مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٥٩

الله من العبد بها».

وعن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ان للقرآن ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا».

في تفسير العياشي : عن جابر قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن شيء من تفسير القرآن فأجابني ، ثم سألته ثانية فأجاب بجواب آخر ، فقلت : جعلت فداك ، كنت أجبت في المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم! فقال : يا جابر ، إن للقرآن بطنا وللبطن بطن ، وظهرا وللظهر ظهر ، يا جابر وليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن ، أن الآية يكون أوّلها في شيء وآخرها في شيء ، وهو كلام متصل يتصرّف في وجوه».

أقول : المراد من قوله عليه‌السلام : «وليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن» قبل التفحّص وردّ المتشابه إلى المحكم ، وأما بعد ذلك وتقرير العقول بالشريعة المقدّسة ، فلا بعد حينئذ ، بل أمرنا بالتعقّل والتدبّر والتفكّر في القرآن الكريم في كثير من الآيات الشريفة ، ولا معنى لكون ذلك فيما هو بعيد عن العقول ، فهو بعيد في عين كونه قريبا إلى العقول بالاعتبارين ، كما مرّ آنفا ، وهو كلام متّصل يتصرّف في وجوه.

وفي المعاني : عن حمران بن أعين قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن ظهر القرآن وبطنه ، فقال : ظهره الذين نزل فيهم القرآن ، وبطنه الذين عملوا بأعمالهم يجري فيهم ما نزل في أولئك» ، والروايات في هذا المساق كثيرة جدا ، مضمونها واحد وإن اختلفت التعبيرات الواردة فيها.

والمراد من الظهر والبطن والحدّ والمطلع التي وردت في الروايات المتقدّمة حقيقة واحدة ذات مراتب تشكيكيّة ، فالظهر أي ما يفهم من الظاهر ، فهو مرتبة منها ، والبطن أي ما يستفيده الراسخ في العلم مرتبة اخرى منها ، وكذا المطّلع أو المطلع ، فالمراتب مختلفة والحقيقة القرآنية واحدة ، ونحن في حجب عن درك تلك المراتب ، مثال ذلك : أن اللبن حقيقة واحدة ، وهو في عالم الماديات عبارة عن ما هو المعهود الذي يدر من ثدي الأنثى من الحيوان ، وفي عالم الرؤيا مثلا عبارة عن

٦١

العلم ، لأن المعروف عند أهل التعبير أن من رأى اللبن في منامه يرزق علما ، ويمكن أن يكون في عالم الآخرة شيئا آخر غيرهما ، فالحقيقة واحدة ولكن المراتب مختلفة ، فبعضها ظاهرة وبعضها غير ظاهرة.

وكذا الصلاة الواردة في القرآن الكريم كثيرا ، فإن لها حقيقة تشكيكية ، ولها مراتب ، منها القيام بين يدي الربّ بالعمل الخارجي ، ومنها القيام بين يدي الربّ بالجوهر الجسماني الخارجي ، كما يكون في أولياء الله تعالى ، ومنها بالصورة الذهنية ، ورابعة بما حصل للنبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله في ليلة المعراج بتعليم الله تعالى له مشافهة ، فيمكن حينئذ حمل البطون على مثل هذه المراتب ، والمراتب التي لم يمكن أن تظهر لنا للحجب المانعة عن الوصول إلى تلك الحقائق ، ويشهد لما ذكرنا ما في تفسير العياشي ما تقدّم عن جابر عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام.

ولا ينافي ما ذكرناه قول علي عليه‌السلام فيما مرّ : «ما من آية إلا ولها أربعة معان ظاهر وباطن وحدّ ومطلع ـ الحديث» ، وكذا قول أبي جعفر عليه‌السلام فيما مرّ من رواية حمران بن أعين ، فحمل البطون فيها على المراتب الطولية ـ كالصحابة مثلا والتابعين لهم وتابع التابعين ، وهكذا إلى يوم القيامة ـ هو أيضا صحيح ، لصحّة حمل لفظ البطن على جميع ذلك ، إذ لا فرق في ذلك بين أن يكون البطن ـ أي ما يفهم من اللفظ عرضيا ـ كما مرّ أو طوليا.

ما ورد من أن القرآن أنزل على سبعة أحرف :

وردت روايات كثيرة بطرق متعدّدة وتعبيرات مختلفة ، ولكن مضمون جميعها واحد ، منها ما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنزل القرآن على سبعة أحرف».

وعن علي عليه‌السلام : «ان الله أنزل القرآن على سبعة أقسام ، كلّ منها كاف شاف ، وهي : أمر وزجر ، وترغيب وترهيب ، وجدل ومثل وقصص».

وفي بعض الروايات : «زجر وأمر ، وحلال وحرام ، ومحكم ومتشابه ، وأمثال وقصص».

٦٢

أقول : ليس الحصر الوارد فيها حقيقيا حتى يتحقّق التنافي ، بل هو من الحصر الإضافي الاعتباري ، والمراد منها ما فسّره علي عليه‌السلام : «ان القرآن حمال ذو وجوه» ، أي يحمل كلّ وجه إن طابق الموازين الشرعية والعقلية.

ومن ذلك يعرف أن تفسيرها بالقراءة أو بالبطن ، أو تفسيرها بالأمر أو الزجر والترغيب والترهيب والجدل والقصص ـ كما مرّ ـ لا يوجب التنافي ، لفرض عدم كونها في مقام بيان التحديد الحقيقي.

بحث عرفاني :

المراد من العلم في قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ، هو العلم بالمعارف الحقّة وحقائق الأشياء التي توجب السعادة الأبدية وخروج النفس الإنسانية عن حدود الحيوانيّة والبهيميّة ووصولها إلى منتهى أوج الروحانيّة المجرّدة ، بواسطة معرفة الموحي والوحي والموحى إليه والإذعان علما وعملا ومعرفة ، حسب الإمكان ، وقد جمع ذلك كلّه في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [سورة العنكبوت ، الآية : ٦٩] ، وفي قوله جلّ شأنه : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [سورة فاطر ، الآية : ٢٨] ، وعن علي عليه‌السلام في قوله : «رحم الله امرءا عرف من أين وفي أين وإلى أين» ، وقد جمعها علماء النفس والأخلاق في قولهم : «أوّل العلم معرفة الجبّار ، وآخر العلم تفويض الأمر إليه» ، وعن الصادق عليه‌السلام : «من حرم الخشية من الله فليس بعالم وإن شقّ الشعر في المتشابهات ، ومن لم يكن عمله مطابقا لقوله فليس بعالم».

فيكون المراد بالرسوخ : الرسوخ العملي المنبعث عن العلم بالمعارف الحقّة ، حتى يدخل في قوله تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [سورة المجادلة ، الآية : ٢٢] ، فيصير القول والعمل والاعتقاد شيئا واحدا ، فتسري الروح الإيماني من القلب إلى العمل ، بل من العمل إلى القلب ، لأن

٦٣

للأعمال تأثيرات حقيقة في الملكات النفسانيّة ، فيكون من النور وفي النور وإلى النور ، قال تعالى : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [سورة الحديد ، الآية : ١٢] ، وبعبارة اخرى يصير قلبه قرآنا علميا وجوارحه قرآنا عمليا ، فلا محالة يتحقّق الرسوخ.

وأوّل المصداق الحقيقي لذلك هو خاتم الأنبياء ، قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [سورة النحل ، الآية : ٤٤] ، ثم من رباه تربية علميّة وعمليّة علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وكلماته المقدّسة في نهج البلاغة أظهر دليل لما قلنا ، ثم من ربى بهما أيضا تربية علمية وعملية فأخذوا علومهم ومعارفهم من النبيّ الأعظم وتأسّوا به في أفعاله وأذعنوا بأقواله ، فربوا في حجر الإسلام ورضعوا من ثدي الإيمان ، فرسخ العلم في أصولهم وعروقهم وقلوبهم وجوارحهم ، فجعل الله لهم نورا يمشون به في الظلمات ويرشدون به إلى سبل السّلام.

بحث فلسفي :

لا ريب في اختلاف أفراد الإنسان في مراتب إدراكاته سواء كانت القوى المدركة جسمانية (كالقوى الخمس الظاهرة أي السامعة والباصرة واللامسة والشامة والذائقة) أم معنوية كالفكر والعقل بل ان اختلاف القوى الجسمانية المدركة يعم الحيوانات وبعض النباتات بل بعض المعادن أيضا على ما ثبت في العلم الحديث وهل يكون اختلاف القوى الادراكية المعنوية في الإنسان من خصوصيات العقل المودع فيه؟ أو من النفس الناطقة؟ أو منهما معا؟ أو من شيء آخر كالبيئة والاجتماع أو المأكل والمشرب أو غيرها؟ لا يعلم ذلك غير الله تعالى ، فكلّ محتمل.

ومن ذلك ينشأ اختلاف الاستعدادات في مراتب الاستفادة وتحصيل العلوم ، ولذا ورد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : «إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر

٦٤

عقولهم». وتقدّم في البحث الروائي ما يدلّ على ذلك. هذا إذا كانت العلوم والاستفادة منها مستندة إلى أسباب وعلل ظاهرية ، كأغلب العلوم.

وأما إذا كان العلم مستندا إلى وحي السماء مباشرة ، كما في الأنبياء ، أو تسبيبا كمن يتلو تلوهم ، أي الآخذين منهم ، فلا اختلاف فيهم حينئذ ، لفرض الانتهاء إلى علم لا يعقل فيه الاختلاف أبدا ، وهو علم الله جلّ جلاله.

نعم ، الاختلاف في أصل الرسالة والنبوّة موجود ، وهو شيء آخر لا ربط له بالمقام ، قال تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٥٣]. وتقدّم الكلام في معنى التفضيل.

ومنه يظهر أن الإجمال والتشابه ونحوهما يستند إلى معنى سلبي ، وهو عدم إحاطة العقول بالواقعيات وقصورها عن دركها ، قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [سورة النحل ، الآية : ٤٤].

بحث علمي :

المحكم والمتشابه وعلم التأويل يحصل من الاستعدادات المكنونة في الإنسان المختلفة غاية الاختلاف ـ كما مرّ في البحث السابق ـ فإذا القي خطاب في مجمع أو القي درس في جامعة ، أو ألقينا مثلا سائرا بين الناس ، فمنهم من لا يتجاوز فهمه الصريح المحض ، ومنهم من يتجاوز ذهنه إلى اللوازم القريبة منه ، ومنهم من يتعدّى إلى الأكثر عمقا ويتجاوز إلى اللوازم والملزومات البعيدة أيضا ، خصوصا إذا كان الدرس من العلم الذي هو فوق المادة والمحسوس ، ويتحصّل من ذلك امور :

الأول : تحقّق تلك العناوين ، أي المحكم والمتشابه والعلم بالتأويل من الأمور الفطرية المستندة إلى الاستعداد ـ أو الدرك ـ الذي هو أمر غير اختياري ، ويختلف ذلك حسب الاستعداد ودرك الأفراد وكثرتهم وقلّتهم.

الثاني : أن المحكم والمتشابه ما كان بحسب النوع لا الشخص ، لأن ذلك هو المدار في الخطابات الملقاة على الناس ، كما أن المراد من المتشابه المستقر منه دون

٦٥

الزائل بالتعمّق.

الثالث : أنهما ـ أولا وبالذات ـ من صفات المعنى ، ثم يسريان إلى اللفظ ، فيصحّ أن يكونا من صفات اللفظ أولا وبالذات فيسريان إلى المعنى أيضا لمكان الاتحاد بين اللفظ والمعنى ، ولذا يسري حسن أو قبح أحدهما إلى الآخر ، فيصحّ البحث عنهما في مباحث الألفاظ كما يصحّ البحث عنهما في مباحث الحقائق العلميّة ، كما هو شأن كثير من المفاهيم.

وممّا ذكرنا يظهر أن الأقوال الواردة في معنى المتشابه ـ التي تتجاوز العشرة ـ كلها من باب المغالطة والاشتباه بين المفهوم والمصداق ، فقد ذكروا مصاديق المتشابه في حقيقته ومعناه ، وهو باطل لأن مصاديقه كثيرة ، كما أن مناشئه أيضا كذلك.

والبحث في المحكم والمتشابه من جهات ، نذكر الأهم منها.

مفهوم المحكم والمتشابه :

المحكم والمتشابه أو المجمل والمبيّن من المفاهيم العرفية في كلّ محاورة ولغة من اللغات ، فإن كلا منهما تشتمل على محكم ومتشابه ومجمل ومبيّن عند أهل تلك اللغة ، فيصحّ عدّ مفهوم تلك الصفات من المفاهيم المبيّنة في المحاورات.

وما هو المعروف في تعريف المتشابه : «ما لا يعرف المراد منه إلا بالقرينة» ، مثل قوله تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [سورة الفتح ، الآية : ١٠] ، لا يعرف بدوا المراد منه إلا بالرجوع إلى قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [سورة الشورى ، الآية : ١١] ، فيعرف أن المراد منها القوة والإحاطة ، أو القدرة بالملازمة ، وكذا قوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [سورة الفجر ، الآية : ٢٢] ، يعرف المراد بالرجوع إلى ما تقدّم من الآية المباركة من أنه الرحمة والغفران بالملازمة.

وكذا في المحكم من أنه : «ما يعرف المراد منه بلا استعانة قرينة» ، مثل قوله تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [سورة الحمد ، الآية : ٣] ، وقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا

٦٦

الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) [سورة النور ، الآية : ٥٦] ، إلى غير ذلك من الآيات المباركة. راجع إلى ما ذكرنا أيضا.

المحكم والمتشابه من الأمور النسبية :

تقدّم أنهما يرجعان إلى اختلاف الاستعدادات المتفاوتة في الإنسان ، فيكونان من الأمور النسبيّة الإضافية ، لاختلاف منشئهما وسببهما ، وإن رجعا إلى حالات اللفظ وصفاته فهي أيضا امور نسبية اختلافية ، تختلف باختلاف الجهات الخارجيّة ، ولأجل ذلك نرى الاختلاف في عدّ مصاديق المتشابه ، فربّ شخص يعدّ لفظا أو آية من المتشابه وينكره الآخر ، أو قد يكون الاختلاف من شخص واحد في موردين أو في زمانين.

وقد اطلق لفظ المحكم والمتشابه على الأفراد ، كما في بعض الروايات.

المدار في المحكم والمتشابه :

المناط في اتّصاف الكلام بالمحكم والمتشابه إنما هو الأنظار العرفية العادية المؤهّلة لورود عامة الخطابات عليها ، لأنها المدار في تلقّي الأحكام ، وليس المدار الأنظار الدقيّة العقليّة ، لاختصاصها بطائفة خاصة وعدم كونها مدار الإفادة والاستفادة النوعية ، فلو كانت الآية أو الرواية بحسب الأنظار العرفية تعدّ متشابهة وبحسب الدقة العقلية ـ أي بإعمال الأساليب العلميّة ـ تكون محكمة ، لا يؤخذ بها ، بل تردّ إلى المحكم ، وأما لو كانت بحسب الأنظار العرفية محكمة دون الأنظار الخاصة ـ أي الدقيّة العقليّة ـ يؤخذ بها.

ولو كانت آية أو رواية محكمة عند طائفة ومتشابهة عند اخرى ، فإن كانت الاولى من ذوي الخبرة والفن لا بد للثانية من اتباعها ، وكذا العكس ، ومع التساوي يعمل كلّ بحسب تكليفه ورأيه بعد استقرار المحكم والمتشابه ، ومع التعارض في مورد يمكن الرجوع إلى أصالة عدم الحجّية المقرّرة في علم الأصول.

٦٧

أسباب التشابه :

لا وجه لتحديد مناشئ التشابه والإجمال بحدّ خاص وموارد معينة ، بعد ما عرفت ، فيصحّ أن يكون منشأ التشابه نفس وضع اللفظ لغة من حيث هو ، مثل قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٢٨] ، أو يكون في اختلاف القراءة ، مثل قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٢٢] ، أو يكون المنشأ اختلاف السنّة الواردة في تفسير الآية الشريفة لو كانت متنافية فيصير التشابه من باب الوصف بحال المتعلّق ، لا الوصف بحال الذات ، وقد يتعلّق اختيار المتكلّم بالإجمال والتشابه لأغراض مترتبة على ذلك.

نسبة التشابه :

التشابه من الصفات ذات الإضافة ، ولا يعقل التشابه بالنسبة إلى علم الله جلّ جلاله ، لأنه عين ذاته المهيمن لجميع الجهات والمحيط بها ، وكذا بالنسبة إلى الموحى إليه كما مرّ. وإنما يتحقّق التشابه بالنسبة إلى غيرهما من المخاطبين في خطابه تعالى أو غيره ، سواء أكانوا حاضرين في مجلس الخطاب ، أم غائبين عنه ، لما مرّ من أن السبب الأوّلي في التشابه إنما هو اختلاف الإدراكات وقصورها.

نعم ، يمكن أن يوحى إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله آية ثم يوحى إليه مرة اخرى شرح تلك الآية وبيانها ، وتسمية ذلك بالتشابه إلى الموحى إليه في الآية الاولى مشكل بل ممنوع ، وهما بمنزلة الشارح والمشروح ، وليس ذلك من المجمل أيضا ، وكذا لو وصل الحكم إلى الموحى إليه إجمالا ، وانتظر صلى‌الله‌عليه‌وآله بيانه وتفصيله ، كما تقدّم في تغيير القبلة ، قال تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٤٤].

٦٨

مع أن الأدلّة الدالّة على أن خاتم النبيين من أهمّ الراسخين في العلم يأبى عن ذلك كلّه ، فخروج التشابه بالنسبة إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله تخصصي ، لا أن يكون تخصيصيا ، والفرق بينه وبين الله تبارك وتعالى أن التخصص بالنسبة إليه جلّ شأنه بالذات ، وبالنسبة إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالغير ، أي من الله تعالى ، كما تقدّم ذلك.

واقعية المحكم والمتشابه :

لا شك في أن الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة ، فلا دخل للاعتقاد فيها ، كما أثبتنا ذلك في علم الأصول. فالمراد من المحكم والمتشابه هو الواقعي منهما دون الاعتقادي ، لأن الواقعيات مورد وضع الألفاظ دون الاعتقاديات ، إلا أن يدلّ دليل على الخلاف ، وحينئذ كلّ من اعتقد أن آية من الآيات القرآنية أو حديثا من السنّة محكم أو متشابه ، ثم بعد مدة تبين الخلاف لا أثر لاعتقاده ولا يترتب عليه آثارهما ، ولا يكون من باب تبدّل الموضوع ، بل من باب كشف الخلاف ، ولا بد وأن يبحث عنه في مباحث الإجزاء المقرّرة في علم الأصول.

موضوع المحكم والمتشابه :

المحكم والمتشابه يعرضان بعد استقرار حجيّة الكلام ، إذ لا ريب في أن دلالة اللفظ تغاير حجّيته ، فقد يكون اللفظ دالا على شيء ولم يكن حجّة ، مثلا العام والمطلق قبل الفحص عن الخاص والمقيد ظاهران ودالان على العموم والإطلاق ، ولكنهما ليسا بحجّة ولا يجوز التمسّك بكلّ منهما إلا بعد الفحص وعدم الظفر بالمخصص والمقيد ، فالدلالة انما تعتبر طريقا إلى الحجيّة ، فلو لا الحجيّة وصحّة الأخذ والاستدلال لا أثر لنفس الدلالة من حيث هي ، فالمحكم والمتشابه يعرضان على الكلام الصحيح الثابت حجيّته.

وبعبارة اخرى : المراد بالمحكم والمتشابه إنما هو المستقر منهما ، لا الزائلان بعد التروي والتأمّل.

٦٩

التشابه في القرآن :

لا ريب في تحقّق التشابه وأصل حدوثه في الجملة بالنسبة إلى الأمة في القرآن ، ولا مجال لإنكار ذلك. كما لا شك أنه في معرض الزوال بالرجوع إلى الراسخ في العلم وإلى المحيط بالسنّة المقدّسة ، التي هي مبيّنة لمتشابهات القرآن ، أو بردّ الآيات المتشابهة إلى المحكمات منها ، كما في الآية المباركة فحينئذ لا يبقى موضوع للتشابه الدائمي في القرآن.

نعم ، أصل حدوثه في القرآن ممّا لا ينكر ، قال تعالى : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ).

فما عن بعض من إنكار أصل التشابه في القرآن تمسّكا بقوله تعالى : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٣٨] ، وقوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) [سورة النحل ، الآية : ٨٩] ، وغيرهما من الآيات.

غير صحيح ، لما مرّ في الآية المباركة (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) ، بل يدلّ على ذلك وجدان أهل المحاورة ، لأنهم يفرّقون بالفطرة بين الدلالة في قوله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [سورة الأنعام ، الآية : ٩٤] ، وبين الدلالة في قوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [سورة الفجر ، الآية : ٢٢] ، إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

وأما ما استدل به من الآيات الشريفة ، ففيه أن كون الكتاب بمجموعه مشتملا على تبيان كلّ شيء ، أو أنه بيان للناس ، لا ينافي وجود بعض المتشابهات بعد صيرورتها تبيانا إن ردّت إلى المحكمات.

نعم ، لو أراد إنكار دوام التشابه في القرآن لا أصل حدوثه ، فهو صحيح لأن القرآن قانون دائمي نوعي إلى يوم القيامة ، ولا وجه لوقوع التشابه الدائمي فيه ، خصوصا بعد أن أمرنا بردّ المتشابه إلى المحكم ثم الاستفادة منه.

٧٠

إن قيل : إن جملة من مفتتحات السور وأوائلها باقية على التشابه إلى الأبد.

يقال : أنها معلومة أيضا عند الراسخين في العلم ، وفسّرت أيضا بما مرّ.

وبالجملة : لا تشابه في القرآن بعد عرض الآيات المتشابهة على المحكمات أو على العقل المقرّر شرعا. فالتشابه حدوثي لا دائمي في القرآن.

الحكمة في اشتمال القرآن على المتشابه :

بعد أن ظهر أن الآيات المتشابهة في القرآن الكريم ترجع إلى القصور في العقل وعدم الإحاطة بردّ تلك الآيات إلى المحكمات ، تصير الحكمة في إنزال الآيات المتشابهة حينئذ أمرا سلبيا ، وهو عدم درك العقول وعدم احاطتها بالحقائق القرآنية ، وإلا فلا قصور في نفس الآيات المباركة بعد ردّ بعضها إلى البعض ، ففي الواقع لا تشابه في الآيات القرآنية ، لا ثبوتا ولا إثباتا إذا عرضت الآيات المتشابهة على العقل المدرك المقرّر بالشرع ، فيكون التشابه في النظر البدوي من الإدراك ، لا في النظر الحقيقي ، ولذا نرى الاختلاف في تعيين المصاديق للآيات المتشابهة عند العلماء والمحقّقين.

وأما ما أشكل على وقوع التشابه في القرآن بأنه لا وجه له ، مع أن القرآن قانون أبدي ، وهو كتاب فسّرت آياته من لدن علي حكيم ، فلا بد أن يكون شرعة لكلّ وارد ويستفيد منه كلّ أحد.

غير صحيح ، لأن اختلاف العقول في جهات الإدراك فطري خارج عن تحت ، أي اختيار والقرآن لا يعدو الفطرة.

المتشابه في السنة :

كما أن في القرآن محكما ومتشابها ، كذلك يكون في السنّة المقدّسة ، ففيها متشابهات ومحكمات لا بد وأن يردّ المتشابه إلى المحكم. وقد ظهر ممّا ذكرنا أن ذلك حدوثي لا دائمي ، وينشأ ذلك من اختلاف الاستعدادات كما مرّ ، وردّ متشابهاتها

٧١

إلى محكماتها إنما هو من شأن الفقهاء والمحدّثين العالمين العاملين بها ، ففي السنّة الشريفة راسخ في العلم أيضا ، وتقدّم ما عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام : «ان في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن ، فردّوا متشابهها إلى محكمها ، ولا تتّبعوا متشابهها فتضلّوا».

التأويل ومعناه :

تقدّم أن التأويل من الأول. وللأول عرض عريض جدا ، فيشمل كلّ ما له قابلية الشمول ، مثلا أن قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) يشمل كلّ ما تؤول إليه الصورة الإنسانية من الخصوصيات الذاتية والعرضية والزمانية والمكانية ، ويدخل في التأويل كلّ ذلك ، فإذا نظر الراسخ في العلم إلى صورة إنسان يعلم بعلمه الراسخ جميع الحالات الواردة على الإنسان في عوالمه الطولية والعرضية ، فيعلم أنه كيف يعيش ومتى يموت ، وفي أي محل يقبر ، فجميع هذه الصور معلومة عنده حسب شأنه ورسوخه في العلم ، وهذا أعظم أنواع التأويل.

فالتأويل أخصّ من التفسير بلا إشكال ، لأنّ التفسير من فسّر ، وهو والسفر بمعنى واحد ، أي كشف القناع ، ويحصل ذلك ببيان أوّل مرتبة من مراتب معاني اللفظ ، بخلاف التأويل ، ولذا يختصّ التأويل بأئمة الدين ، كما ورد عنهم : «أن عندنا علم التأويل» ، على ما تقدّم معناه ، فيكون علم التأويل أجل وأعظم بمراتب من علم التشريع ، وعبّر عن بعض مراتبه بعلم البلايا والمنايا ، فإن له مراتب كثيرة ، لأنّ للقرآن بطونا ، ولعلّ المراد منها بعض مراتب التأويل.

الفرق بين التأويل والتنزيل :

ظهر ممّا تقدّم الفرق بينهما ، فإن التنزيل يختصّ بالآيات المباركة من حيث اللفظ وغيره ، والتأويل كلّ ما له قابلية الشمول للآية ، فيكون الفرق بينهما أن

٧٢

التنزيل إنما يلحظ باعتبار وجوده الجمعي ، أي الوحدة في الكثرة ، والتأويل إنما يلحظ باعتبار وجوده الانطباقي الانبساطي الخارجي في الحوادث التكوينيّة والتشريعيّة ، من أوّل الحدوث إلى آخر الخلود ، لجميع الجزئيات والخصوصيات والعلل والمعلولات والشرائط والموانع ، باعتبار الوجود الانبساطي الخارجي ، ولا يمكن الإحاطة بذلك إلا لله جلّ شأنه ، لقصور ما سواه عن ذلك ، وقد يفيض بعض ذلك لخلّص عباده ، كما مرّ.

وقد بيّن الله تبارك وتعالى في سورة الكهف من آية ٦٦ إلى ٧٨ في ما سأله موسى عن الخضر عليهما‌السلام الفرق بين التنزيل والتأويل ، فقال تعالى حاكيا عن الخضر : (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) ، فالتأويل ما فعله الخضر وأجاب عن ما سأله موسى ، والتنزيل ما سأله موسى عن الخضر. ونعم ما نسب إلى بعض أكابر العرفاء : «التأويل علم الحقيقة ، والتنزيل علم الشريعة والطريقة» ، ومثّل لذلك بالفقيه والطبيب ، فإن الفقيه محتاج إلى الطبيب في العلم بالعلاج والعلم بخواص الأدوية ، والطبيب محتاج إلى الفقيه في العلم بظواهر الشرع.

والجامع القريب بين التنزيل والتأويل إحقاق الحقّ وإبطال الباطل.

أما التأويل في السنّة والروايات ، فقد ورد فيها أيضا ـ كما في بعض الروايات ـ لأن لها الوجود الانبساطي الخارجي القابل للانطباق على القضايا الخارجيّة أيضا ، كما تقدّم في تأويل الآيات الشريفة.

كما أن علم تعبير الرؤيا اطلق عليه التأويل أيضا ، قال تعالى حاكيا عن نبيّه يعقوب لابنه يوسف عليهما‌السلام : (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) [سورة يوسف ، الآية : ٦] ، والمراد منها الأحاديث الحاصلة من النوم ، بقرينة قوله تعالى حاكيا عن الملأ : (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) [سورة يوسف ، الآية : ٤٤] ، وقد ورد في السنّة المقدّسة أن الرؤيا جزء من تسعة وتسعين جزءا من أجزاء النبوّة.

٧٣

مورد التأويل في الآيات القرآنية :

لا ريب في ثبوت التأويل في القرآن في الجملة ، بلا شك كما دلّت عليه الآيات المباركة ، وهل يصلح جميع الآيات أن تكون موردا للتأويل حتى المحكمات والمتشابهات منها أو يختص ببعض دون بعض؟ لا طريق لنا إلى إثبات ذلك إلا بما وصل إلينا من بيان التأويل وإلا فليس لنا ضابطة تميّز الآيات المتّصفة بالتأويل عن غيرها لفرض اختصاص ذلك بالراسخ في العلم.

الفرق بين التأويل ومطلق استعمال اللفظ :

تبادر المعنى من اللفظ واستعماله فيه ـ ولو بنحو المجاز ـ ليس من التأويل ، لا لغة ولا عرفا ، وإن الاستعمال أخصّ من التأويل موردا ، ويمتاز كلّ منهما عن الآخر بأمور :

الأول : أن التأويل له مراتب كثيرة ، لأن للقرآن بطونا ـ كما في البحث الروائي ـ ولها لوازم وملزومات ، وبالنسبة إلى المؤول تارة يكون الذهن مأنوسا بشيء دون آخر ، فيؤولها حسب الانس الذهني ، إن لم يكن مخالفا للحجج الشرعية الدائرة ، وذلك لا يكون إلا من الإفاضة الغيبيّة الإلهيّة المختصّة بأهلها ، كما تقدّم ، وذلك لا يكون في التبادر والاستعمال.

الثاني : أن الأول بمعنى الرجوع والمرجع ـ كما تقدّم ـ ويصحّ أن يكون لكلّ موجود من موجودات هذا العالم ـ جوهرا كان أو عرضا ـ بجميع أنواعها مناشئ ومراجع كثيرة ، سابقة على ما يفهم من ظاهر لفظه ولا حقة كذلك ، وحوادث محفوفة بكلّ واحد منها ، فيشمل التأويل جميع تلك الوجودات ، أو العلوم الحادثة في العالم من أوّل هبوط آدم إلى قيام الساعة من جميع أنحاء العلوم والخواص كلّية أو جزئية ، بسيطة أو مركبة ، في الجواهر أو الأعراض في الأفلاك أو الأملاك.

٧٤

وبعبارة اخرى : الإحاطة العلميّة الحضورية بجميع ما سوى الله من كلّ جهة ، ومثل هذا العلم غير محدود وغير متناه ، ويختصّ بعض مراتبه بالله جلّ ذكره ، وبعضه الآخر يفيضه جلّ شأنه على من يشاء من عباده ، وهم الراسخون في العلم الذين أفنوا جميع شؤونهم الإمكانية في مرضاته تعالى ، كما يطلع على الغيب المحجوب بعض عباده المقرّبين المحبوبين. فللتأويل وجود انبساطي يشمل جميع ما تقدّم ، بخلاف الاستعمال كالتبادر وأمثاله ، فإنه محدود من جميع الجهات.

الثالث : صفات الحقيقة وعلاماتها وكذا شرائط المجاز قد لا تكونان في المعنى المؤول ، لأنه قد لا تستأنس الأذهان العامّة بذلك ، كما في قصة موسى والخضر في سورة الكهف من آية ٦٤ إلى آية ٨٢ ، ولكن في الاستعمال لا بد منها ، أو لا بد من قرينة تدلّ على صحّة الاستعمال.

الرابع : المؤول لا يصحّ التمسّك به في الحجج الظاهريّة ، بخلاف الاستعمالات الظاهرية ، فإنها حجّة عند العقلاء ، سواء كانت بلا قرينة أم معها.

نعم ، لو كان دليل من الخارج على إرادة المعنى المؤوّل يكون حجّة حينئذ ، لكنه من باب الوصف بحال المتعلّق لا الوصف بحال الذات ، هذا بالنسبة إلى نوع الأذهان العامّة ، أما بالنسبة إلى العالم بالتأويل والراسخ في العلم ، يكون المعنى المؤول حجّة عنده ، كما في قصة الخضر وموسى.

دوران الأمر بين التأويل والتفسير :

لو ورد حديث في معنى آية من الآيات القرآنية وشكّ في أنه من التفسير لها أو التأويل ، فمع الظهور اللفظي يؤخذ به ويكون من التفسير وأنه حجّة ، وأما لو لم يكن كذلك فمقتضى الأصل عدم الحجّية ما لم تكن قرينة من الخارج تدلّ عليها ، فيدخل في البحث السابق من أنه ليس كلّ تأويل حجّة إلا لأهله.

وكذا الآيات القرآنية ، فلأنها إما محكمة ، أو متشابهة ، أو مرددة بينهما ، ويجري على الأخيرة حكم الثانية ، فلا يصحّ التمسّك بها إلا بعد الرجوع إلى ما ورد في شرحها في السنّة المقدّسة.

٧٥

الاستعارات والكنايات القرآنية :

لا ريب في أن الآيات المباركة مشتملة على الكنايات ، التي هي من أهمّ شؤون الفصاحة والبلاغة ، ويعدّ ذلك من أدب القرآن ، مثل قوله تعالى : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) [سورة المائدة ، الآية : ٧٥] ، فإنه كناية عن البراز ، وقال تعالى : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٣٧] ، فإنه كناية عن الجماع ، إلى غير ذلك من الآيات الشريفة ، فهي لا تكون من المتشابهات بل إنها من المحكمات ، فإن لها ظهورا عرفيا ولو بالقرينة في المعنى المراد. وقد أثبتنا في علم الأصول أن المدار في المحاورات على الظهورات العرفيّة ولو كانت مجازيّة.

وكذا ما ورد في بعض الأحاديث من أن القرآن : «نزل بإياك أعني واسمعي يا جارة».

وأما اللطائف والإشارات والدقائق ، فإنها إن كانت منساقة من ظاهر اللفظ بحسب المحاورة ، تكون من المحكمات ، وإلا فهي من المتشابهات.

ومن هنا يظهر فساد ما عن بعض من إنكار كون الكنايات من المحكمات وأنها من المتشابهات.

٧٦

(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩))

نداء ملكوتي من قلوب الراسخين في العلم ، يشمل ذروة العرش الأعلى حتى ذرة ما تحت الثرى ، تطرب الممكنات من سماع لفظه ، وتزجر العوالم من خطاب وعظه ، تتدفق منه الرحمة والنور على جميع الأحياء ، بل على من في القبور.

وفي لفظ (ربنا) من الاستغاثة والانقطاع في أن يثبتهم على الحقّ ما ليس في غيره ، وغالب دعوات الأنبياء والمنقطعين إليه جلّت عظمته مبدوءة به ، لأنه من أنين المربوب الضعيف إلى الربّ الخبير اللطيف ، ودعاء المسكين الفقير إلى الغني المطلق الخبير.

ولا بد وأن يكون هذا الدعاء مقول قول الراسخين في العلم ، الذين ملئت قلوبهم بالإيمان بالله جلّ شأنه ، والذين يرون كمال استغنائهم في كمال الفقر إليه تبارك وتعالى ، كما عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله : «اللهم اغنني بالافتقار إليك ، ولا تفقرني بالاستغناء عنك».

وفي ابتهالهم إلى الله تعالى بأن يثبتهم على الحقّ ، وأن يفيض عليهم رحمته ، لا سيما في يوم الجمع الذي لا ريب فيه دلالة بأن الغاية القصوى ذلك اليوم ، وأن العوالم كلّها في طريق السير إلى ذلك الموعد الذي لا يخلفه الله تعالى لجمعهم وفصلهم ، ولا يمكن أن يتخلّف ذلك الغرض أنه الهدف من السير الاستكمالي للإنسان. وكيف يمكن أن يهمل ذلك مع أن الربوبيّة العظمى تقتضي الوفاء بالوعد ، وإلا يلزم الخلف.

٧٧

التفسير

قوله تعالى : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا).

مادة (ز ي غ) تأتي بمعنى الميل عن الاستقامة ، قال تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [سورة الصف ، الآية : ٥] ، وقال تعالى : (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) [سورة سبأ ، الآية : ١٢].

والمعنى : ربّنا لا تمل قلوبنا عن الحقّ بعد إذ هديتنا إليه. وهذا الدعاء عام لجميع ما هو حقّ من المعارف والقرآن والأحكام والمعاد ، فيشمل الشريعة الختمية بكلّياتها وجزئياتها وأصولها وفروعها.

والميل عن الحقّ إما قصدي وعمدي بالاختيار ، أو نسياني لا عن اختيار ، أو اضطراري واجباري. والأوّل فيه الإثم والعقاب ، بل قد يوجب الكفر ، والأخيران لا أثر لهما ، لحكم العقل بذلك ، ولما ورد عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «رفع عن امتي الخطأ والنسيان وما اضطروا إليه».

قوله تعالى : (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً).

مادة (وه ب) بمعنى التمليك مجانا وبلا عوض ، وكلّ ما أخرج من العدم إلى الوجود من جميع الممكنات هبة منه تبارك وتعالى ، إذ لا يعقل الاستيعاض لمن هو مستغن بذاته عن غيره لذاته بالنسبة إلى غيره ، ممّا هو محتاج بذاته اليه عزوجل ، وأما قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [سورة التوبة ، الآية : ١١١] ، وقوله تعالى : (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) [سورة التغابن ، الآية : ١٧] ، ففيه عناية وتلطّف في الكلام ، لا أن يكون من الاشتراء والقرض الحقيقي ، وإلا يلزم على الله الاستكمال ، وهو قبيح ومحال ، والرحمة : بمعنى اللطف والإحسان.

والمعنى : هب لنا من عندك رحمة. وتشمل جميع النعم الدنيويّة والاخرويّة

٧٨

التي أهمّها الاستقامة في الدين بالدين ، فإنها جامعة للرحمة الدنيويّة والاخرويّة.

قوله تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ).

الآية الشريفة بمنزلة التعليل لما قبلها. والوهاب من أسماء الله الحسنى ، تكون المبالغة في نظائره باعتبار المتعلّق لا باعتبار الذات ، إذ لا معنى للمبالغة فيما لا منتهى ولا حدّ في أي جهة من جهات كماله وجلاله.

مع أن المبالغة من الجهات الكيفيّة ، وهي منفية عنه تعالى بالأدلّة العقليّة والنقلية ، قال علي عليه‌السلام : «هو الذي كيّف الكيف فلا كيف له ، وأيّن الأين فلا أين له» ، وكلّ ما هو في المخلوق لا يوجد في الخالق.

قوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ).

أي انك باعث الناس ومحييهم بعد فنائهم وتفرّقهم ليوم لا شكّ فيه ، وفي هذا إقرار بالبعث ليوم القيامة ، لأن ذلك قضية عقليّة جامعة حاكية لمصير استكمال الطبيعة وظهور الأعمال بصورها المناسبة في طريق الاستكمال ، وأن البعث واجب عقلي ولازم في الطبيعة ، قد قرّرته جميع الكتب السماويّة أيضا. فقولهم : لا ريب فيه ، أي لا شكّ فيه حسب الأدلّة العقليّة ، ويمتنع عدم تحقّقه وسلب وقوعه ، كما أن قولهم : «انك جامع الناس» كاشف عن فطرتهم العقليّة ، لا أن يكون أمرا شرعيا لإثبات جمعهم ، وإن كانت الآيات المباركة تثبت ذلك أيضا ، قال تعالى : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) [سورة الدخان ، الآية : ٤٠].

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ).

عدول من الضمير إلى الظاهر للتنبيه على استحالة خلف الوعد بالنسبة إليه جلّ شأنه ، لكماله تعالى وقدسيته ، وأن الميعاد عامّ لا يختصّ بقوم وطائفة ، والآية المباركة بمنزلة التعليل في تحقّق المعاد وعدم الريب فيه.

والمعنى : أنك جامع الناس وباعثهم من قبورهم للجزاء ليوم لا شكّ فيه ، كما أخبرت به في كتابك ووعدتنا به وأنك لا تخلف الميعاد.

٧٩

بحوث المقام

بحث دلالي :

يستفاد من الآية الشريفة امور :

الأوّل : إنما أضاف الراسخون في العلم الربّ إلى أنفسهم ، وسألوا منه عدم الزيغ كما سألوا الرحمة ، لأنهم يرون انحصار جميع جهاتهم ونسبهم وإضافاتهم فيه تبارك وتعالى ، فهو يربّيهم كيف ما شاء وأراد ، فيكون نسبة سلب الازاغة إليه تعالى من جهة التربية المعنويّة التي يربّيهم الله تعالى.

ولذا كرّر لفظ (ربّنا) ، فيستفاد منه نهاية الانقطاع منهم إليه جلّ شأنه.

الثاني : المراد من الرحمة في قوله تعالى : (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) ، رحمة خاصّة تختصّ بمقامات الراسخين في العلم ، وهي تعم إبقاءهم على هذه الحالة ، فيكون بمنزلة البيان لقوله تعالى : (لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا).

ويمكن أن يراد بها الإفاضات والإلهامات المعنويّة التي تناسب مقام الرسوخ في العلم ، وهي غير محدودة بحدّ خاص ، فتشمل جميع اللوازم والملزومات الطولية والعرضية الغيبيّة لكلّ آية ، ممّا لا يمكن أن يطلع عليها إلا الله جلّ جلاله.

وبالجملة : أهمّ مراتب الرحمة التي لا يعقل مرتبة فوقها هي معرفة المعارف الإلهية بمراتبها المؤهّلة عندهم والعمل بها ، وهي منحصرة بالإفاضة منه سبحانه وتعالى على قلوب الراسخين ومنهم على غيرهم ، فهذا الدعاء والابتهال من أسمى الدعوات وأكملها إلى أكرم مدعو وأجلّه ، وأنه قرين الإجابة والاستجابة ، لأن له دخلا في تكميل نظامي التشريع والتكوين. فهذه الجملة : (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) ، ترجع إلى بيان المبدأ ، كما أن ذيل الآية المباركة يرجع إلى بيان المعاد ، فالآية الكريمة بصدرها وذيلها تبيّن المبدأ والمعاد والتلازم بينهما ، بأسلوب جذاب دقيق وبيان يأخذ بمجامع القلوب وتوجهها نحو الربّ الجليل المحبوب ، ونظائر هذه

٨٠