا احترام لمبدأ الحق والعدل إلا إذا كان العمل كله مبنيّا على أصول الإيمان التي ذكرناها.

قال الله تعالى آمرا القضاة والشهود بالعدل ، ومذكّرا بالإيمان وقواعده : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ (١)

__________________

(١) مبالغين في القيام بالشيء على أتم وجه.

٣٩٣

يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦)) (١) (٢) [النساء : ٤ / ١٣٥ ـ ١٣٦].

قال السّدّي : لما نزلت آية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ) في النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اختصم إليه رجلان : غني وفقير ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الفقير ، يرى أن الفقير لا يظلم الغني ، فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط في الغني والفقير.

الأمر بالعدل إذن عام شامل الناس جميعا ، لا فرق بين غني وفقير ، ولا بين عالم وجاهل ، ولا بين مسلم وغير مسلم ، ولا بين كبير وصغير ، يأمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يلتزموا العدل في كل شيء ، في أقوالهم وأفعالهم ، وأن يتعاونوا ويتعاضدوا في إقامة العدل ، دون أن تأخذهم في الله لومة لائم.

ومن أخصّ ما يطلب فيه العدل : الحكم بين الناس ، والقضاء في الخصومات ، وأداء الشهادات أمام القاضي وغيره ، فعلى القائمين بهذه الوظائف أن يعملوا بالحق ، ويشهدوا بالحق ، ويتحرّوا الحق الذي يرضي الله تعالى ، ويؤدّوا العمل أو الشهادة ابتغاء وجه الله ، لتكون الشهادة صحيحة عادلة حقّا ، من غير مراعاة أحد ولا محاباة.

إن نبراس العمل وأساس الشهادة بالحق المجرد ، ولو كانت الشهادة على النفس والأقربين ، ويكون ذلك بالإقرار بالحق وعدم كتمانه ، فمن أقرّ على نفسه بحق ، فقد شهد عليها ؛ لأن الشهادة إظهار الحق.

__________________

(١) كراهة أن تعدلوا عن الحق.

(٢) تتركوا إقامتها.

٣٩٤

والشهادة بالحق على النفس والوالدين والأقارب أمر واجب ، ولو عاد ضررها على هؤلاء ؛ لأن الإحسان إلى النفس والقرابة وبرّ الوالدين ، لا يكون بالظلم والانحراف عن الحق ، بل الإحسان والخير والبر وصلة القرابة في الحق والمعروف.

وليس للشاهد أن يراعي غنيّا لغناه أو يرحم فقيرا لفقره ، بل يترك الأمر كله لله ، فالله يتولى أمر الغني والفقير.

وليس للشهود اتّباع الهوى والمحاباة ، لئلا يعدلوا عن الحق إلى الباطل ، إذ في الهوى والمحاباة الزّلل والضّرر ، فلا يجوز أن تؤدي العصبية وهوى النفس وبغض الناس إلى الظلم وترك العدل في الأمور والشؤون كلها ، وإنما الواجب التزام العدل على أي حال ، كما قال تعالى مبيّنا وجوب العدل حتى مع الأعداء : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) (١) (عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى). [المائدة : ٥ / ٨].

وإن تلووا ألسنتكم بالشهادة وتحرّفوها أو تعرضوا عن إقامة الشهادة وتكتموها ، فاعلموا أن الله خبير بأعمالكم ومجازيكم عليها.

ثم أمر الله المؤمنين بالثبات والدوام على الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، دون تفرقة بين الكتب السابقة والقرآن العظيم ؛ لأن جميع الكتب الإلهية منزّلة من عند الله تعالى ، ومن يجحد وينكر وجود الله ووحدانيته ، ولا يصدق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، فقد ضلّ ضلالا بعيدا ، وانحرف عن جادة الحق ، ونور الهدى ، وخرج عن المطلوب خروجا شديدا وبعيدا كل البعد عن الصواب والسّداد.

__________________

(١) أي لا يحملنكم كراهية قوم على ترك العدل معهم.

٣٩٥

صفات المنافقين

قصّ الله تعالى علينا في قرآنه المجيد أخبار المنافقين وذكر صفاتهم ، حتى نحذرها ولا نتشبّه بهم ولا نتورّط بمثل أعمالهم الشنيعة ، فمن صفات المنافقين التي هي أشدّ ضررا على المؤمنين : موالاتهم ومناصرتهم الكفار ، وتركهم ومعاداتهم المؤمنين ، نبّه سبحانه على فساد ذلك ليدعه من يقع في نوع منه غفلة أو جهالة أو مسامحة. وأرشد الله تعالى إلى سبب توبيخهم ونقطة ضعفهم : وهو طلب العزة والاستكثار والتقوّي بغير المؤمنين ، والأمر ليس كذلك ، بل العزّة كلها لله تعالى ، يؤتيها من يشاء ، وقد وعد بها المؤمنين ، وجعل العاقبة للمتقين.

قال الله تعالى مبيّنا صفات المنافقين القبيحة : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١)) (١) (٢) (٣) (٤) [النساء : ٤ / ١٣٧ ـ ١٤١].

عجيب وغريب أمر هؤلاء المنافقين ، لا يحترمون أنفسهم ، وكأنهم وحدهم يعيشون في هذا العالم ، في سطحية وسذاجة ، فهم أغرار وجهلاء بالحقيقة ، يتذبذبون ويتردّدون بين أهل الإيمان وأهل الكفر ، لا مرة واحدة ، بل مرات متعددة ، فتراهم

__________________

(١) المنعة والقوة.

(٢) ينتظرون بكم الأحداث.

(٣) نصر.

(٤) نغلبكم.

٣٩٦

يؤمنون أحيانا بالله ورسوله ، ثم يكفرون ، ثم يؤمنون ثم يكفرون ، ثم يزدادون كفرا ويتغالون ويتمادون في الكفر ، ثم يموتون على الكفر ، فهؤلاء طبعا وعقلا وشرعا لا يغفر الله لهم ، ولا يرشدهم ولا يهديهم إلى الخير.

وأنذر يا محمد هؤلاء المنافقين بأن لهم عذابا مؤلما في الدّرك الأسفل من النار ، وإنما قال الله : (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ) والمراد أنذر ، وذلك على سبيل التّهكم بهم.

ومن صفات المنافقين أيضا : أنهم كانوا يتخذون الكافرين أولياء وأنصارا وأعوانا ، ويتجاوزون ولاية المؤمنين ويتركونها ، ظنّا منهم أن الغلبة ستكون للكفار ، ولم يدروا أن العاقبة للمتقين ؛ لأن الله معهم ، أيطلبون الاعتزاز والاستكثار بالكفار؟ ليس الأمر كذلك ، لقد كذبوا وافتروا ، بل العزة كلها لله ، أي القوة والمنعة والمجد لله في الدنيا والآخرة ، وهو يؤتيها من يشاء ، والمراد أن العزة في النهاية تكون لأولياء الله الذين كتب لهم العز والغلبة والنصرة على الأعداء.

ثم حذّر الله جميع الناس من تجاوز آيات الله وأحكامه ، فقد أنزل الله على جميع من أظهر الإيمان من محقق صادق ومنافق كاذب أنه ينبغي عليهم عند سماع الاستهزاء بآيات الله والكفر بها أن لا يجلسوا في مجالس الكافرين ، ولا يتكلموا معهم حتى يتحدثوا في حديث آخر ، فإنهم إن جلسوا في هذه المجالس ، كانوا شركاء في الكفر ، لرضاهم بكلامهم ، وسكوتهم عن إنكار منكرهم ، كما قال الله تعالى في آية أخرى : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) [الأنعام : ٦ / ٦٨]. إن هذا التحذير من مجالسة المستهزئين بآيات الله تنبيه مخلص لأهل الإيمان الحق ، لأن الله جامع الكافرين والمنافقين في جهنم جميعا.

ومن صفات المنافقين : أنهم ينتظرون ما يحدث للمؤمنين من خير أو شرّ ، فإن تحقق نصر للمؤمنين وفتح وغنيمة قالوا زاعمين : إنا كنا معكم مؤيّدين ومظاهرين ،

٣٩٧

فأعطونا من الغنائم ، وإن كان للكافرين نصيب من الظفر ، كما حصل يوم أحد ، قالوا لهم : ألم نغلبكم على أمركم ونتمكّن من قتلكم وأسركم ، فأبقينا عليكم ، وحميناكم ومنعناكم من المؤمنين بتخذيلهم وإذاعة الأخبار التي تثبط قلوبهم وتلقي الرّعب فيهم ، لكن ذلك لا يخفى على الله ، فالله يحكم بينكم يوم القيامة ، فيجازي كلّا على عمله ، فريق في الجنة ، وفريق في السعير ، ثم بشّرنا الله بأنه لن يمكّن الكافرين من استئصال المؤمنين ، والتّغلب على أمرهم. وهذا يعني أنه إن تحقق الإيمان الحق ، تحقق وعد الله بالنصر والغلبة على الأعداء ، والله مع الصابرين.

أسباب ذمّ المنافقين

الإيمان بالله والإسلام قوة ورجولة ، والكفر والنفاق ضعف وانهزام ، وليس أسوأ على الرجل من فقد الرجولة وضعف الشخصية ، وانعدام الأصالة والجرأة ، لذا وجّه الله تعالى أقبح وأشدّ اللوم للمنافقين ، وكانت أهم المطاعن فيهم افتقاد الهوية الشخصية والرجولة والكرامة والإباء ، بالإضافة إلى معايب أخرى تتمثل في أنهم يخادعون الله والناس ، وهم لا يدركون أن خداعهم مكشوف مفضوح ، وأنهم سطحيون بلهاء ، وكسالى لا يغطّون انهزامهم الداخلي بشيء من إثبات الذات وسلامة الأفعال ، وقوة المواقف ، قال الله تعالى مبيّنا سطحية المنافقين وسذاجتهم ، وكسلهم وخمولهم ، وتذبذب مواقفهم ، وضعف شخصيتهم ومراءاتهم في أعمالهم :

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣)) (١) [النساء : ٤ / ١٤٢ ـ ١٤٣].

__________________

(١) مردّدين بين الكفر والإيمان.

٣٩٨

إن هؤلاء المنافقين لجهلهم وقلّة علمهم وسوء تقديرهم يفعلون ما يفعل المخادع ، حيث يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ، كما قال تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة : ٢ / ٩] ولم يدروا أن الله تعالى مطّلع على أعمالهم وسرائرهم ونيّاتهم الخبيثة ، فيعاقبهم عقابا أليما شديدا لأن الله لا يخادع ؛ لأنه سبحانه العالم بالسّر وأخفى ، والمراد بقوله تعالى : (وَهُوَ خادِعُهُمْ) أي مجازيهم على خداعهم ؛ لأن الجزاء من جنس العمل ، والله يستدرجهم في ضلالهم وطغيانهم ، ويخذلهم ويبعدهم عن الحق والهداية والنور ؛ لأنهم آثروا الانحراف والابتعاد عن جادة الاستقامة ، فاستحقوا العقاب والتعذيب ، والطرد والإبعاد عن رحمة الله تعالى.

ومن عيوب المنافقين : سيطرة الكسل والخمول على نفوسهم ، فتراهم متباطئين متثاقلين في القيام بأشرف الأعمال وأفضلها : وهي الصلاة التي تقرّبهم إلى الله ، وتهذّب نفوسهم ، وتبعدهم عن الفواحش والمخازي والمنكرات.

وإذا كانت ظواهرهم فاسدة ، فكذلك بواطنهم وقلوبهم ونواياهم فاسدة أيضا ، فهم لا يخلصون في أعمالهم ، ويراءون الناس في أفعالهم ، ويستخفون من الناس ، والله معهم ، لذا فإنهم يتخلفون كثيرا عن الصلاة التي لا يرون فيها غالبا كصلاة العشاء وصلاة الصبح ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يرويه أحمد : «أثقل الصلاة على المنافقين : صلاة العشاء ، وصلاة الفجر ، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا».

وإذا قاموا إلى الصلاة خشية من الناس ، لا يذكرون الله إلا قليلا ، فلا خشية في صلاتهم ، ولا يدرون ما يقولون ، بل هم في صلاتهم ساهون لاهون عابثون ، قلوبهم مقفرة من الإيمان ، وألسنتهم لا تتحرك بذكر الله إلا قليلا ، فإذا لم يرهم أحد لم يصلّوا. وهم ضعاف الشخصية ، مذبذبون ، مضطربون دائما ، مترددون بين الإيمان والكفر ، فليسوا مع المؤمنين حقيقة ، ولا مع الكافرين حقيقة ، بل ظواهرهم مع

٣٩٩

المؤمنين ، وبواطنهم مع الكافرين ، ويميلون مع الطرف الأقوى ، فإن رأوا الكفار أقوياء مالوا إليهم وتعاطفوا معهم ، وتواطؤوا معهم ضدّ المؤمنين ، وإن رأوا المؤمنين أقوياء ، تظاهروا بالانضمام إليهم ، للمنفعة المادية ، والمساهمة في الغنائم الحربية ، والاستفادة من مظاهر الدنيا وزخارفها.

ومثل هؤلاء ، هل ينتظرون هداية وتوفيقا من الله تعالى؟ إنهم بانحراف سلوكهم ، وانغماسهم في مستنقع الضلالة ، لن يتعرضوا لفضل الله ورحمته ، وكانوا أجدر بالضلال ، والخذلان والبعد عن توفيق الله ، ومن يصرفه الله عن الهداية ، بسبب أعماله وشذوذه وانحرافه ، فلن تجد له طريقا إلى الخير والسّداد والرشاد.

إن هذه الآيات تحذير للمؤمنين من الاتّصاف بأخلاق المنافقين ، وجاءت الوصايا النّبوية تؤيّد هذا التحذير ، قال ابن مسعود ـ فيما رواه الطبراني في الكبير ـ : «لا يكونن أحدكم إمّعة ، تقول : إنما أنا مع الناس ، إن اهتدوا اهتديت ، وإن ضلّوا ضللت ، ألا ليوطنن أحدكم نفسه ، ألا إن كفر الناس أن لا يكفر».

التّحذير من موالاة المنافقين

الإيمان عصمة ومنعة وقوة ، والمؤمنون أجدر الناس بأن يتحصنوا بحصن الاعتزاز بإيمانهم ، والاعتماد على ربّهم ، والبعد عن ذوبان الشخصية ، والاختلاط بالمنافقين والانهزاميين ؛ لأن في ذلك تضييعا لوجودهم واهتزازا لكيانهم ، وصهرا لقيمهم وعقائدهم وأخلاقهم.

وجاءت التحذيرات القرآنية الكثيرة من موالاة المنافقين والكافرين ومناصرتهم من أجل الحفاظ على كرامة المؤمنين وتوفير العزّة والقوة لهم ، قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا

٤٠٠