التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0523-3
الصفحات: ٦٧١

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تقديم

الحمد لله تعالى المتفضّل المنعم ، حمدا يوافي نعمه ، ويكافئ مزيده ، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه ، فإني وتالله لمدين بالنعم الوافرة الكثيرة لله عزوجل ، ولا أملك إلا لسان الحمد والشكر بكل ما أوتيت من قوة ، وما أملك من حواس وأعصاب وعقل ووعي ، وفي كل حين وآن ، وفاء ببعض الواجب لشكر نعم الله سبحانه. والصّلاة والسّلام الأتمان الأكملان على النّبي المنقذ من الضّلالة والجهالة والرّدى ، إلى نور الحق والإيمان والهدى ، وعلى آله وأصحابه الغرّ الميامين ، الذين هم قدوتنا ، ولهم الفضل على جميع الأمة إلى يوم القيامة ، وبعد :

ما كنت لأحسب أني في حياتي أخطّ كلمة واحدة في تفسير كتاب الله وكلامه الذي أوحاه لنبيّه ؛ لأنه لا يمكن لأي عالم مهما أوتي من العلم أن يجزم بما هو المراد من كلام الله ، لأن مراد الله تعالى لا يحصره بيان ، ولا يقطع أحد على الإطلاق بما هو المقصود من شرع الله تعالى ، ولكنها المحاولة في التبيان والتبسيط والتيسير وتقريب البعيد ، وجمع المفيد ، وتحقيق المتلابسات ، وربط التالي لكتاب الله تعالى بما هو المطلوب منه ، والمفروض شرعا عليه ، من العمل بما أنزل الله حكما عربيّا (١) قائما بين الناس ، وصلة بالله تعالى ، وحفاظا على أمة القرآن إلى يوم الدّين.

__________________

(١) أي فصلا للأمر ، على وجه الحق باللسان العربي ، أو حاكما بالعربية أو حكمة.

٥

وبما أن أقدار الناس وهممهم تتفاوت ، ومستويات العلم تختلف ، فقد يسّر الله الكريم لي أن أفسّر القرآن الكريم ثلاث مرات متعاقبة ، ليأخذ كل إنسان بأي مستوى يتفق مع رغباته وإمكاناته ، وكانت ولله الحمد التفاسير الثلاثة ، وأصبحت لأول مرة هذه التفاسير في متناول الناس في كل مكان :

ـ التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج (١٦ مجلدا) ، لأهل الاختصاص.

ـ التفسير الوجيز ، للعامة وأكثرية الناس.

ـ التفسير الوسيط ، لمتوسطي الثقافة (٣ مجلدات).

والتفسير الوسيط هذا هو الأحاديث الإذاعية التي سجّلتها ، وأذيعت في الإذاعة السورية العامة ، ثم في إذاعة صوت الشعب ، صباح كل يوم من أيام الأسبوع ما عدا يوم الجمعة في مبدأ الأمر ، لمدة ست دقائق ، بعنوان (قصص من القرآن) ثم في أيام السبت والاثنين والأربعاء في إذاعة صوت الشعب ، الساعة السادسة والربع ، لمدة عشرة دقائق في زاوية (القرآن والحياة). وكان كل موضوع في هذا التفسير يقرع آذان السامعين ، لمدة سبعة أعوام من عام (١٩٩٢ ـ ١٩٩٨ م) شاغلا حديث الصباح بمقدار الزمن المخصص له ، لكني ابتدأت الأحاديث بالقصة القرآنية ، وطبع بعنوان مستقل : (القصة القرآنية ـ هداية وبيان) ، ثم شرعت في التفسير الشامل حتى نهاية القرآن الكريم.

وربما يتساءل بعض الناس عن أوجه الشبه والاختلاف بين هذه التفاسير الثلاثة ، فأقول :

ـ تتفق التفاسير الثلاثة في بيان مدلول الآيات بدقة وشمول ، وأسلوب مبسط ميسّر ، وفي معرفة أسباب نزول الآيات الصحيحة الثابتة ، والاستشهاد ببعض الآيات والأحاديث الصحيحة ، المناسبة في موضوعها ومغزاها مع الآية المفسّرة ،

٦

وفي البعد عن القصص والرّوايات الإسرائيليّة التي لا يخلو منها تفسير قديم ، وفي التزام أصول التفسير بالمأثور والمعقول معا ، وبالاعتماد على أمهات كتب التفسير الكبرى ، بمختلف مناهجها.

ـ وينفرد (التفسير المنير) ببيان أوسع وأجلى للآيات ، وبالتعرف على مضامين كل سورة في بدء تفسيرها في الجملة ، وعلى فضائل السّور القرآنية مما يصح من أخبارها ، واستبعاد الموضوع والضعيف ، وعلى مناسبات السّور القرآنية والآيات بعضها مع بعض ، وعلى تفصيل وتحقيق القصص والأحداث التاريخية القديمة ، ووقائع السّيرة النّبوية ، واستنباط الأحكام الشّرعية بالمعنى الواسع للحكم بحيث يشمل العقيدة والعبادة ، والأخلاق والآداب ، والعبر والعظات ، ونظام الحياة والمعاملات ، وأصول الحياة الإسلامية العامة. كما يمتاز ببيان المفردات اللغوية بيانا كافيا شافيا ، وبمعرفة وجوه البلاغة والإعراب ، وكل ذلك مع تعقيبات وملاحظات ومقارنات وتنويه بالمعجزات ، والإعجاز العلمي للقرآن الكريم بحسب تقدم العلوم العصرية.

ـ ويقتصر (التفسير الوجيز) على بيان المقصود بكل آية ، بعبارة شاملة غير مخلّة بالمعنى المراد ، ولا مبتورة ، ومن غير استطراد ولا تطويل ، وشرح بعض الكلمات الغامضة غموضا شديدا ، وبيان أسباب النزول مع كل آية أثناء شرحها.

ـ وأما (التفسير الوسيط) هذا ، فقد يزاد فيه تفسير بعض الآيات عما هو مذكور في (التفسير المنير) ، ويشتمل على إيضاح معاني أهم الكلمات الغامضة ، مع التّعرض لأسباب النزول مع كل آية. وحينئذ قد تتطابق عبارات التفاسير الثلاثة ، وقد تختلف بحسب الحاجة ، وبما يقتضيه المقام في تسليط الأضواء على بعض الألفاظ والجمل ، وقد يذكر الوجه الإعرابي الضروري للبيان. وتميّز هذا التفسير ببساطته وعمقه في آن واحد ، وبإيراد مقدمة عن كل مجموعة من الآيات ، تكوّن موضوعا واحدا.

٧

إن ما عملته في مجال التفسير ، وفي غيره من المصنفات العلمية الكثيرة ، إنما هو بقصد تيسير العلم بأسلوب واضح متّزن ، وبعبارات لا إشكال فيها ولا غموض. وقد سعدت كل السعادة أن أقبل الناس على التفسيرين السابقين : المنير والوجيز ، لأنهم وجدوا فيهما ما يحقق بغيتهم ، وما تصبو إليه نفوسهم. والله أسأل أن يديم النفع بما يعلّمنا من فضله ، وأن يزيدنا علما ، فإن على العالم أمانة البيان والتبليغ ، على قدر الوسع والطاقة ، وهو خادم العلم ، وتقريبه للناس ، تقبّل الله منا ، وجعله في ميزان حسناتنا ، وثقّل به الموازين ، والله لا يضيع أجر المحسنين.

أ. د. : وهبة مصطفى الزحيلي

٨

فاتحة القرآن الكريم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧)) [الفاتحة : ١ ـ ٧]

الفاتحة المعروفة ، المكّية النزول (النازلة قبل الهجرة) ، من أوائل ما نزل من القرآن الكريم ، قال ابن عباس :

«أول ما نزل به جبريل عليه‌السلام على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد ، استعذ ، ثم قل : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)».

والاستعاذة مستحبة في بداية تلاوة القرآن وفي بداية الصلاة ، قال الله تعالى :

(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨)) [النّحل : ١٦ / ٩٨]

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قام من الليل ، فاستفتح صلاته وكبّر ، قال :

«سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدّك ، ولا إله غيرك ، ثم يقول : لا إله إلا الله ـ ثلاثا ـ ، ثم يقول : أعوذ بالله السّميع العليم من الشّيطان الرّجيم من همزه ونفخه ونفثه» والهمز : الخنق ، والنفخ والنفث بالشيء الضّال.

ثم يقرأ الإنسان البسملة (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)) وهي آية فاصلة بين السّور القرآنية ، ونزلت مع كل سورة كما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما ، ولم

٩

توضع في أول سورة التّوبة (براءة) بأمر الوحي ؛ لأن هذه السورة نزلت في الحرب والجهاد والبراءة من المشركين بعد غزوة تبوك.

ثم يقرأ المصلّي الفاتحة ، عن أبي ميسرة عن علي بن أبي طالب : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا سمع مناديا يناديه : يا محمد ، فإذا سمع الصوت انطلق هاربا ، فقال له ورقة بن نوفل : إذا سمعت النداء فاثبت حتى تسمع ما يقول لك ، قال : فلما برز سمع النداء : يا محمد ، فقال : لبيك ، قال : قل : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، ثم قال : قل : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِ (١) الْعالَمِينَ ، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٢) ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٣) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (٤)».

نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش ، فهي سورة مكّية بالإجماع ، لعظم مكانتها وعلوّ شرفها ، من بين سور القرآن ، قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بن كعب ، رضي الله عنه ، بعد أن قرأ أمّ القرآن :

«والذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها ، إنها لهي السّبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته».

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يصلّي إلا بفاتحة الكتاب.

وسميت (الفاتحة) لأنها أول ما يفتتح بها كتابة القرآن الكريم في المصاحف ، وبها تفتتح القراءة في جميع الصلوات ، ولها أربعة عشر اسما منها : أم الكتاب ، وأساس القرآن ، وسورة الحمد ، والسّبع المثاني ، أي تثنى وتعاد كل ركعة.

__________________

(١) مربّي الإنس والجنّ ومالكهم ومدبّر أمورهم.

(٢) يوم الجزاء والحساب.

(٣) وفقنا للثبات على الطريق القويم.

(٤) المنحرفون عن طريق الاستقامة من أتباع الملل الأخرى.

١٠

جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه : أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول :

«قال الله عزوجل : قسمت الصّلاة (أي قراءة الفاتحة) بيني وبين عبدي نصفين ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢)) قال الله : حمدني عبدي ، وإذا قال : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قال الله : أثنى علي عبدي ، فإذا قال : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤)) قال الله : مجدني عبدي أو فوّض إلي عبدي ، فإذا قال : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)) قال الله : هذا بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل. فإذا قال : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (٧)) قال الله : هذا لعبدي ، ولعبدي ما سأل».

ويستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها (آمين) أي اللهم استجب لنا.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في فضل الفاتحة :

«إذا وضعت جنبك على الفراش وقرأت فاتحة الكتاب ، وقل هو الله أحد ، فقد أمنت من كل شيء إلا الموت».

١١

تفسير سورة البقرة

موقف الناس من القرآن الكريم

ابتدأ الله تعالى سورة البقرة ، المدنيّة النزول (ما بعد الهجرة ولو في مكّة) ، ببيان موقف الناس من القرآن الكريم ، وذكر أنهم ثلاثة أصناف ، فمنهم من آمن به وعمل صالحا ، وأولئك هم المفلحون ، ومنهم من كفر به واستكبر عن الحق قولا وعملا ، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. ومنهم من آمن بالله وباليوم الآخر قولا باللسان فقط ، وبقي قلبه مملوءا بالكفر والضّلال ، وأولئك لهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ، وهم المنافقون.

قال مجاهد : أربع آيات من أول البقرة نزلت في المؤمنين ، وآيتان في الكفار ، وثلاث عشرة آية في المنافقين.

أما المؤمنون المتّقون فلهم أوصاف أربعة : الإيمان الصادق بالغيب الذي أخبر الله عنه ، وقام الدليل عليه ، فلا يقتصرون على المادّيات والمحسوسات ، وإنما يؤمنون بما وراء المادة ، ويقيمون الصلاة باعتبارها عماد الدين ، ويؤتون الزكاة للفقراء والمساكين ، والزكاة أساس بناء المجتمع ، كما أن الصلاة أساس بناء الفرد ، ويؤمنون بجميع ما أنزل الله على رسله من الكتب السماوية ويؤمنون بالآخرة إيمانا يقينيا لا شبهة فيه ، ولا شك.

١٢

قال الله تعالى مبيّنا منزلة القرآن السامية وأنه الكتاب الكامل ، وواصفا هؤلاء المؤمنين:

(الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ (١) لا رَيْبَ فِيهِ (٢) هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٣) (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)) [البقرة : ٢ / ١ ـ ٥].

ثم ذكر الله صفات الكافرين كأبي جهل وأبي لهب ونحوهما ممن جاهر بتكذيب القرآن ، فاستوى عندهم الإنذار وعدمه ، إذ لا ينتفعون به ، فقلوبهم مغلقة لا يصل إليها النور الإلهي المتمثل في آيات القرآن ، ويحجبون أسماعهم وأبصارهم عن هذه الآيات ويتعامون عنها ، فأولئك لهم عذاب عظيم شديد خاص بهم ، وكان العيب فيهم وفي أطباعهم لا في القرآن ، لذا ختم الله على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم بكفرهم وعنادهم ، قال الله تعالى مبينا صفات هؤلاء الكافرين :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ (٤) عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ (٥) وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧)) [البقرة : ٢ / ٦ ـ ٧].

إن البصير العاقل هو الذي يتأمل في مستقبله وفي الحق الذي ينفعه ، وينفر من الباطل والضلال ، ويوازن بين صفات المؤمنين البنّاءة التي هي إيمان بالغيب وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وإيمان باليوم الآخر ، وصفات الكفار الهدامة التي هي دمار وخراب ، وابتعاد عن هداية الله الحقّة ، وانكباب في نار جهنم ، والمؤمن هو المواطن الصالح الأمين ، والكافر هو العدو الخائن لنفسه وأمته ومجتمعة.

__________________

(١) القرآن العظيم.

(٢) لا شك في أنه من عند الله.

(٣) الذين امتثلوا الأوامر وأدّوا الفرائض وتجنّبوا المعاصي

(٤) طبع الله تعالى عليها.

(٥) غطاء وستر.

١٣

أوصاف المنافقين

في أوائل سورة البقرة نزلت ثلاث عشرة آية في المنافقين (٨ ـ ٢٠) والنفاق جبن وخيانة ، وكذب وضلال ، ومرض وخداع ، لذا سرعان ما ينكشف شأن المنافقين ، ويحتقرهم المجتمع ، وتنبذهم الأمة. والنفاق واليهودية شيئان متلازمان ؛ لأنه ينشأ عن جبن وضعف حقيقي ولؤم طبعي ، فالمنافق يلتوي مع الناس في أقواله وأفعاله ، واليهودي يخادع الناس ويتآمر عليهم. وكثيرا ما لاقى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من النفاق والمنافقين ، وكم كان للنفاق في المجتمعات من أضرار بالغة ، والجاسوس المتآمر على وطنه وأمته منافق ، والتّجسس الذي يخدم العدو مظهر من مظاهر النفاق.

والمنافقون أشد خطرا على الإسلام من الكفار صراحة ؛ لأنهم أعداء في داخل الأمة ، ولا يقتصر وجود المنافقين على عصر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقط ، بل يمكن ظهور المنافقين ووجودهم في كل عصر ومكان.

ذكر الله صفات المنافقين ، وأولها إظهار الإيمان بالله واليوم الآخر ، وإبطان الكفر والضلال ، ومخادعة الله ، مع أن الله عالم بهم لا تجوز عليه مخادعتهم ، وليس خداعهم إلا وبالا عليهم ، قال الله تعالى :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ (١) اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ (٢) مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠)) [البقرة : ٢ / ٨ ـ ١٠].

والمنافقون قوم يثيرون الفتن والتجسس لحساب الأعداء وتأليبهم على المسلمين فهم مفسدون في الأرض ويزعمون أنهم مصلحون ، فهم لا يدركون الواقع

__________________

(١) يعملون عمل المخادع.

(٢) شك ونفاق وتكذيب.

١٤

المحسوس ، ولا يشعرون بحالهم. وإذا دعوا إلى الإيمان سخروا من المؤمنين وو صفوفهم بأنهم سفهاء ضعفاء العقول جهلاء ، وهم السفهاء في الواقع. قال تعالى :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣)) [البقرة : ٢ / ١١ ـ ١٣].

ومن صفات المنافقين : إظهار الإيمان استهزاء ، وإذا خلوا إلى شياطينهم وزعمائهم من اليهود وأهل الفساد قالوا لهم : إنا معكم. قال ابن عباس : «توجه أبو بكر وعمر وعلي ، رضي الله عنهم ، إلى عبد الله بن أبي وأصحابه من اليهود ، فلما رآهم ابن أبي قال لأصحابه : انظروا كيف أردّ هؤلاء السفهاء عنكم بمعسول القول ، فلما حضروا أخذ يمدحهم الواحد بعد الآخر في الدين والسّبق إلى الإسلام ، فقال لأبي بكر : مرحبا بالصّدّيق شيخ الإسلام ، وقال لعمر : مرحبا بسيد بني عدي الفاروق القوي في دين الله ، وقال لعلي : مرحبا بابن عم رسول الله وختنه (صهره) سيد بني هاشم ، ثم قال لأصحابه بعد أن انصرف هؤلاء الصحابة : كيف رأيتموني فعلت؟ فأثنوا عليه خيرا (١) ، فأنزل الله : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ (٢) قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٣) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) [٢ / ١٤ ـ ١٦]

ثم ضرب الله مثلين للمنافقين :

__________________

(١) قال السيوطي : هذا الإسناد واه جدّا.

(٢) انصرفوا إليهم وانفردوا معهم.

(٣) أي يتحيرون يترددون في تجاوزهم الحدّ وغلوهم في الكفر.

١٥

المثل الأول شبّههم بحال جماعة استضاؤوا بنار زمنا يسيرا ثم أطفأها الله.

والمثل الثاني صوّر انتهازيتهم وشبّههم بحال جماعة أصابهم مطر غزير ، وفرحوا بالبرق والنور وقتا ما ، ثم وقعوا حيارى مبهوتين حينما أظلم الأفق. فقال تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً (١) فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ (٢) عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ (٣) مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ (٤) كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا (٥) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)) [البقرة : ٢ / ١٧ ـ ٢٠].

إثبات الألوهية ورسالة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

أوضح القرآن الكريم الفرق بين عبادة المؤمنين وعبادة المشركين ، أما المشركون الذين يتخذون مع الله إلها آخر من الأصنام والأوثان ، فيعبدون ما لا يضرّ ولا ينفع ، ولا يغني من الحق شيئا ، ويتركون عبادة الله الرّب الذي خلقهم ، وخلق آباءهم من قبل ، وأوجد هذا الكون ؛ سماءه وأرضه ، برّه وبحره ، فهل يليق بهم أن يتخذوا أندادا أو أمثالا لله عزوجل ، مع أنه خلقهم وأمدّهم بنعم لا تعدّ ولا تحصى؟! أما المؤمنون فيتميزون بالعقل والبصيرة ، والوفاء وعرفان الحق والجميل ، ففي عبادتهم لله وحده تتحقق عبوديتهم المطلوبة لله ، ومحبّتهم إياه ، وتقواهم واستقامتهم على النّهج الصحيح ، وشكرهم لربّهم الذي جعل لهم الأرض ممهدة للإقامة عليها

__________________

(١) أوقدها.

(٢) خرس لا ينطقون.

(٣) كمطر.

(٤) يستلبها.

(٥) وقفوا وثبتوا في أماكنهم متحيرين.

١٦

مع أنها تتحرك وتدور ، وجعل السماء كالقبة تظلّهم بالخير والبركة ، وهي بناء محكم مع ما فيها من ملايين النجوم والكواكب ، وعوالم الأفلاك والأجرام السماوية ، لا يسقط منها شيء ، ولا يختلّ لها نظام ، وأنزل الله لخير العباد في صحتهم وزراعتهم ماء مباركا طيّبا ينبت به لهم الكلأ والزرع والشجر ، ويغسل الجو من الغبار والجراثيم ، فإله خالق هذا شأنه ، ومنعم متفضل هذا ديدنه ، هو المستحق للعبادة والخضوع والانقياد له ؛ لأنه مصدر الخلق والتكوين والرزق.

قال الله تعالى دالّا على ألوهيّته : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً (١) وَالسَّماءَ بِناءً (٢) وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً (٣) وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢)) [البقرة : ٢ / ٢١ ـ ٢٢].

ثم أثبت الله صحة رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما أنزل الله عليه من معجزة القرآن ، وأن القرآن معجز ، وأنه من عند الله ، ودليل إعجازه : أن الله تحدى العرب الذين نزل بلغتهم أن يأتوا بسورة تماثله في البلاغة والفصاحة ، ومتانة التشريع الصالح لكل زمان ومكان ، ومطابقته لمكتشفات العلوم المختلفة ، وإخباره بالمغيبات في الماضي والمستقبل. فإذا شك إنسان في أن القرآن ليس من كلام الله فليأت بمثله ، والقرآن كلام عربي من جنس ما يتكلم به العرب في خطبهم وأشعارهم وكلامهم العادي ، وهم فرسان البلاغة والفصاحة ، وأعلام البيان. وإذا عجزوا عن الإتيان بمثل سورة من القرآن ، وهم عاجزون إلى الأبد ، فليرجعوا إلى الحق ، وليؤمنوا بمحمد وبما أنزل الله عليه من القرآن ، وفي ذلك وقاية لهم من النار. قال الله تعالى مبيّنا إعجاز القرآن وإثبات رسالة النّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ

__________________

(١) بساطا للاستقرار عليها.

(٢) سقفا مرفوعا.

(٣) أمثالا من الآلهة تعبدونها.

١٧

وَادْعُوا (١) شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤)) [البقرة : ٢ / ٢٣ ـ ٢٤].

فائدة ضرب الأمثال للناس

يحرص القرآن الكريم على توضيح المعاني الدينية وأصول الإيمان بإيراد الأمثال والتشبيهات بالأمور المادية المحسوسة ، لترسيخ المعاني في الأذهان ، فإن كان المضروب له المثل عظيما كالحق والإسلام ضرب مثله بالنور والضياء ، وإن كان ضعيفا حقيرا كالأصنام ، ضرب مثله بما يشبهه كالذباب والبعوض والعنكبوت ، فيكون المثل لكشف المعنى وتوضيحه بما هو معروف مشاهد لا سبيل إلى إنكاره.

فأما المؤمنون الذين في قلوبهم نور ، فيهديهم الله إلى التصديق بأن هذا كلام الله ، ويكون جزاؤهم جنان الخلد ، والاستمتاع بنعيمها ، ففيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين ، وفيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فيها أنهار جارية تحت الأشجار ، وفيها الثمار اليانعة الشهية مما لم يروه في الدنيا أبدا ، وإن كان متشابها ليأنسوا به ويأكلوه ، وفي الجنة حور عين ، مقصورات في الخيام ، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جانّ ، مطهرات من كل دنس ورجس كلحيض والنفاس وشرور النفس والهوى ، قال الله تعالى :

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥)) [البقرة : ٢ / ٢٥].

__________________

(١) أحضروا آلهتكم ونصراءكم.

١٨

وأما موقف الكفار الجاحدين من أمثال القرآن ، فهم في حيرة من أمرهم ، فيتعجبون ويقولون : ماذا يريد الله بهذا المثل؟ ككل متخبّط لا يدري ماذا يفعل. قال ابن عباس : لما ضرب الله سبحانه هذين المثلين للمنافقين ، في قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) [البقرة : ٢ / ١٧] وقوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) (١) قالوا : الله أجل وأعلى من أن يضرب الأمثال ، فأنزل الله هذه الآية : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً)

وقال الحسن وقتادة : لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه ، وضرب للمشركين المثل ، ضحكت اليهود ، وقالوا : ما يشبه هذا كلام الله ، فأنزل الله هذه الآية :

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧)) [البقرة : ٢ / ٢٦ ـ ٢٧].

فالتمثيل بالبعوضة ونحوها ضلّ به كثير من الناس ، واهتدى به كثير من الناس ، ولا يضلّ به إلا الخارجون عن طاعة الله ، الذين ينقضون ما عاهدوا الله عليه من الإيمان بمحمد والتصديق به ، وهمّ هؤلاء الضّالّين الإفساد بين الناس ، وإثارة الفتن والشكوك ، وقلب الحقائق ، وتصديع جبهة الأمة الداخلية ، والتآمر مع الأعداء ، إذ لا مبدأ عندهم يردعهم عن موالاة الأعداء ، فخسروا الدنيا بافتضاحهم والآخرة بغضب الله عليهم ، وذلك هو الخسران المبين.

__________________

(١) أي كالمطر الكثير الغزير.

١٩

بعض مظاهر قدرة الله

يناقش القرآن الكريم أولئك الكفار الذين أنكروا ربوبية الله تعالى مرة بعد مرة ، لأن موقفهم وحالهم مدعاة للعجب والاستغراب ، والله تعالى يريد أن يرشدهم إلى سواء الصراط ، ويدلهم على طريق النجاة ، وطريق الإقناع بسيط مادي محسوس ، مأخوذ من الواقع القريب المشاهد ، ومن التأمل في وضع الإنسان ومراحل تغيره وانتقاله من عالم إلى عالم آخر.

فلو فكر الإنسان في نفسه وبمقتضى فطرته الصحيحة السوية ، لعرف أن سبب وجوده في هذا العالم هو قدرة الله ، وأن الله أنعم علينا بنعمة الوجود ، ووهب لنا عقلا ، وكرّمنا فجعل حدّا لآجالنا ، وتركنا أحرارا في هذه الحياة لنعمل بقناعة ووعي بما يرضي الله ، ويحقق الخير لأنفسنا وأمتنا ، ثم نرجع إلى الله ليجزي كلّا منا على ما قدّمت يداه ، ويحاسبنا على النّعمة التي أنعم بها علينا. قال ابن عباس وغيره من المفسرين : كنتم أمواتا معدومين قبل أن تخلقوا ، ثم خلقتم وأخرجتم إلى الدنيا ، فأحياكم ، ثم أماتكم الموت المعهود ، ثم يحييكم للبعث يوم القيامة. فهناك إماتتان ، وإحياءان ، الإماتة الأولى قبل الوجود في الدنيا ، والإماتة الثانية بعد الحياة ، والحياة الأولى بعد الولادة ، والحياة الثانية بعد البعث يوم القيامة ، قال الله تعالى : (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) (١) (١١) [المؤمن : ٤٠ / ١١].

وقال الله سبحانه :

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨)) [البقرة : ٢ / ٢٨].

__________________

(١) أي خروج من نار جهنم.

٢٠