مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٥٩

في علمي التنزيل والتأويل بحقيقة معنى الرسوخ علما وعملا.

على أن الآية الكريمة ليست بعديمة النظير ، فإذا ألقى ملك عظيم خطابا على رعيّته ، وكان الخطاب مشتملا على محكم ومتشابه وتأويل ، يكون أخصّ وزراء ذلك الملك أعرف بمتشابهاته وتأويلاته من غيره ، فكيف بمقام الرسالة الأحمدية التي هي أتم مرآة للمعارف الربوبية؟!

مع أنه لا ثمرة لهذا النزاع بعد ما عرفت من أن للتأويل والغيب مراتب متفاوتة ، فبعضها يختصّ به سبحانه وتعالى ، وبعضها مستلهم منه تبارك وتعالى ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله هو قائد هذا العلم ومن تعلّم منه ، فلا نزاع في البين على هذا ، سواء كانت الجملة مستأنفة أو معطوفة.

نعم ، يتصوّر النزاع الصغروي في بعض مصاديق الراسخين ، وسيأتي في البحث الروائي ما يتعلّق بذلك.

وما عن بعض من أن الجملة مستأنفة ، وأن التأويل منحصر به عزوجل ، لأن أدب القرآن الكريم في نظام المقام جرى على أن يذكر النبيّ الأعظم أولا مستقلا بعنوان الرسالة ونحوه ، ثم يعطف عليه البقية ، قال تعالى : (لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ) [سورة التوبة ، الآية : ٨٨] ، وقال تعالى : (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [سورة التوبة ، الآية : ٢٦] ، إلى غير ذلك من الآيات الشريفة.

غير صحيح ، أولا : بأنه تعالى ذكر رسوله في بدء الكلام ، بقوله جلّ شأنه : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ).

وثانيها : أنما هو على فرض كلّيته يكون فيما إذا كان مع الرسول غيره يجمعهما شيء واحد ، كما في الآيات المباركة المتقدّمة ، قال تعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) [سورة آل عمران ، الآية : ٦٨] ، وقال تعالى : (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) [سورة التوبة ، الآية : ٢٦] ، وأما إذا كان الموضوع منحصرا به صلى‌الله‌عليه‌وآله ،

٤١

وكانت البقية منبعثة منه انبعاث الأشعة من الشمس ، فلا تعدّد ولا اشتراك حينئذ ، فلا حاجة لذكره صلى‌الله‌عليه‌وآله بالخصوص بعد فرض الحصر فيه.

ودعوى : أن العلم بالتأويل منحصر به جلّ شأنه ، ولا يتعدّى عنه ، لأنه من علم الغيب الذي اختصّ به ، فينحصر التأويل به تعالى ولا يعمّ غيره.

مخدوشة : بأن العلم بالغيب مختصّ به تعالى بالذات بلا إشكال ، عقلا ونقلا ، ولكن أنبياءه وأولياءه يستلهمون بعض ذلك منه ويظهرونه للناس ، إثباتا لمقامهم واحتجاجا على الخلق ، فليكن المقام كذلك.

وقولهم : آمنا به كلّ من عند ربنا ، من قبيل ترتّب المعلول على العلّة ، لأن علمهم بأن جميع الآيات الشريفة من المحكم والمتشابه من عنده تعالى يوجب الإيمان بالكلّ ، فلا متشابه عندهم في الواقع ، لأنهم بما علّمهم الله تعالى من علم التأويل يردّون المتشابه إلى المحكم ، فهما بمنزلة قرينة اللفظ ، وذي القرينة عندهم بخلاف غيرهم ، فيتحقّق عندهم المتشابه ويأخذون به ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل.

والمعنى : وما يعلم تأويل القرآن كلّه إلا الله والراسخون في العلم ، الذين كرّمهم الله تعالى بهذه الرتبة بتعليمه لهم ، ومع العلم بتأويله يقولون : آمنا بالكتاب كلّ من المحكم والمتشابه والتنزيل والتأويل من عند ربنا.

قوله تعالى : (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ).

اللب : العقل الخالص عن كلّ الشوائب ، وإنما عبّر سبحانه وتعالى بالتذكّر ، لأن التذكّر والتفكّر في المعارف الربوبية من شؤون العقل الخالص ، فإن أولي الألباب يتفكّرون في المعارف الإلهية ، فينتقلون من المعلول إلى العلّة أو بالعكس.

والآية المباركة تبيّن شرف الخطاب والمخاطب ، إذ نفس هذا الخطاب خطاب تشريفي ، فلا بد وأن يكون المخاطب من له الإضافة التشريفية ، وليس ذلك إلا من كان من أولي الألباب ، وقد مدحهم سبحانه وتعالى في جملة كثيرة من الآيات المباركة ، ولعلّ أهمها قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٩٠].

٤٢

بحوث المقام

بحث أدبي :

تقدّم أن سياق الآية الشريفة يدلّ على أن جملة : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) عطف على لفظ الجلالة ، فتكون جملة : (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) في موضع الحال ومحلّه النصب لذلك ، أي : مع كونهم راسخين في العلم قائلين : آمنا به كلّ من عند ربنا ، واستشهدوا لذلك بقول الشاعر :

الريح تبكي شجوة

والبرق يلمع في غمامة

أي : أن البرق يبكي أيضا لا معا في غمامة ، فان هذا المقال صفة عامة لكل مسلم ، سواء كان راسخا في العلم أم من كان في قلبه مرض ، فهذه الآية تبيّن صفتين للراسخين في العلم ..

أحدهما : جهة رسوخهم في العلم.

ثانيهما : جهة إيمانهم وتسليمهم للكتاب من كلّ جهة ، بخلاف الذين في قلوبهم مرض ، فإنهم يقولون : إن المتشابه والمحكم من عند ربنا ، لكنهم يتّبعون المتشابه ولا يردّونه إلى المحكم ، لأغراضهم الفاسدة.

وقوله تعالى : وما يذكر إلا اولوا الألباب. أصل يذكر يتذكّر ، وفيه الأبدال ، فإن أهل اللغة ذكروا قاعدة وهي : ان تاء الافتعال لو وقعت بعد دال أو ذال أو زاي انقلبت دالا ، نحو : أدان ، واذدكر وازدان. ويجوز في نحو اذدكر قلب الذال دالا أو الدال ذالا ، فتقول : ادكر واذكر.

بحث دلالي :

يستفاد من الآية الشريفة امور :

الأوّل : استعمال لفظ (الام) مضافا في القرآن الكريم وكلمات الفصحاء كثير

٤٣

جدا ، مثل قوله تعالى : (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) [سورة الشورى ، الآية : ٧] ، بل لا يستعمل هذا اللفظ إلا مضافا إلى الظاهر أو المضمر ، وهذه الإضافة لا ريب في أنها تفيد الاختصاص ، وأنها ..

تارة : تكون من قبيل اختصاص المادة للصور المتعددة.

واخرى : من الاختصاص الخارجي.

وإنما عبّر سبحانه وتعالى : (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) للدلالة على أن مجموع المحكمات من الآيات المباركة بمنزلة المادة لجميع الآيات الشريفة ، فلا بد من رجوعها إليها ، فتكون الإضافة من قبيل الأول بمعنى : أن المحكمات بمنزلة المادة للآيات الشريفة ، فلا بد من رجوع جميعها إليها ، وإلا يكون من قبيل الصورة بلا مادة ، وهو غير ممكن.

الثاني : إنما قدّم سبحانه وتعالى (الفتنة) على (التأويل) ، لأنها أهمّ وأعمّ بالنسبة إليه ، لكون الفتنة أكثر وقوعا ، وأقوى في الإغواء والإضلال من التأويل ، لأنه إخبار عن معتقد الشخص قد يمكن أن لا يعتني المخاطب بمعتقده ، بخلاف الفتنة ، فتكون أشدّ وأغوى في الإضلال عن التأويل.

الثالث : سياق الآية المباركة يدلّ على الذم إن جزم بالمتشابه من دون ارجاعه إلى المحكم وترتب الأثر عليه ، فيدخل في ذلك جميع الآراء الفاسدة والمذاهب الباطلة التي يتمسّك بها ببعض الآيات المتشابهة لإثبات ما يدّعونه.

وأما مجرّد الاحتمال فقط من غير قصد ترتّب الأثر عليه ، لا يكون من اتباع المتشابه وابتغاء الفتنة ، نعم لو حرّر ذلك ودوّن وعلم أنه يتبع احتماله غيره ويترتب عليه الأثر ، يدخل تحت الآية الشريفة.

الرابع : يستفاد من قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) المعنى السلبي ، أي عدم الحجاب لديهم عن درك الحقائق القرآنية ، والمعنى الايجابي ، أي معاينة الواقع والحقيقة ، فهما متلازمان.

وللرسوخ في العلم مراتب متفاوتة يمكن جمعها في ثلاثة : علم الله جلّ

٤٤

جلاله ، وعلم رسوله الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعلم من علّمه رسول الله ، وستأتي بقية الكلام في الآيات الآتية إن شاء الله تعالى.

الخامس : إنما كرّر سبحانه وتعالى : (الابتغاء) في الآية الشريفة مع قرب متعلّقهما ، دفعا لتوهّم رجوع التأويل إلى الفتنة.

السادس : إنما أطلق سبحانه وتعالى الفتنة ليشمل كلّ فتنة تقع في الخارج مستندة إلى التمسّك بالآيات المتشابهة ، سواء كانت دنيوية أم اخروية ، نوعية كانت ـ كالفتن التي تهدف الاجتماع وتفسده ـ أم شخصية ، وسواء كانت في العقيدة ، كالبدع ، أم في غيرها ، دائمية كانت أو محدودة.

السابع : اتباع المتشابه لغرض ابتغاء الفتنة ـ كما تقدّم ـ من باب الحكمة ، لا من باب العلّة ، وقد تترتّب على ابتغاء المتشابه أغراض فاسدة اخرى.

الثامن : ابتغاء الفتنة قد يكون عن اختيار والتفات ، وقد يكون مترتبا على إشاعة المتشابه ، ترتب الأثر على المؤثّر ، أي الابتغاء يكون بلا اختيار ولا التفات ، وإن كان الاتباع اختياريا ، وإطلاق الآية المباركة يشمل كلا القسمين.

التاسع : إنما ختم سبحانه وتعالى الآية الشريفة بالثناء على الراسخين بقوله جلّت عظمته : (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) ، للدلالة على أن ذوي العقول الكاملة يتلقّون ممّا وهبهم الله تعالى من علم التأويل في ردّ الآيات المتشابهة إلى المحكمات ، ولكن القشريين يتّبعون المتشابه.

بحث روائي :

في الكافي : عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : «إن أناسا تكلّموا في القرآن بغير علم ، وذلك أن الله تبارك وتعالى يقول : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) ، فالمنسوخات من المتشابهات ، والمحكمات من الناسخات».

٤٥

أقول : هذه الرواية محمولة على ذكر بعض المصاديق ، لا الحصر الحقيقي.

في تفسير العياشي : «سئل الصادق عليه‌السلام عن المحكم والمتشابه؟ قال : المحكم ما يعمل به ، والمتشابه ما اشتبه على جاهله».

أقول : المراد بالجاهل من لم يكن راسخا في العلم ، وإلا فمن كان كذلك مثل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا وجه للتشابه والتأويل بالنسبة إليه ، وسيأتي في البحث العلمي ما يدلّ على ذلك.

في تفسير العياشي ـ أيضا ـ : عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «ان القرآن محكم ومتشابه ، فأما المحكم فتؤمن به ، وتعمل به ، وتدين به ، وأما المتشابه فتؤمن به ولا تعمل به ، وهو قول الله عزوجل : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) ، والراسخون في العلم هم آل محمد».

أقول : هذه الرواية تدلّ على ما تقدّم في التفسير من أن الجملة عطف على اسم الجلالة ، وأن الذين في قلوبهم زيغ يعتقدون بأن جميع الآيات بأصنافها من عند الله تعالى ، ولكنهم يتّبعون المتشابه لابتغاء الفتنة ويعملون به.

وقوله عليه‌السلام : «وأما المتشابه فتؤمن به ولا تعمل به» ، فهو مطابق لفطرة العقول ، إذ المجمل لا اعتبار به لديهم ، فلا بد من ردّه إلى المحكم والمفصّل.

وأما قوله عليه‌السلام : «والراسخون في العلم هم آل محمد» ، فقد تقدّم أنهم علموا ذلك بالوراثة عن خاتم النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويأتي ما يدلّ على ذلك.

في تفسير العياشي : عن مسعدة بن صدقة قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه؟ قال : الناسخ الثابت المعمول به ، والمنسوخ ما قد كان يعمل به ثم جاء ما نسخه ، والمتشابه ما اشتبه على جاهله».

أقول : تقدّم في الرواية الاولى عن الصادق عليه‌السلام ما يتعلّق بهذه الرواية.

وفي رواية اخرى : «الناسخ الثابت ، والمنسوخ ما مضى ، والمحكم ما يعمل به والمتشابه الذي يشبه بعضه بعضا».

٤٦

أقول : المراد من الثابت ، أي : الحجّية في العمل به ، كما أن المراد من ما مضى ، أي مضى أمده وانتفت حجّيته ، وسيأتي في البحث العلمي ما يتعلّق بالمقام.

وفي الكافي : عن الباقر عليه‌السلام : «المنسوخات من المتشابهات».

أقول : تقدّم أنه من باب ذكر أحد المصاديق ، فلا بد وأن يحمل على قبل العلم بالناسخ ، وإلا فيزول التشابه لا محالة.

في الكافي : عن أبي بصير ، عن الصادق عليه‌السلام قال : «نحن الراسخون في العلم ، ونحن نعلم تأويله».

أقول : لأن علمهم من علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وورثوا ذلك منه بالوراثة العلمية والنسبية.

في الكافي : عن بريد بن معاوية ، عن أحدهما عليهما‌السلام في قول الله عزوجل : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ، فرسول الله أفضل الراسخين في العلم ، قد علّمه الله عزوجل جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل ، وما كان الله لينزل عليه شيئا لم يعلمه تأويله ، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه ، والذين لا يعلمون تأويله إذا قال العالم فيهم بعلم فأجابهم الله بقوله : (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) ، والقرآن خاص ، وعام ، ومحكم ، ومتشابه ، وناسخ ، ومنسوخ ، فالراسخون في العلم يعلمونه».

أقول : هذا بيان لأصل الراسخ في العلم ، وهو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما يتفرّع منه ، وهم أوصياؤه العظام ، كما مرّ في التفسير ، وسيأتي في البحث العلمي ما يتعلّق بذيل الرواية.

في الكافي : عن أبي الصباح الكناني عن الصادق عليه‌السلام : «نحن قوم فرض الله عزوجل طاعتنا ، لنا الأنفال ، ولنا صفو المال ، ونحن الراسخون في العلم».

أقول : المراد من الطاعة هنا اتّباع أقوالهم وأفعالهم ، لأن قولهم وفعلهم عليهم‌السلام حاكيان عن قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وفعله ، وكلّ من قال عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شيئا يجب إطاعته ، لأن قوله يكون قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو قول الله عزوجل.

٤٧

عن علي عليه‌السلام في حديث له مع معاوية : «القرآن حق ونور وهدى ورحمة وشفاء للمؤمنين الذين آمنوا ، والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى ، يا معاوية إن الله عزوجل لم يدع صنفا من أصناف الضلالة والدعاة إلى النار إلا وقد ردّ عليهم واحتجّ في القرآن ، ونهى عن اتباعهم وأنزل فيهم قرآنا ناطقا عليهم ، علمه من علمه وجهله من جهله ، وإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : ليس من القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن ولا منه حرف إلا وله حدّ مطلع على ظهر القرآن وتأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ، وأمر الله عزوجل الأئمة أن يقولوا : آمنا به كلّ من عند ربنا ، وأن يسلموا لنا وأن يردّوا علمه إلينا ، وقال الله عزوجل : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) ويطلبونه».

أقول : الروايات في أن للقرآن ظهرا وبطنا كثيرة ، وفي بعضها سبعة أبطن ، وذلك كلّه محمول على مراتب التأويل ، التي يعلمها من علم تأويل القرآن ، كما سيأتي.

وأما قوله عليه‌السلام : «وله حدّ مطلع على ظهر القرآن» ، المراد من هذا المطلع ما يفهمه العالم بالتأويل ، وعلمه مختصّ بالراسخ في العلم ، والرسوخ في العلم لا يحصل بكثرة الممارسة ، بل نور يستوهب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما مرّ.

وأما قوله عليه‌السلام : «وأمر الله عزوجل الأئمة أن يقولوا آمنا به كلّ من عند ربنا» ، قد أثبتنا في التفسير أن ذلك لا ينافي كونهم راسخين في العلم ، ومع ذلك يؤمنون بأن الكلّ منزل من عند الله تبارك وتعالى.

وأما قوله عليه‌السلام : «ان يردوا علمه إلينا وقال الله عزوجل : ولو ردوه إلى الرسول وإلى اولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم» ، يظهر من سياق هذه الرواية وذكر هذه الآية الشريفة في ذيلها أن الاستنباط من القرآن لا بد وأن يكون للراسخ في العلم فيه ، وهو كذلك لما تقدّم غير مرة من أن القرآن الكريم لا يشرحه إلا السنّة ، فهو كالمتن لها ، لا يفهم المراد من المتن إلا بالرجوع إلى السنّة المقدّسة.

٤٨

في تفسير العياشي : عن بريد بن معاوية ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل الراسخين في العلم ، فقد علم جميع ما أنزل الله عليه من التنزيل والتأويل ، وما كان لينزل عليه شيئا لم يعلمه التأويل ، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه ، قال : جعلت فداك ، إن أبا الخطاب كان يقول فيكم قولا عظيما ، قال : وما كان يقول؟ قلت : قال : إنكم تعلمون علم الحرام والحلال والقرآن ، قال : إن علم الحلال والحرام والقرآن يسير في جنب العلم الذي يحدث في الليل والنهار».

أقول : أما ان الله تبارك وتعالى علّم رسوله جميع ما أنزل ، فهو حق واقع ، إذ لا معنى للوحي والتشريع بالنسبة إلى خاتم الأنبياء إلا ذلك ، وأما كون علم الحلال والحرام يسير في جنب علم ما يحدث في الليل والنهار ، لأنه من الأمور الغيبيّة وأسرار القضاء والقدر التي تحيّرت العقول في أصل دركها ، فضلا عن الإحاطة بها ، ويمكن أن يستظهر من هذه الرواية أن ذلك أيضا من متفرّعات الرسوخ في العلم ، فكما أن أصل الرسوخ في العلم ، بجميع مراتبه مختصّ به تعالى ، فكذلك أسرار ما يحدث بالليل والنهار.

نعم استلهم أولياؤه بعض مراتبه.

عن مسعدة بن صدقة : عن جعفر بن محمد ، عن أبيه عليهما‌السلام : «ان رجلا قال لأمير المؤمنين عليه‌السلام : هل تصف ربّنا نزداد له حبا وبه معرفة؟ فغضب عليه‌السلام وخطب الناس فقال ـ فيما قال ـ : عليك يا عبد الله بما دلّك عليه القرآن من صفته ، وتقدّمك فيه الرسول من معرفته ، فائتم به واستضئ بنور هدايته ، فإنما هي نعمة وحكمة أوتيتها ، فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين ، وما كلّفك الشيطان علمه ممّا ليس عليك في الكتاب فرضه ولا في سنّة الرسول وأئمة الهدى اثره ، فكل علمه إلى الله سبحانه ، ولا تقدر عظمة الله ، واعلم يا عبد الله أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم الله عن الاقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب ، فلزموا الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فقالوا آمنا به كلّ من عند ربنا ، وقد مدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما ، وسمّى تركهم التعمّق فيما لم

٤٩

يكلّفهم البحث عن كنهه منهم رسوخا ، فاقتصر على ذلك ، ولا تقدّر عظمة الله سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين».

أقول : أما غضبه عليه‌السلام بالنسبة إلى هذا الشخص فلأنه أراد توصيف الله تعالى بما هو خارج عن ظاهر الكتاب المبين والسنّة المقدّسة الشريفة ، ويشهد لذلك قوله عليه‌السلام : «عليك يا عبد الله بما دلّك عليه القرآن من صفته وتقدّمك فيه الرسول» ، ثم ذمّه عليه‌السلام للتعمق في ما وراء ذلك ، وقد ورد في جملة من الأخبار ذم ذلك أيضا.

وأما قوله عليه‌السلام : «وما كلفك الشيطان علمه ممّا ليس عليك في الكتاب فرضه» ، فالمراد التوهّمات أو الخيالات الحاصلة في النفس في المعارف ، فليس لأحد أن يتبعها ، بل لا بد من الاعتقاد بالواقع على ما هو عليه وإيكال علم ذلك إلى الله تبارك وتعالى ، والا فيدخل ذلك في اتباع الشيطان وإغوائه والتعمّق المنهي عنه.

وأما قوله عليه‌السلام : «ان الراسخين في العلم هم الذين أغناهم الله عن الاقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب» ، فقد ذكر صفات الراسخين في العلم ومدحهم ، يعني : أنهم اكتفوا بما استفادوا من النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله من الرسوخ في العلم ، ولم يتعدّوا ما وراء ذلك ، لكونه حينئذ من التعمّق المنهي عنه ، فمثل هذه الروايات تدلّ على أمرين :

الأول : كونهم راسخين في العلم ، واستفادوا ذلك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

الثاني : أنهم لا يقتحمون ـ في ما وراء ما استفادوا من الرسوخ في العلم ـ السدد المضروبة دون الغيوب.

في الاحتجاج : عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث ثم قال : «إن الله جلّ ذكره لسعة رحمته ورأفته بخلقه وعلمه بما يحدثه المبدلون من تغيير كلامه ، قسّم كلامه ثلاثة أقسام ، فجعل قسما منه يعرفه العالم والجاهل ، وقسما لا يعرفه إلا من صفا ذهنه ولطف حسّه وصحّ تميّزه ممّن شرح الله صدره للإسلام ، وقسما لا يعرفه إلا الله وأنبياؤه والراسخون في العلم ـ الحديث».

٥٠

أقول : هذا الحديث مطابق لما تقدّم من أن المتشابه والمحكم وغيرهما من مراتب الإدراكات ، فلا بد في كلام الحكيم أن يلحظ فيه هذه المراتب.

وعن بريد بن معاوية قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام قول الله : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ، قال : يعني تأويل القرآن كلّه إلا الله والراسخون في العلم ، فرسول الله أفضل الراسخين قد علّمه الله جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل ، وما كان الله منزلا عليه شيئا لم يعلّمه تأويله ، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كله ، فقال الذين لا يعلمون : ما نقول إذا لم نعلم تأويله؟ فأجابهم الله : يقولون آمنا به كلّ من عند ربنا والقرآن له خاص ، وعام ، وناسخ ، ومنسوخ ، ومحكم ، ومتشابه ، فالراسخون في العلم يعلمونه».

أقول : المراد من «تأويل القرآن كله» ما اشتمل على المتشابه والتأويل ، وإلا فالمحكمات ليس لها تأويل.

عن فضيل بن يسار عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : «وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ، نحن نعلمه».

أقول : تقدّم وجه ذلك.

في العيون عن الرضا عليه‌السلام : «من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه هدي إلى صراط مستقيم ـ ثم قال ـ إن في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن ومحكما كمحكم القرآن ، فردّوا متشابهها إلى محكمها ، ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا».

أقول : قد ذكرنا في التفسير أن اشتمال كلمات الأعاظم والأكابر على المحكم والمتشابه غالبي ، بل فطري بالنسبة إلى مراتب العقول ، كما يأتي في البحث العلمي.

في الكافي : عن الباقر عليه‌السلام : «ان الراسخين في العلم من لا يختلف في علمه».

أقول : هذا من باب بيان بعض آثار الراسخين في العلم ، لا جميعها.

في الدر المنثور : أخرج ابن جرير وغيره عن أنس وأبي امامة ووائلة بن اسقف وأبي الدرداء أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سئل عن الراسخين في العلم فقال : «من برّت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه ، ومن عفّ بطنه وفرجه ، فذلك من

٥١

الراسخين في العلم».

أقول : هذا تفسير باللازم ، لأن من لوازم التقوى والمواظبة على أحكامه الاتصاف بما ورد في الرواية ، ويصير العالم بذلك راسخا في العلم ، وليس ذلك من باب الحصر الحقيقي ، بل لا بد وأن يحمل على الحصر الإضافي.

وعن علي عليه‌السلام أنه قيل له : «هل عندكم شيء من الوحي؟ قال : لا والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ، إلا أن يعطي الله عبدا فهما في كتابه».

أقول : يستفاد منه أن فهم القرآن الذي أفاضه الله تعالى على عبده من مراتب الوحي وشؤونه ، وهو كذلك ، لأن جميع ما شرحه علي عليه‌السلام في الأصول والمعارف وكذا أولاده المعصومون ، خصوصا الباقران والرضا عليهم‌السلام ، لا يكون إلا من مراتب الوحي الإلهي ، المستفاد من الوحي الكلّي ، وهو القرآن الكريم ، بل جميع ما أعطاه الله لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله من جوامع الكلم الذي افتخر به صلى‌الله‌عليه‌وآله على سائر الأنبياء يكون كذلك.

في الكافي : عن الصادق عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أيها الناس ، إنكم في دار هدنة ، وأنتم على ظهر سفر ، والسير بكم سريع ، وقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يبليان كلّ جديد ويقرّبان كلّ بعيد ، ويأتيان بكلّ موعود ، فأعدّوا الجهاز لبعد المجاز ، قال : فقام المقداد بن الأسود فقال : يا رسول الله ، وما دار الهدنة؟ فقال : دار بلاغ وانقطاع ، فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن ، فإنه شافع مشفع ، وما حل مصدق ، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنّة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار ، وهو الدليل يدلّ على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل ، وهو الفصل ليس بالهزل ، وله ظهر وبطن ، فظاهره حكم وباطنه علم ، ظاهره أنيق وباطنه عميق ؛ له تخوم وعلى تخومه تخوم ، لا تحصى عجائبه ، ولا تبلى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة فليجلّ جال بصره وليبلغ الصفة نظره ، ينج من عطب ، ويخلص من نشب ، فإن التفكّر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات ،

٥٢

فعليكم بحسن التخلّص وقلّة التربّص».

أقول : أمثال هذه الرواية تدلّ على عظمة القرآن ورفعة شأنه ، الملجأ في الفتن والشدائد ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما حل مصدق» ، أي خصم مجادل مصدق.

وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ومن جعله أمامه قاده إلى الجنّة» ، أي جعله منهجا في عمله ، كما أن المراد من الجعل في الخلف ترك العمل به ، ومعلوم أن العمل بالقرآن يوجب الفوز بالجنّة ، كما أن ترك العمل به يوجب الدخول في النار.

وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «وهو الفصل ليس بالهزل» ، أي الفاصل بين الحقّ والباطل. والمراد من نفي الهزل نفي أي وجه من البطلان عنه.

وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «وله ظهر وبطن» ، المراد من الظاهر ما يفهم من ظاهر الآيات الشريفة ، والمراد من الباطن الإشارات والرموز التي يجمعها القرآن التي تحدث إلى يوم القيامة قرنا بعد قرن ، والظاهر والباطن موجودان في كلمات الأكابر والعظماء ، فكيف بكلمات الله تبارك وتعالى التي يتشعع معارف بطونها إلى يوم القيامة.

وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فظاهره حكم وباطنه علم» ، المراد من الحكم التصديق الجازم ، وليس المراد بذلك الحكم المصطلح عليه عند الفقهاء ، بل هو الأعمّ منه ، والمراد من العلم هو القضايا الحقيقيّة الكاشفة عن الحقائق التي هي العلوم الواقعيّة ، لأنّ كلّ تصديق يكشف عن علم ، والعلم تابع لظاهر التصديق.

والمراد من علمية الباطن ـ مع أن ظاهره علم أيضا ـ هو العلم الذي اختصّ به أولياؤه المكرمون.

وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ظاهره أنيق وباطنه عميق» ، المراد من الأنيق حسن الأسلوب والإبداع ، وأن الأفئدة تهوى إليه ، وأما أن باطنه عميق فلأن العقول قاصرة عن الإحاطة بتأويلاته ، وكلّ ما تأمّل فيه يتجدّد لها معنى غير الأول.

وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «له تخوم وعلى تخومه تخوم» ، التخم (بفتح التاء) حدّ الشيء وعلامته ، والجمع التخوم ، والمراد به حدّ معاني القرآن وعلاماته ، ولا ريب في أنها

٥٣

تتفاوت بحسب مراتب التأويل ومعانيها.

وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة» ، يعني : أن القرآن دليل على معرفته تبارك وتعالى لمن عرف أنه كلام نازل عن الله سبحانه ، وحيث عرف صفة علمه تعالى من أنه غير متناه من جميع الجهات ، فتتحقّق لديه المعرفة التامّة ويذعن بتلك الصفات المتقدّمة للقرآن.

وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فليجل جال بصره» ، المراد من جولان البصر التفكّر في القرآن بما رغّب إليه الشرع ، بحيث يكون تفكّره موافقا للحدود الشرعية.

وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «وليبلغ الصفة نظره» ، يعني : يتأمّل بالمعنى الذي مرّ آنفا من أنه من الله تعالى ، فحينئذ فإن بلغ إلى نظره معاني مستحدثة غريبة ، طبّقها على الشرع ، فإن وافقها يعتمد عليها وإلا يذرها في بقعة الاحتمال.

وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ينج من عطب» ، أي يخلّصه عن تعبه الذي أتعبه في المعقولات ، فإن القرآن منتهى جميعها ، فلا بد وأن يرجع كلّها إلى كلام الله سبحانه وتعالى.

وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ويخلص من نشب» ، أي ينجى ويخلّص كلّ من تعلّق بالقرآن عن جميع المهالك والمتاعب.

وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فان التفكّر حياة قلب البصير» ، فهو قاعدة عقليّة متّفق عليها في المعقول ، ودلّت عليها نصوص كثيرة ، فقد أثبتوا : «من أن غذاء الروح وحياتها المعنوية إنما هو بالتفكّر» ، والآيات القرآنية التي ترغّب إلى التفكّر في الطبيعة وما وراءها تدلّ على ذلك ، وسيأتي بيان تلك القاعدة إن شاء الله تعالى.

وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كما يمشي المستنير في الظلمات» ، فهو واضح ، إذ ليس الخلاص من ظلمات الجهل إلا بالاستنارة من نور الفكر إن كان في المعارف الدينية.

وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فعليكم بحسن التخلّص» ، يعني تخلّصوا من التفكّر في القرآن بوجه حسن ، فلا تدخلوا فيه كلّ وهم وخيال.

وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «وقلّة التربّص» ، يعني لا تتعمّقوا في خصوصيات القرآن

٥٤

التي لا تصل إليها عقولكم ، بل أوكلوها إلى الله تعالى بالرجوع إلى الراسخين في العلم ، ومن أوحى إليه.

ويمكن أن يراد بقلّة التربّص الممانعة عن دخول الأوهام الباطلة والخيالات الفاسدة في القرآن.

في الكافي : عن الصادق عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : القرآن هدى من الضلالة ، وتبيان من العمى واستقالة من العثرة ، ونور من الظلمة وضياء من الاحداث ، وعصمة من الهلكة ، ورشد من الغواية ، وبيان من الفتن ، وبلاغ من الدنيا إلى الآخرة ، وفيه كمال دينكم ، وما عدل أحد من القرآن إلا إلى النار».

أقول : تقدّم ممّا ذكرنا في الحديث السابق بيان هذا الحديث وعدم الريب فيه.

ثم إن هناك طوائف اخرى من الروايات التي ترتبط بالموضوع ، فلا بد من التعرّض لها وبيان ما يتعلّق بها.

ما ورد في تفسير القرآن بالرأي :

وردت روايات كثيرة دالّة على النهي عن تفسير القرآن بالرأي ، مثل ما عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار».

وعن أبي داود في سننه : عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من قال في القرآن بغير علم جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار».

وفي تفسير العياشي : عن أبي بصير عن الصادق عليه‌السلام : «من فسّر القرآن برأيه إن أصاب لم يوجر ، وإن أخطأ فهو أبعد من السماء».

وفي تفسير العياشي ـ أيضا ـ : عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام : «الرأي في كتاب الله كفر».

وفي سنن الترمذي : عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ».

أقول : صريح هذه الروايات الذم في إعمال الرأي في القرآن العظيم ، بل جعله

٥٥

بديل الكفر في بعضها ، وأن مصيره إلى النار.

والنظر في القرآن أو اعمال الرأي فيه يتصوّر على وجوه :

الأول : الأخذ بظاهره العرفي ، الذي هو ظاهر عند النوع وتدور الاستفادة من القرآن مداره ، مثل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [سورة المائدة ، الآية : ١] ، وقوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) [سورة الأنعام ، الآية : ١١٨] ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

الثاني : إعمال النظر الشخصي في الآيات الشريفة وتفسيرها ، به ولكنه لا يتعدّى عن مرحلة الاحتمال الذهني والحضور الفكري إلى الخارج ، بلا إذعان ولا اعتقاد.

الثالث : ما يكون من إعمال النظر الشخصي ، ويكون الناظر في مقام ترتّب الأثر عليه ، والإذعان بأن ذلك مراد الله سبحانه وتعالى.

وشمول هذه الأخبار للقسم الأول ممنوع بلا إشكال ، وإلا لبطلت الإفادة والاستفادة من الكتاب العظيم الذي وضع لأجل ذلك ، وكذا شمولها للقسم الثاني لفرض عدم ترتّب أي أثر عليه ، بل يكون مجرّد العبور الذهني والخطور الفكري الذي قد يكون بلا اختيار.

وأما القسم الأخير فهو المعلوم المتيقّن من مفاد جميع تلك الأخبار ، ويشهد لذلك الشواهد العقلية أيضا ، فإن كلمات الأكابر والأعاظم لا بد أن تحفظ عظمتها بأي وجه أمكن من دون تدخّل الآراء الخاصة في تفسيرها ، فكيف بالقرآن العظيم؟

وما قيل في معنى التفسير بالرأي من الوجوه فإن رجعت مآلها إلى ما ذكرناه فهو ، وإلا فالخدشة واضحة فيها ، لأن أكثرها دعوى بلا دليل.

ومن ذلك يعلم أنه لا وجه لفتح باب الاجتهاد الشخصي في الآيات الشريفة ، إذ لا موضوع فيها بعد فرض أن متشابهاتها ترجع إلى محكماتها ، وهي مشروحة بالسنّة المقدّسة.

٥٦

نعم ، باب الاجتهاد النوعي مفتوح في تفسير الآيات ، بمعنى إرجاع المتشابه منها إلى المحكمات ، وأخذ شرح المحكم من السنّة الشريفة.

ويستفاد ما قلناه من الآيات الشريفة أيضا ، قال تعالى : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [سورة النساء ، الآية : ٨٣] ، وقوله تعالى : (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ* فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [سورة الحجر ، الآية : ٩٢] ، وقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [سورة الإسراء ، الآية : ٣٦] ، إلى غير ذلك من الآيات الشريفة ، التي يستفاد من جميعها أنه لا بد في الاستفادة من القرآن الكريم عدم الاجتهاد الشخصي ، بل ردّ الآيات بعضها إلى بعض والاستعانة بالسنّة المقدّسة ، وأن التفسير بالرأي هو القول بغير علم ، كما ورد عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده في النار».

وأما ما ورد في بعض الروايات من النهي عن ضرب بعض القرآن ببعض ، كما في جملة من الأخبار.

ففي تفسير العياشي : عن الصادق عن أبيه عليهما‌السلام قال : «ما ضرب رجل من القرآن بعضه ببعض إلا كفر».

وفي المحاسن : عن الصادق عليه‌السلام : «ما ضرب رجل من القرآن بعضه ببعض إلا كفر».

وفي الدر المنثور : عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج على قوم يتراجعون في القرآن وهو مغضب ، فقال : بهذا ضلّت الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضرب الكتاب بعضه ببعض ، قال : وإن القرآن لم ينزل ليكذّب بعضه بعضا ، ولكن نزل يصدق بعضه بعضا ، فما عرفتم فاعملوا به وما تشابه عليكم فآمنوا به».

وفيه ـ أيضا ـ : عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : «سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قوما يتدارءون ، فقال : إنما هلك من كان قبلكم بهذا ، ضربوا كتاب الله

٥٧

بعضه ببعض ، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضها ، فلا تكذبوا بعضه ببعض ، فما علمتم منه فقولوا وما جهلتم فكلوه إلى عالمه».

أقول : ضرب القرآن بعضه ببعض يحتمل فيه وجوه :

الأول : ردّ المتشابه إلى المحكم ، وهذا صحيح ، بل واجب كما أمرنا به عقلا وشرعا ، ولا وجه للطعن عليه بل جعله كفرا.

الثاني : الاستشهاد لآية بآية اخرى ، وهذا أيضا صحيح إذا كان مطابقا للسنّة الشريفة ، وقد وقع ذلك في كلمات الأئمة عليهم‌السلام أيضا.

الثالث : ما إذا اختار رأيا مستقلا ونظرية خاصة من عند نفسه في تفسير آية ورأي كذلك في آية اخرى ، وجمع بينهما برأيه ، أو جعل آية اخرى دليلا لما اختاره من عند نفسه ، فهذا هو المذموم بلا إشكال ، بل قد يوجب الكفر أيضا لأنه يستلزم تكذيب القرآن ، كما مرّ في الحديث.

ولعلّ ما سأله الصدوق عن شيخه ابن الوليد في معنى الرواية المتقدّمة عن المحاسن هو ذلك ، وأيضا يدلّ على ما ذكرنا روايات كثيرة :

منها : ما في تفسير العماني عن إسماعيل بن جابر ، قال : سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهما‌السلام يقول : «إن الله تبارك وتعالى بعث محمدا فختم به الأنبياء ، فلا نبيّ بعده ، وأنزل عليه كتابا فختم به الكتاب فلا كتاب بعده ، أحلّ فيه حلالا وحرّم حراما ، فحلاله حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة ، فيه شرعكم وخبر من قبلكم وبعدكم ، وجعله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله علما باقيا في أوصيائه فتركهم الناس ، وهم الشهداء على أهل كلّ زمان ، وعدلوا عنهم ثم قتلوهم ، واتبعوا غيرهم ثم أخلصوا لهم الطاعة حتى عاندوا من أظهر ولاية ولاة الأمر وطلب علومهم ، قال الله سبحانه وتعالى : (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ) ، وذلك أنهم ضربوا بعض القرآن ببعض ، واحتجّوا بالمنسوخ وهم يظنون أنه الناسخ ، واحتجّوا بالمتشابه وهم يرون أنه المحكم ، واحتجّوا بالخاص وهم يقدرون أنه العام ، واحتجّوا بأوّل الآية وتركوا السبب في تأويلها ، ولم ينظروا

٥٨

إلى ما يفتح الكلام وإلى ما يختمه ، ولم يعرفوا موارده ومصادره ، إذ لم يأخذوه عن أهله ، فضلّوا وأضلّوا. واعلموا رحمكم الله : أنه من لم يعرف من كتاب الله عزوجل الناسخ من المنسوخ والخاص من العام والمحكم من المتشابه ، والرخص من العزائم ، والمكّي من المدني ، وأسباب التنزيل ، والمبهم من القرآن في ألفاظه المنقطعة والمؤلفة ، وما فيه من علم القضاء والقدر ، والتقديم والتأخير والمبين والعميق ، والظاهر والباطن ، والابتداء والانتهاء ، والسؤال والجواب ، والقطع والوصل ، والمستثنى منه والجار فيه ، والصفة لما قبل ممّا يدلّ على ما بعد ، والمؤكّد منه والمفصّل ، وعزائمه ورخصه ، ومواضع فرائضه وأحكامه ، ومعنى حلاله وحرامه الذي هلك فيه الملحدون ، والموصول من الألفاظ ، والمحمول على ما قبله وعلى ما بعده ، فليس بعالم بالقرآن ولا هو من أهله. ومتى ما ادّعى معرفة هذه الأقسام مدع بغير دليل فهو كاذب مرتاب مفتر على الله الكذب ورسوله ، ومأواه جهنم وبئس المصير».

ومنها : ما عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذيل ما ورد في الدر المنثور : «فما علمتم منه فقولوا ، وما جهلتم به فكلوه إلى عالمه».

ومنها : ما في نهج البلاغة قال عليه‌السلام : «ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره ، فيحكم فيها بخلافه ، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم ، فيصوّب آراءهم جميعا وإلههم واحد ونبيّهم واحد ، وكتابهم واحد أفأمرهم الله تعالى بالاختلاف فأطاعوه؟! أم نهاهم عنه فعصوه؟ أم أنزل الله دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاء فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل الله سبحانه دينا تامّا فقصّر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عن تبليغه وأدائه؟ والله سبحانه يقول : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) ، وقال وفيه تبيان لكل شيء ، وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا ، وأنه لا اختلاف فيه ، فقال سبحانه : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) ، وأن القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق ، لا تفنى عجائبه ولا تكشف الظلمات إلا به».

٥٩

وخلاصة ما يستفاد منها ـ على طولها ـ أن فهم القرآن لا بد وأن يكون أوّلا بإرجاع المتشابه إلى الحكم وإرجاع الحكم إلى السنّة ، ثم ترتّب الأثر بما يستفاد من المحكم والاعتراف بالعجز عن الفهم والدرك ، وأن التفسير بالرأي والعمل به بدون ذلك يستلزم الاختلال المذموم عقلا وشرعا.

ما ورد من ان للقرآن بطونا :

وردت روايات كثيرة دالة على أن للقرآن ظهرا وبطنا ، كما في تفسير العياشي عن الفضيل بن يسار قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن هذه الرواية : (ما في القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن ، وما فيه حرف إلا وله حدّ ، ولكلّ حدّ مطلع) ، ما يعني بقوله : لها ظهر وبطن؟ قال : ظهره تنزيله وبطنه تأويله ، منه ما مضى ومنه ما لم يكن بعد ، يجري كما يجري الشمس والقمر كلّما جاء منه شيء وقع ، قال الله : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ، نحن نعلمه».

أقول : يظهر من هذه الرواية أن أسرار التأويل تجري في التكوينيات من حيث بدأها إلى ختامها ، وأن وقوعها في الخارج مطابق للتأويل الذي يكون في القرآن ، ولا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم ، ففي الحقيقة يمكن استفادة جميع أسرار التكوين من الآيات الشريفة بالتأويل ، كما يظهر من الآيات الشريفة ، قال تعالى : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) [سورة يس ، الآية : ١٢] ، وقال تعالى : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [سورة الأنعام ، الآية : ٥٩] ، إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

وعن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ان للقرآن ظهرا وبطنا ، ولبطنه بطنا إلى سبعة أبطن».

وعن علي عليه‌السلام : «ما من آية إلا ولها أربعة معان ، ظاهر وباطن وحدّ ومطلع ، فالظاهر التلاوة ، والباطن الفهم ، والحدّ هو أحكام الحلال والحرام ، والمطلع هو مراد

٦٠