التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0523-3
الصفحات: ٦٧١

يسمحون للمستضعفين أن تكون لهم عزة وكرامة ، وقوة ومنعة. لذا تنشأ الحروب بين الفريقين ، ويصبح الجهاد وردّ العدوان أمرا واجبا وفريضة لازمة ، ويكون تقديم الشهداء وبذل التضحيات في الأمة عملا مفروضا. وقد جعل الإسلام للشهداء منزلة عالية في الدنيا بتخليد ذكرهم والثناء الحسن عليهم ، وفضلوا في قبورهم بالرزق من الجنة من وقت القتل ، حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم ، إذ لا يرزق إلا حي.

قال الله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥)) (١) [آل عمران : ٣ / ١٦٩ ـ ١٧٥].

تضمنت هذه الآيات الشريفة الكلام عن منزلة الشهداء ، وعن بطولات المجاهدين في سبيل الله المخلصين أعمالهم ابتغاء مرضاة الله.

روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما أصيب إخوانكم بأحد ، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ، ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلّقة في ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مأكلهم وشربهم وحسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا ، فقال الله تعالى : أنا أبلغهم عنكم» ، فنزلت هذه الآية.

__________________

(١) أي الألم الشديد والجراح يوم أحد.

٢٦١

آية الشهداء هذه تحث المؤمنين على الجهاد ونصر الإسلام وإعلاء كلمة الله ، وترغب في الاستشهاد في سبيل الله ، لأن للشهداء مكانة عالية عند ربهم ، فهم أحياء عند ربهم حياة من نوع خاص ، في عالم الغيب ، يمددهم الله برزق من الجنة ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يرويه الإمام أحمد وغيره عن ابن عباس : «أرواح الشهداء على نهر بباب الجنة يقال له بارق ، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا».

هؤلاء الشهداء فرحون بما رأوه من نعيم واسع وفضل كبير وإكرام جليل من الله ، وهم مسرورون بإخوانهم المجاهدين الذين يتبعونهم على درب الجهاد والاستشهاد ، لما شاهدوه من الجزاء العظيم لهم : وهو حياة أبدية ونعيم دائم ، لا خوف عليهم من مكروه ، ولا حزن على ما فاتهم في الدنيا ، وهم يستبشرون بما يتجدد لهم من نعمة الحياة عند ربهم ، ورزقه لهم ، وحفظ ثوابهم العظيم.

والمجاهدون الذين يحظون بشرف الشهادة هم المؤمنون الذين استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابهم الألم الشديد والجراح في غزوة أحد ، فلبوا نداء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حينما طلبهم فورا بعد أحد للقاء أبي سفيان في غزوة حمراء الأسد ، للذين أحسنوا منهم العمل واتقوا ربهم وخافوا عقابه لهم أجر عظيم يتناسب مع جهادهم وتضحياتهم.

وهم الذين قال لهم بعض الناس (نعيم بن مسعود) : إن الناس وهم قريش قد جمعوا جموعهم فاخشوهم ولا تخرجوا إليهم ، وذلك في غزوة بدر الصغرى ، فزادهم قول الناس المثبّطين إيمانا بالله وثقة به ويقينا في دينه ، فخافوا الله ، ولم يخافوا الناس ، واعتمدوا على نصره وعونه قائلين : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ). أي كافينا الله وهو نعم الناصر المتولي أمورنا ، وهذه الكلمة هي التي قالها إبراهيم الخليل حينما ألقي في النار ، وقالها النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قال الناس : إن الناس قد جمعوا لكم. ولما

٢٦٢

فوض أولئك المؤمنون المجاهدون أمورهم لربهم ، أعطاهم من الجزاء أربعة معان : النعمة ، والفضل ، وصرف السوء ، واتباع الرضى الإلهي ، والله صاحب الفضل العظيم.

إنما ذلكم الشيطان وهو نعيم بن مسعود المثبّط للمسلمين قبل إسلامه ، أو هو إبليس يخوفكم ـ أيها المؤمنون ـ أنصاره وهم المنافقون وقريش ومن معهم من صناديد الكفار ، فلا تخافوهم وخافوني باتباع أمري وجاهدوا مع رسولي إن كنتم مؤمنين حقا.

ومجمل القول : إن المؤمن القوي لا يكون جبانا ، وإن الشهداء أحياء بعد قتلهم حياة غيبية خاصة ، ورزقهم في الدنيا من الجنة ، والخوف يجب أن يكون من الله فقط لا من الأعداء ، وعلى المؤمن أن يثق بتأييد الله وعونه ونصره ، ويتخطى كل أسباب الخوف من غير الله.

استبعاد الخوف من الأعداء

الخوف غريزة في البشر ، وتزداد المخاوف حين لقاء الأعداء في المعارك ، ولكن الإيمان بالله يلقي في النفس الطمأنينة ، ويقوّي النفوس المؤمنة ، فترى المؤمن قويا شجاعا مقداما ، والكافر ضعيفا جبانا متقهقرا ، ولا يتغير هذا الموقف في القديم والجديد ، فأهل الإيمان هم الشجعان ، وغير المؤمنين هم الجبناء عادة.

وجاء القرآن لتربية نفوس المؤمنين ، وتبديد المخاوف من ملاقاة الأعداء ، وغرس الثقة والقوة في صفوف الدعاة إلى الله ، لأن إرادة الله هي الغالبة ، والله سبحانه هو القوي الغالب القاهر. ومن مقتضى الإرادة الإلهية تمييز أهل الإيمان عن غيرهم ، لتعرف مكانتهم ومنزلتهم عند الله تعالى.

قال الله عزوجل مبينا الفارق بين صف المؤمنين وبين صف الكافرين :

٢٦٣

(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧))

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨))

(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩)) (١) (٢) [آل عمران : ٣ / ١٧٦ ـ ١٧٩].

والمراد من هذه الآيات توصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته من بعده بما يجب أن يكونوا عليه حين لقاء أعدائهم. فلا تجعل أيها النبي نفسك حزينة كئيبة من موقف المسارعين في نصرة الكفار ، إن هؤلاء لا يحاربونك ويضرونك ، إنما يحاربون الله ، فهم لا يضرون الله شيئا ، وإنما يضرون أنفسهم ، والدمار عليهم ، يريد الله ألا يجعل لهم نصيبا في الآخرة من الثواب ، لفساد طبيعتهم ، وميلهم إلى الشر والضرر ، ولهم في الآخرة عذاب شديد ، لمساعدتهم في نصرة الكفر وتأييده.

وإن الذين بدلوا الكفر بالإيمان ، فاختاروا الكفر ، وآثروه على الإيمان ، لن يضروا الله شيئا ، بل الضرر واقع عليهم ، ولهم عذاب مؤلم جدا في الآخرة. ولا يغترن هؤلاء الكفرة بإمهال العذاب عنهم ، فليس ذلك الإمهال خيرا لهم ، بل هو شر عليهم ، لأن إمهالهم وتركهم مدة أخرى من الزمان ليزدادوا إثما على إثم ، ويمعنوا في الضلال والباطل ، ولهم عذاب بالغ الإهانة والذل.

__________________

(١) أي نمهل ونتركهم يفعلون ما شاؤوا مع كفرهم.

(٢) يصطفي ويختار.

٢٦٤

وما كان الله ليترك المؤمنين على حالهم ، حتى يميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب ، لأن بهذا التمييز والغربلة يعرف المخلصون ، وينقّى المجتمع من بذور الشر والفتنة والفساد ، ويكون هذا التمييز لاختبار المؤمنين بالشدائد والمصائب ، قال تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١)) [محمد : ٤٧ / ٣١].

وما كان الله ليعلمكم حقيقة أنفسكم بطريق الغيب ، وإنما يعلمكم بالحقائق في ميدان التجربة والممارسة والتكاليف ، فذلك الميدان هو الدليل القاطع على إخلاص المؤمن ، وتردد المنافق وجبنه.

لا بد من أن يمر الناس في عالم الدنيا بمرحلة الابتلاء والاختبار ليظهر الصادقون من الكاذبين ، أما مرتبة الاطلاع على الغيب فهي مختصة بمن يختارهم الله من خلقه للرسالة والنبوة ، وإذا أطلع الله رسوله على بعض الغيب ، وأخبر به الناس ، فيكون منهم الذين يؤمنون بالغيب ومنهم الكافرون ، والإيمان بالله ورسله وغيبياته وتقوى الله محقق للثواب العظيم والرضوان الإلهي. والغيب : كل ما غاب عن البشر ، مما هو في علم الله من الحوادث التي تحدث ، والأسرار التي يبطنها المنافقون ، والأقوال التي يقولونها إذا غابوا عن الناس.

تبين لدينا : أن تآمر الأعداء على المؤمنين لن يحقق فائدة تذكر ، وأن الخوف منهم يتصادم مع شرف الإيمان ، والإيمان والتقوى أمران أساسيان في تحقيق الظفر والنصر في الدنيا ، والأجر العظيم في الآخرة.

البخل بالمال والإنفاق في سبيل الله

إن بناء المجد والحضارة للأمة ، والدفاع عن شرفها وعزتها وكيانها يتطلب جانبا مهما في الحياة العملية ألا وهو الإنفاق في سبيل الله ، والبعد عن البخل والشح ، والتضحية بشيء من المال كالتضحية بالنفس والنفيس.

٢٦٥

فالإنفاق بسخاء في سبيل المصلحة العامة ضرورة وفضيلة ، والبخل والتقصير في الاسهام بالقضايا العامة ممنوع ورذيلة بل وداء وبيل. ولذا رغب القرآن الكريم بالإنفاق ، وحذر من البخل ، وتوعدّ الكانزين والبخلاء بالعذاب في نار جهنم ، قال الله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠) لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤)) (١) (٢) (٣) (٤) [آل عمران : ٣ / ١٨٠ ـ ١٨٤].

قال ابن عباس وغيره : إنما نزلت الآية في أهل الكتاب وبخلهم ببيان ما علّمهم الله من أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والمعنى : لا يظنن أحد أن البخل وكنز المال مفيد في الملمات ، وأن الجود يفقر والإقدام قتال ، لا ، فإن البخل شر مستطير على الأمة والفرد ، فمن قصر بأداء الزكاة المفروضة أو أهمل واجبه في دعم مصلحة الأمة العليا ، استحق العذاب الشديد في نار جهنم في الآخرة ، وكان محل نقد وذم وتشنيع عليه من أبناء مجتمعة في الدنيا. أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن من كان له مال ، فلم يؤد زكاته ، مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع (٥) يأخذ بلهزمتيه (٦) ، ثم يقول له : أنا مالك ، أنا مالك ، أنا كنزك.

__________________

(١) سيجعل طوقا في أعناقهم.

(٢) أمرنا وأوصانا.

(٣) هو ما يتقرب به إلى الله تعالى ، وتأكله النار : تحرقه.

(٤) كتب المواعظ.

(٥) أي ثعبانا عظيما.

(٦) أي شدقيه.

٢٦٦

وكيف يجوز البخل ، والله مالك السماوات والأرض هو الرزاق ، والمطلع على أعمال العباد ، لا تخفى عليه خافية ، لذا أمر الله بالإنفاق في قوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [الحديد : ٥٧ / ٧] ، وقوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [البقرة : ٢ / ٣].

وقد وبخ الله اليهود حين قالوا : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) قال ابن عباس : أتت اليهود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أنزل الله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ) [البقرة : ٢ / ٢٤٥] فقالوا : يا محمد ، أفقير ربك؟ يسأل عباده القرض ، ونحن أغنياء ، فأنزل الله : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ).

ووبخهم أيضا على جرمهم الخطير الشنيع ، وهو قتل الأنبياء بغير حق ، ويقال لهم يوم القيامة : (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي المحرق والمؤلم ، وذلك بسبب ارتكابهم الذنوب والفواحش ، وليس الله بظالم أحدا من عباده ، فيؤاخذه بلا ذنب.

هؤلاء اليهود الذين حاولوا أيضا قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدس السم في طعامه يوم خيبر ، وهم المانعون للزكاة القائلون كذبا : إن الله عهد إلينا ألا نؤمن برسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، ويفترون على الله الكذب بزعمهم أن الله أوحى إليهم ذلك في التوراة. فرد الله عليهم بأن هذه معجزة ، وقد سبق أن أرسلت لكم الأنبياء الكثر ومعهم المعجزات ، وأتوكم بالأدلة الواضحة الدالة على صدقهم ، فلم كذبتموهم ، ولم تصدقوهم ، ولم قتلتموهم إن كنتم صادقين؟

فإن كذبوك أيها النبي محمد بعد هذا كله ، فقد كذبت رسل كثيرون قبلك ، جاؤوا بالمعجزات والكتب الإلهية مثل التوراة ذات الهدى والنور ، والإنجيل الكتاب المنير ، ومع ذلك لم يؤمنوا حق الإيمان.

أجل! إن أداء الزكاة المفروضة ، والإنفاق بالصدقات المطلقة سبيل واضح من

٢٦٧

سبل التعاون الإنساني البناء وتحقيق التكافل الاجتماعي الواجب عقلا ودينا وقانونا ، وإن البخل والشح داء مدمر للأمة ، ومعوق نهضتها ، ومقوض بنية عزتها وكرامتها.

الموت أمر حتمي والدنيا دار ابتلاء

الحياة الإنسانية مدرسة كبري ، وميدان لتسابق الأعمال الخيرية ، والتنافس الشريف ، والعمل والعطاء ، والبذل والبناء ، ولا بد من طي صحيفة العمر الإنساني بالأجل المحتوم والموت المحقق ، فمن عمل خيرا سعد في الدنيا والآخرة ، ومن قصّر في واجبه كان مغرورا مخدوعا. ولا تخلو الحياة من مصاعب ومشاق ، ومحن وبلايا ، ومصائب وفتن في الأموال والأنفس ، ويتعرض أهل الإيمان لحملة مكثّفة دائمة وسلسلة من ألوان الأذى والشر ، ولكن لا بد من صبر واعتماد على الله ، مقدّر الأشياء ، والفعال لما يريد.

لذا حذر القرآن الكريم من تفويت الفرصة قبل مفاجأة الموت ، فقال الله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦)) (١) (٢) [آل عمران : ٣ / ١٨٥ ـ ١٨٦].

هذه الآيات الكريمات وعظ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأمته في شأن الدنيا وأهلها ، ووعد كريم

__________________

(١) تمتع الخداع.

(٢) لتختبرن بالمحن ، والبلاء : الاختبار ، والمراد : لتعاملن معاملة المختبرين ، حتى تظهر أحوالكم على حقيقتها.

٢٦٨

في الآخرة ، فبالتفكر في الموت تهون الأمور ، ولا يعبأ أحد بما يلقاه في الدنيا من مصاعب ومشكلات ومؤذيات ، فكل إنسان إلى الموت سائر ، فمن كان مسيئا لنفسه ودينه وأمته فإساءته محدودة موقوتة ، لا داعي للتضجر منها ولا التألم ، وسيجازى عليها جزاء أوفى. ومن كان مؤمنا عاملا الخير ، يوفى جزاءه وحقه كاملا غير منقوص يوم القيامة.

ومن نحّي عن النار وأدخل الجنة ، فقد فاز فوزا عظيما ، لأن روحه سمت وغلبت صفاته الطيبة على نوازعه الشريرة ، واتجه بعمله لإرضاء الله سبحانه.

وما حياتنا الدنيا التي نحياها ونشغلها بالماديات كالطعام والشراب ، أو بالمعنويات كالجاه والمنصب إلا أوضاع زائلة نتمتع وننتفع بها ، ثم تزول بسرعة ، والمفتون بالدنيا ومظاهرها مغرور مخدوع دائما ، لأن الحياة الدنيا وكل ما فيها من الأموال هي متاع قليل ، تخدع المرء وتمنّيه بالأباطيل ، فالواجب على العاقل ألا يغتر بالدنيا وألا يسرف في حبها ، وإلا أصابه شررها عند فراقها ، إنما الدنيا جسر للآخرة ، فمن أحسن العبور بالعمل الطيب لنفسه وأمته ، فقد أصاب الهدف ، وكان متعقلا واعيا.

وليست الدنيا خالية من المصاعب والمتاعب ، ولا بد من أن يتعرض المرء فيها لألوان من الأذى والشدائد ، سواء في داخل الأمة والبلاد ، أم في خارج الديار من الأعداء ، لذا كان لا بد من الامتحان العسير في الحياة في الأموال والأنفس ، والاختبار في المال يكون من الله بطلب بذله في جميع وجوه الخير وفيما يعرض من حوائج وآفات ، والاختبار في النفس يكون بطلب الدفاع والجهاد في سبيل الله والتعرض للقتل والموت في الحرب وغيرها من أجل إسعاد الأمة برمتها.

ويتعرض المسلمون في كل عصر لألوان من المحن والمؤامرات من المشركين وأهل الكتاب ، ويلحقون بهم الأذى الكثير في الاعتبار والكرامة والديار والطعن في الدين

٢٦٩

والقرآن والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما نشاهد في تصريحات المسؤولين من قادة الأعداء ، وفي الكتب والمجلات والإذاعات ، ولكن السلاح الأمضى والعلاج النافع هو الصبر والتقوى ، الصبر على المكائد ومحاولة التخلص منها ، وتقوى الله في السر والعلن بالتزام المأمورات واجتناب المنهيات ، ومن يصبر ويتق الله يؤته الله أجرين من رحمته ، ويكون التصبر والتقوى من عزائم الأمور ، أي مما يجب العزم عليه من الأمور ، فذلك دليل الإرادة القوية والحكمة والعقل والاتزان.

وفي الجملة : إن هدف الحياة هو العمل والبناء ، والإنجاز والعطاء ، وإعداد العدة اللازمة لخيري الدنيا والآخرة ، وعوامل النجاح في هذا العالم : الصبر والإرادة ، والتقوى والإخلاص في العمل.

أمانة الاعلام الديني

إن من أقدس واجبات العلماء في الدين أن يكونوا أمناء على ما يعلمون من الكتب الإلهية ، لإبلاغها للناس والعمل بها ، فلا يكتمون شيئا منها ، لأنها أحكام الله وشرائعه التي أنزلها للإصلاح والإسعاد ، وتحقيق الأمن والسلام وصون الحقوق العامة والخاصة. وهذا يعد عهدا مؤكدا على أهل العلم مثل العهود والمواثيق التي يعقدها الناس فيما بينهم ، والعهد واجب الاحترام والتنفيذ ، قال الله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧)) (١) [آل عمران : ٣ / ١٨٧].

هذه الآية خطاب لمعاصري النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخبر عام لهم ولغيرهم ، مضمونه أن يذكر

__________________

(١) طرحوه.

٢٧٠

النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبر الميثاق : وهو العهد المؤكد الذي أخذه الله على أهل الكتاب بوساطة الأنبياء ، وأقسم عليها ليبينن الكتاب الإلهي للناس ويظهرونه ولا يحرفونه عن موضعه حتى يفهم الناس ويعملوا بما جاء فيه. ولكن نبذ أهل الكتاب هذا الميثاق وراء ظهورهم ، وبدلوا به ثمنا قليلا من حطام الدنيا الفانية كالرياسة والمال الزائل ، فكانوا في هذه الصفقة مغبونين ، حيث جعلوا العرض الفاني بدل النعيم الباقي في الآخرة ، فبئس الشراء شراؤهم ، وبئست هذه المبادلة ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد وغيره عن أبي هريرة : «من سئل عن علم فكتمه ، ألجم يوم القيامة بلجام من نار».

وإذا أخبر العالم الديني بحكم شرعي فعليه أن يكون أمينا في نقله ؛ حاذقا في فهمه ، فلا يحرّفه ولا يبدله ، ولا يبتر منه شيئا ، ولا يدلّس ويعمّي الأمور ويغطّي الحقائق ، ولا يطلب الثناء على ما فعل من بيان الخبر المشوه أو الحكم المبدل ، وهو في هذا كاذب دجّال ، قال الله تعالى عقب الآية السابقة : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩)) (١) [آل عمران : ٣ / ١٨٨ ـ ١٨٩].

وسبب نزول هذه الآية كما روى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري : أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الغزو ، تخلفوا عنه ، فإذا قدم اعتذروا إليه ، وقالوا : كانت لنا أشغال ونحو هذا ، فيظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القبول ويستغفر لهم ، ففضحهم الله تعالى بهذه الآية ، فكانوا يفرحون بما يأتونه ويفعلونه من التخلف والاعتذار ، ويحبون أن يقال لهم : إنهم في حكم المجاهدين ، لكن العذر حبسهم ، أي منعهم عن الجهاد.

__________________

(١) بفوز ونجاة.

٢٧١

وقال جماعة كثيرة من المفسرين : إنما نزلت الآية في أهل الكتاب أحبار اليهود ، لقول ابن عباس : إن الآية نزلت في قوم سألهم النبي عليه‌السلام عن شيء ، فكتموه الحق ، وقالوا له غير ذلك ، ففرحوا بما فعلوا ، وأحبوا أن يحمدوا بما أجابوا ، وظنوا أن ذلك قد قنع به واعتقد صحته.

لقد كان هؤلاء من أهل الكتاب يفرحون بما أتوا من التأويل والتحريف للكتاب ، ويرون لأنفسهم شرفا فيه وفضلا بأنهم قادة وأئمة يهتدى بهم ، وهذا فرح في غير محله وتضليل وقلب للحقائق ، وكانوا يحبون أن يحمدوا بأنهم حفاظ الكتاب وعلماؤه ، وهم لم يفعلوا شيئا من ذلك ، لذا أخبر القرآن الكريم أنهم معذبون في الآخرة ، وعذابهم شديد مؤلم جدا.

فما على العلماء إلا أن يبينوا للناس حقيقة الكتاب الإلهي ، وحكم الشرع الصحيح ، فإن فعلوا الواجب وأخبروا بالحق ، يكفهم الله تعالى ما أهمهم وينصرهم على أعدائهم ، ويغنهم عن هذه المسالك المشبوهة التي لا تليق بمراكزهم ، فهم قدوة الناس ، ومحل التقدير والاحترام ، والله الذي يكفيهم ما أهمهم هو مالك السماوات والأرض ، يعطي ويمنع ، ويخفض ويرفع وهو على كل شيء قدير ، قادر على نصر من نصر دينه وشرعه ، وهلاك من ضيّع دينه وشرعه.

بان لك أن واجب العلماء مقدس ، وهو تبيين الدين والتعريف بحقيقته لغير المؤمنين بأسلوب واضح سهل ، وفهم لروح التشريع ، حتى يهتدوا به ، وتبيين الدين أيضا للمسلمين حتى يهتدوا به ويفهموه على حقيقته ، دون بتر ولا تشوية ، ودون إخلال وتجهيل ، وبصراحة وإخلاص.

٢٧٢

أسلوب القرآن في بيان العقيدة

أرشد البيان الإلهي في القرآن الكريم إلى مواضع التأمل والتفكر ، والنظر والعبرة ، في أبسط الأشياء الكونية ، وأوضحها للناس ، فأقام الدليل القاطع على وجود الإله الصانع الخالق بوجود السماوات والأرضين ، فالمخلوقات دليل واضح على العلم ، ومحال أن يوجد شيء من غير موجد ، وأن يكون هذا الموجد غير عالم ولا مريد ولا حي. قال الله تعالى :

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥)) (١) (٢) (٣) (٤) [آل عمران : ٣ / ١٩٠ ـ ١٩٥].

روى ابن حبان في صحيحة وابن أبي حاتم عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «هل لك يا عائشة أن تأذني لي الليلة في عبادة ربي؟ فقلت : يا رسول الله ، إني لأحب قربك ، وأحب هواك (أي ما تهوى وتريد) وقد أذنت لك ، فقام إلى قربة من ماء في البيت ، فتوضأ ولم يكثر صب الماء ، ثم قام يصلي ، فقرأ من القرآن ،

__________________

(١) عبثا من غير حكمة.

(٢) احفظنا من عذابها.

(٣) أهنته.

(٤) أزل عنا واستر.

٢٧٣

وجعل يبكي حتى بلغت الدموع حقويه (١) ، ثم جلس ، فحمد الله وأثنى عليه ، وجعل يبكي ، ثم رفع يديه ، فجعل يبكي حتى رأيت دموعه قد بلّت الأرض ، فأتاه بلال ليؤذن بصلاة الغداة (أي الصبح) فرآه يبكي ، فقال له : يا رسول الله ، أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال : يا بلال ، أفلا أكون عبدا شكورا. ثم قال : ومالي لا أبكي؟ وقد أنزل الله علي في هذه الليلة : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ..) الآيات ، ثم قال : ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها».

هذه الآيات ترشد إلى أدلة وجود الله سبحانه ، وهي خلق السماوات والأرض ، وتعاقب الليل والنهار ، ففي السماء بدائع الكواكب والنجوم وأفلاكها ومداراتها ، وفي الأرض خزائن الرزق من زروع وأشجار وأنهار ومعادن جامدة وسائلة ، والليل والنهار يتعاقبان بانتظام ، ويتفاوتان بحسب الفصول طولا وقصرا ، ويختلفان نورا وظلاما ، إن في هذا كله لعلامات لأولي الأبصار على وجود الله ، وأولوا الأبصار : هم الذين ينظرون ويتأملون في السماء والأرض وما فيهما ، ويذكرون نعم الله وفضله في كل حال من قيام وقعود واجتماع وافتراق ، ويكون ذكرهم بالقلب والعقل حتى تطمئن النفس (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد : ١٣ / ٢٨] ثم يذكرون معتقدهم باللسان ، ذاكرين الله كثيرا ، ومسبحين إياه بكرة وأصيلا.

ويردد هؤلاء الذاكرون وقلبهم ممتلئ خشية وعبرة : ربنا ما خلقت هذا الخلق عبثا ، بل لا بد لهذا الخلق من نهاية للجزاء والحساب ، ربنا اصرف عنا عذاب النار بعنايتك وتوفيقك ، فمن أدخلته النار فقد أهنته وأخزيته ، وليس للظالمين الكافرين من أعوان ولا أنصار ، ربنا إننا سمعنا رسول الهدى يدعو للإيمان ، فآمنا بربنا وصدّقنا برسالة رسوله ، ربنا فاغفر لنا الذنوب وكفر عنا السيئات ، وأمتنا واحشرنا مع أهل

__________________

(١) الحقو : الخصر.

٢٧٤

البر والخير والاستقامة ، واجعلنا معهم في كل أحكامهم وأفعالهم. ربنا وانصرنا على أعدائنا وأعطنا ما وعدتنا من حسن الجزاء والنصر في الدنيا والنعيم في الآخرة ، فأنت الصادق الوعد الذي لا تخلف الميعاد.

فأجاب الله أدعية هؤلاء المؤمنين بأن أعطى كل عامل جزاء عمله كاملا غير منقوص ، لا فرق بين ذكر وأنثى ، بل العدل والمساواة التامة في الجزاء ، والرجل مولود من الأنثى ، والأنثى من جنس الرجل في الخلقة والتكوين ، وللمهاجرين الذين تركوا الديار والأموال ، وتعرضوا للأذى والقتل ، وعد قاطع بتكفير سيئاتهم وغفران ذنوبهم وإدخالهم جنات النعيم ، فضلا من الله ونعمة ، والخلاصة أن الجزاء منوط بالعمل ، ولا فرق بين الرجل والأنثى في العمل والثواب.

جزاء المؤمنين وغيرهم في الآخرة

وعد الله تعالى عباده المؤمنين بالثواب العظيم ، ثم واساهم وصبّرهم على ما يتعرضون له من شدائد ومصاعب في الحياة ، ليدوموا على العمل الصالح ، ويستمروا على ما هم عليه من الإيمان القوي الذي لا يتأثر بالأحداث. فقال الله تعالى في أواخر سورة آل عمران : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) (١) (٢) (٣) (٤)

__________________

(١) لا يخدعنك.

(٢) تصرف.

(٣) بئس الفراش والمضجع.

(٤) ضيافة وتكرمة.

٢٧٥

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)) (١) (٢) [آل عمران : ٣ / ١٩٦ ـ ٢٠٠].

ذكر بعض الرواة : أن بعض المؤمنين قالوا : إن أعداء الله فيما نرى من الخير ، وقد هلكنا من الجوع والجهد ، فنزلت هذه الآية : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦)).

والمراد من الآيات أنه لا تغتر أيها المخاطب بما تراه في الدنيا من ظواهر الأشياء ، ولا تظن أن حال الكفار حسنة بما تراه عندهم من مظاهر الثراء والسعادة ، ولا تنزعج لذلك ، فإنهم يتقلبون في البلاد ويترددون في شؤون التجارة والكسب ، ويتمتعون بزخارف الدنيا ، وينتفعون بخيراتها ، ولكن تمتعهم بما لديهم قليل ، فهو قصير الأمد وزائل ، وكل زائل قليل. ثم يكون مصيرهم القاتم المدمر : وهو دخول جهنم ، وبئس المكان الممهد الموطأ لهم كالفراش ، وهذا على سبيل التهكم بوصف بلاط جهنم كأنه الفراش.

وفي مقابل فئة الكفار نجد فئة المؤمنين الذين إذا قورن حالهم في الدنيا والآخرة بحال غيرهم ، ظهر الفرق جليا ، ليعرف المسلمون أنهم أسعد حالا في دنياهم ، وآخرتهم. هؤلاء المؤمنون الذين اتقوا ربهم بفعل الطاعات واجتناب المنهيات لهم جنات المأوى والنعيم ، تجري من تحت غرفها وبساتينها الأنهار ، نزلا معدا لهم كما يعد النزل للضيف من زاد وغيره ، وما أعد الله لهم خير لأهل البر الذين فعلوا الخير وأخلصوا فيه ، أي إنه خير مطلق محض لا يقارن به سواه ، ولا تفاضل بينه وبين غيره ، لأن ما أعد للكفار شر محض لا خير فيه.

وإنصافا للحقيقة وإبرازا للحق والعدل ، أخبر القرآن الكريم أن بعض أهل

__________________

(١) غالبوا في الصبر.

(٢) أقيموا في الثغور الحدود المجاورة للأعداء مستعدين للجهاد.

٢٧٦

الكتاب الذين آمنوا بالله إيمانا حقيقيا خالصا لا شبهة فيه ، لهم كالمسلمين الأجر الكامل عند ربهم ، والله سريع الحساب يحاسب الناس في مدة قصيرة ، تعادل نصف يوم ، وذلك الأجر الممنوح إذا تحققت فيهم الأوصاف التالية : وهي الإيمان بالله إيمانا صادقا ، والإيمان بالقرآن المنزل على نبي الإسلام والمسلمين ، والإيمان بما أنزل إليهم من التوراة والإنجيل ، والخشوع لله والخضوع له بالعبادة والإخلاص ، فإن القلب متى كان خاشعا ممتلئا بخوف الله ، خضعت جميع الأعضاء لله وأوامره ، ومتى جمعوا هذه الصفات استحال عليهم تبديل كتابهم ، وإيثارهم كسب الدنيا الذي هو ثمن قليل على آخرتهم وعلى آيات الله تعالى.

نزلت هذه الآية الدالة على إيمان بعض الكتابيين بسبب أصحمة الحبشي النجاشي سلطان الحبشة ، فإنه كان مؤمنا بالله وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما مات عرف خبر موته رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك اليوم ، فقال لأصحابه كما ثبت في الصحيحين : «إن أخا لكم بالحبشة قد مات فصلوا عليه» أي صلاة الغائب ، فصلى عليه رسول الله بالناس الموجودين.

ثم ختمت سورة آل عمران بوصية جامعة يوصي الله فيها المؤمنين أن يصبروا على تكاليف الدين ، وعلى ما يتعرضون له من مصائب وشدائد ، وعليهم أن يصابروا الكفار ويغلبوهم في الصبر ، فيكونوا أكثر تحملا لشدائد الحرب وويلاتها ، وواجبهم أن يرابطوا في الثغور أي الاستعداد للقاء الأعداء في المواضع الاستراتيجية المهمة المجاورة لبلاد الأعداء ، وأن يخافوا الله ويحذروه ويراقبوه في السر والعلن ليفلحوا ويفوزوا. هذا هو جزاء الكافرين وجزاء المؤمنين وبيان سبب الجزاء لكلا الفريقين.

٢٧٧

تفسير سورة النساء

وحدة الإنسانية

خلق الله تعالى هذا العالم ليكون كبقية الآيات الكونية دليلا على وجود الله سبحانه ، وعلى اتصافه بصفات القدرة المتناهية والحكمة العالية والإتقان الباهر ، والإبداع الذي لا نظير له.

ومن حكمته تعالى أنه جعل العالم بمثابة الأسرة الواحدة ، المترابطة العناصر ، المتعاونة فيما بينها ، المتحابة المتوادة بين أفرادها. يحب كل إنسان أخاه ، ويريد الخير له ، فالإنسان أخو الإنسان أحب أم كره ، لأن المعيشة واحدة ، والهدف والمقصد واحد ، والمصير المحتوم هو واحد أيضا حينما ينتهي هذا العالم ، ويعود لعالم آخر للحساب والجزاء ، وتحقيق العدل والإنصاف التام بين البشر.

والقرآن الكريم نص صراحة على وحدة الإنسانية ، ووحدة الأسرة ، ووحدة الأخوة الإيمانية بين المؤمنين بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر. أما الوحدة الإنسانية التي تجعل البشرية بمثابة الجسد الواحد والنفس الواحدة فقد جاء الإعلان عنها في مطلع سورة النساء المدنية النزول ، إذ يقول الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١)) (١) (٢) (٣) [النساء : ٤ / ١].

__________________

(١) نشر وفرّق.

(٢) اتقوا قطع الأرحام.

(٣) مطلعا وحافظا لأعمالكم.

٢٧٨

في هذه الآية تنبيه واضح على وجود الإله الخالق الصانع المدبر المتقن ، وعلى افتتاح الوجود الإنساني بخلق العالم في الأصل من نفس واحدة هي آدم عليه‌السلام أبو البشر الذي خلقه الله وسوّاه بيديه وقدرته من طين ، ونفخ فيه من روحه ، فكان إنسانا كامل الخلقة والتكوين. ثم خلق الله تعالى حواء من جنس آدم في الطبيعة والتركيب ، والبنية والغريزة ، والأخلاق والصفات المتشابهة.

ومن أجل الحفاظ على الوحدة الإنسانية بين جميع البشر ، أمر الله تعالى وأوصى عباده أن يتعاونوا ويتضامنوا ويتراحموا ، فهم متجاورون في العيش ، شركاء في الانتفاع بثمرات وخير هذا العالم كله السماوي منه والأرضي ويكون التعاون بالقيام بالواجبات واحترام حقوق الآخرين ، وهذا المعنى هو المعبر عنه في الاصطلاح القرآني بالتقوى : وهي امتثال الأوامر واجتناب المنهيات في كل ماله صلة وثقى بالله وحده لا شريك له ، أو بالنفس البشرية ، أو بحقوق العباد الآخرين ، ويؤكد النص القرآني الأمر بالتقوى بما يحمل على الامتثال بذكر الربوبية المضافة إلى المخاطبين ، فالله هو رب الجميع الذي ربّاهم بنعمه ، وأفاض عليهم من إحسانه ، وأمدهم بكل وسائل الحياة العزيزة الكريمة ، وذكّرهم بأنهم من أصل واحد ، كلهم لآدم وآدم من تراب ، وأنه خلق من تلك النفس الأولى زوجها ، وتناسل منهما البشر والنوع الإنساني ذكورا وإناثا ، وجعل من تلك الذرية خلية أصغر ووحدة أضيق وهي رابطة الأسرة القائمة على الرحم الواحدة ، وصلة الدم والقرابة ، مما يدعوهم إلى التراحم والتعاون. وكل ذلك دليل على القدرة الإلهية الباهرة التي تستوجب وتتطلب التقوى من أجل الحفاظ على علاقات البشر الطيبة في المستوى الثنائي والجماعي.

وأكد الله تعالى الأمر بتقوى الله لتحسين العلاقات الإنسانية من جانبين : الجانب الأول : الإحسان الفطري العميق في كل نفس وإن كانت كافرة غير مؤمنة ـ

٢٧٩

الإحساس بتعظيم الله جل جلاله ، وشعوره الذاتي بأن الله وحده هو الذي ينقذه في أثناء تعرضه للمحن والشدائد ، أو عند تعرضه للمصائب والكوارث ، فيقول الواحد لأخيه الإنسان : أسألك بالله أن تفعل كذا ، وأسألك بإيمانك وتعظيمك له أن تقوم بكذا.

والجانب الثاني : تقوية بنية الأسرة وصلة الرحم بتذكير الناس بضرورة صلة الأرحام بالمودة والإحسان ، وتجنب قطع العلاقات الأسرية ، وتأكيد المحبة والتواصل فيما بين أبناء الأسرة الواحدة ، وقد أخبر الله بأن الناس بإحساسهم الداخلي الذاتي يتساءلون بالأرحام ، فيقول الواحد لقريبه : أسألك بما بيننا من قرابة أن تفعل كذا.

ثم ختم الله تعالى الآية بخاتمة رائعة تدل على وجوب تذكر وحدة الإنسانية ووحدة الأسرة بأن الله تعالى مطلع على كل شيء من أعمالنا ، رقيب حفيظ لكل عمل وحال ، وأنه سبحانه لا يشرع لنا إلا ما فيه حفظنا ومصلحتنا ، وهو الخبير بنا ، البصير بأحوالنا.

حقوق الأيتام وتعدد الزوجات في الإسلام

الإسلام دين العفة والطهر ، وهو أيضا دين العدل والحق ، فكما أن هذا الدين يحرص على نقاوة المجتمع وطهر الرجل والمرأة من الفواحش والعلاقات غير المشروعة ، كذلك هو أيضا يحرص على إقامة صرح العدالة في العلاقات الاجتماعية ، ويقاوم الظلم ويحرم الجور لأن بالظلم خراب المدنيات ودمار الأمم ، وبالعدل يتحقق الاستقرار والاطمئنان ، فبالعدل قامت السماوات والأرض ، وبالعفة والطهر والتخلص من الفواحش يصفوا المجتمع ، وتتجانس الطبائع ، ويتعاون الجميع على أسس واضحة لا نشاز فيها ولا شذوذ.

٢٨٠