التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0523-3
الصفحات: ٦٧١

وإذا أقرض الإنسان أخاه مبلغا من المال لمدة من الزمان ، ثم تعذر على المدين المقترض الوفاء بالدين في أجله المحدد له ، فعلى المقرض إمهاله وانتظاره لمدة أخرى يتمكن فيها من الوفاء ، وينتظره حينئذ لوقت اليسر والرخاء ، وهذه هي نظرة (انتظار) المعسر إلى وقت الرخاء ، قال الله تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١)) (١) [البقرة : ٢ / ٢٨٠ ـ ٢٨١]. والمعنى : إن تعاملتم مع فقير معسر ، فانتظار منكم إلى يسر ورخاء ، عسى الله أن يفرج عليكم جميعا ، قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم : «من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا ، نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة». ومن تصدق بالتأجيل أو بترك الدين كله أو بعضه ، فهو خير له وأحسن.

ولا يجوز لمسلم بحال من الأحوال أن يأكل الربا أو يأخذ من المدين المقترض زيادة عن أصل رأسماله ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى ، الآخذ والمعطي فيه سواء ، ولعن الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه.

والتعامل بالربا يقضي على روح الأخوة والتعاون بين الناس ، ويؤدي غالبا إلى الفقر والأزمة الاقتصادية ، وفقد أصل المال أو الأرض التي تباع عادة في نهاية الأمر لتسديد القرض وفوائده المتراكمة ، والربا في الواقع استغلال لحاجة المضطر ، وقسوة ، وأكل للمال بالباطل ، وربح من غير جهد ولا عمل ، وهو يوجب غضب الله وانتقامه ، لذا حرم الله الربا بكل أنواعه ، وأنذر صاحبه بأنه يقوم من قبره يوم القيامة ، يتخبط كالذي مسّه الجن ، أما المحسنون المؤمنون الذين يقرضون من غير فائدة ، فهم يوم القيامة في أمان واطمئنان ولا خوف عليهم ولا حزن فيهم ، ولا قلق

__________________

(١) فإمهال وتأخير.

١٦١

ولا ألم ، قال الله تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) (١) (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) [البقرة : ٢ / ٢٧٥]. ثم قال الله تعالى مبينا حال المؤمنين الصالحين : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧)) [البقرة : ٢ / ٢٧٧].

آية الدّين

نظّم الإسلام شؤون المعاملات والعقود بين الناس على أساس من الحق والعدل والحكمة ، وصان حقوق الناس وحفظ أموالهم وندبهم إلى توثيق عقودهم ومعاملاتهم المؤجلة بالكتابة والسندات ، والشهادة والشهود ، على سبيل الاحتياط للناس ، وتجنبا من احتمال إنكار أصل الحق أو عدم الاعتراف به ، بسبب قلة التدين ، وضعف اليقين ، وفساد الذمة ، واستبداد الطمع والجشع.

جاء تنظيم المعاملات في أطول آية في القرآن الكريم ، عناية بها ، وحرصا على المصالح ، ومنع المنازعات والخصومات بسبب المال ، قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا (٢) (٣) (٤)

__________________

(١) الجنون والخبل.

(٢) الإملال هو الإملاء ، أي وليمل وليقر.

(٣) لا ينقص.

(٤) أن يملي ويقر.

١٦٢

يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) [البقرة : ٢ / ٢٨٢].

أرشدت هذه الآية الكريمة إلى مجموعة قواعد وأحكام في المعاملات الجارية بين الناس ، أولها ـ الندب إلى كتابة الدين المؤجل في الذمة ، سواء أكان تأجيله من طريق القرض أم البيع أم عقد السّلم (وهو بيع شيء موصوف مؤجل تسليمه إلى المستقبل).

وعلى الكاتب أن يكتب بالعدل ، وأن يكون عالما بأصول الكتابة وشروطها ، وألا يمتنع عن الكتابة ما دام يمكنه ذلك ، وعليه أن يكتب كما علّمه الله ، دون زيادة ولا نقص ، ولا إضرار بأحد.

وعلى المدين الذي يملي على الكاتب الإملاء بالحق ، فلا يزيد ولا ينقص من الحق شيئا عند الإملاء.

وإذا كان المدين الذي عليه الحق سفيها لا يحسن التصرف في ماله لنقص عقله أو تبذيره ، أو كان ضعيفا لصغر سنه أو شيخوخته ، أو لا يستطيع الإملاء لجهله أو لكنة في لسانه ، فيتولى الإملاء وليه القريب أو البعيد الذي يتولى أموره من قيّم أو وكيل أو مترجم ، ويكون إملاؤه بالعدل والإنصاف والشهادة على الحق : إما بشهادة رجلين عدلين عاقلين بالغين ، أو شهادة رجل وامرأتين ، بسبب قلة عناية النساء بالأمور المالية ، وقلة ضبطهن ، لانشغالهن بأمور المنزل وتربية الأولاد ، فيكون تذكرهن

__________________

(١) لا يمتنع.

(٢) لا تملّوا ولا تضجروا.

(٣) أعدل.

(٤) أثبت لها وأعدل على أدائها.

(٥) أقرب.

(٦) خروج عن الطاعة.

١٦٣

للمعاملات قليلا. وعلى الشهود أداء الشهادة إذا دعوا إليها ، لأن كتمان الشهادة معصية ومضيعة للحقوق ، وليس لكاتب أو شاهد أن يضر أحدا من المتعاملين بزيادة أو نقص. ولا حاجة لكتابة العقد في البيوع التجارية السريعة التي يتم فيها تسلم المبيع ، وتسليم الثمن في الحال ، وعلى جميع المتعاملين اتقاء الله في جميع ما أمر الله به أو نهى عنه.

الرهن والائتمان

تضمنت آية الدين وآية الرهن في سورة البقرة أمرين خلقيين أساسيين لزرع الثقة بين الناس ، والاطمئنان إلى أماناتهم ، ودرء الشكوك عنهم ، وهما الائتمان ، والتقوى ، فإذا توفرت الثقة وتحقق الائتمان ، فعلى المؤتمن أداء الحق دون مماطلة ولا تسويف ، ولا تهرب ولا تحريف ، ولا نقص ولا زيادة ، وهذا دليل على أن الأمر بكتابة الدين للندب والإرشاد ، لا للحتم والوجوب ، فمن وثق بغيره ثقة تامة يطمئن بها ، فلا حاجة له ولا ضرورة للوثائق والسندات ، وكتابة الديون والإشهاد عليها من أجل حفظ الأموال والديون.

وأما تقوى الله فهي بمثابة الدرع الواقي الذي يمنع المؤمن من أكل المال بالباطل ، والزيادة والنقص في الإقرار بالحقوق ، والتقوى أيضا سبيل التذكر التام بالحق ، وطريق الحصول على العلوم والمعارف المفيدة في الحياة ، قال الله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢ / ٢٨٢].

وإذا تعذرت كتابة الدين ، بسبب السفر أو فقدان الكاتب أو عدم توافر أدوات الكتابة ، قام تقديم الرهن مقام الكتابة ، والرهن مشروع ثابت في القرآن والسنة النبوية في جميع الأحوال ، وفي السفر والحضر. ويتطلب الرهن احتباس العين المرهونة

١٦٤

وثيقة بالحق ليستوفى الحق من ثمنها ، من طريق القضاء ، عند تعذر أخذ الحق من الغريم (المدين). وهذا يشمل الرهن الحيازي بحيازة المنقولات ، والرهن الرسمي بوضع إشارة الرهن على العقار في صحيفته المخصصة لها في السجلات العقارية عند الدولة.

قال الله تعالى مبينا مشروعية الرهن : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣)) [البقرة : ٢ / ٢٨٣].

فالخوف على خراب ذمة الغريم (المدين) أو مماطلته في أداء الدين عذر يجيز طلب الرهن ، وقد رهن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم درعه عند يهودي ، في مقابل شعير اقترضه ، منه ، فقال اليهودي : «إنما يريد محمد أن يذهب بمالي ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيحين : «كذب ، إني لأمين في الأرض ، أمين في السماء ، ولو ائتمنّي لأديت ، اذهبوا إليه بدرعي».

فإن صدف أن ائتمن شخص غيره على شيء من غير رهن ، فعلى المؤتمن ، أن يؤدي الأمانة كاملة في ميعادها ، وليتق الله ربه ، فلا يخون في الأمانة ، فالله هو الشاهد الرقيب عليه ، وكفى بالله شاهدا وحسيبا. ويحرم كتمان الشهادة على الديون أو الحقوق ، وكتمان الشهادة وشهادة الزور من الكبائر ، ومن كتم الشهادة فإنه عاص آثم قلبه ، وخص الله تعالى ذكر القلب ، لأن الكتم من أفعال القلوب.

وتظل هيمنة الله على كل أعمال الناس وعلمه بأفعالهم خير رقيب وباعث على أداء الحقوق والأمانات والوفاء بالعهود ، وأداء الشهادة دون كتمان ، وإذا كان الله عليما بكل شيء من أفعالنا ، فهو يجازي عليها في الآخرة ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

١٦٥

من أدلة القدرة الإلهية

إن قدرة البشر محدودة ضعيفة ، مهما ظن الإنسان بقوته وقدرته ، فتراه مبهوتا عاجزا مشدوها أمام المخلوقات الكونية العظمى ، لا يستطيع الإحاطة بها ، أو إيجاد مثلها ، أو التأثير فيها إيجادا وإعداما ، أو تغييرا وتبديلا لمسيرتها وحركتها.

أما قدرة الله جلّ جلاله فهي شاملة غير محدودة ، كاملة تامة غير منقوصة ، أوجد الكون بقدرته ، وسيّره وصرّفه بعلمه ، ووجّهه الوجهة الصالحة بحكمته ، ويعلم كل شيء عنه ، سواء أكان دقيقا صغيرا أم عظيما كبيرا ، لأن مالك الشيء وخالقه يعلم كل شيء عنه : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤)) [الملك : ٦٧ / ١٤].

إن جميع ما في السماوات وما في الأرض ملك لله ومخلوق لله ، فهو المالك وهو الخالق ، وهو المتصرف ، وهو العليم بكل شيء ، لأنه الموجد المخترع المبدع ، لا إله غيره ولا رب سواه ، وهو سبحانه يعلم بأحوال جميع المخلوقات ، من جماد وحيوان لا يعقل ، وأجناس ثلاثة تعقل وهي الملائكة والإنس والجن.

ويعلم الله تعالى جميع ما تضمره النفوس وتكتمه أو تخفيه من النوايا والوساوس والخواطر التي لا يتأتى للإنسان دفعها أو السيطرة عليها ، ويعلم سبحانه أيضا ما تظهره النفوس ويستقر فيها من الأفكار والأخلاق والأدواء الباطنة ، والأفعال والأعمال الظاهرة ، ويحاسب الإنسان عليها ، ويجازيه إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

قال الله تعالى : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤)) [البقرة : ٢ / ٢٨٤]. قال جماعة من الصحابة والتابعين كابن عباس وأبي هريرة والشعبي : إن هذه الآية لما نزلت ، شقّ ذلك على أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالوا : هلكنا يا رسول الله ، إن حوسبنا بخواطر أنفسنا ، يا رسول الله ، كلفنا من الأعمال ما

١٦٦

نطيق كالصلاة والصيام ، والجهاد والصدقة ، وقد أنزل الله هذه الآية ولا نطيقها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم : أتريدون أن تقولوا كما قالت بنو إسرائيل : سمعنا وعصينا؟ بل قولوا : سمعنا وأطعنا ، فقالوها ، فأنزل الله بعد ذلك : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) فكشف عنهم الكربة ، وفرّج عنهم.

لقد ظن بعض الصحابة خطأ أن الله تعالى يحاسب العباد على الوساوس والخواطر التي لا يمكن للإنسان دفعها أو التخلص منها ، فأنزل الله لهم بيانا نصا واضحا على حكمه أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها ، والخواطر ليست مما يدخل في الوسع دفعها ، فلا حساب عليها.

والواقع أن هذه الآية (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) ليس المراد بها الحساب على الوساوس والخواطر ، وإنما المقصود بها أن الله تعالى يعلم ويحاسب على ما استقر في النفوس من الخلق الراسخ الثابت كالحب والبغض ، وكتمان الشهادة ، وقصد الخير والسوء ، مما هو مقدور للإنسان ، وتكون آية (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) ليست ناسخة لهذه الآية ، وإنما هي موضحة. والله تعالى يغفر لمن يشاء ذنبه ، بتوفيقه إلى التوبة والعمل الصالح الذي يمحو السيئة ، ويعذب من يشاء ، لأنه لم يعمل خيرا يكفر عنه سيئاته ، ولم يتب إلى الله ، والله على كل شيء أراده قدير.

أركان الإيمان

تتردد كلمة الإيمان على بعض الألسنة دون بيان مضمونها أو تحديد عناصرها ، فهناك إيمان أجوف فاقد المحتوى ، وإيمان ناقص ، وإيمان مشوّه ، وإيمان سيء ، وإيمان باطل قائم على الأوهام والخرافات كإيمان الوثنيين.

١٦٧

إن الإيمان كلمة مقدسة عظيمة ذات مدلول عميق وخطير ، وهو التصديق الخاص بأمور معينة ، وهي التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره ، حلوه ومرّه.

والإيمان بالله : هو التصديق به وبصفاته ورفض الأصنام وكل معبود سواه ، إنه التصديق بأن الله سبحانه موجود موصوف بصفات الجلال والكمال ، منزه عن صفات النقص ، وأنه واحد حق صمد ، فرد خالق جميع المخلوقات ، متصرف فيما يشاء ، ويفعل في ملكه ما يريد.

والإيمان بالملائكة : هو اعتقاد وجودهم وأنهم عباد الله ، ورفض معتقدات الجاهلية فيهم كقولهم : الملائكة بنات الله ، لكن الملائكة هم عباد الله المكرمون ، لا يسبقونه بالقول ، وهم بأمره يعملون.

والإيمان بالكتب الإلهية : هو التصديق بكل ما أنزل الله على الأنبياء من الوصايا والحكم والأحكام والشرائع والآداب والأخلاق ، وعدد هذه الكتب والصحف مائة وأربعة ، والأربعة هي التوراة والزبور والإنجيل والقرآن.

والإيمان بالرسل ـ رسل الله ـ : هو الاعتقاد بأنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله تعالى ، الذي أيدهم بالمعجزات الدالة على صدقهم ، وأنهم بلّغوا عن الله ورسالاته ، وبيّنوا للمكلفين ما أمرهم الله به ، وأنه يجب احترامهم ، وأن لا يفرّق بين أحد منهم.

والإيمان باليوم الآخر : هو التصديق بيوم القيامة ، وما اشتمل عليه من الإعادة بعد الموت ، والحشر والنشر من القبور ، والحساب والميزان ، والصراط ، والجنة والنار ، وأنهما دار ثوابه وجزائه للمحسنين والمسيئين.

١٦٨

والإيمان بالقدر : هو التصديق بأن الله تعالى قدّر الأشياء في القدم ، وعلم سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده عزوجل ، وحاصل الإيمان بالقدر ما دل عليه قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦)) [الصافات : ٣٧ / ٩٦] وقوله : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩)) [القمر : ٥٤ / ٤٩]. ونحو ذلك ، والله تعالى خلق الخير والشر ، وقدر مجيئه إلى العبد في أوقات معلومة ، يكون الإنسان فيها هو المختار لما يعمله أو يتركه.

وقد أبان القرآن الكريم أصول الإيمان وأركانه ، فقال الله تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥)) (١) [البقرة : ٢ / ٢٨٥]. والمعنى : صدّق الرسول بالذي أنزل إليه من ربه من الآيات والأحكام ، وصدّق معه المؤمنون ، كلهم آمنوا بوجود الله ووحدانيته وبوجود عنصر الملائكة ، وبإنزال الكتب من الله ، وبإرسال الرسل الكرام ، لا نفرّق نحن المؤمنين بين رسله ، إذ كل الأنبياء المرسلين سواء في الرسالة والتشريع ، لا يختلف واحد عن واحد ، وهذه مزية المسلمين يؤمنون بكل الأنبياء ، دون تفرقة بين نبي وآخر ، نؤمن بكل ما ذكر ، ونقول : سمعنا القول سماع وعي وقبول ، وأطعنا ما أمرنا به طاعة إذعان وانقياد ، معتقدين أن كل أمر ونهي إنما هو لخيري الدنيا والآخرة ، ونسأل الله دائما أن يغفر لنا خطايانا ، وإليه المرجع والمآب. ولما سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الإيمان قال في الصحيحين : «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره».

__________________

(١) نسألك المغفرة.

١٦٩

يسر التكاليف الشرعية

الإسلام دين اليسر والسماحة ، فلا عناء ولا مشقة في تكاليفه ، ولا حرج في جميع ما أمر به أو نهى عنه ، ليكون المسلمون في راحة وطمأنينة ، ويداوموا على الأعمال من غير مضايقة ولا سأم أو ملل. وهذا من فضل الله تعالى على الأمة الإسلامية ، قال الله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ). [البقرة : ٢ / ١٨٥]. وقال عزوجل : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج : ٢٢ / ٧٨]. وقال سبحانه : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ٦٤ / ١٦].

ومن مزيد فضل الله علينا أن علّمنا الدعاء بطلب اليسر والتيسير في أداء الواجبات ، والتكليف بالأحكام الشرعية ، وصيغة هذا الدعاء كما جاء في أواخر سورة البقرة : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦)) (١) (٢) (٣) [البقرة : ٢ / ٢٨٦].

قال السّدي : لما نزلت هذه الآية فقالوها ، أي ودعوا بها ، قال جبريل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد فعل الله لهم ذلك يا محمد». فهذا دلالة على أن هذه الدعوات السبع مستجابة بحمد الله.

وأول هذه الدعوات وثانيها : ربنا لا تؤاخذنا على النسيان الغالب ، والخطأ غير المقصود ، إذ تركنا ما ينبغي فعله ، أو فعلنا ما ينبغي تركه ، وأكّد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رفع ثواب الخطأ والنسيان والإكراه ، فقال فيما رواه ابن ماجه وغيره : «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».

__________________

(١) طاقتها ومقدرتها.

(٢) أي حملا ثقيلا يشق علينا.

(٣) لا قدرة.

١٧٠

وثالث هذه الدعوات : ربنا ولا تحمل علينا شيئا أو حملا ثقيلا ننوء بحمله ، ونعاني المشاق والمتاعب الشديدة من القيام به. ولقد كانت الأمم السابقة لعنادهم وعتوهم ، تكاليفهم شاقة ، فتوبتهم من الذنب مثلا بقتل النفس ، وإزالة النجاسة بقطع موضعها ، ونحو ذلك من الأمور الثقيلة والأعمال الشاقة.

ورابع هذه الدعوات : ربنا ولا تحمّلنا ما لا قدرة لنا عليه من العقوبة والفتن ، ولا تشدّد علينا كما شدّدت على من كان قبلنا ، ولا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق.

وخامس هذه الدعوات وسادسها وسابعها : ربنا اعف عنا فيما واقعناه وارتكبناه وسامحنا عن تقصيرنا ، واستر علينا ما علمت ، واغفر لنا ما بيننا وبين عبادك ، فلا تطلعهم ولا تظهرهم على عيوبنا وأعمالنا القبيحة ، وتفضل علينا برحمة سابغة شاملة منك لنا ، بأن توفّقنا حتى لا نقع في ذنب آخر ، فأنت يا رب متولي أمورنا ، وناصرنا ، وعليك توكلنا ، وإليك أنبنا ورجعنا ، ولا حول ولا قوة إلا بك ، وانصرنا على القوم الكافرين ، يا رب العالمين.

هذه الأدعية السبعة ذات غرض واحد وهو دخول الجنة ، فليحرص المؤمن والمؤمنة على تكرار الدعاء بها ، روى البخاري وبقية الجماعة عن ابن مسعود : عن النبي أنه قال : «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه». أي عن قيام الليل ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : «ما أظن أحدا عقل وأدرك الإسلام ينام حتى يقرأهما». وروى الإمام أحمد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أعطيت هؤلاء الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش ، لم يعطهن أحد قبلي».

١٧١

تفسير سورة آل عمران

صفات الله وإنزال الكتب الإلهية

افتتح الله تعالى أول سورة آل عمران المدنية النزول ببيان صفاته العليا ، وقدرته الخارقة ، وعلمه الدقيق الشامل ، وخلقه بني آدم ورعايته لهم ، وإنزاله الكتب الإلهية لترشد الناس إلى طريق الحق والخير ، وتهديهم إلى الصراط المستقيم ، فقال سبحانه :

(الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦)) (١) (٢) (٣) [آل عمران : ٣ / ١ ـ ٦].

الله الإله بحق ، لا معبود بحق في الوجود إلا هو ، فليس في الوجود صاحب سلطة قادرة على قهر النفوس وإخضاعها لهيمنته ، وبيدها الخير ومنع الضر إلا الله وحده دون سواه ، هو الحي الدائم الحياة التي لا أول لها ، فلو تعرض لموت ولو ساعة ، أو لقهر من غيره ، لم يكن إلها ، وهو القيوم أي القائم على خلقه بالتدبير والتصريف ، فبقدرته قامت السماوات والأرض ، ودوامها مقصور على إرادته ومشيئته وقدرته.

__________________

(١) دائم الحياة ، والدائم القيام بتدبير خلقه.

(٢) أي ما يفرق بين الحق والباطل كالدلائل والبراهين.

(٣) قوي غالب لا يغلب.

١٧٢

والله الإله بحق هو الذي أنزل القرآن على قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنزالا مقرونا بالحق ، أي باستحقاق أن ينزّل ، لما فيه من المصلحة الشاملة ، ومشتملا على الحقائق الثابتة من خبر وأمر ونهي ومواعظ ، وهذا القرآن مصدّق لما تقدمه من الكتب المنزلة على الأنبياء قبله ، ومؤكد ما أخبرت به وبشرت ، والله هو الذي أنزل التوراة على عبده ونبيه موسى ، والإنجيل على عبده ونبيه عيسى ، فليس المنزّل للكتب على الأنبياء بشرا عاديا من الناس. وتتضمن هذه الكتب الإلهية هداية الناس وإرشادهم إلى الطريق السوي ، وإلى الوحي الحكيم وتشريع الشرائع ، وأنزل الله في هذه الكتب الفرقان الذي يفرق بين الحق والباطل بالدلائل والبراهين ، ووهب الله العقل والفهم للناس ليدركوا ما هو حق ثابت ، ويقاوموا ما هو شر زائل.

فكيف يكون إلها من ليس متصفا بهذه الصفات ، وإن الذين كفروا بآيات الله الواضحة التي تدل على كمال وصفه وسمو نعته بكل صفات الجمال والجلال والألوهية والربوبية ، لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب في الآخرة ، وبما كانوا يظلمون ، والله قوي لا يغلب ، منتقم جبار ممن يشرك به شريكا آخر ، وهو الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

ومن مظاهر قدرة الله التي لا تتوافر إطلاقا لغيره : أنه هو الذي يصوّر ويكوّن البشر في الأرحام كيف يشاء من ذكورة وأنوثة ، وخصائص وطباع وطول وقصر ، وألوان من سواد وبياض ونحو ذلك ، وكل ذلك دليل قاطع على أن هذا الخالق المبدع هو الله الذي لا إله إلا هو العزيز (الغالب) الحكيم (ذو الحكمة أو المحكم في مخلوقاته).

أفيعقل بعد هذا أن يدعي أحد أنه هو الله ، أو يوصف من أحد أنه هو الله ، إن ذلك هو الافتراء المبين ، والضلال الواضح ، والإفك والكذب القاطع.

١٧٣

المحكم والمتشابه في القرآن

آيات القرآن نوعان : محكمات أي ظاهرات الدلالة لا خلاف في معناها ، ومتشابهات : أي التي لم يظهر معناها ولم يتضح ، بل خالف ظاهر اللفظ المعنى المراد. أما الآيات المحكمات : فهي جميع الآيات المتعلقة بالتكاليف الشرعية التي تخص العباد ، فهذه لا غموض فيها ولا التباس ، مثل فرائض الصلاة والصيام ، والحج والزكاة ، والإحسان إلى الوالدين وتحريم المحرمات من النساء وتحريم بعض المطعومات والمشروبات كالميتة والدم ، والخمر ولحم الخنزير والمذبوح لغير الله ، ومثل عبودية الرسل والأنبياء لله وكونهم بشرا في غير النبوة والوحي مثل نوح وإبراهيم وعيسى وموسى ومحمد عليهم‌السلام ، وأما الآيات المتشابهات : فهي التي لا تتعلق بالتكاليف الشرعية ، والعلم بها نوع من الترف العقلي والفلسفات التي تختص بالعلماء وأهل النظر والفكر ، وهي أنواع ، منها لا يمكن العلم به إطلاقا كأمر الروح ، وأوقات الأشياء الغيبية التي قد أعلم الله بوقوعها واختص بمعرفتها ، مثل وقت قيام الساعة ، وخروج يأجوج ومأجوج ، وقيام دابة من الأرض تكلم الناس ، ومجيء الدجال ، ونزول عيسى عليه‌السلام ، ونحو الحروف المقطّعة في أوائل السور ، ومن الآيات المتشابهة ماله أكثر من معنى في اللغة ووجوه ومناح في كلام العرب ، كقوله تعالى في شأن عيسى : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) [النساء : ٤ / ١٧١]. وقوله : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ٣ / ٥٥]. وكقوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥)) [طه : ٢٠ / ٥]. وقوله سبحانه : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح : ٤٨ / ١٠].

فهذه آيات متشابهات تحتمل عدة معان ، ويخالف ظاهر اللفظ فيها المعنى المراد ، فهي مما استأثر الله بعلمها لأنها من أحوال الآخرة ، أو يعلم الله تعالى بها علما تاما على الاستيفاء والشمول ، وقد يعلم بعض جوانبها دون استيفاء الراسخون في

١٧٤

العلم إذا كانت ذات ظواهر علمية دنيوية ، ودور العلماء فيها : إدراك بعض النواحي منها المتعلقة بالحس والعقل ، وترك حقيقة المغيبات إلى الله تعالى ، سبيلهم التسليم إلى الله ، قائلين : آمنا بذلك ، كل من عند ربنا. وهكذا فإن المحكم : ما لا يحتمل إلا تأويلا واحدا. والمتشابه : ما احتمل من التأويل أوجها.

قال الله تعالى مبينا المحكم والمتشابه وموقف الناس منهما : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) [آل عمران : ٣ / ٧ ـ ٩].

والسبب في اشتمال القرآن على بعض الآيات المتشابهات : هو تمييز الصادق الإيمان من ضعيفة ، وإعطاء الفرصة لعقل المؤمن ، من أجل البحث ، والنظر والتأمل حتى يصل إلى حد العلم الناضج ، فيكون الناس على درجات ، كل يفهم بقدر عقله وإدراكه ، ولكن لا يصح لأحد أن يتصيد من القرآن أو من المتشابهات ما يتفق مع هواه وزيغه ، وضلاله وانحرافه ، فعلى أهل العلم والعقول الصافية التزام جانب العقيدة الصحيحة المتفقة مع ظواهر القرآن وآياته المحكمة ، وهم يقولون : ربنا لا تمل قلوبنا عن الحق بعد هدايتك لنا ، وهب لنا من لدنك رحمة ترحمنا وتوفقنا إلى الخير والسداد ، إنك أنت الوهاب. ربنا إنك جامع الناس يوم القيامة ، يوم لا شك فيه ، فاغفر لنا ووفّقنا واهدنا ، إنك لا تخلف الميعاد.

__________________

(١) واضحات الدلالة من غير أي اشتباه.

(٢) أصله الذي يرد إليه.

(٣) خفيات لا تتضح إلا بنظر دقيق.

(٤) ميل وانحراف عن الحق.

(٥) لا تملها عن الحق والهدى.

١٧٥

عاقبة الاغترار بالمال والولد

يغتر بعض السطحيين من الناس بما لديهم من ثروات وأموال وأولاد وذرية ، ويظنون أنهم أرفع من غيرهم في الدنيا ، وأحسن حالا وعاقبة في الآخرة ، ولم يدروا أن المال والولد عرض زائل وظل مائل ، وأن الخير في اتباع سبيل الهدى والعمل الطيب ، وقد انخدع أعداء المسلمين في بداية عهد الإسلام وسيطر عليهم غرور المال وكثرة الولد والاعتزاز بالقبيلة ، فأبان الله سبب عنادهم وغرورهم الزائف في أموالهم وأولادهم : (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥)) [سبأ : ٣٤ / ٣٥]. وردّ الله عليهم في مواضع كثيرة في القرآن الكريم ، كما في هذه الآيات التالية :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣)) (١) (٢) (٣) [آل عمران : ٣ / ١٠ ـ ١٣].

قال ابن عباس : إن يهود أهل المدينة قالوا : لما هزم الله المشركين يوم بدر : هذا والله النبي الأمي الذي بشرنا به موسى ، ونجده في كتابنا بنعته وصفته ، وأنه لا ترد له راية ، فأرادوا تصديقه واتّباعه ، ثم قال بعضهم لبعض : لا تعجّلوا حتى ننظر إلى وقعة له أخرى. فلما كان يوم أحد ونكب أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شكّوا ، وقالوا : والله ، ما هو به. وغلب عليهم الشقاء ، فلم يسلموا ، وكان بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد إلى مدة ، فنقضوا ذلك العهد ، وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى أهل مكة

__________________

(١) كعادة وشأن.

(٢) بئس الفراش والمضجع جهنم.

(٣) لعظة ودلالة.

١٧٦

ـ أبي سفيان وأصحابه ـ فوافقوهم وأجمعوا أمرهم ، وقالوا : لتكونن كلمتنا واحدة ، ثم رجعوا إلى المدينة ، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢)).

وقال محمد بن إسحاق : لما أصاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قريشا ببدر ، فقدم المدينة ، جمع اليهود وقال : «يا معشر اليهود ، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر ، وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم ، فقد عرفتم أني نبي مرسل ، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم» فقالوا : يا محمد ، لا يغرنّك أنك لقيت قوما أغمارا (جهلاء) لا علم لهم بالحرب ، فأصبت فيهم فرصة!! أما والله لو قاتلناك لعرفت أنا نحن الناس ، فأنزل الله تعالى : قل للذين كفروا ـ يعني اليهود ـ ستغلبون ـ تهزمون ـ وتحشرون إلى جهنم في الآخرة.

ومعنى الآيات : إن الذين كذبوا بآيات الله ورسله ، لن تكون أموالهم ولا أولادهم بدلا لهم من الله ورسوله تغنيهم يوم القيامة ، فإن استمروا في غيهم وضلالهم ، فأولئك البعيدون في درجات العتو والفساد وهم وأصحابهم وقود النار الذي توقد به من حطب أو فحم ؛ لأن حالهم كحال آل فرعون وقبائل عاد وثمود ، كانوا قد كذبوا بآيات الله ، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر ، والله شديد قوي العقاب ، سريع الحساب. قل لهم يا محمد : ستغلبون أيها اليهود في الدنيا عن قريب ، كما حدث في معاركهم مع المسلمين ، وستحشرون في الآخرة إلى جهنم ، وبئس المهاد : الفراش الممهّد ، وتالله لقد كان لكم آية عظيمة دالة على صدق القرآن فيكم في لقاء فئتين في موقعة بدر ، فئة معتزة بكثرة مالها وعددها ، كافرة بالله ، والأخرى فئة قليلة العدد ، صابرة ، مؤمنة بالله ، تقاتل في سبيل الله ، انتصرت على الفئة الكثيرة من المشركين الذين يقاتلون في سبيل الشيطان.

١٧٧

حب الدنيا وما هو خير منها

الإسلام دين الاعتدال والاتزان والوسطية ، فليس العمل في مجاله مقصورا على الدنيا ، ولا مقصورا على الزهد والآخرة ، وليس هو دين رهبنة وتقشف وإهمال للدنيا ، ولا دين أخلاق وعبادة وعقيدة فحسب ، وإنما هو دين شامل لمصالح الدنيا والآخرة ، ويقترن فيه العمل والاعتقاد ، والعبادة والاحتراف ، والمادة والروح ، قال الله تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢)) [الأعراف : ٧ / ٣٢].

ليس ممنوعا على المسلم حب الدنيا ومظاهرها ، ولكن الممنوع المبالغة والإسراف فيها ، والاقتصار عليها ، حتى تطغى على الناحية الدينية ، وتهمل أمور الآخرة. ولذا وبّخ الله سبحانه وتعالى الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ، ويقصرون هممهم عليها ، فقال عزوجل : [سورة آل عمران (٣) : آية ١٤] (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) [آل عمران : ٣ / ١٤].

والمعنى : قد زيّن الله حب الدنيا للناس وغرس حبها في قلوبهم حتى صار غريزة عندهم ، وذلك من أجل تعمير الدنيا وتقدمها ، فلو لم يحبها الناس لأهملوها وقصّروا في بناء معالمها ، وشهوات الدنيا كثيرة تشتمل على حب النساء والأبناء وتكديس الأموال ، وجمع الخيول المسومة أي المعلمة أو السائمة التي ترعى في المروج والمراعي ، واقتناء الأنعام (المواشي) وزرع الحبوب وإعداد البساتين ، وذلك كله متاع الحياة الدنيا وزينتها أي ما يستمتع به وينتفع به لمدة معلومة محصورة ، وتذم هذه الأشياء إن

__________________

(١) المشتهيات طبعا.

(٢) المضاعفة.

(٣) المعلمة.

(٤) الإبل والبقر والغنم والمعز.

(٥) المزروعات.

(٦) المرجع الحسن.

١٧٨

كانت سببا للشر والبعد عن الله ، وعند ذلك تكون خطرا على صاحبها ، أما إن كانت سببا في الخير ، ولم تمنع صاحبها من القيام بواجباته الدينية والخيرية والإنسانية ، فتكون خيرا له ، وعند الله حسن المرجع والمآب.

ثم نبّه القرآن الكريم إلى ما هو خير من الدنيا ، فقال الله تعالى : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧)) (١) (٢) [آل عمران : ٣ / ١٥ ـ ١٧]. فالذي هو خير من الدنيا وزينتها هو ما عند الله للمتقين الأبرار من الجنات التي تجري من تحت أشجارها وغرفها الأنهار ، ماكثين فيها على الدوام أبدا ، لا يرغبون في بديل عنها ، ولهم زوجات طاهرات من دنس الفواحش والشوائب ، وهذا هو الجزاء المادي ، وهناك جزاء روحي أرفع منه وهو رضوان الله على عباده الأتقياء ، وهو أكبر وأعظم من كل نعمة ، قال الله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢)) [التوبة : ٩ / ٧٢].

وهذا الجزاء المادي والروحي هو للمتقين الله حقيقة الذين يقولون : ربنا إننا آمنا بك وبرسلك وكتبك إيمانا حقيقيا صادقا يملأ قلوبنا ، فاغفر لنا ذنوبنا ، وقنا عذاب النار. وهؤلاء المؤمنون الأتقياء صابرون على تقوى الله وعلى قضاء الله وعلى كل مكروه ، وقانتون خاشعون لله متضرعون إليه ، ومنفقون أموالهم في سبيل الله ندبا ووجوبا ، ومستغفرون الله بالأسحار أي قبل طلوع الفجر ، وفي هذا الوقت يكون

__________________

(١) المطيعين لله الخاشعين.

(٢) الاستغفار : طلب المغفرة من الله تعالى ، والأسحار أواخر الليل إلى طلوع الفجر.

١٧٩

الدعاء مستجابا ، ورحمة الله شاملة للتائبين من العصيان. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ينزل ربنا عزوجل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول : من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر» (١).

الشهادة بوجود الله ووحدانيته وبأحقية دينه

قامت الأدلة الكثيرة والبراهين القطعية من خلق الكون وتدبيره على وجود الله وتوحيده ، وشهدت العوالم المخلوقة شهادة إقرار وعلم ويقين وإظهار وبيان أن الله تعالى واحد لا شريك له ، وأنه قائم موجود بالعدل والحق في كل شيء ، في الدين والشريعة والكون والطبيعة ، وفي العبادات والمعاملات والآداب ، أتقن الله نظام الكون وأحكمه ، وعدل بين القوى الروحية والمادية ، وكانت الأحكام الشرعية مبنية على أساس التوازن الدقيق بين الفرد والأمة ، وبين الفرد والخالق ، وبينه وبين نفسه ، وبينه وبين أخيه ، وبين الأغنياء والفقراء ، وبين الدنيا والآخرة ، والعقيدة والعمل ، قال الله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)) (٢) [آل عمران : ٣ / ١٨].

قال الكلبي مبينا سبب نزول هذه الآية : لما ظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ، قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام ، فلما أبصرا المدينة ، قال أحدهما لصاحبه : ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان. فلما دخلا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرفاه بالصفة والنعت ، فقالا له : أنت محمد؟ قال : نعم ، قالا : وأنت أحمد؟ قال : نعم. قالا : إنا نسألك عن شهادة ، فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدّقناك.

__________________

(١) أخرجه الصحيحان وغيرهما.

(٢) بالعدل.

١٨٠