مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٥٩

١
٢

سُورَةُ آلِ عِمرانَ

٣
٤

(الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦))

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين

والصلاة والسلام على أشرف خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين

هذه السورة تدعو الخلق إلى عبادة الله الواحد الأحد المتفرّد ، المتّصف بصفات الجمال والجلال ، كما تدعو المؤمنين إلى توحيد الصفوف والاتحاد في الكلمة ، وتحرّضهم على الصبر والمصابرة لمواجهة الأخطار وكيد الأعداء بعد انتشار الإسلام وذيوع صيته في الجزيرة والأمم المجاورة لهم ، وتحذّرهم عن الاختلاف والتفرقة ، وتنبئهم عن كيد الأعداء واتحادهم في إطفاء نور الله تعالى بكلّ ما أمكنهم.

وفي هذه السورة بيان لأصول المعارف الإلهيّة ، وما به الاشتراك بين الأديان السماويّة ، وتبيّن كيفيّة المحاجّة مع أهل الكتاب ، وترشدهم إلى قصة المباهلة مع وفد نصارى نجران.

٥

وفيها ذكر خلق عيسى عليه‌السلام الذي يشبه خلق آدم عليه‌السلام ، وإنكار كثير من أفعال اليهود والنصارى ، والردّ على مزاعمهم في أنبياء الله تعالى.

ويبيّن الله تعالى فيها حقائق دينيّة وأمورا عامّة ، تجلب السعادة لهم في الدنيا والآخرة ، ويدفع بها شبهات المعاندين وتلبيس الكافرين ، وقد أثبت لنفسه مهام الصفات العليا وما يستلزم في تدبير ملكه وتوليته لأمور المؤمنين وإحاطته بالكافرين ، وأنهى سبحانه وتعالى هذه السورة بالدعاء.

ومن وحدة الأسلوب والغرض يستفاد أنها نزلت دفعة واحدة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد أعدّ العدّة لمواجهة الأخطار المحدقة بالدين من المشركين وأهل الكتاب.

ويكفي في عظمة هذه السورة المباركة أنها ابتدأت بالتوحيد وأمهات الصفات (الحي والقيوم) ، واختتمت بالأمر بالصبر والمصابرة والتقوى والوعد بالفلاح ، فجمعت بين المبدأ والمعاد بأحسن أسلوب يأخذ بقلوب العباد ، فقد جمع الله تعالى بها بين التوحيد والنبوّة والمعاد ومراتب تكامل النفس وبدء الطبيعيّات من الله وسيرها إليه جلّ جلاله وبين القصة والاحتجاج والبرهان. كلّ ذلك ينبئ عن عظمة الحكيم الحنّان. وسمّيت هذه السورة بسورة الاصطفاء أيضا ، لأن فيها قوله : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٣٣].

وفي الآيات المتقدّمة براعة الاستهلال تتضمّن خلاصة ما يذكر في هذه السورة المباركة ، فقد أثبت سبحانه وتعالى مهام صفاته العليا وأورد عزوجل ذكر الكتب الإلهيّة ، وحذّر الكافرين عن أفعالهم وأوعدهم بالعذاب الشديد ، ثم ذكر ما هو بمنزلة العلّة لما ورد في المقدّمة. وأرشد المؤمنين إلى تذكّر آلاء الله تعالى وصفاته العليا ، التي بها يدوم العالم وينتظم نظام الخلق.

فهذه الآيات اشتملت على اصول المعارف الإلهيّة ، أما التوحيد فقوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ، وأما النبوّة فقوله تعالى : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) ، وأما المعاد ببقية الآيات المباركة.

٦

قوله تعالى : (الم).

تقدّم الكلام في الحروف المقطّعة القرآنية في أوّل سورة البقرة ، والمتحصّل منه أن الاحتمالات المتصوّرة فيها خمسة ...

الأول : أنها أسرار ورموز بين الموحي والموحى إليه ، لا يعلمها أحد حتى جبرائيل الذي هو أمين الوحي ، فإن بين كلّ ملك والخواص من وزرائه أسرارا في المخاطبة والخطاب كما هو معلوم ، بل هذا هو دأب المتيّمين من الأحباب ، وقديما قالوا إن للحبّ لغة خاصة في مقابل كلّ لغة.

بين المحبّين سرّ ليس يفشيه

قول ولا قلم للناس يحكيه

هذا في الحبّ المجازي ، وأما الحقيقي منه فلا يعقل تمديده بحدّ أبدا.

الثاني : أن المركّب منها إشارة إلى أمر مهم في الشريعة المقدّسة.

ولكن يرد عليه أن ذلك لا يكفي في الاحتجاج على أهل العناد واللجاج بل مطلق العناد ، لما ثبت في محلّه من أنه لا أثر للمجمل والرمز واللغز التي تنبو عنها الأفهام ولا يعتمد عليها الأعلام في مخاطباتهم ، فتدخل في متشابهات القرآن الكريم التي عجزت عن فهمها العقول.

الثالث : أنها اسم لنفس السورة التي بدأت بها.

ويرد عليه أن فيه من الغرابة ما لا يخفي.

الرابع : أنها ذكرت تمهيدا لإصغاء المخاطبين والسامعين.

وفيه : أنه بعيد من الحكمة.

الخامس : أنها ذكرت تجليلا للسورة ، يعني أن السورة وإن كانت فيها هذه الحروف الهجائية بحسب الظاهر ، ولكنّها مشتملة على معارف لا تحيط بها العقول ويعجز الإنسان عن الإتيان بمثلها.

وهناك وجوه اخرى ، يمكن الجمع بينها. والقول بأن تمام تلك الوجوه منطوية فيها ، وليس ذلك من شأن الآيات الكريمة ببعيد. وتمام الكلام تقدّم في أوّل سورة البقرة.

٧

قوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ).

تقدّم بعض الكلام فيه في تفسير آية الكرسي [٢٥٥ من سورة البقرة] ، ونزيد هنا : الله اسم للذات المستجمعة لجميع الكمالات الواقعيّة والادراكيّة ، والمسلوب عنها جميع النقائص كذلك ، ونفس تصوّر هذا المعنى بما ذكرناه في فرض العقل يغني عن إثبات صفات جماله وجلاله ومعبوديته المطلقة ، وخضوع ما سواه له ، ولا نحتاج إلى إقامة دليل آخر على ذلك ، فالهويّة المطلقة في الكمال المطلق مجرّدة عن كلّ قيد وإضافة ، منحصرة فيه عزوجل ، وقد روي أن عليا عليه‌السلام قال : «يا من هو ، يا من ليس هو إلا هو» ، وعرض ذلك على سيد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لعلي : «علمت الاسم الأعظم» ، نعم هو اسم أعظم لمن انقطع إليه تعالى كمال الانقطاع فتجلّى له حينئذ حقيقة أنه ليس هو إلا هو.

والحيّ القيوم بالمعنى الحقيقي لا يمكن للعقول المحدودة الاحاطة بهما ، لأنهما عين الذات المقدّسة ، والعقول قاصرة من وصول تلك الساحة العظمى ، بل الحياة في ما سواه عزوجل من المجرّدات ، وغيرها تكون شارقة جزئية من شوارق تلك الحياة.

كما أن المراد بالقيوميّة فيه عزوجل مديريّته ومدبريته وتربيته العظمى لجميع عوالم الممكنات ، قيوميّة حياة تستلزم العلم والقدرة والهيمنة والإحاطة ، لا أن تكون قيوميّة فاقدة للشعور والحياة ، كما في الأسباب الطبيعيّة التكوينيّة.

فيكون لفظ القيوم بهذا المعنى من الأسماء الخاصة به تعالى كلفظ (الله) ، ولكن لو لوحظ فيه مبدأ الاشتقاق ، وهو مطلق القيام بالشيء وعلى الشيء ، ومطلق القيوميّة يكون من الوضع العام والموضوع له العام بحسب أصل المعنى ، ولكن بحسب الإطلاق منحصر فيه عزوجل.

هذا إذا لم يحصل مثل هذه الألفاظ علما له عزوجل وإلا فيسقط أصل البحث ، ولعلّ أحد أسرار توقيفية أسمائه المقدّسة عدم تدخّل الجهات اللغوية والأدبية المتعارفة فيها ، لتكون بنفسها مرجعا وأصلا يرجع إليها ، لا أن يرجع فيها إلى غيرها.

٨

ويصحّ أن يراد من القيوم مقوّم وجود كلّ موجود حدوثا وبقاء.

كما يصحّ أن يراد به مقوّم حياة كلّ ذي حياة ، حيوانية كانت أو نباتية.

ويصحّ أن يراد به قيوم كمال كلّ ذي كمال.

والحقّ هو الأخير وسائر المعاني منطوية فيه ، ولذا عقّبه سبحانه وتعالى بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٧) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) ، لأن ذلك من شؤون حياته وقيوميّته المطلقة.

والحيّ والقيوم من أعظم الأسماء الحسنى.

والأول من أسماء الذات ، بل الثاني أيضا إن رجع إلى الحكمة التامّة التدبيرية والقدرة الجامعة التامّة ، كما يصحّ أن يكون برزخا بين اسم الذات واسم الفعل باختلاف الجهة.

وإنما ذكرهما سبحانه هنا وفي آية الكرسي [٢٥٥ من سورة البقرة] ، لأنهما دون لفظ (الله) وفوق باقي أسمائه المباركة إلا الاسم الأعظم ، بناء على كونه من مقولة اللفظ كما يظهر من بعض الروايات ، ويصحّ أن يكونا من بعض أجزائه التي من علم خصوصيات التركيب يؤثّر الأثر المطلوب.

ويمكن أن يستدلّ بهذه الآية الشريفة على وحدة المعبود ، بأن يقال إنه لا بد أن يكون حيّا قيوما ، والحيّ القيوم منحصر في واحد عقلا ونقلا ، فالمعبود منحصر بواحد كذلك.

وافتتاح هذه السورة بهذه الجملة المباركة الجامعة لجميع صفات الجلال والجمال يدلّ على كمال الاعتناء بها ، وحقّ لها أن تكون سورة الاصطفاء.

وفيها التعليل لما ورد في الآية التالية ، أي الله الذي هو واحد في ألوهيته وذو الحياة الكاملة ، والقائم على تدبير خلقه بأحسن نظام وأتم حكمة ، لقادر على أن ينزل الكتاب الفارق بين الحقّ والباطل ، ولا يخفى عليه أمر مخلوقاته ، فمن آمن بما أنزل على رسله فقد فاز ، ومن كفر فقد خاب وسيجزيه الله ، أنه عزيز ذو انتقام.

قوله تعالى : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ).

المراد بالكتاب القرآن الكريم ، والباء في (بالحق) إما في موضع الحال ، أو

٩

للمصاحبة ، أي : حال كونه بالحقّ أو مصاحبا له لا يفارقه ، ولا تعتريه شبهة ، ولا يطرأ عليه الباطل في جميع شؤونه.

ومصدقا حال آخر ، أي : حال كونه معترفا بصدق ما بين يديه ومبيّنا له.

والمراد بما بين يديه : ما تقدّم من الكتب الإلهية ، وهي التوراة والإنجيل وغيرهما.

والتنزيل : هو النزول ، وقد تقدّم في قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٥] ، كيفية نزول القرآن ، والفرق بين النزول والإنزال الذي يدلّ على الدفعة.

والآية تدلّ على صحّة نسبة الكتب الإلهية المتقدّمة إلى الوحي الإلهي ، وصدق بعض الحقائق التي ورد فيها ، وتدلّ على ذلك آيات كثيرة ، منها قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٤] ، وقال تعالى : (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٦] ، وقال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٨] ، وقال جلّ شأنه : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٤٥] ، ويستفاد من هذه الآية الشريفة كثرة عناية الله تعالى بالتوراة ، لأن جميع الكتب السماويّة ـ بما فيها القرآن الكريم ـ تشترك في اصول المعارف الإلهية التي منها الدعوة إلى المبدأ جلّ جلاله وتوحيده ونفي الأضداد والأنداد ، ومنها المعاد والعدل الإلهي ، والترغيب إلى رحمة الرحمن والتحذير من الشيطان وعداوته للإنسان ، ومن عذاب الله تعالى ، كما تذكر قصص الأنبياء وما لا قوه من الظالمين في جنب الله ونصرة الله لهم ، وتبيّن قصة ابتلاء آدم عليه‌السلام وإخراجه من الجنّة.

١٠

كما أنها تشترك في بيان مكارم الأخلاق وما يرتفع به الإنسان إلى أعلى الجنان وما ينزله إلى حضيض الحيوان ، وتشترك في بيان المستقلّات العقلية ، كجنس الإحسان وقبح الظلم ، وبيان جملة من التكوينيّات والطبيعيات.

إلا انها تختلف في بعض الفروع العملية الذي يقتضيه السير التكاملي الإنساني الذي تنوط به المصالح التشريعية ، وهذه كلّها اصول نظام التشريع التي لا بد وأن تجمعها جميع كتب السماء.

وبعبارة اخرى : أن الوحي السماوي بالنسبة إلى أنبياء الله تعالى واحد بوجود نوعي ، والتوراة والإنجيل والقرآن من أفراد ذلك النوع ، كما أن الإنسان واحد نوعي له أفراد كثيرون ، فيصحّ لنا تأسيس قاعدة كلّية وهي الاتحاد في الكتب السماويّة ، ولكن القرآن مظهر لجميعها ، فما كان منها موافقا للقرآن يكون صحيحا ومعتبرا ، وما كان مخالفا له يردّ علمه إلى أهله ، إلا إذا ثبت بدليل معتبر جهة المخالفة ، والأدلة القطعية التي أقاموها على نسخ القرآن هو إنما يكون بالنسبة إلى الجهات المخالفة ، لا المساواة والموافقة التي هي مقتضى الأصل والقاعدة فيها.

والآية الشريفة وان دلّت على صحّة نسبة التوراة والإنجيل إلى الله تعالى ، ولكن لا بد أن تكون في الجملة ، لا على نحو الكلّية والمجموع ، لدلالة آيات اخرى على وقوع التحريف فيهما ، قال تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) [سورة المائدة ، الآية : ١٣] ، وقال تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) [سورة المائدة ، الآية : ١٥].

قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ).

التوراة لفظ عبراني ومعناها الشريعة ، وتطلق على العهد القديم المتكوّن من أسفار موسى الخمسة ، التي يسمّيها اليهود بالناموس ، وهي : سفر التكوين ، وسفر التثنية ، وسفر الخروج ، وسفر اللاويين أو الأحبار ، وسفر العدد. وقد وقع الخلاف بين المؤرّخين في صحة نسبة التوراة الموجودة بين أيدينا إلى موسى عليه‌السلام ، ولا يزال

١١

كثير من اللاهوتيين يشكّون في صحّة النسبة ويرون أنها كتبت بعد عصر موسى عليه‌السلام ، وإن كان القول بأن جميع تلك الأسفار ليست من الوحي لا يخلو من غلو وإفراط في القول ، فإن فيها ما يكون منسوبا إلى موسى عليه‌السلام ، كما تشهد له الأدلة الكثيرة إلا أن المراد من التوراة في القرآن هي الحقيقيّة المنزلة على موسى عليه‌السلام بوحي من الله تعالى ، كما تدلّ عليه الآيات الكثيرة ، قال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٤] ، وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في ما يقرب من ثمانية عشر موردا مقرونة بالتجليل والتعظيم.

واختلف الأدباء في اشتقاقها ، ونحن في غنى عن ذلك بعد كونها غير عربية الأصل.

والإنجيل كلمة يونانية ومعناها (الجلوان) ، أي ما يعطى لمن يبشّر بالشيء ، أو البشرى بالخلاص ، وتطلق عند المسيحيين على الأناجيل الأربعة ، وهي إنجيل لوقا ، وإنجيل مرقس ، وإنجيل متى ، وإنجيل يوحنا ، والعهد الجديد يطلق على هذه الأناجيل الأربعة المتكوّنة من سبعة وعشرين سفرا ، تتضمّن سيرة المسيح وتعاليمه وأعمال الرسل (الحواريين) ورؤيا يوحنا اللاهوتي ، وقد اختلفوا في تأريخ كتابتها.

ولكن الإنجيل في القرآن الكريم هو الكتاب المنزل من الله تعالى على عيسى عليه‌السلام الموصوف بأنه كتاب واحد حقيقي مشتمل على النور والهداية ، وقد ورد ذكره في القرآن الكريم في ما يقرب من اثنى عشر موردا.

وقد اختلف العلماء في اشتقاق هذه الكلمة على وجوه ، ولكن كونها غير عربية الأصل يكفينا عن الخوض في ذكرها.

ويستفاد من مجموع الآيات التي وردت هذه الكلمة فيها أن الإنجيل كتاب واحد حقيقي وليس هو متعددا كما يدّعيه المسيحيون ، وأنه لم يؤمن من السقط والتحريف كالتوراة ، ويرشد إلى ذلك إفراد الاسم والتوصيف بأنه هدى للناس ، وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى.

١٢

وإنما ذكرهما سبحانه في أوّل السورة توطئة لما سيذكره من قصصهم وما يتعلّق بولادة عيسى عليه‌السلام.

ومن سياق الآية المباركة يستفاد أن التوراة والإنجيل نزلتا جملة واحدة ، بخلاف القرآن فإنه نزل تدريجيا ، حيث عبّر تعالى : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) ، وقال تعالى : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) ، كما مرّ سابقا.

إن قيل : ورد نفس التعبير في قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) ، فيدلّ على نزول القرآن جمعا ودفعة ، فيتحقّق التنافي بين الآيتين.

قلنا : لو كان النزول والتنزيل مرّة واحدة حقيقة فالإشكال وارد ، ولكن للقرآن نزولات متعدّدة كما تقدّم سابقا في قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٥] ، فمرّة نزل نجوما ومرارا نزل دفعة ، وإنما ذكره هنا تجليلا وتعظيما لمقام القرآن بالنسبة إلى سائر الكتب السماويّة.

قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ).

الفرقان : ما يفرق بين الحقّ والباطل ، وقد استعملت هذه المادة في القرآن الكريم كثيرا ، وجميعها تدلّ على تلك المعارف الإلهية والأصول الحقّة النظامية ، التي تبيّن وظيفة العبد وما هو مطلوب في مقام العبودية وإقامة العدل والحقّ ، فيشمل الكتب الإلهية وأنبياء الله تعالى والأحكام الإلهية التي تعيّن وظائف العبد ، كما يشمل العقل وكلّ أمر محكم ، ويدلّ على ذلك آيات متعدّدة ، منها قوله تعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) [سورة الأنفال ، الآية : ٤١] ، وقال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٤٨] ، وقال تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) [سورة الفرقان ، الآية : ١].

والمراد به هنا القرآن الكريم ، فهو باعتبار وجوده الجمعي يسمّى قرآنا ، وباعتبار تفرقته بين الحقّ والباطل يسمّى فرقانا ، وباعتبار إرشاداته يكون نورا ، وباعتبار كونه أساسا للعمل والحكم بالعدل يسمّى ميزانا ، وتختلف أسماؤه الشريفة باختلاف صفاته المباركة.

١٣

وقيل : المراد بالفرقان : العقل ، وقيل : الدلالة الفاصلة بين الحقّ والباطل ، وقيل : النصر ، وقيل : الحجّة القاطعة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله على من حاجّه في أمر عيسى عليه‌السلام. وفي بعض الروايات : «الفرقان هو كلّ أمر محكم ، والكتاب هو جملة القرآن الذي يصدقه من كان قبله من الأنبياء» ، ويظهر وجه جميع ذلك ممّا ذكرناه آنفا.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ).

أي : ان الذين كفروا بآيات الله وجحدوا بها لهم عذاب شديد ، وذلك لأن الكفر بآيات الله حرمان عن منبع النور والهداية والسعادة ، مع أن النفس مستعدّة لجميع ذلك ولها قابلية إبراز كلّ كمال من الكمالات الممكنة إلى الظهور ، فيكون نفس هذا الحرمان عذابا لما يتبعه من الندامة والشقاوة ، فلا يختصّ العذاب بالآخرة ، وهو ظاهر إطلاق الآية الشريفة التي توعد الكافرين بآيات الله بالعذاب في الدنيا والآخرة ، وهذا من الحقائق القرآنية التي تؤكّدها جملة من الآيات الشريفة ، فتعدّ حرمان النفس عن الكمالات التي أعدّها الله تعالى لها من العذاب ، ويعدّ المعرض عنها شقيا قد سلب السعادة عن نفسه ، فكلّ ما يكون سببا لسعادة الإنسان إذا كفر به يكون عذابا وشقاء له ، فتكون السعادة والشقاوة في نظر القرآن بسعادة الروح وشقاوتها ، وأما سعادة الجسم والبدن فهي ان أوجبت سعادة الروح فهي السعادة العظمى والكمال الأتم ، وإلا كانت شقاء وعذابا ، قال تعالى : (مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٩٧] ، فالعذاب الإلهي إنما يكون بالنسبة إلى الروح والجسم ، ولكن المهم هو الأول. وهذا بخلاف ما يراه الإنسان الذي لم يعبأ بما وراء المادة ولم يتخلّق بأخلاق الله تعالى في السعادة والشقاء ، فإنه يعتبر ما يكون سببا للاستمتاع المادي ـ كالمال والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ـ سعادة ، وما يكون بخلاف ذلك شقاء وعذابا ، وهذا مخالف لما عليه الواقع الإنساني المؤلّف من البدن والروح ، والكتب الإلهية إنما نزلت لتهذيب الروح وإسعادها ورفع شقائها ، لا خصوص سعادة الجسم فقط ، وللبحث تتمة تأتي في الموضع المناسب.

١٤

قوله تعالى : (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ).

مادة (نقم) تدلّ على إراءة الكراهة ، سواء كانت باللسان أم بالعقوبة ، وهي كثيرة الاستعمال في القرآن الكريم ، ولا تدلّ المادة بشيء من الدلالات على أن يكون الانتقام للتشفّي ، كما هو الدائر في انتقام الإنسان ، فإن الله تعالى أعزّ جانبا وأبعد ساحة من أن ينتفع أو يتضرّر بشيء من أعمال عباده. ولكن منشأ الانتقام يكون فيهم (أي المنتقم منهم) ، ويقوم بهم قيام الصورة بالمادة ، وبينهما تلازم ، ولا يعقل انفكاكهما إلا في فرض الوهم.

والمعنى : أن الله قوي شديد نافذ في إرادته ، منيع الجانب لا يرضى بأن تهتك محارمه ، ينتقم ممّن خالفها وأعرض عنها.

وما ورد في هذه الآية الشريفة معلول آخر للحياة الحقيقيّة ـ من كلّ جهة ـ والقيومية المطلقة ، ولا معنى لهما إلا إيصال كلّ ممكن إلى ما يليق به ، بعد بسط العدل والإحسان والرحمة والعفو والغفران.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ).

معلول آخر للحياة الحقيقيّة والقيوميّة المطلقة ، فإن وحدة الحيّ القيوم تستلزم الإحاطة المطلقة ، وأن لا يخفى عليه شيء ممّا سواه ، وإلا كان خلفا ولا يعقل غفلة العلّة ـ العليم الحكيم ـ عن معلوله.

ويصحّ أن يكون ما ورد في هذه الآية الشريفة كالعلّة ، أي : لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، فهو الحي القيوم.

وإنما قدّم تعالى الأرض على السماء لقربها إلى أذهان المخاطبين وانسهم بها ، وإرشادهم إلى أن أرضهم ـ التي يفعلون فيها ما يفعلون ـ تحت إحاطته الفعلية.

ويستفاد من هذه الآية الكريمة أن معنى العلم فيه تبارك وتعالى يرجع إلى أمر سلبي ، أي : لا يخفى عليه شيء لقصور العقول عن درك علمه بالمعنى الاثباتي ، لقصورها عن درك ذاته ، ويدلّ على ذلك أخبار كثيرة.

١٥

كما تدلّ الآية المباركة أيضا على العلم التفصيلي الفعلي الإحاطي لله تعالى ، وتدلّ عليه آيات اخرى ، منها قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) [سورة الحجر ، الآية : ٢١] ، وقال تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [سورة الأنعام ، الآية : ٥٩].

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ).

الصورة تطلق ... تارة على الهيئة الخاصة ، وبهذا المعنى يصحّ أن تكون من الأعراض ، كالصور المتصوّرة في الأذهان ، أو ما ينتقش على الجدران أو ما ترتسم في المرآة أو في كلّ جسم شفاف له قابلية المحاكاة. وفي العصر الحديث اتسعت دائرتها ، وهي بهذا المعنى تعمّ ما يكون له ظل كالتمثال أو ما لا ظل له.

وتطلق اخرى في مقابل المادة ، فتكون جوهرا من مقوّمات الجواهر المركبة من المادة والصورة ، ويعبّر في الفلسفة عن المادة بالجنس باعتبار الوجود الذهني ، وعن الصورة بالفصل كذلك أيضا ، وإلا فالحقيقة واحدة والتصوير إلقاء الصورة.

والرحم في الحيوان هو العضو الذي يتكوّن فيه الجنين إلى حين الولادة ومحل تربية الطفل. واستعير للقرابة باعتبار انتهاء أفرادها إلى رحم واحد. ويتضمّن معنى الرأفة والإحسان أيضا ، وبهذا المعنى يطلق على الله تعالى ، فهو الرحمن الرحيم. وفي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لما خلق الله الرحم قال تعالى : أنا الرحمن وأنت الرحم ، شققت اسمك من اسمي ، فمن وصلك وصلته ، ومن قطعك قطعته» ، ومنه يظهر معنى الحديث الآخر : «الرحم معلقة بالعرش تقول : اللهم صل من وصلني ، واقطع من قطعني» ، ومخاطبة الرحم لله تعالى ليست ببعيدة ، فإن الأشياء كلّها ـ بحقائقها الواقعيّة ـ مرتبطة مع الله عزوجل ، يخاطبها الله تعالى وتخاطبه ، ولكنها مستورة إلا على أهل البصيرة والبصائر.

١٦

وإنما خصّ سبحانه وتعالى تقدير الإنسان وتصويره بالذكر مع انه له التقدير العام في جميع المخلوقات ، لكمال العناية بالإنسان ، الذي هو أعزّ خلقه وأشرفه ، فقد ذكر تعالى تصوير الإنسان في آيات اخرى ، قال تعالى : (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) [سورة التغابن ، الآية : ٣] ، وقال تعالى : (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) [سورة الانفطار ، الآية : ٨] ، ولبيان كيفية خلق عيسى عليه‌السلام الوارد في هذه السورة والتعريض بالنصارى في ما يقولونه فيه عليه‌السلام.

وقد أبدع سبحانه وتعالى في تصوير الإنسان ، ممّا يدلّ على بديع صنعه وحكمته البالغة وعلمه الأتم ، واعتنى بجميع تفاصيله اعتناء بليغا ، وأودع فيه من الحكم والأسرار وفق قوانين منظمة تعجز عقول البشر عن الوصول إلى كنهها ومعرفة دقائقها مهما بلغوا في العلم والمعرفة ، فقد كشف العلم الحديث عن بعض جوانب تلك الأسرار والحكم ممّا يبهر العقول ويجلّ عن الوصف ، فحقيق لله تعالى أن يقول في خلق الإنسان : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [سورة المؤمنون ، الآية : ١٤] ، ويكفي جانب من تلك الجوانب وجهة من جهاته أن تكون حجّة على العباد ، وعن علي عليه‌السلام : «الصورة الإنسانية أكبر حجّة لله على خلقه ، وهي الجسر الممدود بين الجنّة والنّار».

وأما ما ورد في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ان الله خلق آدم على صورته» ،

فإن المراد صورة مخلوقة اختارها الله تعالى لنفسه ، وجعلها حجّة على عباده وسخّر لها ما في السماوات والأرض ، وليس المراد صورة الله تعالى ، لأنه يستحيل أن تكون لله صورة كما ثبت ذلك في الفلسفة العلمية ، ويدلّ على ما ذكرناه ما ورد في الحديث يشرح هذه الرواية ، وهو أنه : «سب رجل شخصا بحضور النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : قبحك الله وقبح من على صورتك ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تقل هكذا ، فإن الله خلق آدم على صورته» ، أي على صورة الرجل المسبوب ، فيكون سبّه سبّا لآدم عليه‌السلام وسائر الأنبياء أيضا.

١٧

قوله تعالى : (كَيْفَ يَشاءُ).

لفظ (كيف) يستعمل في ما فيه شبيه وما لم يكن له شبيه ، كالأبيض والأسود والصحيح والسقيم ونحوها.

و (كيف) من إحدى المقولات التسع العرضية المعروفة في الفلسفة القديمة والحديثة ، ويدخل فيه الاشتداد والتضعف لاتصافه بالحركة ، كما أن فيه الشدّة والضعف بذاتها.

وهو من ألفاظ العموم ، ولا يطلق عليه تعالى لتقوّمه بالغير كما في غيره ، وفي الحديث : «هو الذي كيّف الكيف ولا كيف له» ، وإلى ذلك تشير القاعدة التي أسّسها أئمة الدين عليهم‌السلام في المعارف الربوبية : «كلّ ما يوجد في المخلوق لا يوجد في الخالق» ، وقصارى ما يمكن القول فيه عزوجل هو : إنه تعالى شيء لا كالأشياء وذات لا كالذوات ، حتّى لا يلزم التعطيل.

وإطلاق الكيف في المقام باعتبار المخاطبة مع الناس والإنسان المخلوق وأطواره في الأرحام ، لا بالنسبة إلى الملك العلّام.

ومادة (شيء) تأتي بمعنى المشيء وجوده ، فكلّ موجود شيء وبالعكس ، ولا يطلق على العدم ، وقد أثبت الفلاسفة مساوقة الوجود للشيئية ، وقال بعض أكابرهم :

ما ليس موجودا يكون ليسا

قد ساوق الشيء لدينا ايسا

ولا يطلق بهذا المعنى على الله عزوجل ، وتقدّم في الحديث : «انه شيء لا كالأشياء».

والمشيئة بالمعنى الوصفي تكون من صفات الفعل : والفرق بينها وبين الإرادة بالكلّية والجزئية ، أو الحدوث والبقاء ، فالحدوث يسمّى مشيئة ، والبقاء والإبقاء إرادة.

بيان ذلك أن كلّ فعل اختياري صادر من الفاعل المختار لا بد وأن يسبقه امور لا يمكن تخلّف واحد منها ، كما هو الثابت بالوجدان والبرهان ، وهذه الأمور

١٨

تسمّى ب «أسباب الفعل» ، وهي :

الأول : هو العلم بالفعل ولو على نحو الإجمال ، وفي الجملة لئلا يكون من طلب المجهول المطلق الذي هو قبيح من العاقل ، بل هو محال في نفسه ، لأن توجّه النفس إلى شيء لا يتحقّق إلا بتعين ذلك الشيء في الجملة.

الثاني : المشيئة بمعنى توجّه النفس إلى طلبه إجمالا.

الثالث : التقدير ، وهو التفات النفس إلى خصوصياته كما وكيفا ومن سائر الجهات.

الرابع : القضاء ، أي : حكم النفس بإيجاده خارجا.

الخامس : إبرام هذا القضاء ، أي الاستقامة فيه وجعله بحيث لا يتخلّف.

السادس : الإرادة الموجودة للفعل.

وهذه كلّها موجودة في كلّ فعل اختياري يحصل من الفاعل المختار ، ولو كان هو الله تعالى الخالق القهّار.

نعم ، في الإنسان واقعها موجودة في النفس ومرتكزة فيها إجمالا وإن لم يعلم بها تفصيلا ، ولا يضرّ ذلك ، لأنها بوجودها الواقعي مقتضية لحصول الفعل لا بوجودها العلمي التفصيلي الفعلي.

وأما بالنسبة إلى الله تعالى فمن حيث إحاطته الوجودية فوق ما نتعقّله من معنى الإحاطة ، فإن جميع تلك الأمور موجودة ومعلومة له تعالى تفصيلا ، فهو عالم بجميع أطوار وجود الفعل وشؤونه ، بل عالم بما سواه كلّية وجزئية قبل الإيجاد وبعده وجميع مراتب التغيّرات والتبدّلات ، وكذلك هو عالم بقدره وقضائه وإمضائه وإبرامه وإرادته ـ التي هي عين فعله الأقدس ـ علما تفصيليا إحاطيا.

ويمكن تقليل ما ذكرناه من الأسباب بإدخال بعضها في البعض ، ويمكن تكثيرها بتفصيل بعضها إلى امور ، ولذا اختلفت الأحاديث الشريفة الواردة في أسباب الفعل قلّة وكثرة.

وكيف كان ، فقد وقع الكلام في أن هذه الأسباب من صفات الفاعل أو من

١٩

صفات الفعل. أما في الإنسان فيصحّ أن تعدّ من صفات الفاعل ، كما يصحّ أن تعدّ من صفات الفعل ، ولا محذور فيه من عقل أو نقل ، فيقال : فاعل مريد ، وفعل مراد ، وفاعل مقدّر (بالكسر). وفعل مقدّر (بالفتح) ، خصوصا في العلم الذي لا إشكال فيه من أحد أنه من صفات الفاعل في الخالق والمخلوق ، وكذا القدر والقضاء والإبرام ، إما باعتبار منشئهما وهو العلم الاحاطي الأكمل والحكمة البالغة ، أو باعتبار إضافتهما إلى الممكن المخلوق ، فلا ريب في كونهما من صفات الفعل.

وأما بالنسبة إليه تعالى ، فما كانت مستلزمة للتغيير والتبدّل فمن صفات الفعل ، وما لم تكن كذلك فمن صفات الذات.

وأصل الإشكال الذي ذكروه في عدم إمكان جعل المشيئة والإرادة من صفات الذات ، أن الإرادة علّة تامّة منحصرة لحصول المراد ، فإن كانت في مرتبة الذات فيلزم إما تعدّد القدماء ، أو كون الذات المقدّسة محلا للحوادث ، وكلّ منهما مستحيل. وقد اثبتوا امتناع كلّ ذلك بالبراهين المتقنة.

ولكن يمكن الجواب عن ذلك.

أولا : بأن علّية الإرادة لحصول المراد إنما تكون في الفاعل الموجب (بالفتح) ـ أي الفاعل غير المختار ـ دون الفاعل العالم المختار ، الذي تكون الإرادة فيه من المقتضيات ، كسائر أسباب الفعل فلا يلزم محذور فيه أبدا ، خصوصا في الإرادة الأزلية ، فالاختيار في الفعل والترك ، والقدرة القهّارية باقية قبل الإرادة وحينها وبعدها ، وحين حصول الفعل أيضا ، ولعلّ إحدى مصالح جعل البداء لله جلّ جلاله ترجع إلى ذلك ، حيث قال تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) [سورة الرعد ، الآية : ٣٩].

وثانيا : أنه على فرض كون الإرادة علّة تامّة لحصول المراد ، ولكن العلّية لا تكون على نحو الجزاف ، بل هي على نحو منظم بالنظام الأحسن الأكمل الأتم ، فإذا أراد جلّت عظمته خلق آدم ـ وهبوطه ، أو طوفان نوح ، وبعثة نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقيام الساعة ، وجزاء أهل الجنّة والنّار ، بل جميع العوالم الطولية والعرضية ، يكون

٢٠