مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٥٩

الآية كثيرة ، يأتي بيانها إن شاء الله تعالى.

ويمكن أن يكون هذا الدعاء منهم مع كونه من الرحمة الخاصة بهم دعوة منهم إلى أن يجعل الله تبارك وتعالى غيرهم ـ المستأهلين لهذا المقام ـ مشمولين لهذا الدعاء.

وهذا هو دأب أولياء الله تعالى في دعواتهم ، حيث لا يخصّون أنفسهم بدعاء خاص ، بل يعمّونه لغيرهم. فيسقط نزاع بعض المفسّرين في أن الدعاء خاص أو عامّ ، إذ لا تنافي بين الخصوص والعموم بالنسبة إليهم ، بأن يكون الخاص منشأ لحصول العام بالنسبة إلى غيرهم.

الثالث : يستفاد من الآية الشريفة أن عدم زيغ القلب أعمّ من الهبات المعنوية والإفاضات السماويّة ، فيمكن أن يستجاب منهم دعاء عدم زيغ القلب ، وتبقى الإفاضات المعنوية (أي الرحمة الخاصة) بعد ، ولذا قالوا : (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً).

وبعبارة اخرى : عدم زيغ القلب أعمّ من هبة الرحمة ، التي هي كالأرض التي هي معدّة لكلّ نبات وزرع ، فيستمطرون منه تبارك وتعالى ويستوهبون منه أنحاء النباتات المعنوية والأثمار الحقيقيّة في هذه الأرض ، اعني القلب الذي خلا عن جميع الشوائب والأوهام.

الرابع : يستفاد من تكرار الخطاب في قوله تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) ، الحصر الحقيقي ، لأنهم يرون انحصار جميع الهبات فيه تبارك وتعالى ، وهذه إشارة إلى قول : (لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم).

الخامس : يستفاد من هذه الآية الشريفة أن علم الراسخين في العلم يدور مدار علم المبدأ والمعاد ، فعندهم المرتبة القصوى من علم المبدأ والمعاد ، وفيهما تنطوي سائر العلوم التي تقع في طريق استكمال النفس الإنسانية الكاملة ، التي هي أكبر حجّة لله تعالى في أرضه ، وخلقت الدنيا والآخرة لأجلها ، وفيهما تنطوي الفلسفة العلميّة والعمليّة ، التي هي أعظم المباني العقليّة وأجلّها ، وأكثرها أبوابا وفصولا ، بحيث جعل كلّ منها علما مستقلا برأسه.

٨١

السادس : يستفاد من مجموع الآية الشريفة الواردة في شأن الراسخين في العلم ، أدب الدعاء والابتهال إليه تبارك وتعالى ، فلا بد أن يكون الداعي منقلعا من جميع الجهات الإمكانية ، ومنقطعا إلى الحقيقة الربوبيّة من كلّ جهة ، بحيث يرى نفسه فانيا تحت إرادة القدير المتعال ، كما هو شأن الراسخين في العلم ، ويمكن أن ينطبق عليهم قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) [سورة الزمر ، الآية : ١٧ ـ ١٨] ، فإن حقيقة مثل هذه الآية المباركة منطبقة على الراسخين في العلم ، ولو حدّ وعرّف الراسخون في العلم بما ورد في مثل هذه الآية الشريفة لكان حدّا حقيقيّا واقعيّا.

السابع : ربما يتوهّم التنافي بين قوله تعالى حاكيا عن الراسخين : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) ، وبين قوله تعالى حاكيا عن آدم وزوجته : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) [سورة الأعراف ، الآية : ٢٣] ، وقوله تعالى حاكيا عن إبراهيم : (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ* يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [سورة الشعراء ، الآية : ٨٧ ـ ٨٩].

والجواب : أن مثل الآيتين الأخيرتين إنما ورد لبيان إظهار ذل العبودية والتذلّل بالحقّ لدى المعبود المطلق ، فيكون مثل هذه الآيات وما فى سياقها من السنّة الشريفة وارد في مقام الإخبار عن الشيء بداعي ذل العبودية المحضة ، لا بداعي وقوع المخبر به في الخارج ، وهذا كثير شائع في اللغة والعرف ، خصوصا عند أهل الذوق والعرفان ، فلا محذور في البين عند من كان متوجّها إلى خصوصيات البيان.

بحث روائي :

في الكافي : عن هشام بن الحكم قال : «قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام : يا هشام ، إن الله حكى عن قوم صالحين أنهم قالوا : (رَبَّنا لا تُزِغْ

٨٢

قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) حين علموا أن القلوب تزيغ وتعود إلى عماها ورداها ، أنه لم يخف الله من لم يعقل عن الله ، ومن لم يعقل عن الله لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة ببصرها ويجد حقيقتها في قلبه ، ولا يكون أحد كذلك إلا من كان قوله لفعله مصدقا ، وسرّه لعلانيته موافقا ، لأن الله تبارك اسمه لم يدلّ على الباطن الخفي من العقل إلا بظاهر منه وناطق عنه».

أقول : هذه الرواية من أجلّ الروايات الواردة في المعارف الإلهية ، فقوله عليه‌السلام : «علموا أن القلوب تزيغ وتعود إلى عماها» ، لأنهم علموا أن الإنسان مركب من مادة وصورة ، ومن لوازم المادة والجسمانية زيغ القلوب ، فسألوا ربهم بهذا الدعاء الذي هو أكمل الدعوات بالنسبة إلى الاستكمالات الإنسانية في جميع العوالم التي ترد على الإنسان ، فعلمهم هذا من قبيل العلم باللازم بعد علمهم بالملزوم.

وأما قوله عليه‌السلام : «إنه لم يخف الله من لم يعقل قلبه على معرفة ثابتة ببصرها» ، فهو من القضايا الوجدانية التي يكون دليلها معها ويكفي تصوّرها في تصديقها ، لأن المخافة من الشيء تتوقّف على تعقّل ذلك الشيء ولو بالجملة ، فإن المخافة بلا تعقل تكون عبثا ولهوا ، ويدلّ على ذلك قوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [سورة فاطر ، الآية : ٢٨].

وأما قوله عليه‌السلام : «ويجد حقيقتها في قلبه» ، فهو من القضايا الفطرية ، لأن الاعتقاد بشيء يستلزم تصوره وتصديقه في الجملة ، وإلا فلا موضوع للاعتقاد أصلا.

وأما قوله عليه‌السلام : «ولا يكون أحد كذلك إلا من كان قوله لفعله مصدقا وسرّه لعلانيته موافقا» ، فهو من أتمّ البيان والحجّة لبيان العقيدة في شيء ، لأنه إذا كان الفعل مخالفا للقول وكان بينهما اختلاف وتناف ، لا تحصل العقيدة بذلك.

نعم ، دعوى الاعتقاد الصوري مع مخالفة الفعل للقول حاصلة ، ولكن لا أثر لها ، ويدلّ على ذلك ما تقدّم في بعض الروايات عن الصادق عليه‌السلام : «من حرم

٨٣

الخشية من الله فليس بعالم ، وإن شقّ الشعر في المتشابهات ، ومن لم يكن عمله مطابقا لقوله فليس بعالم».

وأما قوله عليه‌السلام : «لأنّ الله عزّ اسمه لم يدلّ على الباطن الخفي من العقل إلا بظاهر منه وناطق عنه» ، فهو حقّ لا ريب فيه ، لأن الظاهر عنوان الباطن وبمنزلة اللفظ للمعنى ، ويستكشف المعنى من اللفظ ، فإذا كان أصل المعنى باطنا للظاهر فكيف يتحقّق هذا العنوان؟!

وفي تفسير العياشي : عن الصادق عليه‌السلام : «أكثروا من أن تقولوا : ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ولا تأمنوا الزيغ».

أقول : ما ذكره عليه‌السلام مطابق للأدلّة العقليّة التي أثبتوها في محلّه ، من أن كلّ حادث يحتاج في البقاء إلى العلّة كما يحتاج إليها في أصل الحدوث ، فنفس الهداية الحادثة من الله تعالى بصرف الوجود لا أثر لها ما لم تكن باقية ومنشأ للأعمال الصالحة ، ويدلّ على ما قلنا ما عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحديث الآتي.

في الدر المنثور : أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وابن جرير والطبراني وابن مردويه ، عن أم سلمة : «ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يكثر في دعائه أن يقول : اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. قلت : يا رسول الله ، وأن القلوب لتتقلّب؟ قال : نعم ، ما خلق الله من بشر من بني آدم إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله ، فإن شاء أقامه ، وإن شاء أزاغه».

أقول : ليس المراد من الإصبعين ما هو المفهوم منهما ظاهرا ، بل المراد منهما قضاؤه وقدره ، وربوبيّته وتربيته ، ويكون التعبير بالإصبعين كناية عن سهولة ذلك كلّه عنده تبارك وتعالى.

بحث عرفاني :

الممكنات بأسرها ـ ومنها الإنسان الذي هو أجلّها وأشرفها ـ لا بد لها من ارتباط مع خالقها ، كما أن للخالق ارتباطا مع خلقه ، وهذا الارتباط على قسمين :

٨٤

الأول : الارتباط التكويني ، وقد أثبت أكابر الفلاسفة في محلّه ، أنه أوثق الارتباطات وأجلاها وأتمّها ، بل وأشدّها ، ومن أجل ذلك يقسم الخالق بمخلوقه ، كما يقسم الحبيب بمحبوبه ، قال تعالى : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ* وَطُورِ سِينِينَ* وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ* لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [سورة التين ، الآية : ١ ـ ٤] ، وقال تعالى : (وَالْفَجْرِ* وَلَيالٍ عَشْرٍ* وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ* وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) [سورة الفجر ، الآية : ١ ـ ٤] ، وقال تعالى : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها* وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها* وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها* وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها* وَالسَّماءِ وَما بَناها* وَالْأَرْضِ وَما طَحاها* وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) [سورة الشمس ، الآية : ١ ـ ٨]. لأن الفاعل يرى قدرته وظهوره في فعله ، فالفعل من مظاهر بروز الفاعل وتجلّياته وظهوره ، فيسعى كلّ منهما لصاحبه بما يريده تكوينا ويرضاه وما يشتهيه ، وإن شئت سمّيت هذا بتسبيح الممكنات ، كما في قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [سورة الإسراء ، الآية : ٤٤] ، فلا بأس ، وإن شئت سمّيته بالفطرة ، كما عن بعض ، فلا بأس وإن شئت سمّيته بشروق نور أزلي من الغيب المحجوب على ظلمات الممكنات ، فلا بأس. هذا كلّه بناء على ما هو المعروف بين الفلاسفة من القول بتكثّر الوجود والموجود. وهذا القسم سير تكويني متدرج في قول : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) ، وقول : (لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم).

الثاني : الارتباط الاختياري الالتفاتي الفعلي ، وعليه يدور أساس تكميل الإنسان ، ولأجله أنزلت الكتب السماويّة والقرآن المبين ، وهو غاية دعوة الأنبياء وجميع المرسلين ، وبه تقوم درجات الجنان ودركات النيران ، وعليه يدور أساس تكميل الإنسان إلى ما لا حدّ لأقصاه ولا يمكن أن يدرك مداه ، وبه يسير الإنسان في عالمي الأظلة والأنوار ، ويفرح من نسيم يفوح عن ربوع المحبوب وتلاله ، ويدرك سرّ الحياة والجمال والجلال :

أراك تزيد في عيني جمالا

فأعشق كلّ يوم منك حالا

تزيد ملاحة وأزيد تيما

فحالي فيك تنتقل انتقالا

٨٥

ومثل هذه الآية الكريمة : (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) ، والآية المباركة : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) [سورة الزمر ، الآية : ١٧ ـ ١٨]. وقال تعالى : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [سورة الحديد ، الآية : ١٢] ، والآيات المباركة الاخرى ترشد إلى هذا القسم من الارتباط ، حتّى يتّحد الارتباط التكويني مع الارتباط الاختياري ، فتزداد جوهرة النفوس الإنسانية تلألؤا وجمالا ، وتعرج إلى معارج لا حدّ لها عظمة وجلالا ، قال الله جلّت عظمته : «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» ، وإن اختلفا يصير الإنسان الذي هو من أسعد المخلوقات وأفضل الممكنات من أخسّها وأسفلها ، لأنه قطع ارتباطه مع خالقه وخالف منعمه ، وأنزل مقام نفسه حتّى في مرتبة التكوين ، قال تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٧٩] ، وقال تعالى : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٧] ، وقال تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [سورة البقرة ، الآية : ٧] ، إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

وهذا القسم من الارتباط حالي ، لا أن يكون مقاليا كما يعرفه أهل العرفان.

بحث فلسفي :

من المباحث المهمّة في الفلسفة الإلهيّة بحث المعاد ، وقد اهتمّ به الأنبياء والمرسلون وجميع الكتب السماويّة والفلاسفة والمتكلّمون اهتماما بليغا ، وأطالوا البحث فيه من كلّ جهة ، وفي المقام مباحث نستوفي الجوانب الأهم منها.

٨٦

ثبوت أصل المعاد :

يجب وجود المعاد عقلا وشرعا ، كوجوب وجود المبدأ كذلك ، والفرق بينهما أن وجوب المبدأ ذاتي ، ووجوب المعاد بالغير.

والمعاد من العود ، ووجوبه في النظام الأحسن الذي يشمل جميع العوالم عقلي ، ويمكن تقرير دليله بوجوه :

الأوّل : ما هو الأسد والأخصر بأن يقال : إن الأرواح والنفوس أبدية ، أي خالدة وباقية ، فلا حدّ لآخرها باتّفاق الشرائع السماويّة وجميع الفلاسفة ـ على ما يأتي ـ وتعطيل هذه الأبدية المطلقة وإهمالها عن كلّ شيء قبيح عقلا ، فيستحيل ذلك عليه عزوجل ، بل لا بد من إبراز مقتضيات ذواتها وخصوصياتها المحفوفة بها ، ولا يتحقّق ذلك إلا بالمعاد ، فيجب المعاد في النظام الأحسن الربوبي ، هذا بالنسبة إلى المعاد الروحاني المتّفق عليه بين الجميع.

وأما المعاد الجسماني ، فإنه يمكن تقرير وجوبه بأن يقال : إن الأرواح والنفوس في فعلها محتاجة إلى الآلات الجسمانية ، أي الجسد (القلب والبصر والسمع والرجل وغيرها) ، وإن كانت في ذاتها مستغنية عنها ، فإن الأرواح توجد متّحدة مع الجسم طول الحياة وتنفصل عنه عند الموت ، ولا بد من عود جميع آلاتها (أي الجسد) التي كانت تعمل بها بعد الموت ، لفرض تقوّم فعلها بها ، وأنها كانت مأنوسة بتلك الآلات من كلّ جهة.

وقيام غيرها مقامها باطل ، لأنه يستلزم تنعيم ما لم يصدر منه منشأ النعمة ، وتعذيب ما لم يحصل منه منشأ العذاب ، وهو قبيح عقلا ، فكيف بالنسبة إليه تعالى؟ فيثبت المعاد الجسماني.

إن قيل : لا ريب في تحلّل الأجزاء الجسمانيّة في الدنيا ، وفي عالمنا هذا ، وتبدلّ تلك الأجزاء ووصول بدل ما يتحلّل إليها في كلّ مدة ، فالبدن الموجود في سن العشرين مثلا غير ما كان في سن العشرة ، فيلزم المحذور ، أي تنعيم ما لم يصدر منه

٨٧

منشأ النعمة وتعذيب ما لم يحصل منه منشأ العذاب ، أو ترجيح المرجوح على الراجح ، فليكن البدن الموجود في عالم الآخرة كذلك أيضا ، أو يكون من غير سبق بدن أصلا.

يقال : التبدّلات الحاصلة على البدن في هذا العالم ليست تبدّلا ماديّا وصوريّا من كلّ جهة ، بل المادة الأوليّة محفوظة ، وإنما تتبدّل بعض الخصوصيات وبعض الصور ، فالمادة التي تقوم بها النعمة والعذاب محفوظة في أصلها ، فيرد العذاب والنعمة على ما صدر منه.

الثاني : الملازمة الواقعيّة الحقيقيّة بين المبدأ والمعاد ، لأن المعاد مظهر مالكية المبدأ وقهّاريته وسائر صفاته الجمالية والجلالية ، والمبدأ بدون تلك الصفات لغو محض ، بل غير ممكن ، وكذا العكس فهما متلازمان ثبوتا ، ولا يمكن التفكيك بينهما واقعا ، خصوصا بالنسبة إليه تبارك وتعالى.

الثالث : الملازمة الثبوتيّة بين التشريع والجزاء ، فإن أحدهما بدون الآخر لغو ، وهو محال عليه تعالى.

الرابع : أن إهمال تعذيب المسيئين وجزاء المحسنين قبيح في النظام الأحسن ، وهو محال على الله جلّت عظمته ، والآخرة ليست إلا دار تعذيب المسيئين وجزاء المحسنين ، فلا بد من تحقّقها ، وهذا العالم غير قابل لتعذيب المسيئين فيه ، لأنّه محدود من كلّ جهة ، وأنه ظرف الاستكمال كما يأتي.

وهناك أدلّة اخرى تدلّ على الثبوت نتعرّض لها في الآيات المناسبة إن شاء الله.

إثبات المعاد :

يمكن الاستدلال عليه بالأدلّة الأربعة : فمن العقل ما تقدّم من أدلّة وجوب وجوده ، إذ لا يعقل أن يكون شيء واجب الوجود وغير متحقّق في الخارج.

مع أن الممكنات بأسرها خلقت في طريق الاستكمال الدائم ـ لا الزائل ـ

٨٨

لفرض أبدية النفس والروح ، كما أثبتها جميع الفلاسفة ـ الطبيعيّين منهم والإلهييّن ـ ولا بد في ذلك الاستكمال من نهاية وحدّ ، سواء كان الاستكمال في الخير أم الشر ، وأن المعاد مظهر الاستكمال ونهايته ، وأن هذا العالم ظرف الاستكمال كما نراه ، فالإنسان ـ الذي هو أشرف الموجودات وخلقت الأشياء لأجله ـ يكون في مسير الكمال الذي لا بد له من مظهر ، وهو المعاد ، أي عالم الآخرة ، وإلا يلزم الخلف ، أي يكون الكمال بلا أثر ونتيجة.

وأما من الكتاب ، فآيات كثيرة ، منها قوله تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ٢٩] ، وقوله تعالى : (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [سورة الزمر ، الآية : ٧] ، وقوله تعالى : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [سورة التوبة ، الآية : ١٠٥] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وكذا جميع الكتب السماويّة ، فإن أهمّ دعوتها هي الدعوة إلى المبدأ والمعاد.

وأما السنّة ، فهي فوق حدّ الإحصاء بألسنة مختلفة شتى.

وأما الإجماع ، فإجماع جميع الأنبياء والمرسلين ، وجميع أهل الكتاب والمسلمين.

المعاد الروحاني والجسماني :

أما الأول ، أي عود الأرواح بعد انفصالها عن الأبدان إليها ، للجزاء والتعبير بالعود بالنسبة إلى الأرواح من باب الوصف بحال المتعلّق ، لفرض أن الأرواح أبدية لا تفنى.

نعم ، عند انعدام جميع ما سواه تعالى ينعدم ثم يوجد ولم يسم ذلك بالمعاد.

ولا خلاف فيه من أحد ـ ثبوتا واثباتا ـ في معاد الأرواح ، فإنهم أثبتوا أن الأرواح إما شقيّة ، أو سعيدة ، ومصير الاولى إلى النار ، بخلاف مصير الثانية ، فإنها إلى الجنّة ، ولا يعقل الفناء المحض والإهمال بالنسبة إلى الأرواح أصلا ، كما أثبته

٨٩

الفلاسفة ، بل المنساق من الأدلّة السمعية ـ كتابا وسنة ـ ذلك.

ويمكن إقامة الدليل العقلي عليه بأن يقال : إن الفناء والاضمحلال من لوازم الجسم والماديات ، لمكان تحلّل الأجزاء تدريجا ، وأما إن كان بسيطا من كلّ جهة ـ كالأرواح وجميع المجرّدات والروحانيين من الملائكة ـ فلا موضوع للفناء والتحلّل فيه ، فيبقى بعد الحدوث أبدا.

نعم ، الانعدام بمشيئة الله تعالى وإرادته شيء آخر لا ربط له بالموت والفناء ، فكلّ موجود إما أزلي وأبدي ، وهو منحصر به جلّ شأنه ، أو حادث أبدي ، وهو المجرّدات والروحانيون ، أو حادث وفان ، وهو الأجسام والماديات.

وأما كون شيء أزليا وفانيا ، فهو ممتنع للقاعدة التي تسالم الكلّ عليها من أن : «كلّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه» ، فمعاد الأرواح ممّا لا يعتريه الشك أصلا ، ومن أنكره فقد (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) [سورة النمل ، الآية : ١٤].

وأما المعاد الجسماني الذي هو مورد دعوة الأنبياء وجميع كتب السماء ، فقد أثبته جميع كثير من أكابر الفلاسفة وأعاظمهم ، حتّى من غير المسلمين.

وإنما أشكل بعض في استحالته من أنه إعادة المعدوم ، فإن الجسم لو انعدم فإعادته محال. وهذا الإشكال قديم الجذور ، فقد حكاه الله تعالى في جملة من الآيات المباركة عنهم ، قوله تعالى : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [سورة يس ، الآية : ٧٨] ، وقوله تعالى : (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) [سورة الجاثية ، الآية : ٢٤] ، وغيرهما من الآيات الشريفة.

ولكن أصل الإشكال فاسد ، لأنّه مغالطة حصلت من قياس قدرة الخالق على قدرة المخلوق ، أي الممكن ، فظنوا أن ما لا يمكن بالنسبة إلى قدرة المخلوق هو غير ممكن بالنسبة إلى قدرة الخالق أيضا ، ولا ريب في بطلانه ، لأن قدرة المخلوق محدودة وقدرة الخالق غير محدودة بوجه من الوجوه ، حتّى إنه تعالى خلق الأشياء من العدم ، فليكن المعاد بالنسبة إلى الأجساد كذلك أيضا ، على فرض تحقّق العدم

٩٠

بالنسبة إليها ، مع أنه لا يمكن لفرض بقاء المواد الأوّلية ، وإنما تغيّرت الصور والجهات الخارجيّة ، ولذا قال تبارك وتعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة الروم ، الآية : ٢٧] ، فالذي يصوّر مادة المواد والهيولى الاولى إلى صور شتى بأكمل الصور وأحسنها ، يقدر على كلّ ما شاء وأراد ، وهو قادر على أن يعيد جميعها.

وثانيا : أن استحالة إعادة المعدوم لا تختصّ بالمعاد الجسماني ، بل تجري في جميع الممكنات حتّى الأرواح ، بل مطلق المجرّدات ، لانعدامها قبل يوم القيامة ، قال تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [سورة غافر ، الآية : ١٦] ، مع أن المعاد الروحاني متّفق عليه بين جميع الفلاسفة ، بل العقلاء أيضا.

وثالثا : على فرض التسليم أن المحال إنما هو إعادة المعدوم بجميع خصوصياته الزمانيّة والمكانيّة وسائر الجهات ، لا خصوص المادة والصورة ، مع عدم ملزم لإعادة سائر الجهات ، وأنهما محفوظان في عالم القضاء والقدر ، اللذين هما أوسع العوالم الربوبيّة ، بل يمكن أن يكونا محفوظين في الأذهان السافلة أيضا ، فلا موضوع للمغالطة أصلا.

الشبهات الواردة على المعاد :

أوردت شبهات كثيرة على المعاد ، ولكن أهمّها ثلاث :

الاولى : ما اصطلح عليها في كتب الفلاسفة والمتكلّمين بشبهة الآكل والمأكول ، وتعرّض لها بعض كتب الفلسفة الحديثة أيضا ، وهي قديمة وترجع جذورها إلى ما قبل الإسلام ، كما يستفاد من الآيات المباركة ، وحاصل الشبهة أنه إذا تورد على بدن الإنسان صور أشياء مختلفة ، كأن صار الإنسان مثلا فريسة لسبع ، وصار السبع فريسة لسبع أقوى منه ، ثم استحال الجميع إلى التراب ، واستحال التراب إلى النبات ، وصارت هي مأكول الحيوان أو الإنسان ، فكيف يمكن أن يعود بدن الإنسان الذي تواردت عليه صور شتى في المعاد ، وهل يعاد

٩١

بالبدن الأولي والهيكل الأصلي للإنسان ، والمفروض انعدامه بالكلية؟ أو بالصورة العارضة عليه ، فيلزم أولا أن لا يعود البدن أو الجسم الموجود في دار الغرور في عالم الحشر والنشر ، وهو خلاف ما تقدّم من الأدلّة الدالّة على إثبات المعاد الجسماني.

وثانيا : يلزم تنعيم من لم يصدر منه فعل الطاعة ، وتعذيب من لم يصدر منه منشأ العقاب ، وهو باطل بالضرورة ، وهذا هو أصل الشبهة.

ولكنها باطلة ، لما تقدّم من أن الصور التي تعرض على الشيء وتتغيّر لا تنافي بقاء المواد الأولية لذلك الشيء ، فهي باقية ومحفوظة وإن تبدّلت الصور العارضة عليها وحصلت التطورات ، لكن المادة الأوّلية باقية ، نظير المضغة التي تكون في مصير الاستكمال الإنساني ، فهي موجودة في الإنسان وإن بلغ من العمر ما بلغ ، ولكن تتبدّل عليها الحالات والصور الكثيرة ، والمعاد الجسماني أيضا كذلك ، فيكون التعذيب واردا على من صدر منه فعل المعصية ، والتنعيم على من صدر منه فعل الطاعة ، وهو باق وإن عرضت عليه صور كثيرة.

مع أن العلم الحديث في التجزئة والتحليل تمكّن من تجزئة المواد في الجسم ، وامتياز المواد الحيوانية عن النباتية ، وهما عن غيرهما ، فكيف بقدرته تعالى؟! ولا فرق في ذلك بين أن يكون الآكل هو الحيوان أو يكون إنسان آخر ، كما لو أكل إنسان إنسانا آخر ، فالجواب في الجميع واحد.

وأصل الشبهة ناشئة من تحديد قدرة الخالق وقياسها على قدرة المخلوق ، مع أن قدرة المخلوق أمكنها السيطرة على حفظ المواد الأولية في الجسم وامتيازها عن غيرها ، بل ونموها كما عرفت ، وهذه الشبهة مقرّرة في القرآن الكريم بنحو الإجمال ، قال تعالى : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [سورة يس ، الآية : ٧٨] ، وقال تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ* بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) [سورة القيامة ، الآية : ٣ ، ٤].

٩٢

الثانية : أن المعاد إنما هو لتعذيب الأشقياء وتنعيم السعداء ، وهذه النتيجة يمكن أن تحصل في هذه الدنيا وفي هذا العالم ، فلا يحتاج إلى التعذيب في عالم الآخرة ، فيعذب الله تعالى الأشقياء في هذه الدنيا حتّى يرد الجميع إلى عالم الآخرة بلا منشأ للعقاب ، فيردون الجنّة بغير حساب ، فيكون التعذيب في هذا العالم بمنزلة التوبة الممحاة للذنوب ، وهذه الشبهة كثيرة الدوران في الفلسفة الحديثة.

ولكنها باطلة ... أولا : لأن الله تبارك وتعالى جعل للذنوب في هذه الدنيا ما يوجب محوها وإزالتها ، كالحدود والتعزيرات والدّيات والكفّارات والتوبة والاستغفار والتكفير ، قال تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) [سورة النساء ، الآية : ٣١] ، فأي إنسان عمل بذلك ، فلا ذنب له فيتحقّق التعذيب في هذا العالم بالحدود والتعزير والديات وغيرها ، فلا موضوع لهذه الشبهة ، فإن الله تعالى أجلّ من أن يعذب العاصي مرتين.

وثانيا : أن كثيرا من المعاصي في هذه الدنيا ناشئ من سوء السريرة وفساد الطينة اقتضاء ، وهذا العالم بزمانه وزمانياته قاصر عن تعذيب مثل هذه السريرة ، لأن هذا العالم متناه ، والسريرة فيها اقتضاء عدم التناهي ، فلا بد وأن يؤجل إلى عالم الآخرة.

وثالثا : أن هذا العالم ظرف الاستكمال في جميع الجهات ، والتعذيب مناف له ، نعم بعض آثار الذنوب تظهر في هذه الدنيا ، وأنها من الآثار الوضعية ، ولا ربط لها بالتعذيب والمعاد.

الثالثة : المعاد الجسماني مستلزم للتناسخ الباطل ـ كما سيأتي ـ فيكون المعاد الجسماني باطلا كذلك ، خصوصا بعد اشتمال الأدلّة السمعية على حشر بعض أفراد الإنسان بصورة بعض الحيوانات.

والجواب عنها : أن المعاد الجسماني ليس من التناسخ في شيء ، وبينهما تباين كلّي ، لأن التناسخ الباطل عبارة عن انتقال الروح من بدن في هذا العالم إلى بدن

٩٣

غيره ، كلّ منهما في عرض الآخر ، وأما بقاء الروح إلى عالم آخر طولي وتغيير بدنه حسب المقتضيات والملكات ، فلا ربط له بالتناسخ أصلا ، بل يكون المقام نظير ما إذا ابتلى بدن الإنسان بمرض ، بحيث زالت محاسنه وذهبت هيئته وصفاته بالمرّة لأجل الجهات الخارجيّة مع بقاء روحه ، فكم من شخص كان في غاية الجمال في شبابه فصار قبيحا في هرمه وشيخوخته ، وكم مرغوب إليه في سن فصار مرغوب عنه في سن آخر ، وهكذا فالمعاد الجسماني من هذا القبيل. هذا فيما إذا تغيّر البدن في عالم الحشر ، وأما إذا لم يتغيّر فلا موضوع للشبهة أصلا.

٩٤

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣))

الآيات المباركة مرتبطة بما قبلها ، حيث إنها ختمت بذكر اليوم الذي لا ريب فيه ، فقد ذكر فيها بعض خصوصيات ذلك اليوم ، وهي أن أعمال الكافرين لا تغني عنهم شيئا ، وأن مصيرهم إلى النار ، بل هم وقودها ، بلا اختصاص في ذلك بالذين كفروا بدعوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل يعمّ جميع الكفّار الذين كفروا بأنبيائهم.

وقد أعلن سبحانه وتعالى أنهم مغلوبون في هذه الدنيا ، ويحشرون في الآخرة إلى النار.

كما أنهم رأوا بأنفسهم ما وقع بين الفئتين المؤمنة والكافرة ، من نصرته تعالى الفئة المؤمنة منهما على الكافرة.

والآيات الشريفة تتضمّن نداء حقيقيّا واقعيّا صادرا عن الحقّ الواقع الذي لا مرية فيه ولا شكّ يعتريه ، وهو أن المخاصمة مع الله جلّ جلاله ليس فيها إلا الهلاك والخسران ، ولا يعقل أن تتدارك بشيء ممّا هو في ذاته وحدوثه وبقائه محتاج إليه جلّت عظمته. وأن الكفر به تعالى سواد شديد وظلمة مهلكة ، لا يمكن محوهما أزلا ولا أبدا ، إلا بالخروج من تلك الظلمة إلى الإيمان والنور في دار الدنيا وعالم الغرور.

ويقرع هذا النداء مسامع الملكوت الأعلى وعقول ذوي الألباب من أهل الدنيا.

٩٥

التفسير

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً).

تقدّم معنى الكفر وأقسامه ، والمراد منه في المقام إنكار المبدأ أو الشرك به ، أو إنكار المعاد ، أو إنكار دعوة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبين جميع ذلك تلازم في الجملة ، فإن إنكار المبدأ ملازم لإنكار النبوّة والمعاد ، وإنكار النبوّة مستلزم لإنكارهما أيضا ، لأن الاعتقاد بالمبدأ والمعاد لا بد أن يكون من طريق شريعة سيد المرسلين.

والغناء عدم الحاجة ، وهو من الأمور التشكيكية ذات الإضافة ، فالغني المطلق ـ ذاتا وصفة وفعلا ـ منحصر به تعالى ، قال تعالى : (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) [سورة محمد ، الآية : ٣٨] ، وقال تعالى : (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [سورة الحديد ، الآية : ٢٤].

ويطلق على الغني بالذات والمحتاج بالفعل ، ويمكن أن يتصوّر ذلك في المجرّدات ، فإنها في مرتبة ذاتها خالية عن الاحتياج إلى المادة ، لكن في مرتبة الفعل محتاجة إليها ، وإن كان فيها أيضا أشدّ الاحتياجات وهو الإمكان ، فكلّ ممكن محتاج ، كما أن كلّ محتاج ممكن.

ويطلق على غناء النفس ، الذي هو عبارة عن قلّة الحاجات ، ومنه قوله تعالى : (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) [سورة الضحى ، الآية : ٨] ، وفي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الغنى غنى النفس».

كما يطلق على الأموال التي يكتسبها الإنسان ، كقوله تعالى : (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ) [سورة النساء ، الآية : ٦] ، وقوله تعالى : (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) [سورة النور ، الآية : ٣٢].

والمراد منه في المقام القسم الأخير فقط ، كما يأتي.

٩٦

والمعنى : أن الذين كفروا بالله تعالى وبنبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله لا تنفعهم ولا تنجيهم أموالهم التي يبذلونها لجلب منافعهم ودفع مضارهم الدنيوية ، ولا أولادهم الذين يتناصرون بهم في دفع ملمّاتهم ويعولون عليهم في الخطوب والشدائد الدنيوية من عذاب الله شيئا ، لفرض نفاذ المال واضمحلاله ، وحدوث النفرة بين الآباء والأولاد ، كما قال تعالى : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [سورة عبس ، الآية : ٣٤ ـ ٣٧] ، فلا ينفعهم اعتقادهم بأن قالوا : (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [سورة سبأ ، الآية : ٣٥] ، وقد أنكر سبحانه وتعالى ذلك عليهم وردّهم بقوله جلّ شأنه : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) [سورة سبأ ، الآية : ٣٧].

فالمراد من الإغناء هو الإغناء عن أهوال الآخرة وشدائدها ، والإضافة المالية تنقطع بمجرّد الموت ، وتنتقل إلى الغير ، فتكون هذه القضية من المنتفية بانتفاء الموضوع.

نعم ، لو أنفق ما له في سبيله تعالى يكون باقيا إلى الأبد وينتفع به المنفق ، قال تعالى : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) [سورة البقرة ، الآية : ١١٠] ، وهو مفروض العدم لفرض الكفر وعدم الإيمان.

وأما الأولاد ، فلا يذكرون آباءهم في شدائد الدنيا فضلا عن أهوال العقبى : (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) [سورة الحج ، الآية : ٢] ، فلا منجى من تلك الأهوال والشدائد إلا بالإيمان والعمل الصالح فقط ، لانقطاع الإضافات في شدائد الدنيا ، فضلا عن شدائد الآخرة التي لا تناهي لشدّتها ولا حدّ لمدّتها.

٩٧

قوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ).

الوقود الحطب أو ما توقد به النار وتلتهب ، وفي التعبير بالوقود بالنسبة إلى الكفّار إشارة إلى أنهم بمنزلة المادة والأصل لتعذيب سائر أهل النار ، كما أن الوقود في هذا العالم يكون أصلا ومادة للإحراق وسائر الأشياء المستفادة من النار ، كذلك الكفّار في تعذيب أهل النار ، قال تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٩٨] ، وقال تعالى : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) [سورة الجن ، الآية : ١٥].

قوله تعالى : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ).

الدأب العادة المستمرة أو السير الدائم ، قال تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) [سورة إبراهيم ، الآية : ٣٣] ، ويطلق على الجدّ والاجتهاد أيضا من باب الملازمة ، قال تعالى محكيا عن تأويل يوسف لرؤيا الملك : (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً) [سورة يوسف ، ٤٧].

والآية المباركة مثال لكل جبّار عنيد ، كذب بآيات الله تعالى بعد تمامية الحجّة عليه ، فتشمل جميع الأقوام الذين كانوا في الدنيا والذين سيأتون إليها إلى آخر فنائها.

والذنب مؤخّر الشيء واستعمل في النصيب أيضا ، قال تعالى : (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) [سورة الذاريات ، الآية : ٥٩] ، ويطلق على كلّ فعل يستوخم عقباه ، ولذلك يسمّى الذنب بتبعة ، كما ورد في كثير من الدعوات لما يتبع الإنسان من عواقب الفعل ، قال تعالى : (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) [سورة الأنفال ، الآية : ٥٤] ، وقال تعالى : (أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٠٠].

والذنب على أقسام كما يأتي ذكرها في الآيات المناسبة ، والمراد به في المقام الذنب الذي يرفع الحجّة ويغلق باب التوبة ، فلا تقوم الساعة إلا على شرار خلق

٩٨

الله تعالى كما في الأحاديث.

والمعنى : أن الذين كفروا بدعوة النبيّ وأنكروا الشريعة دأبهم كدأب قوم فرعون مع موسى عليه‌السلام ، ودأب من قبلهم من الأمم ، كذبوا بآيات الله وحججه فاستولت عليهم ذنوبهم فأهلكهم الله ونصر الرسل ، والله شديد العقاب بالنسبة إلى الكفّار أو الذين علموا بالحقّ الواقع وأنكروه.

قوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ).

الخطاب متوجّه إلى سيد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل في الواقع متوجّه إلى كلّ نبي أو ولي من أولياء الله تعالى وأنبيائه الذين يستضعفون في الأرض بكلّ نحو من الأنحاء ، ومع ذلك لهم قدم راسخ في إظهار الحقّ وإعلاء كلمته.

مادة (ح ـ ش ـ ر) تأتي بمعنى الجمع والسوق وحيث إن الجلاء عن المحلّ والخروج عن المقر يستلزم الحركة ، سمّي ذلك حشرا ، ويقال ذلك في الجماعة غالبا ، سواء كان الحشر في الدنيا كما في قوله تعالى : (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) [سورة الشعراء ، الآية : ٥٣] ، وقال تعالى : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ) [سورة النمل ، الآية : ١٧] ، أم في الآخرة مثل قوله تعالى : (وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) [سورة الكهف ، الآية : ٤٧] ، واطلق (الحاشر) على سيد الأنبياء ، ولعلّه لتنزيل هذا الفرد العظيم منزلة الجماعة ، أو لأن الناس يحشرون خلفه ، وعلى ملّته يسوق الناس إلى المحشر ، فإنه آخر الأنبياء وأوّل فيض السماء ، فيقوم على قدميه بين يدي الله جلّ جلاله والناس مصطفون خلفه ، فيسوقهم إلى موازين العدل والحساب وتعيين الجزاء بالثواب والعقاب ، ومادة (بأس) من المواد المستعملة في الذمّ بجميع هيئاتها ، اسما وفعلا.

والمعنى : قل للكافرين من اليهود وغيرهم من الكفّار : إنكم ستغلبون وتقهرون في هذه الدنيا وتساقون في الآخرة إلى النار وبئس المهاد ، لما مهدتموه لأنفسكم.

٩٩

وفي الآية بشارة إلهية للمسلمين بالغلبة الواقعيّة الحقيقيّة لهم ولأنبياء الله وأوليائه والمتّقين ، وإن كان لأعدائهم الغلبة الاعتقاديّة الوهمية الزائلة ، لاقتضاء الدنيا على الوهم والخيال.

ووعد منه عزوجل بحفظ دينه من كيد الكفّار وشبه المعاندين وأضاليلهم ، فيكون مضمونها مثل قوله تعالى : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) [سورة التوبة ، الآية : ٣٢] ، وغيرها من الآيات الكريمة التي تبشّر المؤمنين بالنصر والغلبة ، فتكون هذه الآية من المغيّبات القرآنيّة ، وهي كثيرة. ويصحّ أن يراد بالغلبة المعنى العام منها ، الشامل للغلبة الخارجيّة في الدنيا والآخرة ، والغلبة في الاحتجاج كما هو كذلك في الواقع ، والآية تشير إلى أمر طبيعي ، وهو الصراع بين الحقّ والباطل ، والتي هي من السير الاستكمالي للطبيعة الإنسانيّة ، كما أشرنا إليه مرارا ، وسيأتي في الموضع المناسب إقامة البرهان عليه.

ويستفاد من هذه الآية الشريفة عدم شمول الشفاعة للكافرين ، فيكون معنى قوله تعالى : (وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ) الحشر إلى جهنم والدخول فيه ، سواء غلبوا أم لا ، لأن حيثيّة الكفر تعليلية ، لا يمكن تخلّف المعلول عنها ، كما برهن في محلّه.

قوله تعالى : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا).

تحذير للذين كفروا وإنذار لهم بعدم الإصرار على اللجاج والمعاندة ، وعدم الاغترار بالعدد والعدّة. ودعوة للمؤمنين للاعتبار والتفكّر فيما منّ الله تعالى عليهم بالنصر والغلبة وتأييدهم مع ما هم عليه من القلّة في العدد والعدّة ، وتصرّفه في الأبصار وجعل الفئة القليلة كثيرة في أعين الأعداء ، فكان ذلك شارقة من شوارق الأنوار الربوبيّة على أصحاب بدر ونصرتهم على الكفر والجهالة ، وبها تنفس صبح السعادة وانطوى بساط الشرك والجهالة ، فخرجوا منتصرين في هذه الواقعة قد رفعوا راية الإسلام وزعزعوا أركان الشرك والطغيان ، وقد شدّوا على العزائم وأذعنوا بالنهوض لطاعة الرسول القائد ، فظفروا بالنجاح والنصرة.

وقد استشهد في هذه الواقعة بدور حزنت عليهم شمس الضحى ، وارتفع أنين

١٠٠