التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0523-3
الصفحات: ٦٧١

لا يصح لكم أيها المؤمنون أن تضعفوا أو تحزنوا أو تستسلموا للوهن والحزن ، فأنتم الأعلون بمقتضى سنة الله في جعل العاقبة للمتقين ، وعلو كلمة الإسلام ، وقتلاكم في الجنة ، وقتلاهم في النار ، فالحرب سجال والأيام دول نداولها بين الناس ، فنجعل للباطل دولة في يوم ، وللحق دولة في أيام ، والعاقبة والنصر في النهاية للمتقين الصابرين.

والمعارك وساحة الحياة ميدان للاختبار والامتحان ، ففيها يعلم الله علم مكاشفة وظهور ، لا العلم الطارئ بعد الجهل ، لأن علم الله سابق ومطابق للواقع لا يتغير ، فالله يعلم الذين يؤمنون من الأزل ، ثم يظهر في الوجود إيمانهم في الواقع ، ويكرّم أناسا بالشهادة والقتل في سبيل الله ، وللشهادة درجة عظيمة عند الله والناس ، وفي هذه المحن العصيبة يمحّص وينقي الله الذين آمنوا ، ويظهر الإيمان الخالص من الإيمان المشوه ، ويتضح في الواقع المشاهد إيمان الذين قد علم الله أزلا أنهم يؤمنون ، وذلك حتى تصفو النفوس ، وتستعد للعودة إلى الطريق الأسلم وخوض معارك ناجحة ، يتم بها محق الكافرين أو ذهابهم شيئا فشيئا ، وانتصار المؤمنين وتنقية المخلصين وتمييزهم عن المنافقين ، وعلى هذا إذا انتصر الأعداء طغوا وبغوا ، فيكون هلاكهم مرة واحدة ، وإذا انهزموا ضعفوا وهلكوا شيئا فشيئا وأبيدوا ، والعاقبة في النهاية للمتقين.

والخلاصة : إن اتخاذ الأسباب المهيئة للرزق والنصر مثلا أمر متفق مع مبدأ الإيمان بقدرة الله الشاملة في إيجاد ما يشاء ؛ لأن الله يريد للناس أن يثبتوا ذاتيتهم ، ويظهروا أعمالهم ، ليتميز المحسن من المسيء ، والمجاهد من المتقاعس ، والقوي من الضعيف ، وإذا كنا نريد أن يتحقق كل شيء بأمر الله التكويني (كُنْ فَيَكُونُ) فذلك إلغاء لوجود الإنسان ، وإهمال لدوره وفعاليته في الحياة ، وإن عزيز النفس لا

٢٤١

يقبل عادة أن يمنح من غيره كل شيء ، وهو منتظر التقاط النتائج ، وتقديم الانتصارات على طبق من ذهب ، لذا فالعمل شرف ، والجهاد فضيلة وإثبات الذات مظهر تكريم وإعزاز.

عتاب المقصرين والمخالفين يوم أحد وبدر

يبين الله تعالى أن سبيل العزة والنصر والكرامة في الدنيا ، والثواب في الآخرة ، منوط بالجهاد والقتال ، والصبر والتضحية ، فليست الحياة العزيزة مفروشة بالورود ، وليس الفوز والنصر مجرد منحة إلهية من غير عمل وجهاد ، فلا بد للفوز في الدنيا من الصلاح والاستقامة ونصر دين الله وإقامة العدل ، ومنع الظلم ، وسلوك الطرق السوية المألوفة ، وتلك هي سنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير.

أبان الله تعالى هذه السنة وعرّفنا هذا المنهاج القويم ، فقال سبحانه : [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤٢ الى ١٤٤] (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)) [آل عمران : ٣ / ١٤٢ ـ ١٤٤].

والمعنى : لا يصح لكم أيها المؤمنون أن تصابوا بداء الغرور ، فتفهموا أن دخول الجنة يكون من غير جهاد في سبيل الله ، وصبر على المعارك الرهيبة ، والجهاد أنواع : جهاد العدو الظاهر بالسلاح والإعداد لطرده من الأوطان والبلاد ، وجهاد النفس بمنعها من الأهواء والشهوات وحملها على الطاعة والفضيلة والعمل الصالح ، وجهاد باللسان بالحرب الإعلامية الموجهة المدروسة ، وجهاد حب المال عند البذل في

٢٤٢

الأعمال العامة النافعة ، وإذا لم يعلم الله وقوع الجهاد والصبر ، فذلك دليل على عدم وقوعه بالفعل من المؤمنين.

ثم عاتب الله بعض المؤمنين الذين يعتمدون على الأماني والتمنيات ، فلقد تمنى المتخلفون من المؤمنين يوم بدر حضور قتال المشركين مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لينالوا منزلتهم العالية ، فلما جد الجد ، وجاء يوم أحد ، واحتدمت المعركة ، لم يصدق كل المؤمنين في القتال ، وتوانوا وقصّروا ، وانحازوا إلى الجبل والرسول يدعوهم إلى الصمود والقتال ، فلا يجيبه أحد.

قال الحسن البصري : بلغني أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يقولون ، أي يوم بدر : لئن لقينا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنفعلن ولنفعلن ، فابتلوا بذلك أي يوم أحد ، فلا والله ما كلهم صادق ، فأنزل الله : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ).

وفي غزوة أحد أشيع خبر مقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال بعض المنافقين : لو كان نبيا ما قتل ، من لنا برسول إلى عبد الله بن أبي (زعيم المنافقين) ليأخذ لنا الأمان عند أبي سفيان؟ وتبرأ أنس بن النضر إلى الله من مثل هذا الكلام ، وجعل يقاتل حتى يقتل دفاعا عن الدين ، وكانت هذه الإشاعة سببا في انفضاض بعض الناس عن مناصرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعاتبهم الله بقوله : وما محمد إلا رسول كغيره من الرسل السابقين ، إن مات كموسى وعيسى ، أو قتل كزكريا ويحيى ، فإن ديانتهم بقيت كما هي ، وتمسك أتباعهم بها ، فالمعقول والمطلوب أن تظلوا مؤمنين مجاهدين مخلصين كما كنتم ، ثابتين على المبدأ ولو مات أو قتل ، عاملين بمضمون رسالته على الدوام ، فإن الرسول بشر كسائر الأنبياء ، يموت كما مات الرسل قبله ، وله في الدنيا مهمة مؤقتة تنتهي بانتهاء أجله ، والله باق دائم ، فمن كان يعبد الله فإن الله حي باق ، ومن كان يعبد محمدا

٢٤٣

فإن محمدا قد مات. ومن يرتد عن دينه ، فلن يضر الله شيئا ، وإنما يضر نفسه ، ومن ثبت على دينه فهو من الصابرين المجاهدين الشاكرين ، وسيجزيهم الله جزاء حسنا على ثباتهم والتزامهم دين الله.

إن العتاب الإلهي لون من ألوان التربية والإعداد والتصحيح ، وذلك دليل من الله على محبته لعباده وإرادته الخير لهم ، فإذا أخطئوا لم يسكت الله على الخطأ ، وإن قصروا نبههم لما فيه صلاحهم ، حتى يبادروا للعمل البنّاء من جديد ، بروح قوية ، وعزيمة صادقة ، وجرأة وشجاعة نادرة ، وإيجابية لا تعرف التقهقر أو التردد ، وهذا سبيل العزة والكرامة ، وتحقيق الغايات الكبرى.

أجل الموت بإذن الله

هناك أمور حتمية مقدّرة للإنسان لا تزيد ولا تنقص ، مردها إلى الله جل جلاله ، كالحياة والموت ، والعز والذل ، والرزق والأجل ، اختص الله بعلمها ، وما على الإنسان إلا الرضا بالقضاء والقدر ، وهذا يعدّ حافزا قويا للبطولة والشجاعة ، والإقدام على خوض معارك الجهاد وغمار الموت ، بنفس قوية ، لا تخور ولا تتردد ، ولا تضعف ولا تجبن ولا تتقاعس ؛ لأن الأجل محتوم ، فليست المعارك والمخاطر مسرّعة للموت ، وليس النوم في المنازل ولا على الأسرّة بمطيل للأجل ، كما قال الله تعالى : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) [آل عمران : ٣ / ١٥٤]. وقال سبحانه : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) [النساء : ٤ / ٧٨].

قال عطية العوفي لما كانت يوم أحد ، انهزم الناس ، فقال بعض الناس : قد

٢٤٤

أصيب محمد ، فأعطوهم بأيديكم (١) ، فإنما هم إخوانكم ، وقال بعضهم : إن كان محمد قد أصيب ألا تمضون على ما مضى عليه نبيكم حتى تلحقوا به؟ فأنزل الله تعالى في ذلك : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)) [آل عمران : ٣ / ١٤٤]. إلى أن قال تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨)) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) [آل عمران : ٣ / ١٤٥ ـ ١٤٨].

أوضحت الآيات أن محمدا ـ كبقية الرسل ـ بشر معرض للموت ، لم يطلب لنفسه العبادة ، وإنما كان يأمر بعبادة الله وحده ، والله حي لم يمت ، ومهمة الرسول البلاغ فقط ، فليس لوجوده دخل في استمرار عبادة الله.

وأبانت الآيات أيضا أنه ليس من شأن النفوس ولا من سنة الله فيها أن تموت بغير إذن الله أو مشيئته ، فالله وحده هو المتصرف في كل شيء ، فيأذن للملك بقبض الروح في الموت العادي وغير العادي ، كتب الله هذا كتابا محكما محددا بوقت لا يتعداه ، ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها. وإذا كان العمر بيد الله ، فكيف يصح الجبن والضعف؟

ومن يرد ثواب الدنيا بجهاده وعمله ، أعطاه الله شيئا منها ، ومن يرد بعمله ثواب

__________________

(١) أي استسلموا لهم قبل أن يأخذوكم قهرا.

(٢) كم من نبي.

(٣) أي جماعات كثيرة.

(٤) عجزوا.

(٥) أي لقتل نبيهم.

(٦) ما خضعوا.

٢٤٥

الآخرة وجزاءها ، أعطاه الله شيئا منها ، على حسب إرادته وحكمته ومشيئته في كلا الحالين.

وكثير من الأنبياء السابقين قاتل معه في سبيل الله جماعات كثيرة ، فما وهنوا ولا ضعفوا ولا خضعوا للدنيا ومتاعها ، بل ظلوا صابرين ثابتين على المبدأ ، والله يحب الصابرين ، وما كان قول أولئك المجاهدين إلا أن قالوا : ربنا اغفر لنا ذنوبنا وخطايانا ، وإسرافنا وتجاوزنا أمرك ، وثبّت أقدامنا على صراطك المستقيم وأمام عدوك ، وانصرنا على القوم الكافرين ، فآتاهم الله ثواب الدنيا بالرضا والسعادة والعزة والنصر ، وثواب الآخرة وهو الجنة والرضوان ، والله يرضى عن المحسنين ويكافئهم بالفوز العظيم.

وما دام الأجل محتوما ومحددا ، فيكون ذلك باعثا على الإقدام والتضحية والاستبسال في سبيل إحراز النصر في الحياة على الأهواء والشهوات أم على الأعداء ووساوس الشياطين.

وإن الجهل بالأجل أو العمر فيه الخير والمصلحة ، فيبقى الإنسان في أمل وتفاؤل ، ويبتعد عن اليأس والإحباط ، أما إذا علم الإنسان بوقت أجله ، فيفقد الأمل ويعيش منتظرا الأجل المعلوم ، وكم رأينا بعض المرضى الذين يخبرهم الأطباء بألا أمل من شفائهم يعيشون بائسين حزينين مكروبين ، قلقين في أنفسهم ، ومزعجين لغيرهم.

عاقبة ولاء الكفار

يمتحن الله تعالى عادة عباده بأنواع مختلفة من الاختبارات ، في السلم والحرب ، أو في الرخاء والشدة ، أو في الغنى والفقر ، أو في الصحة والمرض ، أو في الحياة والموت ، أو في الفرح والمصيبة ، ليعرف المؤمن الصامد الثابت على العقيدة والمبدأ ،

٢٤٦

ويكشف الكافر والمنافق الذي لا هم له إلا النفع المادي الدنيوي ، والمطمع المالي والمصلحة السريعة.

وحرصا من الله على استقامة عباده المؤمنين ، حذرهم من موالاة الكافرين ومناصرتهم ومتابعتهم وتقليدهم في عملهم وموقفهم ، فقال الله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١)) (١) (٢) (٣) (٤) [آل عمران : ٣ / ١٤٩ ـ ١٥١].

وسبب نزول هذه الآيات أن بعض المنافقين حينما أذيع خبر مقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة أحد ، قال : من لنا برسول إلى ابن أبي (أي زعيم المنافقين) يأخذ لنا أمانا عند أبي سفيان ، فقال بعضهم : لو كان نبيا ما قتل ، ارجعوا إلى إخوانكم ودينكم ، وهذا أبو سفيان ينادي : العزّى (وهو الصنم المعروف) لنا ، ولا عزّى لكم ، فنزلت هذه الآيات.

وقال السدّي : لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد ، متوجهين إلى مكة ، انطلقوا حتى بلغوا بعض الطريق ، ثم إنهم ندموا وقالوا : بئس ما صنعنا ، قتلناهم ، حتى إذا لم يبق منهم إلا الشر ذمة (٥) تركناهم؟ ارجعوا فاستأصلوهم ، فلما عزموا على ذلك ، ألقى الله تعالى في قلوبهم الرعب ، حتى رجعوا عما همّوا به ، وأنزل الله تعالى هذه الآية : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ..) الآية.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أرسل علي بن أبي طالب يتعرف خبر المشركين بعد أحد ، عائدين إلى مكة إلى المدينة؟ ثم رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ، فجهز جيشا ، وتابع

__________________

(١) ناصركم.

(٢) الخوف.

(٣) حجة وبرهانا.

(٤) مأوى ومقام.

(٥) الطائفة القليلة من الناس.

٢٤٧

المشركين ، حتى بلغ (حمراء الأسد) وأخبر معبد بن أبي معبد الخزاعي وهو على كفره أبا سفيان بما صمم عليه رسول الله ، وأنه خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط ، يتحرقون عليكم ، قد اجتمع إليه من كان تخلّف عنه ، وندموا على ما صنعوا ، فوقع الرعب في قلوب الكفار ، وأسرعوا بالعودة إلى مكة.

هذه الآيات تحذر المؤمنين من إطاعة الذين كفروا كأبي سفيان وعبد الله بن أبي وأتباعهما ، فإنهم إن أطاعوهم ردوهم خاسرين في الدنيا بالذلة بعد العزة ، وتحكّم العدو فيهم ، وحرمانهم من السعادة والملك الذي وعد الله به المؤمنين بالاستخلاف في الأرض والتمكين فيها ، وكذلك يخسرون الآخرة بالعذاب الشديد في نار جهنم ، إن الله مولاكم وناصركم أيها المومنون ، فإياكم أن تفكروا في ولاية أبي سفيان أو غيره ، واحذروا كلام المنافقين الجبناء ، فالله نعم المولى والناصر وهو خير الناصرين.

وسيلقي الله في قلوب الذين كفروا الرعب الشديد بسبب شركهم بالله أصناما وحجارة ، لا حجة ولا برهان على صواب عبادتها وتعظيمها ، وتوّرث عبادتهم الأصنام خبالا في عقولهم وضعفا في نفوسهم ، ويزداد رعبهم كلما وجدوا المسلمين متمسكين بدينهم ، ومأواهم النار في الآخرة ، وبئس القرار فإنهم الظالمون المشركون العابثون ، وهذا الترهيب يستدعي زيادة شجاعة المؤمن الموعود بالنصر. وضعف المشرك وخوار عزيمته ، لأنه مبشر بالعذاب والعقاب.

إن الأمة الواعية هي التي تعتمد على نفسها ، وعلى من يشاركها بحرارة وصدق في آلامها وآمالها ، وإن أخطأ البعض لا يصح أن يكون سببا للارتماء في أحضان العدو ، فما عند الأعداء إلا الخطط المدمرة ، والكيد لنا ، وإبقائنا أذلة أتباعا لهم ، وإن ما نشاهده أعقاب حرب الخليج ١٩٩٠ م من اعتماد على مساندة الأعداء وتضييع للمصالح الكبرى دليل واضح على صدق التحذير القرآني من إطاعة الآخرين الذين لا صدق ولا إخلاص في دعمنا ومساندتنا.

٢٤٨

أسباب الهزيمة في غزوة أحد

للنصر أسباب وللهزيمة أسباب ، والمؤمن المتبصر هو الذي يدرك ما يجب عليه الحالين. وقد أبان القرآن أسباب هزيمة المسلمين في غزوة أحد ، للرد على المنافقين المشككين في نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال محمد بن كعب القرظي : لما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ، وقد أصيبوا بما أصيبوا يوم أحد ، قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا ، وقد وعدنا الله النصر؟ فأنزل الله تعالى :

(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢)) (١) (٢) (٣) [آل عمران : ٣ / ١٥٢].

أقسم الله تعالى في هذه الآية أنه قد نصر المؤمنين أولا في بداية أمر المعركة وقت أن أخذوا يقتلون المشركين قتلا ، ويفتكون بهم فتكا ، ولكنهم لما طمعوا في الغنائم وانقسموا فريقين : فريق الرماة فوق الجبل تركوا أماكنهم حينما رأوا انهزام المشركين ، وفريق ثبت مكانه وقالوا : لا نخالف أمر الرسول أبدا ، وهم القائد عبد الله بن جبير مع نفر قليل من أصحابه ، والفريق الأول وهم الرماة هم الذين أرادوا الدنيا وتركوا أماكنهم طلبا للغنيمة ، والفريق الثاني هم الذين أرادوا الآخرة وثبتوا في مكانهم ولم يخالفوا أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم تحول النصر إلى هزيمة ، وعفا الله عن المخالفين ، وصرف المؤمنين عن المشركين ليمتحن إيمانهم ويظهر الصادقون من المنافقين ، وتاب الله بفضله العظيم على المؤمنين.

ثم ذكّر الله المؤمنين حيث انهزموا ولم يلتفتوا إلى ما وراءهم ، والحال أن الرسول

__________________

(١) أي تقتلونهم بأمر الله وإرادته.

(٢) أي جبنتم وضعفتم.

(٣) ليختبر صبركم.

٢٤٩

يدعوهم لمناصرته قائلا : «إلي عباد الله ، إلي عباد الله ، أنا رسول الله ، من يكر فله الجنة». فقال تعالى : (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣)) (١) (٢) (٣) (٤) [آل عمران : ٣ / ١٥٣].

أي إن الله جازاكم على صنيعكم ، وألقى عليكم الغم والحزن بسبب الغم الذي أدخلتموه على الرسول وسائر المؤمنين بعصيانكم أمره ورأيه ، وما فعل بكم ذلك إلا ليمرنكم ويدربكم على الشدائد ، ولئلا تحزنوا على شيء فات ، ولا ما أصابكم من عدوكم ، والله خبير بأعمالكم ومجازيكم عليها.

ثم بيّن الله فضله على المؤمنين الصادقين الملتفين حول الرسول بإلقاء النعاس عليهم ، وكشف زيف المنافقين الذين لا يثقون بنصر الله ، قائلين : لن يأتي النصر لنا ، وإن محمدا ليس نبيا ، إذ لو كان نبيا ما هزم ، رابطين بين النبوة والنصر ، ومضمرين الحقد والعداوة لبقية المؤمنين ، فرد الله عليهم بأن النصر من عند الله ، والأمر كله لله ، فقال سبحانه : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤)) (٥) (٦) (٧) (٨) (٩) (١٠) [آل عمران : ٣ / ١٥٤]. فالنصر من عند الله ، وهذا رد على

__________________

(١) تهربون في الوادي.

(٢) أي تبعدون في الذهاب ، ولا تلتفتون لأحد.

(٣) أي جماعتكم المتأخرة التي وقفت تدافع عن النبي.

(٤) حزنا متصلا بحزن.

(٥) أمنا.

(٦) سكونا ، ومقاربة للنوم.

(٧) يحيط كالغشاء.

(٨) أي لخرج المقدر موتهم إلى مصارعهم التي يموتون فيها.

(٩) ليختبر.

(١٠) ليخلّص ويزيل.

٢٥٠

المنافقين القائلين : هل لنا من الأمر والنصر نصيب ، ولو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا ، أي إن الخروج للقتال خطأ ، ولو لم يخرج المسلمون لم يقتل أحد.

ثم أوضح الله تعالى أن الذين تركوا أماكنهم أو انهزموا إنما أوقعهم الشيطان في هذا الخطأ بسبب أفعالهم وذنوبهم السابقة ، ولكن عفا الله عنهم لما تابوا ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥)) (١) [آل عمران : ٣ / ١٥٥]. أي إن الله غفور للذنوب حليم لا يعجل بالعقوبة.

لقد كان انهزام المسلمين في أحد بسبب الحرص على المادة والغنائم ، ومخالفة أوامر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والإصغاء لوساوس الشيطان ، واقتراف الخطايا والذنوب ، وإن الاستفادة من دروس الهزيمة أهم من فوائد النصر والغلبة ، فلا يمكن تحقيق النصر إلا بتجنب وسائل الضعف والهزيمة ، والله برحمته ينبّه هؤلاء المخطئين كيلا يقعوا في الخطأ المماثل إلى الأبد.

تبديد مخاوف الموت

يشيع بين الناس ـ بسبب وسوسة الشيطان ـ خطأ فاسد ومعتقد باطل أن الأمان في البقاء في البيوت والمدن ، وأن الموت في السفر والارتحال ، أو الحرب والقتال ، وأن من سافر في تجارة ونحوها ، ومن قاتل فقتل ، لو قعد في بيته لعاش ولم يمت في ذلك الوقت الذي عرّض فيه نفسه للسفر أو للقتال.

فندّد الله تعالى في قرآنه هذا الاعتقاد الفاسد ، وأبان حقيقة أمر الموت ، وأنه بيد

__________________

(١) حملهم على الزلة بالوسوسة.

٢٥١

الله وحده ، وأن الاستشهاد في سبيل الله طريق لغفران الله والتعرض لرحمته ، فقال سبحانه :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨)) (١) (٢) [آل عمران : ٣ / ١٥٦ ـ ١٥٨].

أبطل الله في هذه الآيات ما يوسوس به الشيطان من أن السفر أو الجهاد عرضة للقتل أو الموت ، فيا أيها المؤمنون بالله ورسوله ، لا تكونوا كأولئك المنافقين الكفار الذين لا يهتدون إلى صواب الرأي وسلامة الاعتقاد ، فهم يقولون في شأن إخوانهم في الدين ، الذين يسافرون للتجارة ، أو يجاهدون في سبيل الله ، فيموتوا أو يقتلوا : لو كانوا عندنا مقيمين ، لم يبرحوا مكانهم ، ما ماتوا وما قتلوا.

إن هذا المعتقد خطأ واضح ، فليست المنايا ترسل بلا حساب ، وأن الهلاك بالسفر أو الحرب ، والمنافق أو الجبان هو الذي يعتقد أنه لو قعد في بيته لم يمت ، وحينئذ يتحسر أو يتلهف لو سافر أو جاهد ، أما المؤمن الشجاع فهو الذي يتيقن أن كل موت أو قتل بأجل سابق ، فيسلم الأمر لله ، ويكون التسليم لله تعالى بردا وسلاما على قلبه ، قال الله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) [آل عمران : ٣ / ١٤٥].

احذروا أيها المؤمنون أن تكونوا مثل الكفار والمنافقين ، وثقوا بالله واعتقدوا حق الاعتقاد أن الله هو الذي يحيى ويميت ، والله بما تعملون بصير ، فلا تخفى عليه

__________________

(١) سافروا.

(٢) أي غزاة مقاتلين.

٢٥٢

خافية من خبايا نفوسكم ومعتقداتكم ، وفي هذا ترغيب للمؤمنين بتسليم الأمر لله ، وتهديد للكافرين بسبب سوء الاعتقاد.

ووالله أيها المسلمون لئن قتلتم في سبيل الله أو متم ، فإن مغفرة الله لكم ورضوانه عليكم خير من كل ما تجمعون من حطام الدنيا الفانية. وكل ميت أو قتيل يحشر إلى الله ، فيحاسبه على ما قدم في دنياه ، وأجره على الله. وهذا وعظ بالآخرة والحشر ، وتزهيد في الدنيا والحياة ، وإفهام واضح لحقيقة الموت والحياة.

إن هذا التصحيح لأخطاء الناس عن أجل الموت يبعث في النفس روح التضحية والفداء ، والإقدام والجهاد من أجل إرضاء الله ورفع لواء الإسلام والذود عن حياض الوطن الغالي ، فكل من يقتل في سبيل الله حي يرزق عند ربه ، وحي على ألسنة الناس بالذكر الطيب والثناء الحسن.

وإن الجبن والاستضعاف في الأمة وتهيب مخاطر الموت يوقع الأمة والبلاد برمتها في ذل وقهر أبدي ، يجعل الناس عبيدا أو كالعبيد للقوي المستبد ، والسيد الظالم. ولقد ذاقت بلاد المسلمين والعرب ويلات الاستعمار ، وأدركت بتجربة قاسية مدى الظلم والذل والنكال الذي يلحق بالكرامة والثروة والقيم والأعراض ، فهل من متعظ مدرك ما نعانيه من وجود الصهاينة في بلادنا والمستعمرين الجدد في منطقة الخليج تحت مظلة ما يسمى بالنظام العالمي الجديد؟

الأخلاق النبوية

أعد الله تعالى نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إعدادا طيبا يتناسب مع مهمة الرسالة ، وسياسة الدعوة ، وصلاح الناس ، وترغيبهم في الإسلام وذلك بتليين قلب النبي وغرس

٢٥٣

خصلة الرحمة في قلبه ، ومشاورة أصحابه ، ومحبته الخير لهم بالدعاء والاستغفار لهم والعفو عنهم ، والتوكل على الله وطلب المعونة والنصر منه سبحانه وتعالى.

قال الله تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠)) (١) (٢) (٣) (٤) [آل عمران : ٣ / ١٥٩ ـ ١٦٠].

اشتملت هذه الآيات على مقومات نجاح الدعوة النبوية وأصول الحكم الإسلامي ومنهج التعامل مع الناس. وأول هذه المقومات : إلانة قلب النبي ورحمته الشاملة بالناس ، فالله تعالى جعل نبيه سهل المعاملة ، ليّن الكلام والإرشاد ، شديد العطف ، إذ لو كان شديد النفس غليظ القلب ، لانفض الناس من حوله ، ولكن الله جعله رحمة مهداة للعالمين : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧)) [الأنبياء : ٢١ / ١٠٧]. وجعله المثل الأعلى الكامل في الخلق والمعاملة ، حتى امتدحه ربه بقوله : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)) [القلم : ٦٨ / ٤].

ومن هذه المقومات التي أمر الله بها نبيه : أن يعفو ويصفح عن أخطاء قومه ، فلا يجازيهم على معاملتهم السيئة له ، وإنما يقابل الإساءة بالإحسان ، ويستغفر الله لهم فيما وقعوا به من تبعات وأخطاء.

ومن مقومات الإسلام ودعوته : الشورى ، فهي من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب ، وقد مدح الله المؤمنين بقوله : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) [الشورى : ٤٢ / ٣٨].

__________________

(١) لا ينتهم بخلق سمح.

(٢) جافيا في المعاشرة.

(٣) لتفرقوا.

(٤) فلا قاهر لكم.

٢٥٤

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما خاب من استخار ، ولا ندم من استشار» (١). وقال عليه‌السلام : «المستشار مؤتمن» (٢). والاستشارة مطلوبة في جميع شؤون الدنيا والدين ، أما أمور الدين فالقرآن هو الحكم فيها ، وأما أمور الدنيا فالعقل والتجربة والحنكة والود أساسها.

ومن مقومات العقيدة الإسلامية : التوكل على الله ، وتفويض الأمر والشأن له ، ولكن بشرط اتخاذ الأسباب ، واقتران التوكل بالجد في الطاعة ، والعمل والحزم وبذل الجهد بحسب مقتضى الحكمة وواقع الأمور.

ثم نبّه الله المؤمنين إلى عقيدة النصر بقوله : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) أي الزموا الأمور التي أمركم بها ووعدكم النصر معها ، فما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ، لأن جميع ما في الكون بتدبيره ومشيئته ، وإذا خذل الله قوما بأن تركهم وتخلى عنهم في مواطن الحاجة والشدة ، فلن يجدوا ناصرا لهم من بعده ، لذا وجب عليهم أن يتوكلوا على الله وحده بعد اتخاذ الأسباب ، لأنه لا ناصر لهم سواه ، ولا معين لهم غيره ، ونصر الله مرهون بشرط نصرة دين الله ، لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧)) [محمد : ٤٧ / ٧].

إن هذه القيم الخلقية القرآنية ـ النبوية تعد اللبنة الأولى لبناء الأمجاد والحفاظ على حرمة الديار والبلاد ، وإن تخلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأخلاق القرآن يعد دليلا حسيا وترجمة عملية للالتزام بالأخلاق القائمة على حماية الكرامة الإنسانية والحرية والعدالة والمساواة.

__________________

(١) أخرجه الطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك.

(٢) أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة ، والترمذي عن أم سلمة ، وابن ماجه عن ابن مسعود.

٢٥٥

بعض المقومات الإسلامية

من المعلوم أن رسالة الإسلام رسالة إنقاذ وإصلاح للمجتمع ، وغرس لمبادئ الفضيلة والخصال الكريمة في النفوس المسلمة ، وإيجاد رابطة قوية ووثيقة بين الأفراد ، وتنمية الشعور بالواجب ، وحماية الحقوق العامة والخاصة لكل إنسان. ومن أهم هذه المبادئ والمقومات : الحفاظ على حقوق الجماعة بصون الأمانة وتحريم الخيانة ، سواء من المغانم أو غيرها ، واتباع ما يرضي الله والتزام أوامره ، والبعد عما يسخط الله ويوجب العذاب ، وليس الناس في الجنة في درجة واحدة ، وإنما هم في درجات ، ومهمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تبليغ الأحكام والشرائع لأمته ، وتلاوة آيات القرآن الكريم عليها وإفهامها لهم ، وتعليمهم جميع ما في القرآن ، والسنة النبوية ، فإذا ما امتثلوا هذه التعاليم كانوا مثال المجتمع الفاضل ، وتخلصوا من مفاسد الجاهلية البدائية وضلالاتها الموروثة ، وبنوا حضارة جديدة قائمة على الحق والعدل والإحسان والأخلاق الفاضلة.

قال الله تعالى مبينا هذه المقومات : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤)) (١) (٢) (٣) [آل عمران : ٣ / ١٦١ ـ ١٦٤].

وسبب نزول آية الإغلال : أنه قيل للرماة الذين تركوا أماكنهم يوم أحد : لم

__________________

(١) يخون في الغنيمة ، والإغلال : الخيانة وأخذ بعض الغنائم الحربية قبل قسمتها بين الغانمين.

(٢) رجع متلبسا بغضب.

(٣) يطهرهم من أدناس الجاهلية.

٢٥٦

تركتم أماكنكم؟ فقالوا : نخشى أن يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أخذ شيئا من مغنم فهو له ، وألا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر ، فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألم أعهد إليكم ألا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري؟ فقالوا : تركنا بقية إخواننا وقوفا ، فقال لهم : بل ظننتم أننا نغل ـ أي نخون ـ ولا نقسم ، أي الغنيمة.

ومعنى الآيات : أن الله قد عصم أنبياءه من ارتكاب بعض الدناءات ، فلا يصح ولا يليق بمكانة نبي أن يأخذ شيئا من الغنائم ، لأن النبي هو المثل الأعلى في الخلق والكرامة للناس جميعا ، ومن أخذ شيئا في الدنيا بغير حق ، عوقب عليه في الآخرة ، ولا يظلم ربك أحدا بمؤاخذة من غير ذنب.

ولا يعقل في ميزان الحق والعدل أن يسوّى بين الطائع والعاصي ، والمحسن والمسيء : (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ). [آل عمران : ٣ / ١٦٢]. والعدل يقضي أيضا بتفاوت درجات المحسنين ، وتباين منازلهم ، فمنازلهم في الجنة بعضها أعلى من بعض في المسافة أو التكرمة ، وكذلك المسيئون يعذبون في جهنم بألوان مختلفة من العذاب بحسب تفاوتهم في السوء وارتكاب الفواحش والمنكرات ، فهم في دركات متفاوتة من النار.

وكان من أعظم النعم على المؤمنين : بعثة النبي المصطفى صلوات الله وسلامه عليه ، إذ أرسله ربه رحمة للعالمين ، وكان من بين العرب قومه ، فهو من جنسهم ، وهو عربي من ولد إسماعيل ، فجدير بقومه العرب أن يكونوا سبّاقين إلى الإسلام ، والتصديق برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورسالته إصلاح وإنقاذ لهم وللبشرية جمعاء ، يرشدهم إلى الإيمان الحق بالله عزوجل وينقذهم من ظلمات العقائد والأخلاق الفاسدة إلى نور الهداية الربانية والخصال الكريمة والمبادئ القويمة ، ويتلو عليهم آيات القرآن الدالة على قدرة الله تعالى ووحدانيته وعلمه وكمال صفاته ، مثل قوله سبحانه :

٢٥٧

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠)) [آل عمران : ٣ / ١٩٠].

والرسول يزكّي النفوس ، ويطهرها من كل دنس وفحش ورذيلة وكفر ومعصية ، واستطاع أن يخرج من العرب الجاهليين أمة لها نظام وحكم وسياسة وإدارة فاقت كل نظام سابق ، ويعلّم الرسول أمته القرآن والكتابة والحكمة والسنة النبوية حتى صار منهم الكتّاب والعلماء والحكماء والقادة في جميع العلوم والمعارف ، وإن كانوا سابقا في متاهة وضلال مبين.

والخلاصة : إن رسالة السماء تتطلب من الناس الحفاظ على الحقوق فلا سرقة ولا خيانة من المغنم ، وهم أمة الحضارة والمدنية إن اتبعوا تعاليم القرآن وفهموا أسرار التشريع وعملوا بمنهج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسيرته العطرة.

إرشاد المؤمنين ببيان قبائح المنافقين

يظن بعض الناس خطأ أن النصر على العدو ينبغي أن يكون دائما في جانب المسلمين مهما كان وضعهم ، ومهما خالفوا وعصوا أوامر دينهم ، ويظن آخرون خطأ أيضا أن الدفاع عن الوطن وتخليص الأراضي المحتلة من الغاصب المحتل ليس جهادا في سبيل الله ، وأن الشهداء من أجل ذلك ليسوا شهداء في الجنة.

لقد أجاب القرآن عن هذين الخطأين ، وردّ تلك الشبهتين بما يبين الحقيقة والصواب ، ويرشد إلى واجب المؤمنين في الأخذ بالأسباب وتصحيح الأخطاء بين التصور وواقع الأمر ، فقال الله تعالى ، معلّما ومبينا وجه الحق والاستفادة من الأحداث ، ومعرّفا لهم أن ما أصابهم من قلق للمصيبة التي نزلت بهم بعد أحد إنما كان ذلك لسبب من أنفسهم ، قال سبحانه : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها

٢٥٨

قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨)) (١) (٢). [آل عمران : ٣ / ١٦٥ ـ ١٦٨].

ترشد هذه الآيات الكريمات أهل الإيمان والحق إلى معرفة أسباب الهزيمة في أحد من خلال هذا العتاب الإلهي ، فإن كنتم أيها المؤمنون هزمتم في معركة أحد وقتل منكم سبعون ، فقد هزمتم المشركين في معركة بدر وقتلتم من المشركين سبعين وأسرتم سبعين ، على أن هزيمتكم في أحد كنتم أنتم سببها ، كما قال سبحانه : (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) [آل عمران : ٣ / ١٦٥] علما بأن الله قادر على نصركم لأنه سبحانه القادر على كل شيء ، فلا يقع شيء خارج عن قدرته ، ولكنه سبحانه أراد أن يعلّمكم من دروس الهزيمة ما تتمكنون به من تجنب أسبابها في معارك أخرى. وما أصابكم من مصيبة وقلق يوم أحد ، وقتل سبعين من المسلمين ، يوم التقى الجمعان والجيشان ، جيش المسلمين وجيش المشركين ، فبإذن الله وإرادته وتقديره ؛ لأن كل شيء في الوجود خاضع لإرادته وحكمته.

لقد حدثت الهزيمة في معركة أحد ، ليعلم إيمان المؤمنين ، ويعلم نفاق الذين نافقوا ، أي ليتحقق في الظاهر والواقع والتطبيق موقف أهل الإيمان وموقف أهل النفاق ، ويتميز أعيان المؤمنين من أعيان المنافقين ، لقد قيل للمنافقين : تعالوا قاتلوا في سبيل الله وجاهدوا للدفاع عن الدين والحق والعدل ، ابتغاء مرضاة الله ، لا

__________________

(١) من أين لنا هذا الخذلان؟

(٢) فادفعوا.

٢٥٩

لمكسب دنيوي ، أو تعالوا قاتلوا دفاعا عن النفس والأهل والوطن ، فما كان من هؤلاء المنافقين إلا أن قعدوا وتكاسلوا قائلين للمؤمنين : لو نعلم أنكم تتعرضون للقتال لا تبعناكم وسرنا معكم ، ولكننا نعلم أنكم لا تقاتلون ، إنهم بهذه المقالة وتخلفهم عن جيش المسلمين هم يومئذ للكفر أقرب منهم للإيمان ، فإن من يقعد عن الجهاد في سبيل الله ، أو الدفاع عن الأوطان ، ليس من المؤمنين : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥)) [الحجرات : ٤٩ / ١٥].

إن هؤلاء الذين تخلفوا عن المشاركة في القتال يوم أحد هم جماعة تظاهروا بالإيمان بأفواههم فقط ، ولم يؤمنوا حقا بالإسلام ، فهم المنافقون. إنهم قالوا لأمثالهم المنافقين المشاركين في المعركة ، وقعدوا هم عن الجهاد : لو أطاعونا ولم يسيروا مع المسلمين ما قتلوا ، وكأنهم يظنون أن الموت والهلاك فقط بسبب الذهاب إلى ساحات القتال. إنهم جبناء. فلو أن أجل الموت جاءهم في السلم ، وهم في بيوتهم ، هل يستطيعون أن يدفعوا الموت عن أنفسهم؟ لا ، فهم أينما وجدوا يدركهم الموت ، ولو كانوا في بروج مشيدة.

والخلاصة : إن النصر ليس لازما أن يكون دائما في صف المسلمين ، وبخاصة إذا خالفوا أوامر دينهم ، والجهاد كما يكون من أجل إعلاء كلمة الله والدين والحق ، يكون من أجل البلاد والديار والأوطان ، وتخليص الأراضي من أيدي المعتدين.

منزلة الشهداء والمجاهدين وجزاؤهم

إن الصراع قائم منذ القديم بين أتباع الدين الحق وبين الأعداء الذين يقاومون دعوة الأنبياء ، ويحرصون على حفظ مصالحهم الدنيوية وزعاماتهم ومناصبهم ، ولا

٢٦٠