التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0523-3
الصفحات: ٦٧١

أخرى فربما كرهتم شيئا ، وفيه الخير الكثير لكم. قال السّدي : الخير الكثير في المرأة : الولد. أي أن الصبر في معاملة النساء أمر مطلوب شرعا ؛ لأن الكمال لله ، وقد تنجب هذه المرأة أولادا نجباء ، وقد يكون لها مزايا وخصال أخرى تغطي الخصال المذمومة ، لذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه مسلم عن أبي هريرة : «لا يفرك مؤمن مؤمنة ـ أي لا يبغضها ـ إن ساءه منها خلق ، سرّه منها خلق آخر».

وإذا أردتم أيها الزوجان الفراق ـ وهو أبغض الحلال إلى الله ـ وكان بينكما نشوز وإعراض وسوء عشرة ، فلا يجوز أخذ شيء من مهر المرأة ، ولو بلغ قنطارا من الذهب ، وكيف تأخذونه بهتانا (كذبا) وأخذه إثم واضح وذنب كبير؟ وكيف تأخذونه بعد إبرام العقد الخطير وهو الميثاق الغليظ ، وبعد مكاشفة الأسرار ، وحدوث الاختلاط والمباشرة ، إن هذا أمر مستنكر شرعا لا يليق بمؤمن.

خطب عمر بن الخطاب فقال : «ألا لا تغالوا بمهور نسائكم ، فإن الرجل يغالي حتى يكون ذلك في قلبه عداوة للمرأة ، يقول : تجشمت إليك أي تحملت الشدائد ، فكلمته امرأة من وراء الناس ، كيف هذا؟ والله تعالى يقول : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) فأطرق عمر ثم قال : «كل الناس أفقه منك يا عمر» «امرأة أصابت ، ورجل أخطأ» والله المستعان ، وترك الإنكار.

محارم النساء

راعى الإسلام ما تستوجبه رابطة الدم من حرمة وتعظيم ، فحرم الزواج على الرجال ببعض الأقارب القريبين جدا ، وفي ذلك رفع للحرج ، وجعل العيش في بيئة الأسرة الواحدة أمرا ميسورا لا حرج فيه ، علما بأن بعض قبائل العرب قد اعتادوا أن يخلف الرجل على امرأة أبيه ، فإذا توفي الرجل عن امرأته ، كان ابنه أحق بها ،

٣٠١

يتزوجها إن شاء إن لم تكن أمه ، أو يزوجها من شاء. ووجدت أمثلة فعلية لبعض الرجال الذين تزوجوا من زوجات الآباء ، لا داعي لذكر أسمائهم هنا ، وكان في العرب من تزوج ابنته ، وهو حاجب بن زرارة ، تمجّس وفعل هذه الفعلة. فنهى الله المؤمنين عما كان عليه آباؤهم من هذه السير والمثالب المستنكرة.

قال ابن عباس : كان أهل الجاهلية يحرّمون ما يحرم إلا امرأة الأب ، والجمع بين الأختين ، فنزلت هاتان الآيتان : قال الله تعالى :

(وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣)) (١) (٢) (٣) (٤) [النساء : ٤ / ٢٢ ـ ٢٣].

سمى الله تعالى الزواج بامرأة الأب نكاح المقت ، أي الكراهية والاحتقار لأنه نكاح ذو مقت يلحق فاعله ، وكانت العرب تسمي الولد الذي يجيء من زوجة الوالد : المقتي. لذا قال الله تعالى بعد ذكره : (وَساءَ سَبِيلاً) أي بئس الطريق والمنهج لمن يسلكه ، إذ عاقبته إلى عذاب الله. فلا يحل الزواج في الإسلام بزوجة الأب ، روى ابن جرير الطبري : كل امرأة تزوجها أبوك ، دخل بها أو لم يدخل بها فهي حرام. وكما يحرم الزواج بامرأة الأب ، يحرم أيضا الزواج بامرأة الجد ، وفاعل

__________________

(١) أي ممقوتا مبغوضا ، والمقت : البغض والاحتقار بسبب رذيلة يفعلها.

(٢) أي بيوتكم ، والربائب : بنات زوجاتكم من غيركم.

(٣) فلا إثم عليكم.

(٤) زوجاتهم.

٣٠٢

ذلك يستحق العقاب لنكاحه ما نكح الآباء أو الأجداد ، إلا ما مضى في الجاهلية ، فهو معفو عنه. إن هذا الزواج كان فاحشة يأباه العقل ، ويمقته الشرع ، وبئس ذلك الطريق في العرف ، ثم أبان الله تعالى تحريم النساء من جهات ست ، وتلك هي أنواع المحرمات :

١ ـ نكاح الأصول : فقد حرم الله نكاح الأمهات والجدات.

٢ ـ ونكاح الفروع : فقد حرم الله زواج البنات : بنات الصلب وبنات الأبناء.

٣ ـ ونكاح الحواشي : فقد حرم الله نكاح الأخت ، سواء كانت شقيقة أو لأب أو لأم ، وحرم الله نكاح العمات والخالات القريبة والبعيدة ، كعمة الأب ، وخالة الأم.

٤ ـ والتحريم بسبب الرضاع : يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب ، فالأمهات المرضعات ، والأخوات من الرضاعة يحرم التزوج بهن ، فإذا رضع طفل من امرأة ، فهي أمّه تحرم عليه ، وزوجها أبوه ، وأولادها إخوته ، وأقاربها أقاربه.

٥ ـ التحريم بسبب المصاهرة : تحرم أم الزوجة التي تم الدخول بها أو العقد عليها ، والجدة كالأم ، وتحريم ابنة الزوجة من غيرك ، وهي الربيبة بشرط الدخول بأمها ، ويحرم أيضا أولاد أولادها ، فإن لم يحدث دخول بها ، لا يحرم عليه بناتها ، وزوجة الابن وزوجة ابن الابن تحرم على الأب والجد بمجرد العقد عليها. قال الله تعالى : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) أما الابن المتبنّى ممن ليس للصلب فلا تحرم زوجته على من تبناه.

٦ ـ ما يحرم بسبب عارض : يحرم مؤقتا الجمع بين الأختين أو بين المرأة وقريباتها المحارم كالمرأة وعمتها وخالتها ، وتظل الحرمة قائمة ما دام الزواج قائما بالأخت فعلا أو في العدة ، وعفا الله عما سلف ، فلا مؤاخذة على من تزوج في الجاهلية بأختين أو بأخت وعمتها أو خالتها.

٣٠٣

هذه هي المحرّمات من النساء أوضحها القرآن الكريم ، فيجب على من أراد الزواج تجري الأمر بين النساء ، حتى لا يقع في زواج حرام ، وخاصة التحريم من جهة الرضاع.

حلائل النساء بشرط المهر

أحل الإسلام الزواج بكل امرأة ليست من المحرمات بسبب النسب أو الرضاع أو المصاهرة أو بسبب عارض كأخت الزوجة وعمتها وخالتها ، ولو كانت في العدة.

قال الله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) [النساء : ٤ / ٢٤].

حرم الله التزوج بالمتزوجات من النساء ، إلى أن تطلّق الواحدة وتنتهي عدتها ، وسميت المرأة المتزوجة محصنة ، لأنها دخلت في حصن الزوج وعصمته وحمايته ، فتحرم المحصنات المتزوجات ما دمن في عصمة رجل أو في العدة بعد الطلاق منه ، إلا السبايا ـ في الماضي ـ وهن المملوكات بسبب الحرب المشروعة ، لا كحروب الاستعمار والاستغلال ، فقد كان يجوز للمسلم الزواج بالمسبية من غنائم الحرب إذا فرض الإمام عليها الرق وتمت قسمة الغنائم وآلت ملكيتها إلى ملك مسلم ، وذلك بشرط براءة رحمها من زوجها الأول ، ويكون الاستبراء بانتظار حيضة تأتيها بعد

__________________

(١) أي ذوات الأزواج.

(٢) أي الزموا كتاب الله ، فهو منصوب على المصدر المؤكد ، وهذا إشارة إلى التحريم الذي قرره الإسلام.

(٣) متعففين عن المعاصي.

(٤) غير زناة.

(٥) أي مهورهن خلافا لما كانت العرب تفعله.

٣٠٤

السبي ، وذلك تعويضا لها عن زوجها السابق ، حتى لا تكون أداة فساد أو عالة على المجتمع.

كتب الله علينا هذه المحرمات ، وأحل لنا ما عدا المذكور في آية المحارم من النساء ، وما عدا المطلّقة ثلاثا حتى تنكح زوجا آخر غير زوجها الأول بزواج عادي ، وليس بتحليل مؤقت ، وما عدا المشركة الوثنية حتى تسلم.

والزواج بمن أحل الله مشروط بتقديم المهر للزوجة ، ويسمى المهر أحيانا في العربية أجرا ، ومشروط أيضا بتوافر قصد الإحصان والإعفاف ، لا بقصد سفح الماء والزنى ، محصنين أنفسكم وزوجاتكم ، غير مسافحين ولا زانين.

أحل الله الزواج بالنساء ما وراء أو ما عدا من حرّم من سائر القرابة ، فهن حلال لكم تزوجهن ، والقصد الصحيح المشروع من الزواج هو الإعفاف ، وحفظ الماء ، وإيجاد النسل الطاهر ، فيختص كل رجل بأنثى ، وكل أنثى برجل ، دون تعدد الأزواج كما هو حادث الآن في أوربا وأمريكا أحيانا ، أما الزاني فلا يريد تحقيق المقاصد المشروعة الدائمة من الزواج ، وإنما يريد فقط قضاء شهوته ، وسفح الماء ، استجابة للطبيعة الحيوانية فيه.

وما استمتعتم به من النساء بعد وجود عقد زواج مشروع دائم ، فآتوا النساء مهورهن التي فرضها الله عليكم ، والمهر تكريم للمرأة ، وليس ثمن شيء ولا عوضا عن شراء ، وهو ليس في مقابلة التمتع بالمرأة ، ولكنه لتحقيق العدل والمساواة ، ودليل المحبة والإخلاص ، لذا سماه الله نحلة وعطية ، ولا مانع بعد تسمية مهر معين في عقد الزواج ، التراضي والاتفاق بعد العقد على زيادة المهر أو نقصه أو تنازل الزوجة عن شيء من مهرها لمصلحة الحياة الزوجية ، وعلامة على الإخلاص والتعاون ، ويدفع المهر للزوجة بعد العقد أو الدخول ، وهو حق خاص بالمرأة وليس لوليها أو قريبها

٣٠٥

أي حق في المهور ، إن الله عليم بكل نية وقصد ، حكيم في كل تشريع يضعه للعباد.

وقوله تعالى : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ) يراد به الاستمتاع بطريق عقد الزواج الدائم ، كما ذكرت ، وليس المراد به ما يسمى بالمتعة ، فقد كانت المتعة في صدر الإسلام مباحة لم يتعلق بها تحريم ؛ لأن الأصل في الأشياء والأفعال الإباحة ، ثم نهى عنها القرآن وحصر العلاقة المشروعة بين الرجل والمرأة في الزواج أو ملك اليمين : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦)) [المؤمنون : ٢٣ / ٥ ـ ٦] ونهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المتعة نهيا دائما إلى يوم القيامة ، ولا تختلف المتعة كثيرا عن الزنى بعينه ، لأنها تتم بلا إذن ولي ولا شهود ، والزنى لا يباح قط في الإسلام ، ولذلك قال عمر رضي الله عنه : «لا أوتى برجل تزوج متعة إلا غيّبته تحت الحجارة».

إن تنظيم العلاقة بين الجنسين : الرجل والمرأة على أساس واضح دائم من الزواج الصحيح الذي يقصد به الدوام هو في الواقع خير ومصلحة لكل من الطرفين. ثم ذكر الله تعالى حكم حالة العجز عن المهر فقال :

(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) (٧) (٨) [النساء : ٤ / ٢٥].

أي ومن لم يجد منكم غنى وسعة في ماله للتزوج بحرة مسلمة مؤمنة ، فيحل له أن يتزوج أمة مؤمنة غير مشركة ولا كتابية ، والله أعلم بحقيقة إيمانكم ، فلا تأبوا الزواج

__________________

(١) غنى وسعة.

(٢) الحرائر.

(٣) إمائكم.

(٤) مهورهن.

(٥) عفائف.

(٦) غير مجاهرات بالزنا.

(٧) متخذات أصدقاء للزنا سرا.

(٨) خاف الزنا.

٣٠٦

بالإماء عند الضرورة ، بعضكم من جنس بعض ، سواء في الدين ، فتزوجوا الإماء بإذن أوليائهن ، وأدوا إليهن مهورهن بالمعروف شرعا وعادة بحسب التراضي ، حال كونهن عفيفات غير مجاهرات بالزنا ، ولا متخذات أصحاب يزنون بهن سرا ، وإذا صارت الإماء محصنات بالزواج ، فعليهن بالزنا الجلد بمقدار نصف عقوبة الحرائر ، أي خمسين جلدة فقط ، لأن حد الحرة مائة جلدة ، أما الزانية غير المحصنة من الإماء فلا تجلد ، وإنما تعزر تأديبا في رأي ابن عباس ، والمعتمد رأي الجمهور أن الحد واجب على الأمة المسلمة إذا لم تتزوج ، لما ثبت في الصحيحين من حدها ، ذلك الترخيص بالزواج من الإماء لمن خاف منكم الوقوع في الزنا ، وأن تصبروا عن نكاح الإماء خير وأفضل لكم ، حتى لا يصير الولد رقيقا ، والله غفور لذنوب عباده التائبين ، رحيم بهم حين يسر لهم ذلك. وهذا كله حيث كان الرق قائما ، وبعد الاتفاق الدولي عام ١٩٥٢ على منعه ، لم يعد هناك مجال لتطبيق هذا الحكم.

أهداف التحريم والإباحة للنساء

أخرج البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت ، وعدّ منها الآيات ٢٦ و ٢٧ و ٢٨ من هذه السورة ، والرابعة (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) والخامسة : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) [النساء : ٤ / ٤٠] والسادسة : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ٤ / ١١٠] والسابعة : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤ / ٤٨] والثامنة : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ). [النساء : ٤ / ١٥٢]

٣٠٧

أما الآيات ٢٦ و ٢٧ و ٢٨ من سورة النساء فهي قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨)) (١) [النساء : ٤ / ٢٦ ـ ٢٨].

بعد أن ذكر الله تعالى الأحكام المتعلقة بالبيوت والنساء والزواج حلاله وحرامه ، ذكر الحكمة من تشريع تلك الأحكام.

وأول هذه الحكم التشريعية : أن الله يريد أن يبين لنا ما خفي عنا ، ويرشدنا إلى ما فيه مصلحتنا ، ويهدينا مناهج أو طرق من كان قبلنا من الأنبياء والصالحين ، وطرقهم : هي التي سلكوها في دينهم ودنياهم ، وأن دينهم الذي ارتضاه لهم سابقا لا يبعد عما اختاره الله لهذه الأمة في القرآن المجيد. وهذا دليل على أن شرعنا كشرع من قبلنا ، في توجيه الأوامر والنواهي وإيراد القصص ، وفي ضرورة توافر السمع والطاعة لما يشرعه الله تعالى.

يريد الله من بيان الأحكام التشريعية في قضايا الزواج ومحارم النساء ومن يباح منهن : أن يرشدنا إلى الطاعات والأعمال التي إذا أديناها وقمنا بها على وجهها الصحيح ، كانت سبيلا ممهدة لقبول الله التوبة ، فالأعمال الصالحة كفّارات للسيئات ، والله بفضله يتوب علينا ويكفر عنا سيئاتنا ، إن فعلنا تلك الأعمال ، كما قال الله سبحانه : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود : ١١ / ١١٤] ، والله عليم بكل قصد حسن أو سيء ، حكيم في كل عمل وتشريع يسنّه لعباده ، عليم بسنن الشرائع ومصالح العباد ، مصيب بوضع الأشياء في مواضعها الصحيحة بحسب الحكمة والإتقان.

__________________

(١) طرق ومناهج.

٣٠٨

والذين من قبلنا : هم المؤمنون في كل شريعة ، المتبعون ما أنزله الله منها ، وتوبة الله على عبده : هي رجوعه به عن المعاصي إلى الطاعات ، وتوفيقه له ، ثم كرر الله إظهار إرادته التوبة على عباده لتأكيد الإخبار الأوّل ، وقدمت إرادة الله توطئة مظهرة لفساد إرادة متبعي الشهوات ، يريد الله أن يتوب على عباده ـ وهذا تفضل ورحمة منه ـ يتوب عليهم بما كلفهم به من الأعمال التي تطهرهم وتزكي نفوسهم ، فيتوب الله عليهم بعد هذا ، وأما المفسدون فلا يتوب الله عليهم لإصرارهم على الإفساد ، فهؤلاء المفسدون مبتغو الشهوات الذين يجرون وراءها إنما يريدون بالإضافة لإفساد نفوسهم إفساد المؤمنين الصالحين ، يريدون أن يميلوا معهم ميلا عظيما ، لأن مرتكب الإثم يهمه جدا ويحرص أن يشاركه غيره في فساده ، إرضاء لنفسه وتستيرا عليها ، واطمئنانا لسلوكها.

يريد الله أيضا من بيان أحكام التشريع في قضايا الزواج وغيرها التخفيف والتيسير على عباده ، وبيان كون هذه الشريعة سمحة سهلة لا مشقة ولا ضيق ولا حرج في أحكامها ، لقوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ..) [الحج : ٢٢ / ٧٨]. وبيان التخفيف والسماحة أمر ضروري في أمور الزواج ، قال طاوس : ليس يكون الإنسان في شيء أضعف منه في أمر النساء.

لذا أراد الله تعالى أن يبين سبب هذا التخفيف وهو أن الإنسان خلق ضعيفا عن مقاومة الشهوات ، والتأثر بإغراءات النساء ، وهذا مقصد تشريعي عام في الإسلام ، فإن هذه الشريعة قامت على مبدأ التخفيف والتيسير والبعد عن المشقة والمضايقة ، والله تعالى بكرمه خفف عن عباده ، وجعل الدين يسرا سمحا سهلا ، ولم يجعله ضيقا حرجا ، وضعف الإنسان ناشئ عن ضعف نفسه ، ولأن هواه يستميله في الأغلب ، لذا راعى التشريع هذا الضعف ويسّر الصعب ، وشرع السهل.

٣٠٩

أكل أموال الناس بالباطل

والتوبة من المعاصي

نظم الإسلام طريق التعامل مع الآخرين ، والحفاظ على الأموال من غير اعتداء عليها ، ولا أخذ مال الآخرين إلا بالتراضي ، لأن المال حق لصاحبه ، وهو قرين الروح ، وأكثر الخصومات والمنازعات تقع بسبب الأموال ، والإسلام يريد تحقيق الاستقرار والحفاظ على المودة والحقوق بين الناس ، قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠)) (١) (٢) [النساء : ٤ / ٢٩ ـ ٣٠].

حرمت الآية الاعتداء على المال والنفس ، فلا يحل أكل مال الآخرين بالباطل ، وهو الطريق غير المشروع والمأخوذ من أعيان الأموال أو منافع الأشياء ظلما من غير مقابل ، ويشمل ذلك كل ما يؤخذ من الأموال عوضا في عقد فاسد أو باطل ، كبيع الإنسان ما لا يملك ، وثمن المأكول الفاسد غير المنتفع به حقيقة كالجوز والبيض والبطيخ الفاسد ، وثمن ما لا قيمة له ولا منفعة معتبرة شرعا كالقرد والخنزير والذباب والدّبور والميتة والخمر وأجر النائحة وآلة اللهو ، فمن باع بيعا فاسدا وأخذ ثمنه ، كان ثمنه حراما خبيثا ، وعليه رده لصاحبه.

لكن يجوز أخذ أموال الآخرين بطريق التراضي في العقود الصحيحة شرعا كالإعارة والهبة والبيع والإجارة ، ولكن بالطريق الذي أذن به الشرع لقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) أي كلوا الأموال من طريق التجارة القائمة

__________________

(١) بما يخالف الحكم الشرعي.

(٢) ندخله نارا ونحرقه بها.

٣١٠

على الرضا المتبادل بيعا أو إجارة. وليس كل تراض معترفا به شرعا ، وإنما التراضي ضمن حدود الشرع ، فلا يحل المال الربوي في بيع أو قرض جر نفعا ، ولا المال المأخوذ بالقمار والرّهان من الجانبين ، حتى وإن تراضى عليه الطرفان ؛ لأن رضاهما مصادم لأمر الشرع الإلهي.

وتمام التراضي : أن يعقد البيع بالألسنة بالإيجاب والقبول ، فتنتقل ملكية المبيع للمشتري ، ويجب على المشتري الوفاء بالثمن دون تلكؤ ، ولا يجوز نقض هذا البيع من أحد الطرفين دون موافقة الآخر ، ولا يحل السوم على السوم ، والبيع على البيع ، والخطبة على الخطبة ، لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث المتفق عليه : «لا يسم الرجل على سوم أخيه ، ولا يبيع الرجل على بيع أخيه». وفي حديث آخر : «ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه».

ثم حرمت الآية قتل النفس بطريق الانتحار : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث المتفق عليه : «من قتل نفسه بحديدة ، فحديدته في يده ، يجأ بها بطنه يوم القيامة في نار جهنم ، خالدا مخلدا فيها أبدا». لأن الاعتداء على النفس اعتداء على صنع الله ، ولا يملك الإنسان نفسه ، كذلك يحرم علينا أن يقتل بعضنا بعضا ، فمن قتل غيره فكأنما قتل نفسه ، فيستحق القصاص أو الإعدام ؛ لأنه اعتدى على الأمة كلها ، قال الله تعالى : (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ* فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) [المائدة : ٥ / ٣٢] فدم الإنسان على الإنسان حرام إلا من ارتد أو زنى وهو محصن أو قتل عمدا. وعقوبة قاتل النفس عمدا وظلما في الآخرة : هو إصلاؤه نار جهنم وإدخاله فيها إلا أن يتوب ، وبئس المصير المشؤوم الذي يرجع إليه هذا القاتل المعتدي ، وذلك العقاب أمر سهل يسير على الله ، لأنه القادر على كل شيء.

٣١١

ثم أورد الله تعالى آية أخرى عقب ذلك فقال : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١)) (١) [النساء : ٤ / ٣١].

والمعنى : إن تتركوا أيها الناس المعاصي الكبائر ، يغفر الله لكم الذنوب الصغائر ، ويدخلكم مكانا طيبا مكرما وهو الجنة. والكبائر : هي كل معصية اقترنت بالوعيد الشديد ، أو أوجب الشرع عليها حدا من الحدود المقدرة في الكتاب والسنة ، وفي حديث الصحيحين عن أبي هريرة تعداد الكبائر ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اجتنبوا السبع الموبقات : الشرك بالله ، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق ، والسحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات». ولا كبيرة مع الاستغفار ، ولا صغيرة مع الإصرار ، والذنوب الصغائر : هي التي لم تقترن بوعيد شديد أو بحدّ مقدر ، كالنظر إلى امرأة أجنبية غير محرم ، والقبلة.

واجتناب الكبائر يكفّر الصغائر إذا تم ذلك بالقدرة والاختيار لا بالإكراه ، وكان الممتنع عن الكبيرة يؤدي الفرائض من صلاة وصيام وحج وزكاة وغيرها.

الحث على العمل وإعطاء الحقوق لمستحقيها

اعتنى الإسلام الحنيف بتطهير الظاهر والباطن لكل إنسان ، فكما أن الله حرم أكل أموال الناس بالباطل وقتل النفس ، وذلك من الأفعال الظاهرة لتطهير الظاهر والمحسوسات ، كذلك حرم ما تنطوي عليه النفوس من أمراض فتاكة ضارة كالحسد والحقد والبغضاء ، وتمني أخذ ما لدى الآخرين من نعم وثروات ، وما فضل الله به بعض الناس على بعض من الجاه والمال.

__________________

(١) مكانا حسنا ، وهو الجنة.

٣١٢

قال الله تعالى : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢)) [النساء : ٤ / ٣٢].

نزلت هذه الآية بسبب أن النساء قلن : ليتنا استوينا مع الرجال في الميراث ، وشركناهم في الغزو ، أي الجهاد ، وقال الرجال : ليت لنا في الآخرة حظا زائدا على النساء ، كما لنا عليهن في الدنيا ، فنزلت الآية.

وقال ابن عباس : أتت امرأة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا نبي الله ، للذكر مثل حظ الأنثيين ، وشهادة امرأتين برجل ، أفنحن في العمل هكذا؟ إن عملت المرأة حسنة كتبت لها نصف حسنة ، فأنزل الله : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ ..) الآية.

يتبين من سبب النزول المذكور أن الأطماع البشرية هي المسيطرة على النفوس ، فالمرأة تريد مساواة الرجل في كل شيء ، ولو كان ذلك مغايرا للطبيعة الإنسانية ، أو فيه جور وظلم ، وإخلال بميزان النفقات المقرر في هذه الشريعة ، حيث إن الرجل هو المكلف بعبء الإنفاق على الأسرة ، ولا تكلف المرأة بشيء من النفقة.

وبما أن الشرع حكم عدل محايد ، فقد نهانا الله تعالى أن يتمنى كل إنسان منا ذكرا كان أو أنثى ما فضل الله به غيره عليه ، بل الواجب على كل منا أن يعمل ويكتسب ويجد ويجتهد ، ويتقن عمله ، ويحسن القصد والنية ، ويعمل في المجال المناسب لطبيعته ، فالرجل بتكوينه هو الذي يجاهد ، والمرأة بحكم أنوثتها وضعفها لها مهام أخرى في التربية وإعداد الأجيال ورقابة الأولاد من الانحراف ، ولا يجوز التحاسد ، لأن ذلك التفضيل بين المرأة والرجل قسمة مقدرة من الله ، صادرة عن حكمة وتدبير سديد ، وعلم بأحوال العباد ، وبما يصلح له كل شخص من بسط الرزق له أو تقتيره

٣١٣

عليه ، قال الله تعالى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧)) [الشورى : ٤٢ / ٢٧].

فعلى كل إنسان أن يرضى بما قسم الله له ، ولا يحسد غيره ، لأن الحسد أشبه شيء بالاعتراض على من أتقن كل شيء وأحكمه. والتفضيل بين الجنسين الذكر والأنثى يشمل النواحي الخلقية البدنية ، والقدرات والمواهب والخبرات ، فليس من المعقول أن يتمنى الإنسان أن يكون كغيره قوي البنية أو صحيح الجسم ، ذكرا أو أنثى ، ويسلب غيره تلك القدرة ، وليس من اللائق طلب التساوي في المواهب والخبرات والمعارف كالعلم وتحصيل المال أو الجاه مثلا ، ويحرم غيره منها ، ولكن على الإنسان أن يطلب من الله وحده الخير والإحسان والنعم الكثيرة : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) والله عليم بما يحقق المصلحة لكل إنسان ، فلا يجوز أن يتمنى أحد زوال ما لدى الآخرين من نعمة ، وأن تكون إليه ، وهذا هو الحسد : وهو تمني ما لدى الآخرين من النعم ، أما الغبطة وهي أن يكون لكل واحد مثل ما لغيره دون زوال النعمة عنه فهي جائزة ، فالله سبحانه مقسم الأرزاق ومصدر الفضل والإحسان ، يعطي من يشاء ، ويمنع من يشاء ، لحكمة ومصلحة للعبد نفسه.

ثم أوصى الله تعالى بإعطاء الحقوق لأصحابها ، فقال : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣)) (١) (٢) [النساء : ٤ / ٣٣].

نزلت هذه الآية في الذين كانوا يتبنّون رجالا غير أبنائهم ويورثونهم ، فأنزل الله تعالى فيهم أن يجعل لهم نصيب في الوصية ، وردّ الله تعالى الميراث إلى الأقارب

__________________

(١) أي ورثة مستحقين من العصبات.

(٢) حالفتموهم وعاهدتموهم على التوارث ، وهذا عند الحنفية خلافا لغيرهم باق مشروعيته.

٣١٤

العصبات أو الورثة ، ومنع الله تعالى أن يجعل للمتبني ميراث المتبنى ، ولكن جعل له نصيبا في الوصية.

ومعنى الآية : لكل من الرجال والنساء ورثة ، لهم الحق في تركتهم ، والموالي : هم الوالدان والأقربون والأزواج ، فآتوا أيها المورثون حقوق الورثة كاملة من غير نقصان ، أما الذين كنتم تتبنونهم في الجاهلية ـ والآن حرم عليكم التبني في الإسلام ـ فلكم إعطاؤهم شيئا من أموالكم بطريق الوصية ، لا بطريق الميراث ، والله رقيب على أفعالكم ، شهيد على أعمالكم ، فيجازيكم عليها يوم القيامة ، فلا يحملنكم الطمع والحسد على أن يأخذ واحد منكم شيئا من نصيب غيره في الميراث ، سواء أكان ذكرا أم أنثى.

تنظيم حياة الأسرة

نظم الإسلام الحياة الزوجية وشؤون الأسرة تنظيما عادلا ، يتفق مع الحكمة الرشيدة ، والأوضاع السديدة ، فجعل تدبير أمر المنزل في قضاياه العامة للرجل ، وجعل له القوامة على المرأة ، أي القيام بأمرها والمحافظة عليها بعناية ورعاية تامة ، دون استبداد ولا استعلاء ولا ترفع أو ظلم ، كما كلف الله الرجل مقابل هذه الدرجة من القوامة بالجهاد ، وحماية الأوطان ، والإنفاق على النساء المستوجب إعطاء الذكور ضعف حظ النساء ، فإذا كان للرجل درجة القوامة ، فعليه في مقابلها مسئوليات جسام أخرى ؛ لأنه أقدر على تحمل المسؤولية والمشاق ومزاحمة الناس في الحياة العملية ، والتعرض للمخاطر ، والانفراد أحيانا في أماكن لا يجد فيها معينا ولا مؤنسا.

٣١٥

لذا قال الله تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥)) (١) (٢) (٣) [النساء : ٤ / ٣٤ ـ ٣٥].

قال الحسن البصري : جاءت امرأة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تستعدي على زوجها أنه لطمها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : القصاص ، فأنزل الله : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ..) الآية ، فرجعت المرأة بغير قصاص ، أي لم يعاقب الزوج على لطم زوجته. وقال ابن عباس : الرجال أمراء على النساء ، أي إن الآية نزلت مبيحة للرجال تأديب نسائهم.

فالرجل قيّم على المرأة ، أي هو الرئيس والكبير والحاكم والمؤدب إذا اعوجت ، وهو القائم عليها بالحماية والرعاية ، فعليه الجهاد دونها ، وله من الميراث ضعف نصيبها ؛ لأنه هو المكلف بالنفقة عليها. وسبب هذه القوامة أمران :

أولا ـ وجود مقومات جسدية ، فهو أقوى وأكمل إدراكا وخبرة ومعرفة بشؤون الحياة ، ومعتدل العاطفة.

ثانيا ـ أنه المنفق على البيت والزوجة والقريبة ، ويلزمه المهر رمزا لتكريم المرأة ، وتعويضا أدبيا لها ، ومكافأة على مشاركته في حصن الزوجية ، وفيما عدا ذلك فالرجل والمرأة متساويان في الحقوق والواجبات ، قال الله تعالى : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ). [البقرة : ٢ / ٢٢٨]

__________________

(١) لهم القوامة بالتدبير والتسيير والقيادة.

(٢) مطيعات.

(٣) الخروج عن الطاعة.

٣١٦

أي إن الزوجين متساويان بالمعروف الذي يقره الشرع ، دون تجاوز الحدود المشروعة ، وللرجال درجة القوامة ، لتسيير شؤون هذا المجتمع الصغير ، الخلية الأولى للمجتمع ، وهو الأسرة. والعجز عن النفقة يسقط حق القوامة للرجل. وللنساء حالتان : فالصالحات منهن قانتات مطيعات لأزواجهن ، حافظات للأسرار المنزلية والأعراض والخلوات ، ولهن ثواب عظيم على ذلك ، روى البيهقي وغيره عن أبي هريرة : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خير النساء : امرأة إذا نظرت إليها سرتك ، وإذا أمرتها أطاعتك ، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها» وهؤلاء النساء الصالحات ليس عليهن إلا المعاشرة بالمعروف.

وأما النساء الشاذات الناشزات غير المطيعات للأزواج ، وهن اللاتي يترفعن عن حدود الزوجية وحقوقها وواجباتها ، فيسلك معهن الرجال المراحل الأربع الآتية :

١ ـ الوعظ والإرشاد إذا أثّر في نفوسهن : بأن يقول الرجل للزوجة : اتقي الله ، فإن لي عليك حقا.

٢ ـ الهجر والإعراض في مضجع المبيت من غير خروج من المنزل : وهو ترك المبيت مع الزوجة في فراش واحد ، ولا يحل هجر الكلام أكثر من ثلاثة أيام.

٣ ـ الضرب غير المبرّح ، أي غير المؤذي كالضرب الخفيف باليد على الكتف ثلاث مرات ، أو بالسواك أو بعود خفيف ، لا بالكف على الوجه ، ولا بالعصا ونحوها مما يؤذي ، لأن المقصود هو الإصلاح لا غير ، والضرب أمر رمزي فقط.

٤ ـ التحكيم : فإن اشتد الخلاف والعداوة ، أرسل حكمان : أحدهما من أهل الزوج والآخر من أهل الزوجة ، للسعي في إصلاح ذات البين بعد استطلاع حقيقة الحال بين الزوجين ، ومعرفة سبب الخلاف ، ومتى حسنت النية والنصح لوجه الله ،

٣١٧

يوفق الله الحكمين للقيام بالصلح والهداية إلى الخير ، وتحقيق الوفاق والتفاهم ، والعودة إلى التوادد والتراحم والألفة بين الزوجين.

ومن أهم أسباب الوفاق : ترك الغلو والعصبية ، والتواضع وتقوى الله ، والاحترام المتبادل ، وتقدير إنسانية المرأة ، والاتصاف بصفة الرحمة والخوف من الله حال الغطرسة والتجبر ، والله عليم خبير ببواعث الخلاف ، يجازي كل إنسان بعمله.

مبادئ الحياة الاجتماعية في الإسلام

وضع الإسلام مبادئ العلاقات الاجتماعية على أسس ثلاثة : عبادة الله وحده لا شريك له والخوف منه سبحانه ، وتوثيق العلاقة بين أفراد الأسرة الواحدة والمجتمع بدءا من الجار وانتهاء بابن السبيل ، والسخاء في الإنفاق والبذل في المعروف ومقاومة الشح والرياء والبخل ؛ لأنه رذيلة وتدنيس للمروءة والكرامة.

قال الله تعالى مبينا هذه الأسس أو الأطر : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) (٧) [النساء : ٤ / ٣٦ ـ ٣٩].

__________________

(١) البعيد في السكن.

(٢) الرفيق مؤقتا في مشروع.

(٣) المسافر المنقطع.

(٤) متكبرا.

(٥) متفاخرا بطرا متطاولا.

(٦) مراءاة الناس.

(٧) صاحبا.

٣١٨

وآيات البخل والرياء نزلت في علماء بني إسرائيل الذين كانوا يبخلون بما عندهم من العلم ، وينصحون الأنصار ألا ينفقوا أموالهم ، خوفا من الوقوع في الفقر.

أرشد الله تعالى الناس جميعا في المجتمع إلى بعض خصال الخير والإحسان ، وأولها : عبادة الله وحده دون إشراك أحد معه ، والعبادة : هي الخضوع التام لله ، مع إشعار القلب بتعظيم الله وإجلاله في السر والعلن ، والخشية منه وحده ، وتكون عبادة الله بفعل ما أمر الله به وترك ما نهى عنه ، سواء في الشؤون القلبية كالحسد والحقد ، أو في ممارسة الأعضاء بعض الأفعال ، والأمر أولا بعبادة الله لأنها مصدر الإلهام بكل خير وترك كل شر ، والإقدام على الفضائل.

والواجب الثاني : الإحسان إلى الوالدين وبرهما أي طاعتهما في معروف ، والقيام بخدمتهما ، وتحقيق مطالبهما ، والبعد عن كل ما يؤذيهما ؛ لأنهما سبب وجود الولد ، وتربيته برحمة وإخلاص ، وحب دائم ، وتضحية من الأهل.

والواجب الثالث : الإحسان إلى القرابة ؛ وهو صلة الأرحام كالأخ والأخت والعلم والخال وأبنائهم ، وذلك بمودتهم ومواساتهم المادية والمعنوية.

والواجب الرابع : الإحسان إلى اليتامى ، ومنهم الذين فقدوا آباءهم واستشهدوا في الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله أو الدفاع عن الأوطان ، لأن هؤلاء الأيتام والمستضعفين ، ومثلهم المعاقون فقدوا الناصر والمعين وهو الأب ، والمعاق : فقد القدرة الجسدية على ممارسة حياة كريمة صحيحة.

والواجب الخامس : الإحسان إلى المساكين والفقراء : وهم المحتاجون الذين لا يجدون ما يكفيهم ، والإحسان إليهم بالتصدق عليهم ، أو بردّهم ردا جميلا ، لقوله تعالى : (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠)) [الضحى : ٩٣ / ١٠] وهذا يحقق مبدأ التكافل الاجتماعي في الإسلام.

٣١٩

والواجب السادس ـ الإحسان إلى الجيران ، وهم كما ذكرت الآية ثلاثة أنواع : الجار القريب في المكان أو النسب أو الدين ، والجار البعيد غير القريب المجاور في السكن ، والصاحب بالجنب : وهو الرفيق في السفر ، والإحسان إلى الجيران يحقق مبدأ التعاون والتواصل والتوادد والشعور بالسعادة ويكون الإحسان للجيران بكف الأذى ، وحسن العشرة ، وتبادل الهدايا والزيارة ، والوليمة والعيادة حال المرض ونحو ذلك.

والواجب السابع : الإحسان إلى ابن السبيل : وهو المسافر المنقطع عن ماله ، أو الضيف بإكرامه ومساعدته للوصول إلى بلده. ومثله الإحسان للأرقاء في الماضي والخدم والأعوان في الحاضر.

ثم حذرت الآيات القرآنية من أمرين قبيحين هما البخل والرياء في الإنفاق من المال ، أما البخل فهو داء وخصلة رذيلة ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إياكم والشح ، فإنه هلك من كان قبلكم بالبخل ، أمرهم بالبخل فبخلوا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا ، وأمرهم بالفجور ففجروا». وقد توعد الله البخلاء بالعقاب في قوله تعالى : (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً).

وأما الرياء فهو أمر ذميم محبط ومبطل للأجر والثواب ، لأن المرائي لا يقصد بعمله وجه الله ، وإنما يقصد بإعطائه المال السمعة والشهرة والتظاهر ، لا شكرا لله على نعمة ، ولا اعترافا لعباد الله بحق ، والرياء كالبخل يعاقب الله عليه ، وهو شرك خفي يقصد به التقرب لغير الله ، أما المؤمن حقا بالله واليوم الآخر فهو سخي غير بخيل ، ينفق ماله بنية حسنة ، وبقصد التقرب إلى الله وحده ، والله عليم بالنيات.

٣٢٠