التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0523-3
الصفحات: ٦٧١

وهذا التّنقل بين موتتين وحياتين دليل على قدرة الله تعالى ، ودليل على وجود ما يسمى بالبرزخ : وهو الحدّ الفاصل بين الدنيا والآخرة ، والبرزخ حياة ذات طبيعة خاصة في عالم القبور.

ثم ذكّرنا القرآن الكريم بمظهر آخر من مظاهر قدرة الله ، عزوجل ، وهو خلق جميع ما في الأرض لخدمة الإنسان ، بما فيها من كنوز وخيرات وتمكّن من استخدام موجودات الدنيا من ذرة وكهرباء وأثير ، نمتطي به عالم الطيران ونحلّق في سفن الفضاء ، ونكتشف عوالم النجوم والكواكب السّيارة كالقمر والزهرة والمريخ. ومن مظاهر قدرة الله وعظمته خلق السموات السبع التي رفعها الله بقدرته ، وأودع فيها دقائقه وأسراره ، وعلّم الله مخلوقاته تلك الأسرار ، قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى (١) إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ (٢) سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩)) [البقرة : ٢ / ٢٩].

وهذه الآية تقتضي أن الأرض وما فيها خلقت قبل السماء ، وذلك صحيح ، ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء. وعلى الناس أن يتأملوا في عظمة الكون ليتوصلوا إلى الإيمان بربّ السماوات والأرض وما فيهن ، وأن الله على كل شيء قدير.

الإنسان خليفة الأرض وسجود الملائكة لآدم

كرّم الله تعالى الإنسان باختيار آدم خليفة في الأرض ، وتعليمه اللغات التي لا تعلمها الملائكة ، وأمر الملائكة بالسجود له سجود تحية وتكريم ، لا سجود عبادة وتعظيم. وكل ذلك لتكريم النوع الإنساني ، وتكليفه وتشريفه بعمارة الدنيا وتقدم

__________________

(١) قصد إليها بإرادته.

(٢) أتمهن وقوّمهن.

٢١

الحياة البشرية. وقد جرى حوار صوّره القرآن الكريم بين الله تعالى والملائكة لإظهار دور آدم وذريته في الأرض ، وجعلهم خلفاء فيها ، يخلف بعضهم بعضا. قال الله تعالى واصفا ذلك :

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ (١) وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ (٢) وَنُقَدِّسُ لَكَ (٣) قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ (٤) لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤)) [البقرة : ٢ / ٣٠ ـ ٣٤].

اذكر أيها النّبي لقومك قصة خلق أبيهم آدم ، حين قال الله للملائكة : إني متخذ في الأرض خليفة ، يقوم بعمارتها وسكناها ، وينفذ أحكامي فيها بين الناس ، فتساءل الملائكة مستعلمين : كيف تستخلف هذا الخليفة ، وفي ذرّيته من يفسد في الأرض بالمعاصي ، ويريق الدماء عدوانا وبغيا ؛ لأن أفعالهم عن اختيار وإرادة ، وقد خلقوا من طين ، والمادة جزء منهم ، ومن كان كذلك فهو إلى الخطأ أقرب. وقد عرفوا ذلك لأنهم هم المعصومون ، وكل من عداهم ليسوا على صفتهم ، أو قاسوا ذلك الخلق وهم الإنس على الجن الذين سكنوا الأرض ، فأفسدوا فيها قبل سكنى الملائكة.

ونحن الملائكة أولى وأحق بالاستخلاف ، لأن أعمالنا مقصورة على تسبيحك وتقديسك ، وطاعتك وتمجيدك ، والثناء عليك والحمد لك. فأجابهم الله تعالى : إني

__________________

(١) يريقها عدوانا.

(٢) ننزهك عن كل ما لا يليق بك مع الثناء عليك والحمد.

(٣) نمجدك ونعظمك.

(٤) تقديسا وتنزيها لك عن الاعتراض عليك.

٢٢

أعلم من المصلحة في استخلافه ما هو خفي عنكم ، وأعلم كيف تصلح الأرض وكيف تعمر ، ومن هو أصلح لعمارتها.

وعلّم الله آدم أسماء الأشياء والأجناس المادية ، من نبات وجماد وإنسان وحيوان ، مما تعمر به الدنيا ، ثم عرض مجموع المسميات على الملائكة ، أو عرض نماذج منها ، لقوله (ثُمَّ عَرَضَهُمْ) لأن العرض لا يصح في الأسماء. وقال لهم : أخبروني بأسماء هؤلاء ، إن كنتم صادقين في ادّعائكم أنكم أحقّ بالخلافة من غيركم ، فعجزوا ، وقالوا : يا ربّ سبحانك ، لا علم لنا إلا ما علّمتنا ، إنك أنت العليم بكل شيء ، الحكيم في كل صنع وتدبير.

وهذا يدلّ على تفضيل آدم على الملائكة واصطفائه ، بتعليمه ما لم تعلمه الملائكة ، فلا يكون لهم فخر عليه.

ثم طلب الله من آدم ، عليه‌السلام ، بقوله : أخبرهم يا آدم بأسماء الأشياء التي عجزوا عن علمها ، واعترفوا بقصورهم عن معرفتها ، فلما أخبرهم بكل الأسماء ، أدركوا السّرّ في خلافة آدم وذرّيته ، وأنهم لا يصلحون للاشتغال بالماديات ، والدنيا لا تقوم إلا بها ، فإنهم خلقوا من نور ، وآدم من طين ، والمادة جزء منه.

وحينئذ قال الله تعالى للملائكة : ألم أقل لكم : إني أعلم ما غاب في السموات والأرض عنكم ، وما حضر أيضا ، ولا أجعل الخليفة الأرضية عبثا ، وأعلم ما ظهر وما بطن ، وأعلم بما تظهرون وما تكتمون في صدوركم.

واذكر أيضا أيها النّبي لقومك حين قلنا للملائكة الأطهار : اسجدوا لآدم سجود خضوع وتحية ، لا سجود عبادة وتأليه ، كما يفعل الكفار مع أصنامهم ، فسجد الملائكة جميعا له غير إبليس ، فإنه امتنع من السجود وتكبر عنه قائلا : أأسجد له ،

٢٣

وأنا خير منه ، خلقتني من نار ، وخلقته من طين؟! فصار بإبائه واستكباره ، وتعاليه ، وغروره من الكافرين ، الذين استحقّوا اللعنة والطّرد من رحمة الله إلى يوم الدين.

سكنى آدم وحواء الجنة

من ألوان التكريم الإلهي للإنسان إسكان آدم وحواء في الجنة في بدء الخلق ، ليكون تمهيدا لمصير أهل الاستقامة في نهاية الخلق. ولكن الحكمة الإلهية اقتضت إعاشة الإنسان في الأرض ، لتعمير الكون ، وتكاثر النوع الإنساني ، وإظهار مزيته في جهاد النفس والهوى والشيطان.

وهذه قصة آدم وحواء في الجنة والأرض :

(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً (١) حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ (٢) عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩)) [البقرة : ٢ / ٣٥ ـ ٣٩].

واذكر أيها النّبي لقومك حين أمر الله تعالى آدم وزوجه حواء بسكنى الجنة ـ الجنة الحقيقية العلوية ، والتمتع فيها حيث شاءا ، والأكل منها أكلا هنيئا لا عناء فيه ، أو واسعا لا حدّ له. ونهاهما عن الأكل من شجرة معيّنة ، ويكون الأكل منها ظلما لأنفسهما ، وتجاوزا لأمر الله ومخالفة نهيه.

__________________

(١) أكلا واسعا هنيئا من غير عناء.

(٢) أوقعهما في الزّلة وأبعدهما عنها.

٢٤

ـ ولكن الشيطان عدوهما أزلهما عنها ، أي أذهبهما وأبعدهما عن الجنة ، وأخرجهما من ذلك النعيم ، بعد أن أغواهما بالأكل من الشجرة ، فحوّلهما من الجنة ، قائلا لهما :

(فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١)) [الأعراف : ٧ / ٢٠ ـ ٢١].

فتغلبت عليهما ووساوس الشيطان ، وخرجا من الجنة إلى الأرض ، وشقاء الدنيا ، وقد نشأت بعدها العداوة بين البشر والشيطان :

(إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦)) [فاطر : ٣٥ / ٦].

وقال الله لهما : اهبطوا من الجنة إلى الأرض ، بعضكم عدوّ بعض ، ولكم استقرار في الأرض وتمتّع بنعمها وخيراتها إلى مدة معينة من الزمان. فألهم الله آدم كلمات ، فعمل بها هو وزوجته ، فقالاها ، وتابا توبة خالصة ، والكلمات هي قوله تعالى :

(قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)) [الأعراف : ٧ / ٢٣].

وتقبل الله منهما التّوبة ، لأنه كثير القبول لتوبه عباده ، واسع الرحمة بالعباد ، والمغفرة لهم.

وكرر الله تعالى الأمر بالهبوط من الجنة هو وزوجه للتأكيد ، وصار الناس في الأرض صنفين : صنف المؤمنين بالله العاملين بطاعته ، المتبعين هداه وشرائعه ، فهؤلاء آمنون في جنان الخلد في الآخرة ، ولا خوف عليهم من مخاوفها وعذابها ، ولا يجدون فيها حزنا أو كآبة ، أو كربا على ما فاتهم من النعيم في الدنيا.

٢٥

وصنف الكافرين المكذبين بما أنزل الله في كتبه ، الجاحدين برسالات الله وأنبيائه ، فهؤلاء لا غيرهم مخلدون في نار جهنم ، مقيمون فيها على الدوام ، لا يموتون فيها ولا يحيون حياة طيبة ، ولا يخرجون منها.

إن هذه القصة تثير تساؤلات ومشكلات عديدة ، عن مكان الجنة والأكثرون على أنها في السماء ، وعن نوع الشجرة وهي إما الكرم من العنب أو الحنطة أو التين ، وعن عصيان آدم مع أن الأنبياء معصومون من الذنوب ، والواقع أنها خطيئة من الصغائر ، لا من الكبائر ، صدرت من آدم قبل النبوة ، وعن دخول إبليس الجنة بعد طرده منها ، ولكن الخروج لا يمنع وصول وسوسته ابتلاء لآدم وحواء ، وعن أفعال العباد أهي مخلوقة؟ والصحيح أنها من خلق الله تعالى ، لقوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) وعن التفضيل بين الملائكة والبشر ، والظاهر أن عموم الملائكة أفضل من عموم البشر ، وخواص البشر وهم الأنبياء أفضل من خواص الملائكة ، كما قال جماعة. والتوقف عن الخوض في ذلك أولى وأكثر أدبا وتسليما لله تعالى.

مطالبة بني إسرائيل بالإيمان بالقرآن

لقد طالب الله الناس جميعا بالإيمان بشريعة القرآن وبما أنزل فيه ، ومنهم بنو إسرائيل الذين أنعم الله عليهم بنعم كثيرة.

ذكّر الله بني إسرائيل المعاصرين للنّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه النعم العشر ليبادروا إلى الإيمان بالله وكتبه وبمحمد الذي أخبر عن هذا كله بوحي الله في قرآنه ، فقال الله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ (١) اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ

__________________

(١) إسرائيل : لقب يعقوب عليه‌السلام.

٢٦

فَارْهَبُونِ (١) (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا (٢) الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)) [البقرة : ٢ / ٤٠ ـ ٤٣].

ثم عدّد الله تعالى نعما عشرا عليهم تحملهم إذا أنصفوا وعقلوا على الإيمان بما أنزل الله في كتابه الذي صدّق ما أنزل عليهم في التوراة. وقد عدّد الله هذه النعم العشر في سورة البقرة في الآيات (٤١ ـ ٦٠) وهي :

(وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨) وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦)

__________________

(١) أي خافون في نقض العهد.

(٢) لا تخلطوا.

٢٧

وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠)) [البقرة : ٢ / ٤١ ـ ٦٠].

وهي إنجاؤهم من فرعون وقومه ، وعبورهم البحر سالمين من تهديد فرعون وجنوده ، وقبول توبتهم وعفو الله عنهم ، وإيتاء موسى التوراة الأصلية الفارقة بين الحق والباطل ، والحلال والحرام ليهتدوا بها ، وأمر موسى لهم بالتّخلي عن عبادة العجل التي فعلوها في مدة صومه وغيابه عنهم أربعين يوما (ميقات ربّه) ، وإحياؤهم بعد موتهم ليستوفوا آجالهم المقدرة لهم بعد أن طلبوا من موسى أن يروا الله جهرة عيانا ، فأماتهم الله يوما وليلة ثم بعثهم من بعد الموت ، وإظلالهم بسحاب رقيق يقيهم حرّ الشمس حين مكثوا أربعين سنة حيارى تائهين في وادي التّيه بين الشام ومصر ، وإنزال المنّ والسّلوى عليهم ، وهو طعام مكوّن من حلوى وطير مطهو يقيهم غائلة الجوع ، وأمرهم بدخول القرية المعلومة لهم للسكنى والأكل والشرب الهني فيها ، ودخول الباب خاضعين مبتهلين إلى الله وحده ، وطالبين المغفرة وحطّ الذنوب عنهم ، فخالفوا وعصوا وقالوا بدل كلمة (حِطَّةٌ) : حبة في شعرة أي حنطة في زكائب شعر ، ودخلوا زاحفين على مقاعدهم غير خاضعين لله ، فعذبهم الله عذابا شديدا من السماء بسبب فسقهم وعصيانهم وهلك منهم سبعون ألفا ، والنعمة العاشرة انفجار الحجر والصّخر اثنتي عشرة عينا بضرب موسى عصاه الحجر ، فكان لكل جماعة منهم عين يشربون منها.

٢٨

ولم يمتثل علماء بني إسرائيل لأمر الله بالإيمان بالقرآن ، وكانوا يأمرون غيرهم بالصدقة والثبات على الإسلام ، ودين محمد ـ فإنه حق ـ ، وينسون أنفسهم ، فلامهم الله ، وحذّرهم وعلّمهم أن يستعينوا على أنفسهم الأمارة بالسوء وشياطينهم بالصبر والصلاة ، فإنهما جلاء القلوب والأرواح ، وأمرهم باتّقاء مخاطر يوم القيامة ، حيث لا تقبل شفاعة شافع ، ولا فداء من أحد ولا هم ينصرون. قال الله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ(١) وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ (٢) وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ (٣) إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ (٤) أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٥) (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي (٦) نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ (٧) وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨)) [البقرة : ٢ / ٤٤ ـ ٤٨]

بعض قبائح اليهود وجزاؤهم

لقد أنصف القرآن الكريم أهل الكتاب ، فأثاب أهل الإيمان والعمل الصالح منهم ، وبشّرهم بأنهم لا خوف عليهم أبدا ، ولا هم يحزنون في الدنيا والآخرة ، فقال الله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢)) [البقرة : ٢ / ٦٢].

نزلت هذه الآية في سلمان الفارسي وأشراف قومه الذين آمنوا بالله واليوم الآخر ، وآمنوا بالقرآن وبالنّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي مقابل الثناء على مؤمني أهل الكتاب ،

__________________

(١) أي الخير والطاعة لله.

(٢) هذا خطاب لأهل الكتاب ، وهو مع ذلك أدب لجميع العباد.

(٣) لشاقة ثقيلة.

(٤) يعلمون.

(٥) أي عالمي زمانهم في الماضي.

(٦) لا تؤدي نفس.

(٧) فدية.

٢٩

ذكر الله تعالى بعض قبائح اليهود ، ومنها أنهم قالوا لموسى : لا يمكننا أن نستمرّ على طعام واحد ، وهو المنّ والسّلوى ، وطلبوا أطعمة أخرى من الخضروات والبقول كالحنطة والعدس ، والبصل والقثاء ، ومن قبائحهم كفرهم بآيات الله ، وقتلهم الأنبياء بغير حق ، كزكريا ويحيى وغيرهما ، فجعل الله الذّلة والمسكنة محيطة بهم كما تظلل الخيمة من فيها ، ولا يعدّ وجودهم في فلسطين متناقضا مع إذلال الله لهم ؛ لأنه وجود عنصري متعصّب قائم على الحقد والبغضاء والكراهية ، وعلى الاغتصاب والظلم والشّر والتّآمر مع قوى البغي والعدوان ، وزوال كل ذلك سريع بإذن الله. قال الله تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها (١) وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ (٢) وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١)) [البقرة : ٢ / ٦١].

وهدّد الله بني إسرائيل برفع جبل الطور فوقهم كأنه ظلّة تخويفا وإرهابا ، حينما لم يؤمنوا بالتوراة ورفضوا العمل بها ، فقبلوا ذلك إلى حين ، ثم أعرضوا بعد ذلك عن التوراة ونبذوها وراء ظهورهم. وكانوا يعظّمون يوم السبت ، فلا يعملون أي عمل فيه ، فاحتالوا على ذلك بحيلة مفضوحة وهي بناء حواجز وأحواض تمنع ردّ السمك إلى الماء في حال الجزر ، بعد أن كان السمك يأتي كثيرا يوم السبت قرب الساحل في أثناء المدّ البحري ، وكان لا يأتيهم السمك في غير يوم السبت ، فارتكبوا خطيئة الصيد يوم السبت بالحيلة المذكورة ، فحكم الله عليهم أن يكونوا كالقردة مبعدين عن رحمة الله والناس ؛ لأنهم لم يحترموا العهد ولم يلتزموا الطاعة ، وتخلوا عن شرف

__________________

(١) الفوم : الحنطة أو الثوم.

(٢) أي المذلة والفقر والحاجة.

(٣) رجعوا متلبسين به.

٣٠

الإنسانية والكرامة وعزة النفس ، قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا (١) وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ (٢) مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣) (٦٤) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٤) (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦)) [البقرة : ٢ / ٦٢ ـ ٦٦].

الأمر بذبح البقرة

اختبر الله تعالى بني إسرائيل بأمرهم بذبح بقرة ، ليظهر مدى مصداقيتهم وامتثالهم أوامر الله تعالى ، وذلك بسبب قتل رجل عمه الذي كان ابن الأخ الوارث الوحيد له ، ومن أجل التعرف على القاتل ، بدلا من اقتتال بعضهم مع بعض ، وكان يجزئهم ذبح أي بقرة ، إلا أنهم تشدّدوا في بيان أوصاف البقرة ، فشدّد الله عليهم ، بعد أن اشتروها بملء جلدها ذهبا ، فذبحوها متردّدين ، ثم ضربوا القتيل ببعضها ، فعاش حيّا ، فقالوا : من قتلك؟ فقال : هذا ، لابن أخيه ، ثم عاد ميتا ، فلم يعط من ماله شيئا ، لأنه قاتل ، وصار ذلك حكما دائما. وهذه هي قصة ذبح البقرة.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً (٥) قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا

__________________

(١) صاروا يهودا.

(٢) عبدة النجوم والكواكب ، أو عبدة الملائكة.

(٣) مطرودين صاغرين.

(٤) عقوبة.

(٥) سخرية.

٣١

فارِضٌ وَلا بِكْرٌ (١) عَوانٌ (٢) بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها (٣) تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ (٤) تُثِيرُ الْأَرْضَ (٥) وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ (٦) مُسَلَّمَةٌ (٧) لا شِيَةَ (٨) فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها (٩) وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ (١٠) الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤)) [البقرة : ٢ / ٦٧ ـ ٧٤].

واذكروا أيها الإسرائيليون وقت قول موسى لقومه أسلافكم أمر الله لكم بذبح أي بقرة ، فلم يمتثلوا ، وشدّدوا ، فشدّد الله عليهم ، وقالوا : أتهزأ أو تسخر منا يا موسى؟ نسألك عن أمر القتل ، فتأمرنا بذبح بقرة! قال : ألتجئ إلى الله من الهزء والسخرية بالناس في موضع الجد وتبليغ أحكام الله تعالى ، فأكون من الجهلة المفرطين بأمر الله. ـ قالوا : ادع الله لنا لبيان لونها ؛ فقال : إنها بقرة صفراء اللون ، شديدة الصفرة ، تبهج الناظرين إليها. فسألوه عن سنّها ، فقال : إنها ليست صغيرة ولا كبيرة ، بل وسط بين الأمرين ، فامتثلوا الأمر ولا تشددوا ، قالوا : ادع الله لنا يبين حقيقتها ومزاياها ، لتشابه البقر علينا ، وإنا إن شاء الله لمهتدون إلى الصواب والمطلوب.

قال : إن الله يقول : إنها بقرة لم تذلل بالعمل في الحراثة والسّقي ، وهي سالمة من

__________________

(١) لا مسنّة ولا فتية.

(٢) وسط بين السّنين.

(٣) شديد الصفرة.

(٤) ليست سهلة الانقياد.

(٥) تقلب الأرض للزراعة بالفلاحة.

(٦) الزرع.

(٧) مبرأة من العيوب.

(٨) لا يخالطها لون آخر غير الصفرة.

(٩) تدافعتم وتخاصمتم فيها.

(١٠) يتفتح بسعة وكثرة.

٣٢

العيوب ، لا يخالطها لون آخر غير الصفرة ، قالوا : إنك الآن جئت بإظهار الحقيقة الواضحة ، فطلبوها ، فلم يجدوها إلا عند يتيم صغير بارّ بأمه ، فساوموه ، فتغالى ، حتى اشتروها بملء جلدها ذهبا ، وما كان امتثالهم قريب الحصول.

واذكروا أيها اليهود المعاصرون حين قتل أسلافكم نفسا ، وأنتم تنتسبون إليهم ، راضون بفعلهم ، وأسند القتل للأمة والقاتل واحد ، لتضامن الأمة ، وهي في مجموعها كالشخص الواحد ، فيؤخذ المجموع بجريرة الواحد. وفيه توبيخ ولوم. وكنتم تتخاصمون وتتدافعون في شأن القتل ، فكل واحد يدرأ القتل عن نفسه ، ويدّعي البراءة ، ويتّهم سواه ، والله مظهر حتما ما كنتم تكتمونه وتسترونه من أمر القتل.

فقلنا لكم : اضربوا القتيل ببعض أجزاء البقرة المذبوحة ، فضربوه ، فأحياه الله ، وأخبر عن القتلة ، ومثل ذلك الإحياء العجيب ، يحيي الموتى يوم القيامة ، فيجازي كل إنسان بعمله ، وكذلك يريكم الله آياته الواضحة الدّالة على صدق القرآن والنّبي ، الذي يخبر بالغيبيات ، لكي تعقلوا وتؤمنوا بالله ورسوله.

ثم قست قلوبكم وامتنعت عن قبول الحق ، فهي تشبه الحجارة في الصلابة ، بل هي أشد قسوة منها ، لأن بعض الحجارة قد يتفجر الماء منه ، ويسيل أنهارا تحيي الأرض وتنفع النبات ، وقد يتشقق بعضها ، فيسيل منها ماء ، يكون عينا لا نهرا ، وفي هذه منفعة للناس ، وقد يتساقط بعضها من أعالي الجبال ، بالرياح الشديدة ونحوها من الزلازل ، فتكسر الصخور ، وتدمّر الحصون ، وليس في هذا منفعة للناس.

ولكن لم يزدد اليهود إلا عنادا وفسادا ، والله تعالى حافظ لأعمالهم ومحصيها لهم ، ثم يجازيهم بها ، ولا يغفل عن شيء منها ، صغيرا كان أو كبيرا.

٣٣

تناقضات اليهود وأكاذيبهم

لا خير ولا أمل في قوم متناقضين يفترون على الله الكذب ، ويحرّفون كلام الله ويغيّرونه ويبدّلونه على وفق أهوائهم وشهواتهم ، لذا استبعد الله الخير والإيمان من اليهود برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد كان منافقوهم حين يتقابلون مع المؤمنين يقولون : نحن مؤمنون بالله والنّبي محمد ، إذ هو المبشّر به عندنا فنحن معكم ، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا : كيف تحدّثون أتباع محمد بما أنزل الله عليكم في التوراة؟ كيف تفعلون هذا فيحتجّون به عليكم ، ويخاصمونكم به عند ربّكم يوم القيامة؟ أتذيعون أسراركم فهذا خطأ وضرر؟

فيردّ الله عليهم أيحسبون أن هذا سرّ لا يطّلع عليه أحد؟ أو لا يعلمون أن الله سبحانه يعلم السّر وأخفى ، ويعلم ما يقولون ، سواء أضمروا الحقائق أم أعلنوها؟ وسيجازيهم على ذلك كله. هذا موقف علماء اليهود وأحبارهم ، أما الأمّيون فلا يعرفون عن دينهم إلا أكاذيب سمعوها ولم يعقلوها مثل الزعم القائل بأنهم شعب الله المختار وأن الأنبياء منهم يشفعون لهم ، وأن النار لا تمسهم إلا أياما قليلة.

قال مجاهد : قام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم قريظة تحت حصونهم فقال : يا إخوان القردة ، ويا إخوان الخنازير ، ويا عبدة الطاغوت ، فقالوا : من أخبر بهذا محمدا ، ما خرج هذا إلا منكم ، أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم ليكون لهم حجة عليكم ، فنزلت الآية : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ (١) مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا (٢) بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ (٣) عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦)

__________________

(١) يبدلونه أو يؤولونه تأويلا باطلا.

(٢) انفرد معه.

(٣) قصه عليكم.

٣٤

أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ (١) لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ (٢) وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨)) [البقرة : ٢ / ٧٥ ـ ٧٨].

وروي أن أوصاف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت مكتوبة عندهم في التوراة فغيروها وكتبوا بدلها ، فإذا سئلوا من العوام عن وصف محمد المعروف لديهم ، ذكروا ما كتبوه هم ، فيكذّب العوام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وتجرؤوا أكثر من هذا ، فافتروا على الله ما لم يقله ، ليأخذوا على كذبهم ثمنا دنيويا حقيرا من مال أو رياسة أو جاه ، فويل لهم مما كسبوا. ومن مخازيهم وافتراءاتهم : أنهم ادعوا أن النار لا تمسهم إلا في أيام قليلة معدودة هي أربعون يوما مدة عبادتهم العجل ، فرد الله عليهم بأنه لا أصل لهذا الادعاء ، ولا عهد لهم من الله فيه ، وسيخلدون في النار بسبب معاصيهم الشنيعة ، كقتل الأنبياء بغير حق ، وعصيان أوامر الله ، وتكذيبهم برسالة النبي محمد. أما من آمن منهم وعمل صالحا ، فلهم الجنة خالدين فيها ، قال الله تعالى في أحبار اليهود : (فَوَيْلٌ (٣) لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ (٤) سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ (٥) فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢)) [البقرة : ٢ / ٧٩ ـ ٨٢].

__________________

(١) عوام جهلة بكتابهم

(٢) أي أكاذيب لا دليل عليها.

(٣) هلاك وشدة عذاب ، أو واد في جهنم.

(٤) هنا أي كفر.

(٥) أحدقت به.

٣٥

مخالفات اليهود ومنكراتهم

سجّل القرآن الكريم على اليهود مخالفات خطيرة ومنكرات شنيعة ، مع أنهم يدعون الإيمان بالتوراة ، وأول هذه المخالفات : نقضهم المواثيق والمعاهدات التي واثقهم الله بها ، وهي عبادة الله وحده ، والإحسان إلى الوالدين والقرابة واليتامى والمساكين ، والقول الحسن للناس ، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، ثم تخلى أكثرهم عن هذه الأوامر والوصايا التي تكفل سعادة المجتمع ، وتحقق له الحياة الهادية الهنيئة. قال الله تعالى :

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣))

ومن مخالفاتهم المواثيق : سفكهم دماء بعضهم بعضا ، وإيمانهم ببعض التوراة وكفرهم بالبعض الآخر ، وإخراج بعضهم بعضا من ديارهم ، مع أنهم إخوانهم في الدين واللغة والنسب ، متعاونين مع الغير على ارتكاب الذنب والعدوان ومعصية الرسول ، والإخراج والقتل محرّم عليهم في التوراة ، فكيف يفعلونه؟ وليس لهم جزاء على هذه المخالفات والأعمال الشنيعة إلا ذلّ وهوان في الدنيا ، وعذاب أليم دائم في الآخرة. وهذا جزاء كل أمة تؤدي بعض أحكام دينها كالصلاة والصوم والحجّ ، ولا تؤدي بعض أحكامه الأخرى كالامتناع عن الزّنا والرّبا والرّشوة والسّرقة وخيانة الأمانة ، ولم تتعاون على الخير والمعروف ، ولم تؤدّ الزكاة بسبب بخل أغنيائها على فقرائها. قال الله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ (١) أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى

__________________

(١) تتعاونون عليهم.

٣٦

تُفادُوهُمْ (١) وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ (٢) فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦)) [البقرة : ٢ / ٨٤ ـ ٨٦].

ومن مخالفات اليهود ومنكراتهم : تكذيبهم بالرّسل ، وقتلهم رسلا آخرين ، وكفرهم برسالة خاتم النّبيين مع أنهم كانوا يقولون : اللهم انصرنا بالنّبيّ المبعوث آخر الزمان الذي نجد نعته في التوراة ، فهم يعرفون حقّا أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو النّبي المبشّر به في التوراة ، قال الله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [البقرة : ٢ / ١٤٦] ولكنهم لم يؤمنوا حسدا وبغيا ، فقد باعوا حظّهم الحقيقي وهو الإيمان بالله ورسوله ، وأخذوا بدله كفرهم بما أنزل الله ، وسبب ذلك كله : حرصهم على الرياسة والمال في أيديهم.

ومن مخالفاتهم : كفرهم بغير التوراة ، وعبادتهم العجل واتخاذه إلها ، وحرصهم الشديد على الحياة الدنيا أشد من حرص المشركين بالله ، يودّ أحدهم لو يعمّر ألف سنة حتى يجمع ذهب العالم. ومن طبائعهم : حبّهم الاستعلاء على العالم ، وإثارتهم الفتن والشرور بين الناس ، ومن سوء مواقفهم : معاداتهم جبريل وميكال والملائكة والرّسل الكرام ، كما سيأتي بيانه ، قال الله تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨)) [البقرة : ٢ / ٩٧ ـ ٩٨].

__________________

(١) أسرى تبادلونهم بالمفاداة أو الفدية.

(٢) هوان وفضيحة.

٣٧

موقف اليهود من الرسل والكتب والأنبياء

من أعظم جرائم اليهود : تكذيب الرسل والكتب الإلهية المنزلة ، وقتل الأنبياء بغير حق ، وكفرهم بجميع ما أنزل الله على الرسل الآخرين غير رسولهم ، مع أنهم قبل بعثة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يستنصرون بنبي آخر الزمان ، فلما بعث وجاءهم ما عرفوا صفاته ، كفروا به وتنكروا له. وهذا ما دوّنته الآيات التالية :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا (١) مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ (٢) بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما (٣) لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً (٤) تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما (٥) مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا (٦) بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ (٧) عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ (٨) بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١)) [البقرة : ٢ / ٨٧ ـ ٩١].

الآيات تذكير لبني إسرائيل بإعطاء موسى الكتاب (التوراة) وأن الله أتبعه بالرسل من بعده ، وهم يوشع ، وداود ، وسليمان ، وعزير ، وإلياس ، واليسع ويونس وزكريا ويحيى وعيسى عليهم‌السلام ، وكانوا كلهم يحكمون بشريعة موسى عليه‌السلام. إلا أن الله آتى عيسى عليه‌السلام الإنجيل ، مخالفا التوراة في بعض الأحكام ، وأيّده الله

__________________

(١) أتبعنا على أثره الرسل على منهاج واحد.

(٢) المعجزات.

(٣) جبريل عليه‌السلام.

(٤) عليها أغطية.

(٥) يستنصرون ببعثه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٦) باعوا به أنفسهم.

(٧) حسدا.

(٨) رجعوا متلبسين به.

٣٨

بالمعجزات الباهرات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله ، كما أيّده بروح القدس جبريل عليه‌السلام. أفكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم ، ولا تميل إلى الخير دائما ، كفروا به واستكبروا عليه تجبّرا وبغيا ، فمنهم من كذبوه كعيسى ومحمد عليهما‌السلام ، ومنهم من قتلوه كزكريا ويحيى عليهما‌السلام ، فلا يستغرب ترك إيمانهم بدعوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومن قبائحهم أو مثالبهم : قولهم للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قلوبنا مغطاة بأغشية ، فلا تعي ما تقول ، ولا تفقه ما تتكلم به ، فيردّ الله عليهم : لستم كذلك ، فقلوبكم خلقت مستعدة بالفطرة للإقرار بالحق ، لكن الله أبعدهم عن رحمته ، بسبب كفرهم بالأنبياء وعصيانهم التوراة ، وقليلا جدّا اتجاههم للإيمان ، أو أنهم لم يؤمنوا أصلا.

ولما جاءهم كتاب من عند الله وهو القرآن الذي أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مصدق لما معهم من التوراة ، وكانوا من قبل ذلك يستنصرون ببعثة نبي آخر الزمان ، لما جاءهم كفروا برسالته حسدا للعرب ، وجحدوا ما كانوا يقولون به ، وتبشّر به توراتهم ، فالطرد والإبعاد أو اللعنة من الله على كل كافر من اليهود وأمثالهم ، لكفرهم بدعوة الإسلام. قال ابن عباس : كانت يهود خيبر تقاتل غطفان ، فكلما التقوا ، هزمت يهود خيبر ، فعاذت اليهود بهذا الدعاء : (اللهم إنا نسألك بحق محمد النّبي الأمّي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان ، إلا نصرتنا عليهم) فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء ، فهزموا غطفان ، فلما بعث النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كفروا به ، فأنزل الله تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) أي بك يا محمد ، إلى قوله : (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ).

بئسما باعوا به أنفسهم باختيارهم الكفر على الإيمان ، وبذل أنفسهم فيه ، وجحودهم برسالة النّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسدا للعرب ، وكراهة أن ينزل الله الوحي من

٣٩

فضله على من يختاره من عباده ، فرجعوا متلبّسين بغضب من الله جديد ، لكفرهم بهذا النّبي ، بعد كفرهم بموسى عليه‌السلام ، وبمن جاء بعده من الأنبياء ، وللكافرين جميعا عذاب فيه إهانة وإذلال في الدنيا والآخرة.

وإذا قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ليهود المدينة : آمنوا بالقرآن الذي أنزله الله ، قالوا : إنما نؤمن بالذي أنزل علينا في التوراة ، ونكفر بما سواه ، وهو القرآن الذي جاء مصدقا لها ، وهو الحق الذي لا شك فيه ، فيرد الله عليهم : إن القرآن مصدق للتوراة ، وكلاهما من عند الله ، فكيف تكفرون ببعض الكتاب وتؤمنون ببعض؟ بل إنكم لم تؤمنوا بالتوراة التي فيها تحريم القتل ، وقد قتلتم الأنبياء بغير حق ، فلم قتلتموهم إن كنتم بالتوراة مؤمنين؟!

عبادة العجل عند اليهود

وحبّ الحياة وعداوة الملائكة والرّسل

تمكّن الكفر والطغيان ، والمادية الطاغية ، وحبّ الحياة ، وعداوة جبريل والملائكة والرّسل من قلوب اليهود ، فهم أعداء الدين الإلهي كله ، وأعداء الرّسل جميعا ، وأحرص الناس على الحياة الدنيوية ، وتراهم لا يهمهم إلا أهواؤهم وعنصريتهم ومزاعمهم أنهم أولياء الله ومحبوبوه ، والناجون في الآخرة ، وأنهم الشعب المختار لله تعالى ، فكذب الله جميع ادّعاءاتهم ، بل إنهم وقعوا في الوثنية والشرك ، وعبدوا العجل ، كما تقرر الآيات التالية :

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ (١) مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ

__________________

(١) جعلتموه إلها معبودا.

٤٠