التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0523-3
الصفحات: ٦٧١

ومن أهم مظاهر العدل : إيتاء اليتامى حقوقهم ، والتسوية والعدالة في معاملة الزوجات ، أما الأول فقد أمر الله تعالى به في قوله : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢)) (١) [النساء : ٤ / ٢].

أي أعطوا أيها الأولياء والأوصياء اليتامى أموالهم وأدوا حقوقهم إذا بلغوا سن الرشد. (واليتيم : من فقد أباه دون البلوغ). ولا تأخذوا الطيب من أموال اليتامى ، وتضعوا مكانه الخبيث من أموالكم ، ولا تأخذوا أموالهم لتضموها إلى أموالكم ، إن ذلك الفعل إثم عظيم. نزلت في رجل من غطفان كان عنده مال كثير لابن أخ له يتيم ، فلما بلغ اليتيم ، طلب المال ، فمنعه عمه ، فترافعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية.

ومشروعية تعدد الزوجات للضرورة أو الحاجة في الإسلام يقصد به تحقيق أمرين : أولهما : تحقيق رغبة بعض الناس من طريق الحلال ، وإبعادهم عن سلوك طرق الحرام ، فبدلا من وجود ظاهرة الفاحشة أو الزنا ، أوجد الإسلام البديل وهو تعدد الزوجات. والأمر الثاني : هو أن نظام التعدد مرتبط ارتباطا جذريا بمراعاة العدل المطلق في معاملة الزوجات ، فلا يقبل شرعا وجود التعدد من غير عدل في المعاملة بين الزوجات.

ومن هنا ربط الشرع بين إباحة تعدد الزوجات وبين ضرورة الترفع عن الظلم الذي يلحقه الأولياء أو الأوصياء بالبنات اليتامى ، فقال الله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤)) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) [النساء : ٤ / ٣ ـ ٤].

__________________

(١) إثما وذنبا.

(٢) لا تعدلوا.

(٣) أبيح لكم.

(٤) ذلك أقرب ألا تجوروا أو لا تكثر عيالكم.

(٥) مهورهن.

(٦) أي عطية وهبة.

٢٨١

سبب نزول آية التعدد : هو ما ورد في الصحيحين عن عروة بن الزبير : أنه سأل خالته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن هذه الآية ، فقالت : يا بن أختي ، هذه اليتيمة تكون في حجر وليها يشركها في مالها ، ويعجبه مالها وجمالها ، فيريد أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها ، فلا يعطيها مثل ما يعطي أترابها من الصداق ، فنهوا عن ذلك ، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء مثنى وثلاث ورباع.

ومعنى الآية : إن خفتم أيها الأولياء من الظلم أو عدم العدل في أموال اليتامى وتحرجتم من أكلها بالباطل ، فخافوا من الوقوع في ظلم آخر أشد ضررا وهو ظلم النساء بالتزوج بنساء كثيرات ، فكان العربي في الجاهلية يتزوج العشر وأكثر وأقل ، وفي هذا ظلم مؤكد ، وطريق إنهاء هذا الظلم هو بالاقتصار على الزواج عند الحاجة أو الضرورة على أربع كحد أقصى دون تجاوز ، بشرط توافر العدل المادي في المعاملة ، وبشرط توافر القدرة على الإنفاق. وبما أن تحقق العدل بين النساء أمر صعب ونادر ، فإن الشريعة أمرت بالاقتصار على زوجة واحدة ، وهذا هو الأصل العام في الإباحة كما قال الله تعالى هنا : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) وقال في آية أخرى : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩)) [النساء : ٤ / ١٢٩].

ومن الظلم في مجال الزواج ما يفعله كثير من الرجال من إلجاء المرأة للتنازل عن مهرها كله أو بعضه ليوافق على طلاقها ، فالله تعالى أمر بإعطاء النساء كامل مهورهن دون أخذ شيء منه ، المعجل والمؤجل ، فإن حدث التنازل عن بعض المهر من الزوجة أو من وليها تلقائيا وبرضا مطلق واختيار ، دون إكراه مادي أو أدبي ، جاز ذلك.

إن تعدد الزوجات جائز مباح في الإسلام ، وليس كل مباح مرغوبا فيه ، فهو غير

٢٨٢

مرغوب فيه إلا لحاجة أو ضرورة ، مثل معالجة ظرف طارئ عقب الحروب وقتل الرجال وكثرة النساء الأرامل ، فيكون التعدد عملا إنسانيا وإنقاذا. وقد يكون التعدد بسبب عقم المرأة ، أو بسبب نهم الرجل ، أو لأغراض تتعلق بنشر الدعوة الإسلامية مثل تعدد زوجات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

رعاية اليتيم في الإسلام

حقا إن الإسلام هو دين الرحمة العامة بجميع الناس ، ورسالته إنقاذ وإصلاح ، وبناء ومحافظة على القيم ، ورعاية لمصالح الناس جميعا ، وبخاصة الضعفاء والأيتام ، واليتيم : هو من فقد والده حال الصغر.

رعى الإسلام شؤون الأيتام رعاية تامة تشمل النفس والمال ، وفرض تنصيب الأولياء الكبار الراشدين من الأقارب كالأب والجد للإشراف على مصالح اليتامى في حال الصغر ، والولاية نوعان : ولاية على النفس وولاية على المال. أما الولاية على النفس : فهي إلقاء المسؤولية الشديدة على قريب اليتيم كالجد والأخ والعم لتربية اليتيم وحفظه وتعليمه وتطبيبه وتنشئته نشأة صالحة قوية محصّنة ، حتى يكون سويا لا يقل عن أمثاله ، ويحظى بما يحظى به غيره من الأولاد بالبر والعطف والإحسان.

روى الطبراني في حديثه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي بعثني بالحق ، لا يعذّب الله يوم القيامة من رحم اليتيم ، ولان له في الكلام ، ورحم يتمه وضعفه ..». أي رأف باليتيم وساعده ، وحادثة بطيب القول ، واستعمل البشاشة واللطف في المعاملة ، واختار الألفاظ الحلوة العذبة في محادثته ، واجتنب القسوة والغلظة ، وكان قلبه مليئا بالحنان والعطف والإحسان والجود على اليتيم. وقد بشّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولي اليتيم وكفيله بالجنة ، فقال فيما رواه البخاري : «أنا وكافل اليتيم

٢٨٣

في الجنة هكذا ، وأشار بالسبابة والوسطى ، وفرّج بينهما». وروى النسائي بإسناد جيد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اللهم إني أحرّج حق الضعيفين : اليتيم والمرأة» وروى البخاري أيضا حديثا آخر : «هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم».

هذه وصايا نبوية كريمة في الإشراف على نفس اليتيم والعناية بشخصيته وتربيته ، وجاء النص القرآني لبيان ضرورة الإشراف على شؤون اليتيم فيما هو أخطر وأهم وهو الأمور المالية ، فيجب على ولي اليتيم حفظ مال اليتيم وتنميته واستثماره ورعايته والبعد عن أكل مال الأيتام أو إهمال المحافظة عليها ، فقال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (١) (١٠) [النساء : ٤ / ١٠].

وأوجب القرآن الكريم ـ كما تقدم بيانه ـ وإيتاء اليتامى أموالهم عند بلوغهم الرشد ، من غير تلكؤ ولا إهمال ، فقال الله سبحانه : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢)) (٢) [النساء : ٤ / ٢].

نزلت هذه الآية في رجل من غطفان كان عنده مال كثير لابن أخ له يتيم ، فلما بلغ اليتيم طلب المال ، فمنعه عمه ، فترافعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية ، فلما سمعها العم قال : أطعنا الله وأطعنا الرسول ، نعوذ بالله من الحوب الكبير ، أي الإثم العظيم ، فدفع إليه ماله ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من يوق شح نفسه ، ورجع به هكذا ، فإنه يحلّ داره ، يعني جنته. فالآية إذن خطاب لأوصياء الأيتام.

وقال ابن زيد : هذه الآية والمخاطبة هي لمن كانت عادته من العرب ألا يورّث الصغير من الأولاد مع الكبير ، فقيل لهم : ورّثوهم أموالهم ، ولا تتركوا أيها الكبار حظوظكم حلالا طيبا ، وتأخذوا الكل ظلما حراما خبيثا ، فيجيء فعلكم ذلك تبديلا.

__________________

(١) أي جهنم.

(٢) أي إثما وذنبا عظيما.

٢٨٤

وعلى كل حال في بيان سبب النزول ، تطالب هذه الآية إعطاء الأيتام حقوقهم كاملة ، سواء من إرث غيرهم ، أو بتسليم مالهم إليهم عند البلوغ ، فيجب على الأولياء والأوصياء دفع أموال اليتامى إليهم إذا بلغوا الحلم كاملة موفرة ، ينهى عن أكلها وضمها إلى أموال الأوصياء ، أيها الأوصياء إياكم أن تتمتعوا أو تنفعوا بمال اليتيم في موضع يجب أن تتمتعوا فيه بمالكم. فإنكم أخذتم من ماله ، وتركتم مالكم ، تكونوا قد استبدلتم الخبيث بدل الطيب ، والحرام بدل الحلال ، وهذا منهي عنه شرعا ، وموقع في الإثم والذنب العظيم.

هذا مظهر من مظاهر رعاية اليتيم في الإسلام ، وهو يدل على جانب تشريعي مهم جدا هو ألا يستغل القوي الضعيف ، والكبير الصغير وأن يراقب الإنسان ربه في كل عمل ، لأن الله تعالى سائل كل إنسان عن كل صغيرة وكبيرة.

إعطاء الضعفاء أموالهم

المال نعمة وثروة للفرد والجماعة ، فتجب المحافظة عليه وتنميته والبعد عن إهدار الثروة المالية في غير فائدة ، وليس الحق في المال خاصا بصاحبه ، وإنما للأمة والجماعة حق الإشراف على كيفية استعمال المال واستثماره وتنميته بالوجوه المشروعة المحققة للمصالح الخاصة والعامة ، لذا لم يجز الإسلام تسليم المال لتنميته وإنفاقه لمن ليس أهلا لرعايته وحفظه ، مثل السفهاء المبذرين الذين لا يحسنون التصرف في المال ، والأيتام الذين تنقصهم الخبرة في إدارة المال وتشغيله واستثماره ، وإنما يترك المال بيد القوّام المشرفين بمقتضى الولاية الشرعية على أحوال هؤلاء المتخلفين بسبب الطيش أو بسبب الصغر.

٢٨٥

قال الله تعالى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٦)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) (٧) [النساء : ٤ / ٥ ـ ٦].

نزلت آية السفهاء في ولد الرجل الصغار وامرأته ، أي في النساء ، والأصح أنها نزلت في المحجورين السفهاء ، أي المبذرين.

نهى الله تعالى الأمة ممثلة في أولياء السفهاء الذين لا يحسنون التصرف في أموالهم من تسليم أموالهم إليهم ، حتى لا يبددوها ويصبحوا عالة على المجتمع ، وإنما يبقى المال بيد القيّم المشرف على المبذر الذي يعيّنه القضاة ، حتى يتم تمرين السفيه المبذر على المحافظة على الأموال التي هي قوام الحياة لأصحابها وللأمة أو الجماعة. ويقوم الولي بتثمير المال وتشغيله في وجوه مشروعة معقولة وينفق على السفيه المبذر إنفاقا معتدلا من ثمرة المال وكسبه ، لا من أصل المال وذاته ، وتكون النفقة بحسب الحاجة من أكل وكسوة وتعليم وتمريض ، لأنها مظاهر خارجية ، وعلى الولي أن يحسن إلى السفيه أدبيا أو خلقيا ، فيقول له قولا لينا ، لا خشونة فيه ، ويعامله معاملة أولاده بالعطف واللين ، ويشعره بالعزة والكرامة ، ويعلمه أن ما ينفقه عليه من ماله ، وليس من مال القيم المشرف ، وسيأخذه بعد الرشد والصلاح.

ونزلت آية الحجر على الأيتام من أجل المحافظة على أموالهم وتنظيم العلاقة بينهم وبين الأوصياء عليهم ، فعلى الأوصياء اختبار اليتيم عند البلوغ ـ بلوغ سن الزواج

__________________

(١) السفهاء : هم المبذرون المضطربون في كيفية صرف المال.

(٢) اختبروهم في المعاملات المالية.

(٣) تبينتم.

(٤) حسن تصرف في الأموال.

(٥) مبادرين كبرهم.

(٦) فليمتنع عن أكل أموالهم.

(٧) محاسبا لكم.

٢٨٦

والاكتمال العقلي ، فيدرّبه على كيفية تشغيل المال وحسن التصرف فيه ، فإن تحقق الوصي من رشد اليتيم سلّم ماله إليه كاملا غير منقوص ، ويشهد عليه حين التسليم منعا من الإنكار وادعاء بقاء شيء من المال عند الوصي.

ومخالطة اليتيم من قبل وصيه أو قريبه خير من اعتزاله وعيشه منفردا ، فليس للوصي أن يبادر إلى أخذ شيء من مال اليتيم ، فيسرف ويبذر في أكله ؛ لأن طبيعة النفس محبة التبذير في مال الآخرين ، وليس له أخذ شيء من مال اليتيم مسرعا قبل وصول اليتيم إلى مرحلة البلوغ.

أما أكل الوصي من مال اليتيم من غير إسراف ولا تبذير ، فيجوز في حال الحاجة والاعتدال بمثابة أجر له بقدر عمله وخدمته ، فإن كان الوصي غنيا فلا يأكل منه ، وعليه أن يتعفف ، وإن كان فقيرا محتاجا فليأكل الوصي بالمعروف شرعا وعرفا بلا إسراف ولا تبذير ، قال عمر رضي الله عنه : «إني أنزلت نفسي من مال الله (أي مال الأمة) منزلة والي اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن احتجت أكلت بالمعروف ، فإذا أيسرت قضيت».

المال إذن أمانة عند صاحبه وعند الأمة ، وبالمال تقام المدنيات وتبنى الحضارات ، وهو أساس قوة الأمة وتقدمها ، لذا وصف المال في القرآن بأنه قوام الحياة ، فيجب على الأولياء والأوصياء والمحافظة على أموال اليتامى والسفهاء المبذرين حتى لا يصبح اليتيم أو المبذر فقيرا محتاجا عالة على المجتمع.

الحقوق المالية للنساء واليتامى

حرم الإسلام كل أنواع الظلم والجور ، ومن أخطر المظالم : أكل أموال الآخرين بالباطل ، وعدم توريث النساء من تركات أقاربهم ، وأكل مال اليتيم. ولقد أنصف

٢٨٧

الإسلام المرأة ، فجعل لها ذمة مالية مستقلة بنفسها ، فلها حق التصرف الكامل بمالها ، سواء كانت أما أو زوجة أو بنتا أو أختا ، ولها الحق التام في دخلها وكسبها وإرثها من أقاربها.

وإنصاف المرأة في التشريع القرآني كان للرد على ما كان سائدا في عرب الجاهلية من حرمان المرأة من حقها في الميراث.

ثبت في تاريخ التشريع : أن أوس بن الصامت الأنصاري توفي وترك امرأته أم كحلة وبنات له ، فمنع ابنا عمه سويد وعرفطة ميراث أوس عن زوجته وبناته ، فشكت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدعاهما رسول الله ، فقالا : يا رسول الله ، ولدها لا يركب فرسا ، ولا يحمل كلّا (أي عاجزا من الأولاد) ولا ينكي عدوا ، نكسب عليها ولا تكسب ، فنزلت هذه الآية ، فأثبتت لهن الميراث ، ثم نزلت آية المواريث ، فجعلت لكل حقه.

قال الله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠)) (١) (٢) (٣) (٤) [النساء : ٤ / ٧ ـ ١٠].

توجب هذه الآيات إعطاء كل وارث حقه في مال مورثه من الوالدين والأقربين ، من غير تفرقة بين الذكور والإناث ، والصغار والكبار ، سواء أكان المال المتروك بعد الوفاة للمورث قليلا أم كثيرا.

__________________

(١) واجبا.

(٢) جميلا بأن تعتذروا إليهم أنكم لا تملكونه.

(٣) صوابا وعدلا.

(٤) سيدخلون نارا موقدة.

٢٨٨

وحفاظا على تماسك الأسرة ، وتقوية للصلات فيما بين أفرادها ، وإبقاء للمحبة والوداد ، والتعاون والتآلف ، وامتصاص النقمة والحسد من النفوس البشرية ، أوصى القرآن الكريم عند حضور قسمة التركات إعطاء الأقارب غير الوارثين واليتامى والمساكين شيئا من مال التركة ولو قليلا ، ويسترضى هؤلاء الأقارب ويقال لهم قول حسن ، ويعتذر إليهم اعتذارا جميلا يهدّئ النفوس ، ويستل الضغائن والأحقاد ، ويمنع الحزازات ونشوء العداوات أو استمرارها ، وظهور الانتقادات وتردد الألسنة في التعييب والطعن ، والترفع عن البخل والشح ، والمخاطب المطالب بتنفيذ هذا الأمر والأدب القرآني هم الورثة أو المحتضرون الذين يقسمون أموالهم بالوصية. وإعطاء هؤلاء الأصناف الثلاثة من التركة ، وهم القرابة غير الوارثين والأيتام والمساكين نوع من الأدب غير الواجب شرعا ، ولكنه أمر محبب مرغب فيه ، وفيه خير ومصلحة. والقول الحسن المعروف الذي يقال لهم : هو كل ما يؤنس به من دعاء أو عدة أو اعتذار لطيف أو غير ذلك.

وذكّر الله تعالى أولئك الأولياء أو الأوصياء في معاملة اليتامى بأمر جميل يهز المشاعر والنفوس للبعد عن القسوة على اليتيم ، وهو أن هؤلاء الكبار الأوصياء مفارقون أولادهم ، وربما تركوا ذرية ضعفاء صغارا يخافون على مصالحهم ، فليتقوا الله في أيتام الآخرين ، كما يحبون أن يتقي الله في أيتامهم أوصياء غيرهم ، وليقولوا لهم قولا حسنا سديدا طيبا يجبر خواطرهم ، ويمنع الضر عنهم ، ويتفق مع آداب الدين وأخلاق الصالحين ، بكل ما يحسن إليهم ويسر قلوبهم ، ويعوضهم حنان الأب المتوفى ، فكل أولياء الأيتام مطالبون بالإحسان إلى الأيتام ، وسداد القول لهم ، وإحسان معاملتهم ومعاشرتهم ، وتقوى الله في أكل أموالهم كما يخافون تماما على ذريتهم أن يفعل بهم خلاف ذلك.

٢٨٩

إن أكلة أموال اليتامى ظلما وأخذها بغير حق ، أو تبديدها أو التقصير في رعايتها وحفظها إنما يأكلون في بطونهم أموالا تؤدي بهم إلى نار جهنم ، وسيحرقون بها إحراقا شديدا بسبب ظلمهم.

والتحذير من أكل أموال اليتامى ظلما كالتحذير من حرمان النساء أو الإناث من حقوقهم المقررة شرعا في المواريث من تركات أقاربهم.

قواعد الميراث في الشريعة

نظمت الشريعة الإسلامية قواعد الميراث على أساس من الحق والعدل ومنع الجور بين الورثة ، مراعية في ذلك قوة القرابة من المتوفى ، وتوزيع المسؤولية وتحمل عبء النفقة في مجال الأسرة. والإرث يعتبر حقا شرعيا لتفتيت الثروة ومنع تكدس الأموال في أيدي فئة قليلة من الناس ، بناء على اعتراف الإسلام بمبدإ الملكية الشخصية ومراعاة قواعد الفطرة والجهد الإنساني ، فإن الإنسان يحب أن يذهب ماله لأحب الناس وأقربهم لديه.

وكان تنظيم قواعد الميراث في ثلاث آيات من سورة النساء وهي الآيتان (١١ ، ١٢) وآية الكلالة (وهو من لا والد له ولا ولد) آخر آية في سورة النساء (١٧٦) وأوضحت السنة النبوية هذه القواعد وأضافت عليها بالوحي الإلهي.

وسبب نزول آيات المواريث : أن امرأة سعد بن الربيع جاءت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في أحد شهيدا ، وإن عمهما أخذ مالهما ، فلم يدع لهما مالا ، ولا تنكحان إلا ولهما مال. فقال : يقضي الله في ذلك ، فنزلت آية المواريث ، فأرسل رسول الله إلى عمهما ،

٢٩٠

فقال : أعط ابنتي سعد الثلثين ، وأمّهما الثمن ، وما بقي فهو لكم ، وهذه أول تركة قسمت في الإسلام.

تضمنت آيات المواريث حقوق الأولاد ، وحقوق الوالدين ، وحقوق الأزواج ، وحقوق الكلالة (من مات وليس له أصل ولا فرع وارث) وذلك في الآيتين التاليتين : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١) وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢)) [النساء : ٤ / ١١ ـ ١٢].

أما حقوق الأولاد فقال تعالى : (يُوصِيكُمُ) (١) (اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [النساء : ٤ / ١١]. أي يعطى الولد الذكر ضعف الأنثى ، لأنه المسؤول عن الإنفاق على نفسه وأولاده وزوجته وأخته غير المتزوجة ، ولا تطالب المرأة بالإنفاق على أحد ، سواء كانت أما أو زوجة أو بنتا أو أختا. وتأخذ البنت الثلث مع أخيها ، وتدخره لنفسها ، وتأخذ البنتان أو الأختان أو البنت مع الأخت الثلثين ، وتأخذ

__________________

(١) يأمركم ويفرض عليكم.

٢٩١

البنت الواحدة المنفردة نصف ما ترك أبوها ، والباقي للورثة العصبة الأباعد نسبيا إذا قورنوا مع الولد. والبنات يحجبن بنات الابن.

وأما حقوق الوالدين : فلكل من الأب والأم السدس ؛ لأن علاقتهما ومحبتهما بالنسبة للمتوفى الولد سواء ، إن كان له ولد ، فإن لم يكن له ولد ولا ولد ابن ، وورثه أبواه فلأمه الثلث من التركة ، والباقي للأب. فإن كان للمتوفى إخوة من ذكور أو إناث ، رجعت الأم من الثلث إلى السدس ، سواء كانت الإخوة أشقاء أو لأب أو لأم.

ويقدم أولا ما يحتاجه الميت من نفقات التكفين والتجهيز والدفن ، ثم يقضى الدين الذي كان على المتوفى في حال الحياة ، ثم تنفذ وصايا الميت في حدود الثلث ، ثم تقسم التركة ، قال الله تعالى بعد بيان حقوق الأولاد والوالدين : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً) (١) (مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) [النساء : ٤ / ١١] وتقديم الوصية على الدّين في الذّكر للتنويه بها والعناية بتنفيذها ، لأن الورثة قد يتثاقلون في تنفيذ الوصية ، ولكنهم لا يستطيعون التلكؤ في سداد الدين الذي يكون للدائن حق المطالبة به ، وهذا دليل واضح على إلغاء ما كان في الجاهلية من حرمان الأنثى والولد الصغير.

وأما حقوق الأزواج : فللزوج نصف تركة زوجته المتوفاة إن لم يكن لها ولد ولا ولد ابن ، من الزوج أو من غيره ، سواء كانت الزوجة مدخولا بها أو مجرد معقود عليها من غير دخول ، فإن كان للزوجة ولد أو ولد ابن فلزوجها الربع ، والباقي للأقارب الآخرين من بعد أداء الدين وتنفيذ الوصية.

وللزوجة ربع تركة زوجها المتوفى إن لم يكن له ولد ، ولا ولد ابن ، ولها الثمن إن كان لزوجها ولد ، والباقي للورثة الآخرين من بعد الدين والوصية.

__________________

(١) مفروضة عليكم.

٢٩٢

وأما الكلالة : (الميت الذي لا ولد له ولا والد) فهو من مات وليس له وارث من أب أو جد ، ولا فرع وارث من ولد وولد ابن ، وكان له أخ أو أخت من أم فلكل واحد منهما السدس ، ويلاحظ وجود التسوية بين الذكر والأنثى هنا ، لأن قرابتهما للميت على درجة متساوية واحدة وطريق الصلة واحد وهو الأم ، فإن كان الإخوة لأم اثنين فأكثر فلهم الثلث كالأم ، وهذا كله من بعد سداد الدين وتنفيذ الوصايا. وإن كان لهذا الرجل الكلالة أخت شقيقة أو لأب فلها النصف ، وللأختين الثلثان ، وللأخت الثلث مع أخيها.

هذه قواعد الإرث في شرع الله ودينه في غاية العدالة والإنصاف ، والرحمة ومراعاة مسئوليات الحياة ، فيجب التزامها ولا يجوز تجاوزها ، ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه.

ضوابط الإرث وعقاب المخالفين

وعقوبة الزناة في صدر الإسلام

أوضح القرآن الكريم بعض القيود والضوابط التي يجب التزامها في تشريع الإرث وقسمة الحقوق المتعلقة بالتركة ، وتوزيع الأنصباء بين الورثة ، وجعل الإسلام نظام الإرث من قواعد النظام العام التي لا يجوز مخالفتها ، أو تخطي الحدود المرسومة من الله تعالى ، لأن الله سبحانه أرحم الرحماء بعباده ، وأحكم الحاكمين ، وأعدل المشرعين.

وأول هذه الضوابط والقيود : التقيد بشرع الله وترك ما كان عليه الناس في الجاهلية من حرمان الأنثى والصغير ، لأن الناس لا يعرفون النافع حقيقة من الضار على المدى البعيد ، فيلزم التقيد بما أمر الله به ، فهو أعلم بالمصلحة من عباده ، وأدرى بما هو أقرب نفعا للبشر ، لذا فرض الله أحكام الميراث فريضة محكمة لا هوادة في وجوب العمل بها ،

٢٩٣

فريضة من الله ، إنه كان عليما بأحوال الناس ، حكيما فيما يشرع لهم ، يضع الأمور في موضعها الصحيح المناسب ، قال الله تعالى : (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً). [النساء : ٤ / ١١].

والقيد الثاني والضابط الآخر لقواعد الإرث : هو ترك الإضرار في الوصية ، فلا يجوز للموصي الإيصاء بأكثر من الثلث : «الثلث والثلث كثير» كما صح في الحديث. ولا الوصية لوارث لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث المتواتر : «إن الله أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث».

ولا يجوز الإيصاء بمعصية ، ولا يحل للإنسان إضرار الورثة بأن يقر بدين غير ثابت لم يقبضه من الدائن أو يكون الدين المقرّ به مستغرقا المال كله ، ولا تجوز الوصية بالثلث فرارا من وارث محتاج ، ولا يصح حرمان الوارث من حقه في الميراث ، وهكذا فوجوه الإضرار كثيرة ، قال النبي فيما رواه أبو داود عن أبي هريرة : «من ضارّ في وصية ألقاه الله تعالى في واد في جهنم».

وقال أيضا فيما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم في التفسير عن ابن عباس : «الضرار في الوصية من الكبائر». ويجمع كل أوجه الضرر في الوصية والدين قول الله تعالى : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) [النساء : ٤ / ١٢].

الضابط العام الثالث لنظام الإرث الشرعي : التزام أحكام الله كما شرع ، لأن التزامها مانع من الوقوع في المعصية ، وطاعة الله ورسوله موجبة لدخول الجنة ، ومعصية الله ورسوله وتعدي حدوده ومحارمه مقتض لدخول نار جهنم والتعرض للعذاب المهين المذل. قال الله تعالى : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ (١)

__________________

(١) شرائعه وأحكامه.

٢٩٤

وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤)) [النساء : ٤ / ١٣ ـ ١٤].

الآيات تشير إلى ما سبقها من أحكام ، فإن الأحكام المتعلقة برعاية الضعفاء من الأيتام والنساء ، وأحكام العدل والإنصاف بين الزوجات والحجر على السفهاء المبذرين واليتامى قبل البلوغ ، وأحكام المواريث ، كل تلك الأحكام هي حدود الله ومحارمه التي لا يجوز لمسلم أن يتخطاها ويتجاوزها. ومن يطع الله ورسوله فيما شرع وبيّن ، يدخله جنات تجري من تحت غرفها وبساتينها الأنهار العذبة ، مع الخلود الأبدي فيها ، من غير انقطاع ولا تحول عنها ولا موت آخر ، وهو جزاء المحسنين ، وذلك هو الفوز العظيم. وهذا وعد قاطع من الله ، والله لا يخلف الميعاد.

وهناك وعيد على عصيان هذه الأحكام بسبب إنكار عرب الجاهلية لقسمة الميراث ، فقد كلم فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عيينة بن حصن وغيره ، ويشتمل الوعيد لمن يتعدى حدود الله ، أي أحكامه في الميراث وغيره ، وينتهك حرمة الله ويعصي الله ورسوله : إدخاله نارا وقودها الناس والحجارة ، خالدين فيها إلى ما شاء الله ، وله عذاب مهين ومذل له ، فهو عذاب مادي وروحي.

هذه الضوابط لقواعد الميراث تعد مؤيدات شرعية مانعة من مخالفتها وإهمالها. قال الله تعالى : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) [النساء : ٤ / ١٣ ـ ١٤].

أي إن أحكام المواريث السابقة هي أحكام الله وشرائعه ، فلا تعتدوها ولا

٢٩٥

تتجاوزوها ، ومن يطع الله باتباع ما شرعه من الدين وأنزله على رسوله الكريم ، ويطع الرسول باتباع ما جاء به عن ربه من أحكام ، يدخله جنات (بساتين) تجري الأنهار من تحت قصورها ، وذلك هو الظفر والفلاح الذي لا مثيل له في الدنيا.

ومن يخالف أوامر الله ورسوله ، ويتجاوز الأحكام المشروعة ، يدخله نارا ، ماكثا فيها على الدوام ، وله عذاب مقترن بالإهانة والإذلال.

ثم ذكر الله تعالى عقاب الزناة في مبدأ الإسلام ، فقال : فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦)) (١) (٢) (٣) [النساء : ٤ / ١٥ ـ ١٦].

أي والنساء اللاتي يرتكبن الزنا ، فأشهدوا على زناهن أربعة من الرجال ، فإن شهدوا فاحبسوهن في المنازل ، حتى الموت ، أو يجعل الله لهن مخرجا مما أتين به.

والرجلان اللذان يأتيان الزنا ، فآذوهما بالقول ، وعيروهما ووبخوهما على فعلهما إذا لم يتوبا ، فإن تابا وأصلحا عملهما وغيّرا أحوالهما ، فاتركوا عقابهما ، لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، إن الله كان وما يزال كثير القبول لتوبة عباده ، رحيما بهم.

وقد نسخت هذه العقوبة بآية النور : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور : ٢٤ / ٢]. بالنسبة للأبكار ، وبأحاديث الرجم للمحصنين والمحصنات في السنة القولية والعملية.

__________________

(١) يفعلن الزنا.

(٢) احبسوهن.

(٣) عاقبوهما عقابا مناسبا.

٢٩٦

وقت قبول التوبة وأحكامها

إن الإنسان تتنازعه عوامل الخير والشر ، وتطرأ عليه حالات الضعف الإنساني أحيانا ، فيندفع مع أهوائه وشهواته ويستجيب لوساوس شيطانه ، فيقع في المعاصي والمخالفات ، ثم يندم ويتراجع ويبحث عن طريق الإنقاذ والتخلص من أخطاء الماضي ، لأن نفسه معذبة وضميره يوبخه ويؤنبه ، وقد فتح الله باب الأمل أمام المخطئين النادمين ألا وهو التوبة الصادقة ما بين الإنسان وربه ، من غير وساطة أحد ، لا عالم ولا قريب ولا معلم ، وقد وضع الشرع للتوبة شروطا وأحكاما.

وشروط التوبة أربعة : الإقلاع عن الذنب ، والعزم على ترك الخطيئة في المستقبل ، حتى لا يكون هناك إصرار لا توبة معه ، والندم على الفعل في الماضي ، ورد الحقوق المالية إلى أصحابها ، وطلب المسامحة من الآخرين الذين أخطأ الإنسان معهم في الحقوق الأدبية. والتوبة : الندم على ارتكاب معصية الله تعالى.

وأحكام التوبة نصت عليها آيتان قرآنيتان ، قال الله تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨)) (١) (٢) [النساء : ٤ / ١٧ ـ ١٨].

التوبة فرض على جميع المؤمنين بإجماع الأمة لقوله تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور : ٢٤ ـ ٣١] وذلك بأن يدرك المؤمن المذنب قبح فعله السابق ، ويندم ندما حقيقيا مصمما ، على ألا يعود إلى الذنب أبدا.

__________________

(١) السوء : العمل القبيح الذي يسوء فاعله.

(٢) الجهالة : التورط في المعصية عند شهوة أو غضب جهلا وسفها من غير تقدير عواقب الأمور.

٢٩٧

وقبول التوبة والمغفرة أوجبه الله على نفسه تفضلا ورحمة وبيانا لصدق إنجاز الوعد ، ولسابق وعد الله الكريم في قوله سبحانه : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأنعام : ٦ / ٥٤]. والله الذي أوجب قبول التوبة على نفسه عليم بخلقه ، لأن النفس الإنسانية قد تشذ ويغويها الشيطان ، فتقع في المعصية ، فلو لا باب التوبة ليئس الناس وضاقت بهم الدنيا ، وظلوا على حالهم.

وقال قتادة : اجتمع أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن كل معصية ، فهي بجهالة ، عمدا كانت أو جهلا وخطأ.

وأحسن أوقات التوبة : أن يبادر الإنسان المخطئ إلى الإقرار بها من قريب ، أي بعد وقوع الخطيئة مباشرة وبسرعة ، حتى لا يفوت الأوان ، وتتراكم السيئات ، أي المعاصي. ويظل باب التوبة مفتوحا إلى ما قبيل مجيء وقت الموت أو الاحتضار ، فمدة الحياة كلها وقت قريب ، لما رواه أحمد والترمذي عن بشير بن كعب والحسن أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله تعالى يقبل توبة العبد ، ما لم يغرغر (١) ويغلب على عقله». وذلك لأن الرجاء فيه باق ، ويحتاج الأمر إلى وقت يصح منه الندم والعزم على ترك الفعل ، حتى يظهر دور الإنسان الاختياري والإرادة البشرية ، فإذا غلب الإنسان على عقله ، تعذرت التوبة لعدم توافر الندم والعزم على الترك. والله عليم بمن يتوب ، وييسره هو للتوبة ، حكيم فيما ينفذه من الأمر والقبول ، وفي تأخير من يؤخّر عن التوبة حتى يهلك ويموت.

وأما توبة اليأس فغير مقبولة ، مثل أولئك الذين يواظبون على اقتراف المعاصي ، ويستمرون في غيهم وضلالهم حتى إذا أدركهم الموت وساعته ، تابوا عند العجز عن

__________________

(١) أي ما لم تصل الروح إلى الحلقوم والغرغرة.

٢٩٨

المعصية ، والخوف من العقاب ، وذلك مثل توبة فرعون حينما حضره الموت ، وأدركه الغرق ، وصار في غمرة الماء ، وفي حيّز اليأس ، فلم ينفعه ما أظهر من الإيمان.

ولا يقبل الله توبة الذين يموتون وهم كفار ، ولا توبة من يؤجل التوبة حتى تحضره الوفاة ، لأنها تكون حينئذ قسرية ، والأعمال المقبولة لا تكون إلا عند التكليف والاختيار ، وأولئك الذين يرجئون التوبة ويؤخرونها عن وقتها المناسب هيأ الله لهم عذابا مؤلما ومذلا في الآخرة ، لأنهم أصروا على أخطائهم ، واستعبدهم الشيطان إلى الموت.

معاملة النساء

من المعلوم أن المرأة نصف المجتمع ، وهي في حكم الله وتقديره تشارك الرجل في تحمل أعباء الحياة ، وتعاونه في تحقيق المهام والمعايش ، ولقد أنصف الإسلام المرأة وكرمها ورفع مكانتها ، وأنزلها منزلة لائقة بها ، تتفق مع فطرتها ومهماتها ، لأنها شريكة في الحياة ، وهي إنسان حي له كرامة وشخصية ، وأعطاها من الحقوق المناسبة لطبيعتها وتركيبها وإمكاناتها النفسية والبدنية.

وكانت المرأة في الجاهلية وفي عصور الرومان واليونان تعد من قبيل المتاع ، وكان أقارب الزوج المتوفى عند العرب يستولون عليها كرها عنها. روى البخاري أنه كان إذا مات الرجل منهم ، كان أولياؤه أحق بامرأته : إن شاء بعضهم تزوجها ، وإن شاؤوا زوجوها ، وإن شاؤوا لم يزوجوها ، أي منعوها الزواج ، فهم أحق بها من أهلها ، فنزلت الآية الآتية. وكان من عادات العرب في الجاهلية أيضا إذا أرادوا فراق امرأة ، رموها بفاحشة ، حتى تخاف وتشتري نفسها منه بالمهر الذي دفعه إليها ، فنزلت آية أخرى. قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ

٢٩٩

كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) [النساء : ٤ / ١٩ ـ ٢١].

يخاطب الله المؤمنين بصفة الإيمان الباعثة على الالتزام والطاعة ، فيذكر أنه لا يليق بكم أن تعاملوا المرأة كالمتاع ، فتستولون عليها وترثونها وهي كارهة ، ولا يحل لكم أن تضيقوا عليهن وتضاروهن ، حتى يضطررن إلى الافتداء بالمال أو التنازل عن الصداق (المهر). قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع فيما رواه الترمذي وغيره : «استوصوا بالنساء خيرا ، فإنهن عوان عندكم (٦) ، أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله» أي بعقد الزواج المشروع. لكن ارتكاب الفاحشة أي الزنى مسقط لحق المرأة في المهر. وعليكم أيها المؤمنون وبخاصة الشباب أن تعاشروا نساءكم وتخالطوهن بالمعروف بما تألفه الطباع السليمة ، ولا ينكره الشرع والعقل والعرف ، من غير تضييق في النفقة ولا إسراف ، وكلمة (المعاشرة) تقتضي المشاركة والمساواة ، أي كل واحد يعاشر صديقه من جانبه بالمعروف ، معرضا عن الهفوات ، جالبا السرور ، حافظا الود ، معينا على الشدائد ، قال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١)) [الروم : ٣٠ / ٢١].

فإن كرهتم النساء لعيب خلقي أو قبح أو تقصير في أمر أو مرض أو لأسباب

__________________

(١) بإكراه منكم ، أي مكرهين لهن.

(٢) أي لا تمنعوهن من الزواج ، ولا تضيقوا عليهن.

(٣) باطلا وظلما.

(٤) أي تكاشفتم واختلطتم وباشر بعضكم بعضا واطلع على أسراره ، وهو كناية عن الوقاع.

(٥) الميثاق الغليظ : عقدة الزواج ، أي عهدا وثيقا.

(٦) أي كالأسرى.

٣٠٠