التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0523-3
الصفحات: ٦٧١

المحاجة في شأن إبراهيم ، وأنه كان قبل نزول التوراة والإنجيل ، فلم يكن إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ، ولكن كان حنيفا أي مائلا عن الشرك بالله والوثنية ، وكان مسلما أي منقادا لله سبحانه وتعالى ، وما كان من المشركين كمشركي العرب.

وإن أحق الناس وأجدرهم بشرف الانتماء إلى إبراهيم هو محمد رسول الله والمؤمنون بدعوته ، وهؤلاء هم أتباع إبراهيم حقا ، لاتفاقهم معه في الوحدانية والألوهية لله تعالى ، والله ولي المؤمنين وناصرهم ، قال الله تعالى مبينا القول الفصل في ملة إبراهيم وفي المحاجة التي أثيرت حوله :

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨)) (١) (٢) (٣) [آل عمران : ٣ / ٦٥ ـ ٦٨].

وسبب نزول هذه الآية : أن اليهود سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : والله يا محمد ، لقد علمت أنّا أولى بدين إبراهيم منك ومن غيرك ، وأنه كان يهوديا ، وما بك إلا الحسد ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ..) قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه سعيد بن منصور عن ابن مسعود : «لكل نبي ولاة من النبيين ، وإن وليي منهم أبي ، وخليل ربي عزوجل» ثم قرأ هذه الآية.

__________________

(١) مائلا عن الباطل إلى الدين الحق.

(٢) منقادا لله مطيعا موحدا.

(٣) ناصرهم ومجازيهم بالحسنى.

٢٠١

التلاعب بالدين

لقد أدى بزوغ فجر الإسلام إلى حدوث تشنجات ومواقف تعصبية من أهل الكتاب ، ومحاولات إضلال المسلمين ، ومعارضتهم آيات الله في التوراة والإنجيل ، وترك العمل بمقتضاها ، وخلط الحق بالباطل ، والإيمان ببعض الكتاب أو القرآن والكفر ببعضه الآخر ، وخلط كلام الله بكلام البشر المخترع الباطل ، وكتمان الحق الصريح الواضح ، وهو البشارة بالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي هي في الكتب السابقة.

سجّل القرآن الكريم هذه المواقف لأهل الكتاب ، وروي أن معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان ، وعمار بن ياسر ، دعاهم اليهود إلى دينهم ، وترك دين الإسلام ، فنزلت الآية التالية : (وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩)) [آل عمران : ٣ / ٦٩]. وهذا دليل على حبهم العميق فتنة المسلمين وإضلالهم.

ثم وبخهم الله تعالى على لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلا لهم : لأي سبب تكفرون بآيات الله التي هي آيات القرآن ، وأنتم تشهدون أن أمر محمد وصفته آيتان في كتابكم؟ قال تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١)) (١) أي أنكم تعلمون شأن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتقفون معه موقف العناد الظاهر.

ثم أخبر الله تعالى عن موقف متعصب آخر لليهود ، وهو أن طائفة من أحبارهم من يهود خيبر أرادوا خديعة المسلمين ، فقال الله تعالى : (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ (٢) (٣)

__________________

(١) تخلطون.

(٢) أي أول النهار.

(٣) وهذا اعتراض بين أجزاء كلام اليهود ، وهو من كلام الله وقوله لنبيه.

٢٠٢

يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤)) [آل عمران : ٣ / ٧٢ ـ ٧٤].

والمعنى : قالت جماعة من أهل الكتاب لأتباعهم : آمنوا بمحمد أول النهار ، واكفروا آخره ، فإن سئلتم عن السبب ، قولوا : آمنا ، حتى إذا رجعنا إلى التوراة والإنجيل ، عرفنا أنه ليس النبي المبشر به في التوراة ، فلعل ذلك يكون مدعاة لرجوع من آمن بمحمد عن دينه ، وقالوا لأتباعهم أيضا : ولا تطمئنوا أو تظهروا سركم وما عندكم إلا لمن تبع دينكم ، ولا تظهروا ما بأيديكم إلى المسلمين ، فيؤمنوا به ويحتجوا به عليكم ، فلا تظهروا ما عندكم للمسلمين حتى يتعلموه منكم ، أو يتخذوه حجة عليكم بما في أيديكم ، فتتغلب حجتهم عليكم في الدنيا والآخرة ، فرد الله عليهم بأن الله هو الذي يهدي قلوب المؤمنين إلى أتم الإيمان ، بما ينزل على رسوله من الآيات البينات ، أي ليس إظهاركم للحق أو إخفاؤكم ، له دخل في الهداية ، بل الهداية من الله وتوفيقه ، والفضل بيد الله ، يؤتيه من يشاء ، ويختص برحمته من يشاء ، كإعطاء النبوة لمحمد ، والله دائما ذو الفضل العظيم.

وهذا تكذيب لليهود في قولهم : نبوة موسى مؤبدة ، ولن يؤتي الله أحدا مثل ما آتى بني إسرائيل من النبوة والشرف. إن النبوة اصطفاء واختيار من الله ، لا من أجل مصلحة أحد ، وإنما للمصلحة العامة.

الأمانة والأيمان عند اليهود

لقد أنصف القرآن الكريم اليهود ، فأخبر أنهم قسمان في الأمانة وحلف الأيمان ، فمنهم من يتصف بالأمانة التامة ، ومنهم من يتصف بالخيانة وعدم الوفاء بالعهد

٢٠٣

واستحلالهم أكل أموال العرب. ومنهم من يحلف بالله صدقا ، ومنهم من يحلف بالله كذبا وافتراء.

وأنزل الله تعالى آيات في كتابه المجيد تعبر عن حقيقة الفئتين ، وتتحدث عن صفة الأمانة والخيانة ، وعن الكذب في الأيمان ونقض العهد.

قال الله تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) [آل عمران : ٣ / ٧٥ ـ ٧٧].

أما الآية الأولى فتذكر أن بعض أهل الكتاب من اليهود يستحلون أكل أموال غير اليهود ، زاعمين أن التوراة لم تنههم إلا عن خيانة إخوانهم الإسرائيليين ، وأما الأميون العرب وغير العرب فليس عليهم ذنب في أكل أموالهم ، إذ هم شعب الله المختار ، ومن سواهم لا حرمة له عند الله ، فهو مبغوض ولا حق ولا حرمة له ، وعند ذلك يحل أكل ماله وهم يفترون على الله الكذب في هذا ، لأن كل الشعوب والأمم سواء في صون الحقوق الإنسانية ، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ٤٩ / ١٣].

وسبب نزول هذه الآية : أن جماعة من العرب كانت لهم ديون في ذمم قوم من أهل الكتاب ، فلما أسلم أولئك العرب ، قالت لهم اليهود : نحن لا نؤدّي إليكم شيئا

__________________

(١) أي مطالبا بالحق ملازما للمدين.

(٢) أي في العرب المشركين.

(٣) لا نصيب لهم من الخير.

(٤) لا يرحمهم ويسخط عليهم.

(٥) لا يطهرهم ولا يثني عليهم.

٢٠٤

حين فارقتم دينكم (أي الدين الوثني) الذي كنتم عليه ، فنزلت الآية في ذلك. وروي أيضا : كان بنو إسرائيل يعتقدون استحلال أموال العرب لكونهم أهل أوثان ، فلما جاء الإسلام ، وأسلم من أسلم من العرب ، بقي اليهود فيهم على ذلك المعتقد ، فنزلت الآية حامية من ذلك.

ثم رد الله تعالى عليهم بقوله : (بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) أي لا صحة لما قالوا ولا حجة لهم في استحلال أموال غيرهم ، وعليهم صيانة الحقوق والوفاء بالذمم والعهود ، فمن أوفى بالعهد واتقى عقوبة الله في نقضه ، فإنه محبوب عند الله.

ثم ذكر الله سبحانه وعيده وتهديده لمن فعل هذه الأفاعيل ، فجحد الحقوق ، ونقض المواثيق ، وحلف الأيمان الكاذبة ، وهؤلاء هم أهل الغدر والخيانة ، وجزاؤهم أنه لا نصيب لهم في الآخرة أصلا ، ولا يكلمهم الله يوم القيامة كلام رحمة ، غضبا عليهم ، ولا ينظر إليهم نظرة عطف ورحمة ، ولا يزكيهم بالثناء عليهم أصلا ولهم عذاب أليم ، قال عبد الله بن مسعود : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه أصحاب الكتب الستة ـ : «من حلف على يمين ، وهو فيها فاجر (١) ليقطع بها مال امرئ مسلم ، لقي الله وهو عليه غضبان». فقال الأشعث بن قيس : فيّ والله نزلت الآية ، كان بيني وبين رجل من اليهود أرض ، فجحدني ، فقدّمته إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : لك بينة؟ قلت : لا ، فقال لليهودي : أتحلف؟ قلت : إذن يحلف ، فيذهب بمالي ، فأنزل الله عزوجل (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) الآية.

__________________

(١) أي كاذب.

٢٠٥

إحقاق الحق وإبطال الشرك

إن منهج الإسلام الأساسي في إصلاح العقيدة : هو إحقاق الحق وتثبيت معالمه وصرحه ، وإبطال الشرك وهدم معاقله وحصونه ، وليس هناك أخطر على الأمة من تشوية عقيدتها ، وتحريف كتاب الله ، وتأويل الكلام تأويلا باطلا ، وليس هناك أيضا أضر على الإنسان من الشرك والوثنية واتخاذ الأرباب مع الله ظلما وزورا ، وافتراء وبهتانا.

وقد ضل جماعة من علماء أهل الكتاب وأحبارهم ، فلووا ألسنتهم في كتاب الله ، ليميلوها عن الآيات المنّزلة الصحيحة إلى العبارات المبدلة المحرّفة ، فزادوا في كلام الله ، أو نقصوا ، أو حرفوا الكلم عن مواضعه ، أو قرءوا كلامهم بأنغام وتراتيل ، ليوهموا الناس بأنه من التوراة ، وأن الكتاب جاء بذلك ليحسبه المسلمون حقا وصدقا ، والواقع أنه ليس من كلام الله ، ويقولون على الله الكذب ، وهم يعلمون أنه مخترع مبدّل محرّف ، ليس من عند الله ، وإنما هو من عند الشيطان والهوى ، وهذا ليس تلميحا أو إيماء ، وإنما يصرحون بذلك لقسوة قلوبهم وجرأتهم على الله.

قال الله تعالى مبينا هذا الموقف : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨)) (١) [آل عمران : ٣ / ٧٨].

ثم قرر الله موقفا آخر لإثبات عقيدة التوحيد لله ، ونبذ الشرك ، وهدم كل معالمه ومظاهره ، فقال الله تعالى : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ (٢)

__________________

(١) يميلونها عن الصحيح إلى الكلام المحرّف.

(٢) فقهاء في الدين تعلّمون الناس بإخلاص.

٢٠٦

وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠)) (١) [آل عمران : ٣ / ٧٩ ـ ٨٠].

وسبب نزول هذه الآية كما ذكر ابن عباس ، قال : إن أبا رافع القرظي قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين اجتمعت الأحبار من اليهود ووفد نصارى نجران : يا محمد ، أتريد أن نعبدك ونتخذك ربا؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «معاذ الله أن يعبد غير الله ، أو نأمر بعبادة غير الله ، ما بذلك بعثني ، ولا بذلك أمرني» فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقال الحسن البصري : بلغني أن رجلا قال : يا رسول الله ، نسلّم عليك كما يسلّم بعضنا على بعض ، أفلا نسجد لك؟ قال : «لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله ، ولكن أكرموا نبيكم ، واعرفوا الحق لأهله» فأنزل الله تعالى هذه الآية.

فلا يصح لبشر امتن الله عليه بإنزال الكتاب ، والهداية إلى الحكمة والصواب في فهم ما أنزل الله عليه ، وإيتائه النبوة والرسالة ، ثم يطلب من الناس أن يعبدوه وحده ، أو يعبدوه مع الله ، فهذا هو الشرك بعينه ، ولكن يقول : كونوا أيها الناس ربانيين ، أي متمسكين بالدين ، مطيعين لله أتم طاعة ، بسبب كونكم تعلّمون الكتاب لغيركم ، وبسبب كونكم تدرسونه وتتعلمونه. ولا يعقل أن يأمر نبي باتخاذ الملائكة والأنبياء آلهة تعبد من دون الله ، فكل هذا كفر وفسوق وعصيان ، لا يتفق مع الإسلام ، والانقياد لله بالطبيعة والفطرة ، التي فطر الناس عليها.

ميثاق النبيين

إن الأديان المنزلة من الله تعالى واحدة في أصولها ، فهي متفقة على الدعوة إلى توحيد الله عزوجل ، وأصول الأخلاق والفضائل ، وأسس التشريع الناظم لمصالح

__________________

(١) تقرؤون الكتاب.

٢٠٧

الناس وحاجاتهم ، والأنبياء مهمتهم واحدة ، ودينهم واحد ، وهم إخوة يؤمن كل واحد منهم برسالة الآخر وشريعته ، لذا أخذ الله تعالى ميثاق كل نبي بأنه يلتزم هو ومن آمن به الإيمان بمن أتى بعده من الرسل ، الظاهرة براهينهم ، ويلتزم نصرة بعضهم بعضا.

قال الله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢)) (١) (٢) (٣) [آل عمران : ٣ / ٨١ ـ ٨٢].

قال ابن عباس : إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم ، فهو أخذ لميثاق الجميع ، وقال طاوس : أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضا. وقال علي بن أبي طالب : ما بعث الله نبيا ـ آدم فمن بعده ـ إلا أخذ عليه العهد في محمد ، لئن بعث وهو حي ، ليؤمنن به ولينصرنه ، وأمره بأخذه على قومه ، ثم تلا هذه الآية.

هذه الآية تذكير للأمم والشعوب بما تضمنه الكتاب الإلهي والنبوة من وجوب إيمان كل نبي وكل فرد من أتباعه برسالات الأنبياء جميعا ، ومنها رسالة خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله ، فهو الرسول المصدق لمن تقدمه من الكتب والأنبياء ، وعلى أتباع أولئك الأنبياء الإيمان به ومناصرته ، فذلك نصر لكل نبي سابق.

وقال الله تعالى لمن أخذ عليهم الميثاق من الأنبياء وأقوامهم : أأقررتم وقبلتم ذلك الذي ذكر من الإيمان بالرسول المصدق لما معكم ونصرته ، أقبلتم عهدي وميثاقي المؤكد؟! قالوا : أقررنا وصدقنا ، فقال الله تعالى : فليشهد بعضكم على بعض ، وأنا معكم جميعا ، لا يغيب عن علمي شيء.

__________________

(١) الميثاق : العهد المؤكد.

(٢) الإقرار بالشيء : النطق بما يدل على ثبوته.

(٣) الإصر : العهد المؤكد الذي يمنع من التهاون.

٢٠٨

فمن تولى بعد هذا الميثاق المأخوذ قديما ، ولم يؤمن بالنبي المبعوث في آخر الزمان ، المصدق لمن تقدمه ، ولم ينصره ، فأولئك هم الفاسقون الخارجون من ميثاق الله ، الناقضون عهده.

ثم أنكر القرآن على أولئك الذين يطلبون غير دين الله الذي هو الإسلام ، ولله استسلم جميع من في السماوات والأرض ، وخضعوا له وانقادوا لتصرفه بالتكوين والإيجاد ، سواء طوعا واختيارا ، أم إكراها وجبرا ، ثم يكون المرجع والمآب إلى الله تعالى ، قال سبحانه : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣)) (١) [آل عمران : ٣ / ٨٣].

وسبب نزول هذه الآية هو ما قال ابن عباس : اختصم أهل الكتابين إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما اختلفوا فيه بينهم من دين إبراهيم ، كل فرقة زعمت أنها أولى بدينه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم» فغضبوا وقالوا : والله ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك ، فأنزل الله تعالى : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ ..) أي يطلبون أو يرغبون.

يفهم من الآية ميثاق النبيين أن دين الله واحد ، وإن تعدد الأنبياء ، فرسالات جميع الأنبياء تلتقي في جذع واحد ، وهو الدعوة إلى توحيد الله جل جلاله ، وتحقيق العبودية لله تعالى ، والحث على التمسك بمكارم الأخلاق ، والتزام الفضائل التي لا بد منها لصلاح الفرد والجماعة.

وإذا كانت رسالات الأنبياء واحدة ، فما على البشرية ولا سيما المؤمنون بالكتب الإلهية إلا أن يتحدوا ويتضامنوا تحت لواء واحد ، وينبذوا الفرقة والخلاف والتنازع على أي شيء في الدين ومصالح الدنيا.

__________________

(١) انقاد وخضع.

٢٠٩

وإذا كانت أمتنا مطالبة في الدرجة الأولى بإيمان ذي مضمون واحد ، وبكتاب سماوي واحد ، فعليها أن توحد الصفوف ، وتتماسك لبناتها ، وتتجاوز خلافاتها ، وتتناسى أحقادها وخصوماتها ، لتكون أمة مهيبة مرهوبة الجانب في أنظار العالم قاطبة ، قال الله تعالى في سورة الأنبياء : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢))

الإيمان بجميع الأنبياء وجزاء المخالف

يتميز المسلمون بأنهم يؤمنون ويصدّقون بجميع الرسل والأنبياء ، دون تفرقة ، امتثالا لأمر الله في قرآنه حيث قال لنبيه : (قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤)) (١) [آل عمران : ٣ / ٨٤]. والمعنى : قل يا محمد أنت وأمتك : نحن آمنا بالله الواحد الأحد ، وما أنزل علينا في القرآن الذي هو مصدر المعرفة الثابت الشامل لجميع الشرائع والأحكام ، وآمنا بما أنزل على الأنبياء السابقين : إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وأولاده الأسباط ، وما أوتي موسى من التوراة ، وعيسى من الإنجيل ، وما أوتي النبيون الآخرون كداود وسليمان عليهم‌السلام ، مما لا يعلمهم إلا الله سبحانه وتعالى.

نحن نؤمن بشيئين : بالله ربا وإلها ، ونؤمن بكل الأنبياء إيمانا لا نفرق فيه بين أحد منهم ، بل نؤمن بالكل على أن كل واحد نبي مرسل من الله لأمته ، يهديها إلى سواء السبيل ، ولا نفعل كما يفعل غير المسلمين من الإيمان ببعض الرسل والكفر بالبعض الآخر ، ونحن له مسلمون منقادون.

__________________

(١) الأسباط : أولاد يعقوب أو أحفاده الاثنا عشر.

٢١٠

وقد أنكر الله تعالى على من يبتغي دينا غير الإسلام الذي هو دين جميع الأنبياء ، وهو الدين الذي ارتضاه لعباده ، ومن يطلب غيره دينا ، فلن يقبل منه قطعا ، وهو في الآخرة من الخاسرين الذين خسروا أنفسهم ولم يزكّوها بالإسلام الشامل ، قال الله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥)) (١) [آل عمران : ٣ / ٨٥].

ثم ذكر الله تعالى جزاء الكفر بعد الإيمان برسالات الأنبياء فقال تعالى : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩)) (٢) [آل عمران : ٣ / ٨٦ ـ ٨٩].

قال ابن عباس ومجاهد فيما ذكره ابن جرير وغيره : نزلت هذه الآيات في الحارث بن سويد الأنصاري ، كان مسلما ثم ارتد ولحق بالشرك ، ثم ندم فأرسل إلى قومه أن يسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل لي من توبة؟ فنزلت الآيات السابقة التي مطلعها : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً) إلى قوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) فبعث بها قومه إليه ، فلما قرئت عليه قال : والله ما كذبني قومي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا كذب رسول الله على الله ، والله عزوجل أصدق الثلاثة ، فرجع ثانيا إلى الإسلام ، فقبل منه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتركه.

وتنطبق الآية أيضا على أهل الكتاب المعاصرين للنبي ، لما رأوا نعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتابهم ، وأقروا بذلك ، وشهدوا أنه حق ، وكانوا يستفتحون ويستنصرون به على المشركين ، فلما بعث هذا النبي من غيرهم ، حسدوا العرب وأنكروه ، وكفروا به بعد إيمان.

__________________

(١) عقيدة الإسلام القائمة على التوحيد وشرائعه.

(٢) يؤخرون عن العذاب لحظة.

٢١١

والذين يكفرون بعد الإيمان : جزاؤهم لعنة الله (أي الطرد من رحمته) ولعنة الملائكة والناس أجمعين ، وهم مخلّدون ماكثون دائما في نار جهنم ، لا يخفف عنهم العذاب ، ولا يمهلون ولا يؤخرون عن العذاب ، إلا الذي تابوا منهم بعد كفرهم ، ورجعوا إلى الله وأصلحوا أعمالهم وقلوبهم ، فإن الله غفور لما سبق ، رحيم بعباده ، حيث يقبل توبة التائب.

إذا كنا بأمر الله في قرآنه نؤمن بجميع الأنبياء ، فما على المؤمنين حقا إلا أن يكونوا متسامحين ، مبتعدين عن العصبية الدينية التي تزرع الأحقاد وتولد الخصومات ، وأن يعلموا أن الله تعالى قادر على هداية العالم إلى دين واحد ، وأن اختلاف الناس لحكمة بالغة هي معرفة الحق في مقارنته مع غيره من الباطل ، وهذا يدعونا إلى أن نعمل معا صفا واحدا لخير البلاد والأمة ، تاركين الحساب على الإيمان وغيره إلى الله تعالى في عالم الآخرة.

أصناف الكفار

صنّف الله تعالى الكفار في قرآنه أصنافا ثلاثة بحسب أحوالهم من الإصرار على الكفر ثم الموت ، أو التوبة بعد الكفر في الحياة العادية ، أو في آخر لحظات العمر ، قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١)) [آل عمران : ٣ / ٩٠ ـ ٩١].

هؤلاء الكفار أصناف ثلاثة :

صنف كفر بعد إيمان ، ثم تاب توبة صادقة من بعد ذلك ، فأولئك يقبل الله توبتهم ، إنه هو الغفور الرحيم ، إن هذا الصنف من اليهود كفروا بعيسى والإنجيل ،

٢١٢

ثم ازدادوا كفرا بمحمد والقرآن ، أو ازدادوا كفرا بالذنوب التي أصابوها من الافتراء على النبي والمسلمين ، فإذا تابوا من كفرهم ، فالله يقبل التوبة عن جميع العباد ما دامت قبل الغرغرة ولن تقبل توبتهم عند معاينة الموت.

وصنف كفر بالله ، ثم تاب ورجع ، ثم عاد إلى الكفر ، فلن تقبل توبته عن بعض الذنوب مع بقائه على الكفر ، وهذا يشمل فئة المرتدين عن الإسلام ، وصنف كفروا بالله وماتوا وهم كفار ، فلن يقبل من هؤلاء فدية عن كفرهم ، مهما كثرت الفدية ، ولو كانت ملء الأرض ذهبا ، أولئك لهم عذاب أليم شديد ، وما لهم في الآخرة من ناصر ولا شفيع.

ثم أقام الله الدليل على عدم إيمان هؤلاء الكفار : وهو شح نفوسهم وبخلهم بالإنفاق في وجوه الخير ، فإن الإنفاق أكبر دليل على صدق الإيمان ، قال الله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢)) (١) [آل عمران : ٣ / ٩٢].

والمعنى لن يصل أحد إلى البر الحقيقي ، ولن يكون بارا بالله إلا إذا أنفق ما يحب من كريم ما يملك ، فإن شحت النفوس ولم تنفق شيئا أو أنفقت رديء المال ، فهم بعيدون عن الصدق في دعواهم الإيمان والطاعة لمولاهم ، وما ينفق الناس من شيء ، سواء كان كريما جيدا أو رديئا ، فإن الله به عليم ، ولا يخفى إخلاص المنفقين ورياؤهم.

وهذه الآية خطاب عام لجميع المؤمنين ، فلا قيمة لإنفاق في وجوه الخير ، ما لم يستند إلى قاعدة الإيمان الصحيح ، وأرضية الدين القويم ، وسبب نزول هذه الآية وقائع طيبة من إنفاق صحابة رسول الله ، تصدق أبو طلحة الأنصاري بأكرم أمواله

__________________

(١) الإحسان وكمال الخير.

٢١٣

وهو بستان بيرحاء في المدينة ، وتصدق زيد بن حارثة بفرس كان يحبها ، فأعطاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابنه أسامة ، فكأن زيدا شق عليه ، فقال له النبي : «أما إن الله قد قبل صدقتك» وأعتق عمر بن الخطاب أكرم جارية لديه من سبي جلولاء. فالصدقة المقبولة هي من رغائب الأموال التي يضن بها أو يستأثر بها ، فيكون إخراجها مغالبة للنفس ، وتخليصا من شحها وبخلها.

يتبين من الآيات السابقة أن الله تعالى يحب عباده أشد الحب ، وهو لا يرضى لهم إلا الخير ، وإبعادهم عن أسباب الشقاوة والشر ، وهو يحذرهم مما يضرهم في دنياهم وآخرتهم ، ويرغبهم في ترك ما هم عليه من الضلالة والانحراف ، والمبادرة إلى ساحة الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر ، ليعيشوا في سعادة واطمئنان ، وبعد عن القلق النفسي وتعذيب الروح والضمير ، وكل ذلك تنبيه لأمتنا أيضا فإن الإيمان مدعاة للوفاق والمحبة والتعاون ، والكفر بيئة للتفرق والتشتت والضياع ، والله دائما بالنصر والتأييد مع المؤمنين ، غاضب ساخط على غير المؤمنين ، وهو سبحانه أحكم الحاكمين في عالم الحساب.

تحريم إسرائيل على نفسه بعض الأطعمة

كان يعقوب بن إبراهيم عليهما‌السلام وهو الملقب بإسرائيل (أي الأمير المجاهد مع الله) قد أصيب بوجع عرق النّساء ، وطال سقمه منه ، وكان يحب لحوم الإبل وألبانها ، فجعل تحريم ذلك على نفسه ، شكرا لله تعالى إن شفي ، بقصد ترك الترفه والتنعم والزهد في الدنيا ، وكان هذا سائغا في شريعته ، واستمر هذا التحريم في بني إسرائيل ، وهذا يدل على أن للأنبياء أن يحرموا باجتهادهم على أنفسهم ما اقتضاه النظر لمصلحة أو قربة أو زهد ، ومن هذا على جهة المصلحة تحريم نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم العسل على

٢١٤

نفسه ، أو تحريم جاريته مارية القبطية أم إبراهيم على نفسه ، فعاتبه الله تعالى في ذلك من تحريم المباح بقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) [التحريم : ٦٦ / ١] ولم يعاتب يعقوب.

وزعم اليهود أن تحريم الإبل وألبانها هو ملة إبراهيم وشريعة التوراة ، قال أبو روق والكلبي : حين قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا على ملة إبراهيم» قالت اليهود : كيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كان ذلك حلالا لإبراهيم ، فنحن نحلّه» فقالت اليهود : كل شيء أصبحنا اليوم نحرمه ، فإنه كان محرما على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا ، فأنزل الله عزوجل تكذيبا لهم : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥)) (١) [آل عمران : ٣ / ٩٣ ـ ٩٥].

والمعنى : كل أنواع المطعومات كانت حلالا لبني إسرائيل إلا ما حرمه إسرائيل على نفسه خاصة ، وهو لحوم الإبل وألبانها ، من قبل نزول التوراة ، وليس في شريعة التوراة شيء من هذا التحريم ، وقل لهم يا محمد : فأتوا بالتوراة كتابكم ، فاتلوها إن كنتم صادقين في دعواكم ، لا تخافون تكذيبها لكم. فكل من افترى على الله الكذب ، وادعى ما لم ينزله الله في كتاب ، فأولئك هم الظالمون بتحويل الحق وتغييره ، والكذب على الله وادعاء تحريمه ما لم يحرمه.

وقل يا محمد أيضا : صدق الله فيما أنبأني به من أني على دين إبراهيم ، وأني أولى الناس به ، وأنه لم يحرم الله شيئا على إسرائيل قبل التوراة. وإذا كان الأمر كذلك ، فاتبعوا ملة إبراهيم التي أدعوكم إليها ، وهي الملة الوسط التي لا إفراط فيها ولا تفريط ، وما كان إبراهيم من المشركين مع الله غيره.

__________________

(١) مائلا عن الباطل إلى الدين الحق.

٢١٥

وفي هذا دليل ظاهر على صحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه يعلم ما في التوراة ، وأنها مؤيدة لما في القرآن ، وأن النبي أولى بإبراهيم وملته ، لا تختلف عن ملته ، فكل من إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام مائل عن الباطل إلى الحق ، وما كان حلالا عند إبراهيم فهو حلال عند المسلمين.

واستمر تحريم لحوم الإبل وألبانها عند اليهود استنانا بما فعله يعقوب نفسه ، ثم حرم الله عليهم في التوراة بعض الطيبات عقوبة لهم على أفعالهم ، قال الله تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠)) [النساء : ٤ / ١٦٠]. وقال سبحانه : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦)) [الأنعام : ٦ / ١٤٦].

إن إباحة الطعام وتحريمه في البيان الإلهي يقوم على مبدأ واحد لا يتغير ، فما كان طيبا نافعا غير ضار فهو الحلال ، وما كان خبيثا ضارا بصحة الإنسان ، فهو الحرام ، ومن هنا لا يوجد اختلاف بين منهج الإسلام وبين منهج أي دين آخر في التحليل والتحريم ، وهذا سبب آخر يدعو البشرية إلى التوافق والتقارب والتآخي والتعاون ، والبعد عن موجبات الفرقة والخصام والنزاع ، وليس لأمة القرآن من باب أولى إلا أن تتحد مشاعر أبنائها ، وتتعاطف مع بعضها ، وتترك كل ما يصدع وحدتها ويسيء إلى كرامتها وعزتها.

مكانة البيت الحرام

كان من الطبيعي بعد بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يشتد الحوار بين النبي وبين أهل الكتاب ، فإنهم أتباع دين سابق ، ولهم أعرافهم وتقاليدهم ، فكانوا يثيرون الشبهات مثل شبهة تحريم الإبل وألبانها ، ومثل المفاضلة بين بيت المقدس والبيت الحرام.

٢١٦

قال أهل الكتاب للنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كيف تدعي أنك على ملة إبراهيم وأنك أولى الناس به ، وإبراهيم وإسحاق والأنبياء بعدهم كانوا يعظمون بيت المقدس ، ويصلون إليه ، فلو كنت على ما كانوا لعظّمته ، ولما تحولت إلى الكعبة ، فخالفت الجميع.

وقال مجاهد : تفاخر المسلمون واليهود ، فقالت اليهود : بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة ، لأنه مهاجر (١) الأنبياء ، وفي الأرض المقدسة ، وقال المسلمون : بل الكعبة أفضل ، فأنزل الله تعالى هذه الآية :

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧)) (٢) [آل عمران : ٣ / ٩٦ ـ ٩٧].

دلت هاتان الآيتان على مكانة البيت الحرام وما تميز به من مميزات : أولها ـ أنه أقدم بيت وضع للعبادة ، والأولية في الزمان تستلزم الأولية في الشرف والمكانة. بناه إبراهيم وإسماعيل كما قال الله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ). [البقرة : ٢ / ١٢٧].

ثم بني المسجد الأقصى بعد ذلك بعشرات السنين ، وقد جدّد بناءه بعد قرون سليمان بن داود.

سأل أبو ذر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلا : «يا رسول الله ، أي مسجد وضع أول؟ قال : المسجد الحرام ، قلت : ثم أي؟ قال : المسجد الأقصى ، قلت : كم بينهما؟ قال : أربعون سنة» (٣).

الميزة الثانية ـ أن البيت الحرام بيت مبارك : كثير الخيرات والبركة المادية ، إذ هو بصحراء جرداء ، وتجبى إليه ثمرات كل شيء ، وتحمل إليه بضائع الدنيا ، وهو أيضا كثير البركة في الثواب والأجر.

__________________

(١) أي مواضع الهجرة.

(٢) بكة أي مكة.

(٣) أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي ذر.

٢١٧

والميزة الثالثة : أنه موطن هداية للناس ، حيث دعي العالمون إليه فأجابوا ويتجهون إليه في أدعيتهم وصلواتهم ، وتهواه أفئدتهم على أنه مصدر لهداية النفوس التي تحجه وتعتمر فيه.

والميزة الرابعة : فيه آيات واضحات لا تخفى على أحد ، منها : مقام إبراهيم للصلاة والعبادة ، وفيه صخرة فيها أثر قدمه الشريف. ومن دخل البيت الحرام كان آمنا على نفسه ، مطمئنا على ماله ، حتى ولو كان مطلوبا للثأر ، وذلك معروف للعرب في الجاهلية والإسلام. أما ما وقع فيه من مخالفات أو اقتتال فذلك جناية عظيمة من العصاة والجهلاء. وفيه الحجر الأسود المعروف مبدأ الطواف حول الكعبة ، وفيه ماء زمزم المبارك النافع لما شرب له.

والميزة الخامسة : أنه مكان الحج والعمرة ، وحج البيت فرض على المستطيع وهو ركن من أركان الدين ، والاستطاعة نوعان : بدنية صحية ، ومالية ، فلا يجب إلا على من تمكن من الركوب ، وأمن الطريق ، وقدر على السفر.

ومن جحد هذه المزايا وكفر بها ولم يمتثل أمر الله في الحج وغيره ، فإن الله غني عن العالمين جميعا ، لا تنفعه طاعة ، ولا تضره معصية. أخرج الترمذي والبيهقي عن علي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ملك زادا وراحلة ، فلم يحج ، فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا».

وأهم ميزة للبيت الحرام أنه سبب وحدة المسلمين في أنحاء العالم ، لاتجاههم إليه في صلاتهم ، وأنه موضع أمن وسلام لمن دخله. وإذا كانت قبلة المسلمين واحدة في أقدس معتقداتهم وهو الصلاة بعد الإيمان فهل يقبل منهم الصراع والتخاصم والاختلاف؟ وهل يليق بهم وهم أمة القرآن أن يتحاربوا ، وينضم بعضهم لصف

٢١٨

الأعداء؟ وإذا اختلفوا فلم لا يبادرون إلى إزالة سبب الخلاف ، ورأب الصدع وتناسي الماضي ، حتى يحققوا لأنفسهم العزة والكرامة ومهابة الأعداء؟!

موقف أهل الكتاب من الإسلام

وتحذير المسلمين من إطاعتهم

وبخّ الله تعالى في القرآن الكريم أهل الكتاب على عدم الإيمان برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بعد أن قامت العلامات الظاهرة والمعجزات الباهرة والأدلة القاطعة على صدق نبوته ، وهم مع هذا الموقف يحاولون صدّ الناس عن الإسلام والإيمان بالقرآن.

قال الله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩)) (١) [آل عمران : ٣ / ٩٨ ـ ٩٩].

ومطلع الآية عتاب رقيق ، ودعوة رشيدة للإيمان بالقرآن ، فيا أهل الكتاب لم تكفرون بدلائل الله الظاهرة على يدي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟! هاتوا برهانكم على صحة ما تسيرون عليه ، وإذا لم يكن عندكم برهان ولا دليل مقبول عقلا ودينا ، فاعلموا أن الله شهيد عليكم ، عالم مطّلع عليكم ، وسيجازيكم على ما تعملون. يا أهل الكتاب لم تصدّون عن سبيل الله من آمن بمحمد؟ قاصدين بصدكم أن تكون سبيل الله معوجة ، غير مستقيمة ولا رشيدة ، تطلبون لدين الله الاعوجاج والانحراف عن الحق والقصد الصحيح ، والحال أنكم تشهدون في أعماق نفوسكم بصدق محمد ، وأنتم الشهود العدول عند قومكم ، وما الله بغافل عن خبايا نفوسكم وأعمالكم وسيجازيكم عليها.

__________________

(١) تطلبونها معوجّة.

٢١٩

ثم حذّر الله المؤمنين من مؤامرات كيد أهل الكتاب ، ومحاولتهم إيقاع العداوة والبغضاء بينهم ، وبذر بذور التفرقة في صفوفهم ، وردهم كافرين بالله والدين والخلق : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ) [البقرة : ٢ / ١٠٩]. كيف تكفرون بالله أيها المؤمنون ، وكيف تطيعون غيركم فيما يشيرون به ويقولون ، والحال أنكم تتلى عليكم آيات الله التي فيها الهداية والخير والمحبة والوئام وبيان أصول الإيمان ، وبينكم رسول الله رسول المحبة والخير والألفة والرشاد ، فكيف يليق بكم أن تتبعوا أهواء قوم آخرين لا يريدون الخير لكم ، ومن يعتصم بالله وبكتابه ورسوله ، فقد تحققت هدايته ، لا يضل أبدا ، وكان على الطريق المستقيم.

قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١)) (١) [آل عمران : ٣ / ١٠٠ ـ ١٠١]. وسبب نزول هاتين الآيتين :

أن شاس بن قيس اليهودي مرّ بمجلس فيه نفر من الأوس والخزرج يتحدثون ، فجلس معهم وغاظه اتحادهم وتآلفهم بعد أن كانوا متفرقين مختلفين في الجاهلية ، فقال في نفسه : مالنا معهم إذا اجتمعوا من قرار ، فأرسل شابا من اليهود كان معه ، وأمره أن يذكّرهم بيوم بعاث (٢) ، وما قيل فيه من الأشعار ، فتنازع القوم وتفاخروا واحتكموا إلى السيوف والسلاح. فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخرج إليهم ومعه المهاجرون ، وقال : يا معشر المسلمين ، الله الله ، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ ووعظهم ، فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان ،

__________________

(١) يلتجئ إليه ، ويستمسك بدينه وقرآنه.

(٢) وهو اليوم الذي اقتتلت فيه الأوس والخزرج في الجاهلية ، وكان الظفر فيه للأوس.

٢٢٠