التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0523-3
الصفحات: ٦٧١

الترغيب في الامتثال والتحذير من العصيان

التربية الدينية القرآنية قائمة على الترغيب من الله تعالى بامتثال أوامره والتحذير من المخالفة والمعاصي والتورط في المنهيات ، وذلك كله من أجل خير الإنسان والأخذ بيده نحو الأهداف المثلى والمصالح والمنافع الأبدية له في الدنيا والآخرة.

لذا بشر الله عباده بأنه لا يظلم مثقال ذرة ، ويضاعف الحسنات ويمنح الثواب العظيم على العمل القليل ، ويوبخ الله تعالى المقصرين المعرضين عن الطاعة والإيمان ، ويذكر أن مواقفهم مدعاة للعجب يوم القيامة ، وعندها يندمون ويودون أنهم لم يبعثوا أحياء ، وأن يبقوا في قبورهم أمواتا. قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً (٤٢)) (١) (٢) [النساء : ٤ / ٤٠ ـ ٤٢].

يخبر الله تعالى أنه لا يظلم في الحساب أحدا من خلقه يوم القيامة مثقال ذرة ، ولا حبة خردل ، بل يوفيها له ، ويضاعفها له ، إن كانت حسنة ، كما قال سبحانه : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧)) [الأنبياء : ٢١ / ٤٧]. ومع أنه تعالى لا ينقص أحدا من أجر عمله ، ولو مثقال (وزن) ذرة ، يضاعف ثواب الحسنة إلى عشرة أمثالها ، إلى سبع مائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة ، بل إنه سبحانه أيضا يعطي عباده أجرا عظيما من غير مقابل له من الأعمال ، فهو سبحانه واسع الفضل والجود ، كثير الإحسان. والأجر العظيم : الجنة والرضوان الإلهي. والآية تعم المؤمنين وغير المؤمنين ، فأما المؤمنون فيجازون في الآخرة على مثاقيل الذر فما زاد ، وأما غير

__________________

(١) مقدار أصغر نملة.

(٢) يدفنون في الأرض فلا يبعثون.

٣٢١

المؤمنين فيما يفعلون من خير فتقع المكافأة عليه بنعم الدنيا ، ويجيئون يوم القيامة ولا حسنة لهم.

ثم يذكر الله الخالق موقفا لغير المؤمنين يستدعي العجب ، وهو تمنيهم الدفن في التراب ، وذلك حينما يكون الناس في موقف الحساب ، ويستحضر الله الشهود على الأمم وهم الأنبياء بما يكون منهم من تصديق وتكذيب ، ويجاء بالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاهدا على هؤلاء المكذبين ، من قريش وغيرهم. روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قرأ هذه الآية : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) فاضت عيناه وذرفت الدموع ؛ لأن شهادة أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الأمم تعد من حالات الإعزاز والتكريم ، ولأن شهادة النبي على أمته والأمم السابقة شهادة قاطعة لا تقبل النقض والرفض.

في هذا الموقف الاتهامي والوضع الرهيب لأهل المحشر يود الذين كفروا وعصوا الرسول ويتمنون لو يدفنون في التراب ، فتسوى بهم الأرض ، كما تسوى بالموتى ، وهم لا يستطيعون كتمان حديث أو كلام عن الله لأن جوارحهم (أعضاءهم) تشهد عليهم ، بعد أن يختم الله على أفواههم ، وتتكلم أيديهم وأرجلهم بتكذيبهم والشهادة عليهم بالشرك ، فلشدة الأمر يتمنون الدفن تحت التراب ، وشهادة الأعضاء بإنطاقها من الله سبحانه ، كما قال جل جلاله في كتابه المجيد : (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ (١) إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (٢) (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ (٣) أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)) [فصلت : ٤١ / ١٩ ـ ٢٣].

__________________

(١) وهم المكذبون برسالات الرسل.

(٢) يساقون بعنف إلى جهنم.

(٣) تستخفون.

٣٢٢

هذه إنذارات شديدة الوقع على النفوس تقابل تلك البشائر التي زفّها الله تعالى للمؤمنين الطائعين.

تحريم الصلاة حال السكر ورخصة التيمم

الصلاة المفروضة في الإسلام هي معراج النفس المؤمنة إلى الله تعالى ، وهي محراب التقوى وصفاء النفس وراحة القلب وقرة العين ، لذا كان المطلوب فيها استحضار الخشوع والطمأنينة وسكون الأعضاء ، وتوافر العقل والإدراك ووعي الأقوال والأفعال المتكررة في الصلاة ، وطهارة البدن فلا تصح صلاة السكران والجنب والمحدث وهي باطلة. ولقد يسر القرآن الكريم أداء الصلاة ما دام العقل والوعي متوافرا ، وراعى حال الضعف والمرض وفقد الماء من أجل السفر ، فأجاز التشريع ما يسمى بالتيمم وهو ضربتان على التراب أو الغبار المتناثر على جدار أو متاع ، ومسح الوجه والأيدي إلى المرافق بهما. قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣)) (١) (٢) (٣) (٤) [النساء : ٤ / ٤٣].

وسبب نزول (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) ما قال علي رضي الله عنه : صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما وشرابا ، فدعانا وسقانا من الخمر حين كانت الخمر مباحة لم تكن حرّمت بعد ، فأكلنا وشربنا ، وأخذت الخمر منا ، وحضرت الصلاة ، فقدموني للصلاة ، فقرأت : (قل : يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ،

__________________

(١) مسافرين.

(٢) أي أحدث بالبول أو الغائط أو الريح.

(٣) جامعتم ، أو لمستم بشرتهن.

(٤) ترابا طاهرا.

٣٢٣

ونحن نعبد ما تعبدون) فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ). وذكر ابن جرير الطبري أن الإمام كان يومئذ عبد الرحمن بن عوف ، وأن الصلاة صلاة المغرب ، وكان ذلك قبل أن تحرّم الخمر.

وهذا دليل واضح على أن السكر يغطي العقل ، ويؤدي إلى الهذيان وتخليط الكلام ، والإخلال بالعقيدة والعبادة ، فتكون الصلاة باطلة حال السكر ، كما أن الصلاة باطلة حال الجنابة ، بل يحرم على الجنب دخول المساجد ، إلا عبورا من غير مكث ولا توقف أو استقرار في جميع أجزاء المسجد. وقد منع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم توجيه البيوت نحو المسجد ، وقال في حديث صحيح رواه أبو داود عن عائشة : «وجهوا هذه البيوت عن المسجد ، فإني لا أحل المسجد لجنب ولا حائض». وذكرت الآية : لا تقربوا الصلاة حال الجنابة إلا إذا كنتم عابري سبيل ، أي مجتازي الطريق.

وسبب نزول آية : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) هو ما قال علي رضي الله عنه : نزلت هذه الآية وهي قوله تعالى : (وَلا جُنُباً) في المسافر تصيبه الجنابة ، فيتيمم ويصلي ، وكان نزول آية التيمم في غزوة المريسيع ، فكان صدر الآية في حادثة الخمر ، وعجزها في حادثة السفر.

وتشريع التيمم رخصة ميسّرة للناس ؛ لأن الصلاة تتكرر خمس مرات في اليوم ، ولا يجوز تركها بحال ، إلا أن الطهارة بالوضوء بالماء قد تتعذر على المسلم المصلي لمرض أو عذر ، فرخص الشرع الحكيم الرحيم بالناس في التيمم بالتراب بنحو رمزي ، حتى لا تترك الصلاة من أي إنسان ، وليس الهدف نقل التراب إلى الوجه واليدين ، وإنما أن يقصد الإنسان أرضا طاهرة لا نجاسة فيه ، فيها غبار ، أو حتى على حجر صلب ، أو متاع كمخدة يتناثر منها الغبار ، وكيفية التيمم : نية فرض التيمم وضربتان على تراب ونحوه مما ذكر ، الضربة الأولى للوجه ، والثانية لليدين.

٣٢٤

يتيمم مريد الصلاة إذا كان مريضا مرضا يتعذر معه استعمال الماء ، أو يضر الجرح أو يؤدي إلى بطء الشفاء ، أو كان مسافرا في صحراء أو غيرها على الطرقات العامة ، وتعذر استعمال الماء لفقده أو لمشقة السفر ، سواء أكان المريض أم المسافر محدثا حدثا أصغر ، أم حدثا أكبر ، فيكون التيمم جائزا بدلا عن الوضوء أو الغسل لأعذار ثلاثة : السفر ، والمرض ، وفقد الماء.

وهذا مظهر من مظاهر التسامح والتيسير في أداء الصلاة ، ودليل على أن الإسلام يدفع الحرج والمشقة عن الناس ، لذا ختم الله تعالى الآية بقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) يعفو حيث سهّل الصلاة للمعذور من دون وضوء ولا غسل ، والله يقبل العفو أي السهل ، ويغفر الذنب أي يستر عقوبته ، فلا يعاقب المصلحين التائبين ، ومن كان عفوا غفورا آثر التسهيل ، ولم يشدد ؛ لأن الله رؤف رحيم بعباده.

تحريف الكتب الإلهية وإهمال الهداية

من المعلوم أن الأديان السماوية كلها متفقة في أصولها العامة ومبادئها الأساسية ، كتوحيد الله ونفي الشرك ، والدعوة إلى كريم الأخلاق ، وسمو الفضائل ، وإصلاح المجتمع الإنساني ، وإسعاد الفرد والجماعة ، والقرآن الكريم مصدق لموسى وعيسى عليهما‌السلام فيما أنزل الله عليهما من الوحي الإلهي في التوراة والإنجيل ، وإذا كان الإنسان المتزن متسامحا في نظرته ، مبتعدا عن التعصب والانغلاق ، فعليه أن يؤمن ويصدق بجميع ما جاء من عند الله ، وكيف لا يؤمن أهل الكتاب وغيرهم بالقرآن الكريم ، مع أنه جاء مصدقا لما معهم ، وموافقا لملة إبراهيم الخليل عليه‌السلام ـ ملة التوحيد ، فمن أخلص للحقيقة ، فعليه أن يقتنع بها ، ويلتزم بمضمونها ،

٣٢٥

ويدافع عنها ، ويستجيب لنداء الله في الوحي الإلهي الثابت ، وهو القرآن الكريم الذي لم يبق غيره معبرا عن إرادة الله وتشريعاته وأحكامه.

أما المعادي للقيم الدينية الإنسانية ، فيتهرب من مواجهة الحقيقة إما بالتحريف والتأويل ، وإما بالإنكار والجحود ، وإما بالاستهزاء والطعن ، وصرف الكلام عن إرادة الخير إلى إرادة الشر ، لذا وبّخ الله سبحانه في القرآن المجيد أولئك الذين يبدلون كلام الله ، بدافع التطور والمعاصرة ، أو بدافع نفعي مادي وحفاظا على المصالح الذاتية والمراكز والمناصب باسم الدين ، وبباعث التعصب. قال الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً (٤٥) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٤٧)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) [النساء : ٤ / ٤٤ ـ ٤٧].

نزلت هذه الآيات في يهود المدينة ، قال ابن إسحاق : كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء اليهود ، وإذا كلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لوى لسانه ، وقال : أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك ، ثم طعن في الإسلام وعابه ، فأنزل الله فيه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ..) الآيات.

والمعنى : ألم تنظر إلى الذين أوتوا جزءا من الكتاب ، يستبدلون الضلالة بالهدى ،

__________________

(١) يغيرونه ويتأولونه بالباطل.

(٢) أي لا سمعت ، وهو دعاء على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) كلمة سب وطعن.

(٤) تحريفا بألسنتهم.

(٥) أعدل وأصوب.

(٦) نمحوها.

٣٢٦

ويأخذون الكفر بدل الإيمان ، ويريدون منكم أن تضلوا معهم الطريق المستقيم ، والله أعلم بأعدائكم أيها المؤمنون ، فامتثلوا أمره ، واحذروا الأعداء ، وكفى بالله ناصرا يتولى أموركم ، ويصلح حالكم ، وكفى به نصيرا ينصركم إن نصرتموه ، كما قال الله تعالى : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم : ٣٠ / ٤٧].

وبعض الكتابيين يبدلون كتبهم ، ويؤولونها تأويلا غير صحيح ، وهم يقولون : سمعنا وعصينا ، بدل قولهم : سمعنا وأطعنا ، وكانوا يقولون حسدا وحقدا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اسمع لا سمعت ، أي لا أسمعك الله ولا أجاب قولك ، وقالوا للنبي أيضا : راعنا من الرعونة والحمق ، وهي كلمة سب ، تحريفا بألسنتهم وطعنا في الدين وفتلا بالألسنة عن الحق والصواب والأدب. وهذا منتهى الجرأة في الباطل والعدوان على الحق ، ولو قالوا : سمعنا وأطعنا ، بدل : سمعنا وعصينا ، لكان خيرا لهم وأهدى سبيلا ، ولكنهم لم يقولوا ذلك ، فخذلهم الله ولعنهم وطردهم من رحمته ، فهم لا يوفّقون أبدا للخير ، ولا يؤمنون إيمانا صحيحا إلا إيمانا قليلا لا إخلاص فيه ، ثم دعاهم الله للإيمان بالقرآن قبل تدميرهم وتشويههم ، ولعنهم كلعنة أصحاب السبت المتحايلين على صيد السمك الممنوع عليهم بأخذ الأسماك من الأحواض التي بنوها ، وذلك في يوم الأحد ، وكان أمر الله التكويني بإيقاع شيء ما نافذ المفعول لا محالة ، متى أراده أوجده ، فليحذر الناس وعيد الله وعقابه.

ما يغفره الله تعالى

إن الإنسان بحكم ضعفه وميله للشهوات دون وعي وتقدير للعواقب ، تراه يقع في أخطاء ومعاص أو ذنوب تغضب الله تعالى ، لأن الخطأ أو العصيان ليس في الواقع في صالح الإنسان نفسه ، وإنما هو ضرر في ذاته ولمصالحه ، يجرّ عليه أسوأ النتائج

٣٢٧

وأخطر الأمور ، في الدنيا والآخرة ، ففي الدنيا ضرر في الصحة والسمعة والاعتبار الأدبي ، وفي الآخرة ضرر دائم محقّق بالعذاب في نيران جهنم.

ومن أجل خير الإنسان ونفعه والحفاظ على مصلحته وكرامته حرّم الشرع المعاصي والمنكرات ، وأوعد مرتكبيها بالجزاء الشديد والعقاب الأليم ، غير أن الله الرحيم بعباده فتح لهم باب الأمل وأزال من النفوس رواسب اليأس والإحباط ، ورغب في العودة إلى الجادة المستقيمة ، والالتزام بمرضاة الله تعالى ، فوعد سبحانه التائبين المحسنين أعمالهم بالمغفرة ، أي ستر الذنب وإسقاطه وجعل للمغفور له أن يدخله الجنة بلا عذاب ولا عقاب ، لكن من شاء عذّبه من المؤمنين بذنوبه ، ثم يدخله الجنة.

قال الله تعالى مبينا دستوره في الوعد والوعيد : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨)) [النساء : ٤ / ٤٨].

هذه الآية مسوقة للرد على أولئك الذي يحلمون بمغفرة الله من دون الإيمان ، قائلين : (سيغفر لنا) بالرغم مما يفعلون ويرتكبون.

وسبب نزولها كما جاء عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام ، قال : وما دينه؟ قال : يصلي ويوحد الله ، قال : استوهب منه دينه ، فإن أبى فابتعه منه ، فطلب الرجل ذلك منه ، فأبى عليه ، فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره ، فقال : وجدته شحيحا على دينه ، فنزلت : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ).

وهذه الآية مخصصة لقوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣)) [الزمر : ٣٩ / ٥٣].

أي إن كل الذنوب والمعاصي قابلة للغفران ما عدا جريمة الشرك ، أي نسبة الولد والشريك والصاحبة لله عزوجل ، فالشرك أعظم الجرائم عند الله تعالى ؛ لأنه يمنع

٣٢٨

نور الإيمان من الوصول إلى القلب ، وهو منتهى ما تهبط إليه عقول البشر ، ومنه تتولد سائر الرذائل التي تهدم كيان الأفراد والجماعات ، ولا غرابة في ذلك فالمشرك يظن أن في الصنم أو البشر مثله تأثيرا في الكون والحياة. أما التوحيد والإيمان الخالص لله عزوجل من كل شوائب الشرك ، فيسمو بالنفس إلى عبادة الرب ، والاعتماد عليه وحده ، والتوكل عليه والإخلاص له ، وفي هذا نور القلب ، وصفاء الروح ، ونور البصيرة ، والعزة الكاملة ، لذا كانت المعاصي كلها بعد الإيمان قابلة للمغفرة وقبول التوبة ، لأن نور الإيمان يسترها ، غير أن المغفرة مرتبطة بمشيئة الله ، وهي للعباد التائبين الذين يعملون الصالحات التي أمر الله بها ، وانتهوا عما نهى الله عنه ، لقوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) [هود : ١١ / ١١٤].

والناس أمام السيئات أربعة أصناف :

١ ـ كافر مات على كفره ، فهذا مخلد في النار بالإجماع.

٢ ـ ومؤمن محسن لم يذنب قط ، ومات على ذلك ، فهذا في الجنة بالإجماع.

٣ ـ وتائب مات على توبته : وهذا لا حق بالمؤمن المحسن ، ولكن بمشيئة الله.

٤ ـ ومذنب مات قبل توبته ، ومرد هذا ومصيره إلى الله تعالى ، إن شاء عذبه وإن شاء سامحه ، للآية السابقة : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ). أي إن غفران ما دون الشرك إنما هو لقوم دون قوم ، فمن شاء الله المغفرة له غفر له ، ومن شاء أن يعذبه عذبه ، وكل ذلك بحكمة إلهية عالية ، نترك الأمر في معرفتها لله رب العالمين.

٣٢٩

بعض الممارسات السيئة

الأخلاق الشخصية والاجتماعية عنوان التدين الصحيح ، ورمز تقدم الأمم والجماعات ، وإذا ساءت الأخلاق لا سيما في الأمور التي تمس قدسية الدين ، كان التدين خطأ ، والاستنكار والشناعة أظهر ما يلاحظ من الآخرين ، ومن هذه الأخلاق المنكرة : تزكية الإنسان نفسه والافتراء على الله كذبا ، والإيمان بالأصنام والطواغيت : وهي كل ما عبد من دون الله والشياطين ، والبخل والشح ، والحسد للآخرين ، وتفضيل الكفار الجاهلين على المؤمنين المخلصين ، وادعاء أن أولئك الكفار أهدى سبيلا وأقوم طريقا ومنهجا من الذين آمنوا.

قال الله تعالى موبخا كل من يتصف بهذه الأخلاق المرذولة والممارسات المغلوطة : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥)) (١) (٢) (٣) (٤) [النساء : ٤ / ٤٩ ـ ٥٥].

قال ابن عباس مبينا سبب نزول هذه الآيات : كان اليهود يقدّمون صبيانهم يصلون بهم ، ويقربون قربانهم ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب ، فأنزل الله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ).

__________________

(١) يمدحونها.

(٢) بقدر خيط النواة.

(٣) كل ما يعبدون من دون الله.

(٤) النقير : النقرة التي تكون في ظهر النواة ، أي البزرة ، وهذا رمز للقلة والحقارة.

٣٣٠

وقال عكرمة : انطلق كعب بن الأشرف إلى المشركين في مكة يؤلبهم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويأمرهم أن يغزوه قائلا : إنا معكم نقاتله ، فقالوا : إنكم أهل كتاب مثله ، ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم. فإن أردت أن تخرج معنا ، فاسجد لهذين الصنمين ، فسجد ، ثم قالوا : نحن أهدى أم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنحن ننحر الكوماء (الناقة الضخمة) ونسقي الحاج ، ونقري الضيف ، ومحمد قطع رحمه ، وخرج من بلده ، فقال كعب : بل أنتم خير وأهدى سبيلا ، فنزلت الآيات.

والمعنى : ألم تعلم وتنظر إلى حال الذين يمدحون أنفسهم ، ويدّعون ما ليس فيهم ، ويقولون : نحن أبناء الله وأحباؤه ، ونحن شعب الله المختار ، ولا تمسنا النار إلا أياما معدودات ، ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ، وإن أبناءنا توفوا وهم لنا قربة ، وآباؤنا يشفعون لنا ، لكرامتهم على الله ، فرد الله دعواهم بأنه لا قيمة لتزكية أنفسهم ، فإن التزكية تكون بالعمل الصالح ، لا بالادّعاء ، والله هو الذي يزكي من يشاء من عباده ، بتوفيقه للعمل الصالح ، وهدايته للإيمان والآداب الفاضلة.

إنهم بهذه الادعاءات يفترون على الله الكذب ، وكفى بالكذب إثما واضحا ومعصية كبيرة ، إنهم يعبدون غير الله من الشياطين والأصنام ، ويصفون الكفار بأنهم أرشد من المؤمنين. وهم الذين لعنهم الله وطردهم من رحمته ، والمطرود من رحمة الله لا نصير ولا معين له ، بل ليس لهم نصيب من الملك والسلطان ، ولو كان لهم نصيب من الملك ، فلا يأتون الناس إلا أحقر شيء وأبسطه وأقله ، لأنهم مطبوعون على الأنانية حب الذات وحب المادة ، والغرور الكاذب ، بأنه لن يعطى أحد مثلما يعطون ، ولا يستحق أحد أي شيء.

بل إنهم يحسدون الناس كمحمد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما آتاه الله من فضله كالنبوة والقرآن والحكمة ، وهذا لا غرابة فيه ولا حق لهم بالحسد فيه ، فقد آتى الله آل

٣٣١

إبراهيم الكتاب والحكمة والنبوة ، وآتاهم الله ملكا عظيما ، ومن أسلافهم من آمن بما أعطي إبراهيم ، ومنهم من كفر به وصدّ الناس عن رسالته ، وكفى بجهنم التي تتوقد نيرانها ، وتستعر وتلتهب بهم ، وهذا وعيد شديد لكل من لا يؤمن بالله ربا ، وبمحمد نبيا ، وبالقرآن المجيد كتابا إلهيا ، وبمشتملات القرآن من العقائد الصحيحة والآداب الفاضلة.

عقاب الكفار وثواب المؤمنين

لقد كان القرآن الكريم واضحا كل الوضوح في بيان المصير المرتقب لأهل الكفر والإيمان في عالم الآخرة ، وهذا الإيضاح والتصريح القرآني دليل على أن الله تعالى يحب عباده ، ويحب الخير لهم ، حين رغّبهم في العمل الصالح الذي يسعدهم في الدنيا والآخرة ، وحذّرهم ونفّرهم من كل عقيدة باطلة أو عمل فاسد يؤديان إلى الهلاك والخسران في الدنيا والآخرة ، وقد تكررت الآيات القرآنية المصرحة بأن جزاء الكفر والكفار هو نار جهنم ، وأن جزاء الإيمان والمؤمنين الظفر بجنان الخلد التي تجري من تحتها الأنهار ، ورضوان لهم من الله أكبر.

قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧)) (١) (٢) (٣) [النساء : ٥٦ ـ ٥٧].

هذه الآيات تشتمل على وعد ووعيد ، بلفظ جلي لكل الناس ، المؤمنين منهم

__________________

(١) ندخلهم نارا.

(٢) احترقت.

(٣) دائما ، لا حر فيه ولا برد.

٣٣٢

والكفار ، في كل زمان ومكان. أما الوعيد فهو للكفار ، فالذين كفروا بآيات الله المنزلة على أنبيائه ، وبخاصة القرآن الذي هو خاتم الكتب الإلهية وأكملها وأبينها ، سوف يحرقون بنار جهنم ، وهذا العذاب أو العقاب والنكال دائم لا ينقطع ولا يفتر ، وكلما نضجت جلودهم بالحرق ، أي احترقت وتلاشت ، ولم تعد صالحة للإحساس بالألم ، بدلهم الله بجلود أخرى حية تشعر بالألم ، وتحس بالعذاب ، جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «تبدّل جلودهم كل يوم سبع مرات».

ثم أكد الله تعالى علة العقاب ، وبيّن مدى القدرة التامة عليه ، فذكر سبحانه أنه عزيز ، أي قادر قوي قاهر لا يغلب ، ولا يمتنع عليه شيء ، مما يريده بالمجرمين ، حكيم لا يعذب إلا بحق وعدل ، ولا يعاقب إلا على وفق الحكمة السديدة ، ومن مقتضيات العدل : أن الكفر والمعاصي سبب للعذاب والعقاب ، وأن الإيمان والعمل الصالح سبب للنعيم والجنة ، فلكل عمل ما يناسبه ، لذا قرن الله في هذه الآيات وغيرها بين ثواب المؤمن وجزاء الكافر ، لإظهار الفرق بينهما ، والجمع بين الترغيب والترهيب كالشأن العام في الآيات القرآنية. وهذه سنة حميدة ، للمقارنة أو الموازنة ، وفي هاتين الآيتين ، لما ذكر الله وعيد الكفار ، عقّب بوعد المؤمنين بالجنة على الإيمان والأعمال الصالحة. فالذين آمنوا بالله ورسله وقرآنه ، وعملوا صالح الأعمال التي أمر الله بها ، سيدخلهم ربهم سريعا جنات تجري من تحت غرفها وبساتينها الأنهار العذبة ، يتمتعون فيها بالنعيم الدائم ، وهم خالدون فيها أبدا لا يحوّلون ولا يزولون ، ولا يرغبون بديلا عنها ، فلا ملل ولا سأم ولا ضجر ، جزاء مطابقا لعملهم الصالح ، إذ لا يكفي الإيمان وحده بغير العمل الصالح.

ولهؤلاء المؤمنين الصادقين في إيمانهم زوجات بريئات من العيوب الجسدية ، والخلقية أو الطباع الردية ، فليس فيهن ما يعكر المزاج ، أو يكدر الصفو ، وهم يعيشون على الدوام في مكان ممتع ظليل ، لا حرّ فيه ولا برد ، وتلك نعمة كاملة ،

٣٣٣

ورفاهية تامة ، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان. وقد أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صفة ظل الجنة وامتداده ، فقال فيما أخرجه ابن جرير الطبري عن أبي هريرة : «إن في الجنة شجرة ، يسير الراكب الجواد المضمر في ظلها مائة سنة ما يقطعها» قال ابن كثير في معنى الظل الظليل : أي ظلا عميقا كثيرا غزيرا طيبا أنيقا.

وهذا الجزاء الطيب لأهل الإيمان من فضل الله ورحمته وإحسانه وجوده ، إذ لا يدخل أحد الجنة بمجرد عمله ، لأن عمله قليل بجانب فضل الله ونعمه ، وإنما يدخل برحمة الله وإكرامه.

المنهاج العام للمسلمين

نظم الإسلام الحقوق الخاصة والحقوق العامة والدستورية ، وقيد الأمة بقيود من أجل ضبط النظام وصون الحريات ، وحفظ الأموال ، وإعلاء كرامة الإنسان ، ومن أهم هذه القيود النظامية : أداء الأمانات والحقوق المالية إلى أصحابها ، وإصدار الحكم بالعدل والحق ، وإطاعة الله والرسول فيما شرع وأمر ، وإطاعة ولاة الأمور من العلماء والحكام في قضايا الدين وسياسة الدنيا.

قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩)) (١) (٢) (٣) [النساء : ٤ / ٥٨ ـ ٥٩].

نزلت الآية الأولى في أداء الأمانات في عثمان بن طلحة بن عبد الدار ، الذي كان

__________________

(١) حقوق الله وحقوق العباد.

(٢) نعم الذي يعظكم به وهو ما ذكر.

(٣) أجمل عاقبة.

٣٣٤

سادن الكعبة ، فحينما دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة يوم الفتح ، أغلق عثمان باب الكعبة ، وصعد إلى السطح ، وأبى أن يدفع المفتاح إليه ، وقال : لو علمت أنك رسول الله لم أمنعك ، فأخذه علي بن أبي طالب بالقوة ، وفتح الباب ، ودخل رسول الله ، وصلى ركعتين في الكعبة ، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ، ويجمع له السقاية والسدانة ، أي خدمة الكعبة ، فنزلت الآية : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ..) فأمر النبي عليا أن يرد مفتاح الكعبة إلى عثمان ، ويعتذر إليه.

ورد الأمانات لا يقتصر على هذه الحالة ، لأن الأمر بذلك عام لكل مسلم في كل أمانة في ذمته ، سواء أكانت عامة للأمة ، أم خاصة لشخص معين ، والأمانة ورعايتها مطلوبة في كل شيء ، في النفس ، ومال الآخرين ، ورد الودائع ، وترك الغش في المعاملات ، والجهاد والنصيحة ، وعدم إفشاء أسرار الناس وعيوبهم ، والأمانة في الدين بفعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه. والأمانة في النفس : بألا يفعل الإنسان إلا ما ينفعه في الدين والدنيا والآخرة ، وألا يقدم على عمل يضره في آخرته أو دنياه ، ويتوقى أسباب المرض ، ويعمل بالقواعد الصحية ، ولا يعرض نفسه للهلاك ، لقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ٢ / ١٩٥] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه البخاري : «إن لنفسك عليك حقا».

وكما أن أداء الأمانات واجب ، العدل في القضاء والحكم بين الناس واجب أيضا ، حتى يتحقق التناصف ، ويأخذ الضعيف أو المظلوم حقه ، ولا يبغي القوي على الضعيف ، ويسود الأمن والاستقرار والنظام ، ونعم الشيء الذي يعظ الله به من أداء الأمانات والحكم بالعدل ، والله سميع لكل شيء ، بصير بالمرئيات ، ويحاسب الناس ويجازيهم على أعمالهم ، والتعقيب على أداء الأمانات والعدل بالسمع والبصر أمر حسن ، يدفع الإنسان المأمور لفعل ما أمر به.

٣٣٥

ونزلت آية الأمر بإطاعة الله والرسول في خالد بن الوليد وعمار بن ياسر اللذين تسابا وتشاتما أمام الرسول ، فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا خالد ، لا تسب عمارا ، فإنه من سب عمارا سبّه الله ، ومن أبغض عمارا أبغضه الله ، ومن لعن عمارا لعنه الله» فغضب عمار وذهب ، فتبعه خالد واعتذر إليه ، وتراضيا ، فنزلت الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ).

فطاعة الله والرسول واجبة ، بتنفيذ أحكام الله ، واتباع سنة رسول الله ، وكذلك تجب طاعة ولاة الأمر من أهل الحل والعقد في الأمة ، أي السلطة التنفيذية في الأمة ، وأولي الاجتهاد في التشريع من العلماء والحكام والولاة العدول ، فإن حدث تنازع واختلاف في وجهات النظر ، فالواجب رد الأمر إلى نظيره ومثيله في القرآن والسنة ، ولا يفهم ذلك إلا العلماء الأعلام المخلصون لله ورسوله ، وعليكم أيها المختلفون العمل بهذه الوصايا وامتثال أوامر الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ، فذلك خير لكم في الدنيا والآخرة ، وأحسن تأويلا ، أي مآلا وعاقبة.

أبرز مواقف المنافقين من القرآن الكريم

ابتليت هذه الأمة بفئة جبانة ضعيفة ، تدس في الخفاء ، وتطعن في الخلف ، وهم المعروفون بالمنافقين ، الذين أظهروا الإسلام خداعا ، وأبطنوا الكفر والعداوة والتحيز لفئة المشركين وصف غير المؤمنين من الكتابيين. وكان أبرز موقف للمنافقين تجاه القرآن الكريم : هو تجاوز القرآن والتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله ، وذلك مع الإصرار والعناد والمجاهرة بالفسق والضلال.

قال الله تعالى واصفا أحوال هؤلاء المنافقين : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ

٣٣٦

آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣)) (١) [النساء : ٤ / ٦٠ ـ ٦٣].

نزلت في رجل من المنافقين اسمه : بشر ، كان بينه وبين يهودي خصومة ، فقال اليهودي : انطلق بنا إلى محمد ليفصل بيننا في هذه القضية ، وقال المنافق : بل نأتي كعب بن الأشرف ، وهو الذي سماه الله تعالى (الطَّاغُوتِ) فأبى اليهودي إلا الاحتكام إلى محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقضى رسول الله لليهودي ، فلم يرض المنافق بهذا الحكم ، وقال : ننطلق إلى عمر بن الخطاب ، فجاء إليه ، فلما علم بأن المنافق لم يرض بحكم رسول الله ، أحضر سيفه ، وضرب به المنافق حتى مات ، وقال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله ، وهرب اليهودي ، ونزلت هذه الآية ، وقال جبريل عليه‌السلام : إن عمر فرق بين الحق والباطل ، فسمي الفاروق.

لقد كشف الله في هذه الآيات موقف المنافقين الذين لا يطيعون الرسول ، ولا يرضون بحكمه ، بل يريدون حكم غيره كالكاهن أبي برزة الأسلمي ، أو الطاغية كعب بن الأشرف.

والمراد بالذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل على محمد هم المنافقون ، والذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل من قبله هم اليهود ، وقد أمر الفريقان بالكفر بالطاغوت وهو الكاهن أبو برزة الأسلمي ، أو كعب بن الأشرف ، وهو الذي تراضى به

__________________

(١) الطاغية : الضال كعب بن الأشرف اليهودي.

٣٣٧

الخصمان في الاحتكام إليه ، وسمي ابن الأشرف طاغوتا لإفراطه في الطغيان ، وعداوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والبعد عن الحق.

والآية تأنيب للصنفين المذكورين اللذين أمرا في القرآن الكريم والكتب السابقة أن يكفرا بالطاغوت ويجتنباه ، لقوله سبحانه : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل : ١٦ / ٣٦] وقوله تعالى : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) [البقرة : ٢ / ٢٥٦].

إن الإيمان بالله ورسله يتنافى مع الاحتكام لغير كلام الله ، أو الإيمان بالطاغوت ، وإيثار حكمه على حكم الشرع الشريف ، ولكن الشيطان بوسوسته وشروره يريد أن يضل المنافقين وأمثالهم ضلالا بعيدا عن الحق والصواب.

وإذا قيل لهؤلاء المنافقين : تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول للاحتكام والقضاء ، فهو الصراط المستقيم ، رأيت المنافقين يصدّون عن محمد وعن دعوته صدودا مؤكدا ، ويعرضون عن قبول حكمه إعراضا شديدا ، بكل ما أوتوا من قوة وحجة ، والدافع لهم إلى ذلك : هو اتباع شهواتهم ومآربهم الخاصة.

ثم أنذر القرآن هؤلاء المنافقين وحذرهم في حال تعرضهم لمصيبة من المصائب ، وافتضاح أمرهم ، وظهور حالهم ، وانكشاف سترهم بما قدمته أيديهم ، كيف يكون حالهم؟! هذا إنذار بالخطر الواقع بهم حتما ، وحينئذ يأتون إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحلفون بالله وهم الكاذبون ، قائلين : ما أردنا بأعمالنا هذه إلا إحسانا في المعاملة ، وتوفيقا بين الخصوم بالصلح ، ولكن حيلتهم مكشوفة ، فهم الذين لعنهم الله ، وعلم ما في قلوبهم من الكيد والحقد والحسد ، وانتظار الشر بالمؤمنين ، ويكون جزاؤهم الإعراض عنهم ومجافاتهم وترك الترحاب بهم ، وتعنيفهم بالقول المؤثر البليغ في أنفسهم ، لعلهم يتدبرون ويتفكرون في إصلاح شؤونهم ، وتغيير مواقفهم.

٣٣٨

وجوب طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم

أرسل الله الرسل والأنبياء لإسعاد البشرية ، وإنقاذ الناس من الظلمات إلى النور ، وتصحيح العقيدة ، والإرشاد إلى الفضائل الكريمة والأخلاق القويمة ، ولتحقيق الاستقرار والأمن وإشاعة المحبة والمودة بين الناس ، وانتزاع الأحقاد ، والقضاء على المنازعات والخصومات ، ولئلا يحتج أحد يوم القيامة بأنه لم يكن يعلم الحق من الباطل ، والخير من الشر ، والعبادة الصحيحة المرضية لله تعالى من العبادة الباطلة أو الفاسدة ، قال الله تعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥)) [النساء : ٤ / ١٦٥].

وإرسال الرسل من أجل هذه الغايات والمصالح الكبرى يتطلب وجوب طاعتهم فيما أمروا به ، وترك كل ما نهوا عنه ، علما بأنهم لا يأمرون إلا بخير ، ولا يمنعون إلا من شر ، وإذا حدث خصام أو نزاع في حال حياة رسول ، وجب الاحتكام إليه ، وتنفيذ حكمه ؛ لأنه لا يحكم إلا بالحق والعدل ، وبعد وفاة أي رسول يجب الاحتكام إلى الشرع الذي تركه والكتاب الذي علّمه للناس. لذا قال الله تعالى مبينا وجوب طاعة النبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووجوب الاحتكام إليه وإلى قرآنه وسنته من بعد وفاته : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥)) (١) (٢) [النساء : ٤ / ٦٤ ـ ٦٥].

نزلت هذه الآيات فيمن أراد التحاكم إلى الطاغوت : كعب بن الأشرف ، ونزلت أيضا في رجل خاصم الزبير بن العوام في السقي بماء الحرّة (ماء السيل) فقال لهما

__________________

(١) فيما حدث فيه نزاع والتباس في الأمور.

(٢) ضيقا ومشقة.

٣٣٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما ثبت في؟ الصحيحين : «اسق يا زبير ، ثم أرسل الماء إلى جارك» فغضب ذلك الرجل وقال : أن كان ابن عمتك؟! فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستوعب للزبير حقه فقال : احبس يا زبير حت يبلغ الجدر (١) ، ثم أرسل الماء ، فنزلت هذه الآية : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ..) وكان هذا الرجل في الصحيح رجلا من الأنصار من أهل بدر ، وقيل : هو حاطب بن أبي بلتعة.

توجب الآية إطاعة الرسول في كل أمر ونهي ، فالله يخبرنا أنه لم يرسل رسولا إلا وطاعته واجبة ، بإذن الله وأمره ، فالطاعة في الأصل لله ، ثم لمن يأمر الله بطاعته ، ومن يطع الرسول فقد أطاع الله ، ومن يعص الرسول فقد عصى الله.

وفي آية تالية ذكر الله تعالى ثواب الطائعين لله والرسول ، وحرض على الطاعة ، فقال تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً (٧٠)) [النساء : ٤ / ٦٩ ـ ٧٠] فكل من يطع الله فيما أمر ونهى ، وأطاع النبي فيما بشّر وأنذر ، وبلّغ عن ربه ، فأولئك يحشرون يوم القيامة مع الأنبياء والصدّيقين والشهداء والصالحين ، وحسنت رفقة هؤلاء ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

روى الطبراني وغيره : قالت السيدة عائشة رضي الله عنها : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، إنك لأحب إلي من نفسي ، وإنك لأحب إلي من ولدي ، وإني لأكون في البيت ، فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك ، وإذا ذكرت موتي وموتك ، عرفت أنك إذا دخلت الجنة ، رفعت مع النبيين ، وإني إذا دخلت الجنة ، حسبت ألا أراك ، فلم يرد عليه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى نزلت جبريل بهذه الآية : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ ..) وقال النبي له فيما رواه الطبراني والضياء : من أحب قوما حشر معهم.

__________________

(١) الجدر : معناه ما رفع حول الأرض المزروعة ، فصار كالجدار.

٣٤٠