مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٥٩

قوله تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ).

التفات إلى بني إسرائيل الذين أحس عيسى منهم الكفر ، ومادة (مكر) تدلّ على كلّ ما يصرف الإنسان عن مقصده ، فإذا كان بحيلة فهو خديعة وشرّ ، وإن كان بغيرها كان محمودا ، ولذا يتقسّم المكر إلى قسمين ، حسن وسيء ، قال تعالى : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [سورة فاطر ، الآية : ٤٣] ، وقال تعالى : (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ) [سورة النحل الآية : ٤٥].

وقد وردت هذه المادة في القرآن الكريم مكرّرة تبلغ أكثر من أربعين موردا نسبت ..

تارة : إلى الإنسان بلا واسطة ، قال تعالى : (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) [سورة النحل ، الآية : ٢٦] ، وقال تعالى : (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) [سورة فاطر ، الآية : ١٠] ، وقال تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) [سورة الأنفال ، الآية : ٣٠] ، وأشدّ ما وصف الله تعالى به مكر الإنسان قوله عزّ من قائل : (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) [سورة إبراهيم ، الآية : ٤٦].

واخرى : بواسطة ، قال تعالى : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ) [سورة سبأ ، الآية : ٣٣] ، والمراد به الظلم والشرّ الواقعان في الليل والنهار من الإنسان.

وثالثة : نسبت إلى الله جلّ شأنه مزاوجة ومشاكلة في اللفظ ، كما في هذه الآية الشريفة ، وفي قوله تعالى : (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [سورة النمل ، الآية : ٥٠] ، وبدون مزاوجة ، قال تعالى : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ٩٩].

وقد اختلف المفسّرون والعلماء في نسبة المكر إلى الله تعالى ، فقيل إنه لا يجوز

٣٢١

نسبته إليه عزوجل لأنه منزّه عن المكر والخديعة ، فلا يطلق عليه تعالى إلا عن طريق المشاكلة ، وقالوا إنّ كلّ مورد ورد فيه المكر منسوبا إليه عزوجل يحمل على الاستعارة ، وهي تسمية جزاء المكر مكرا مقابلة كما هو المعروف عند العرب ، مثل قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٩٤] ، وقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [سورة الشورى ، الآية : ٤٠] ، وغيرهما من الآيات الشريفة ، وهذا القول منهم مبني على استعمال المكر في المعنى السيء فقط ، وهو المساوق للخديعة والشرّ ، فيكون قبيحا والله تعالى منزّه عنه ، ولكن استعمال القرآن الكريم يأبى ذلك كما عرفت ، مضافا إلى أنه استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمجازي معا ، وهو غير صحيح.

وقيل : إنه يجوز إطلاق المكر عليه تعالى كما اطلق على غيره من أفراد الإنسان من دون مشاكلة أو الخروج عن المعنى الحقيقي ، وأصحاب هذا القول اختلفوا في توجيه المكر بالنسبة إليه عزوجل ، وجميع ما قيل في ذلك لم يقم عليه دليل يصحّ الاعتماد عليه.

والصحيح أن يقال : إنّ المكر في الأصل يطلق على كلّ ما يصرف الإنسان عن مقصوده خفية وسرّا ، وبهذا المعنى يصحّ إطلاقه عليه عزوجل بلا محذور فيه من عقل أو نقل ، لفرض أن جميع أسرار إرادته المقدّسة مخفيّة عن من سواه ، وهو عبارة اخرى عن التدبير الأتم بما تقتضيه الحكمة المتعالية بأعمال خفية لا يعلمها الإنسان ، فيجازي الظالمين على ظلمهم والماكرين بمكرهم ، ويحسن إلى المحسنين بما يوافق اللطف ، ويؤيّد هذا المعنى ما ورد في بعض الدعوات المأثورة : «إلهي لا تؤدبني بعقوبتك ولا تمكر بي في حيلتك» ، وفي الحديث : «اللهم امكر لي ولا تمكر بي» ، ومعنى الحديث : ألحق مكرك بأعدائي لا بي ، فإن مكره جلّ شأنه إيقاع بلائه بأعدائه دون أحبّائه وأوليائه.

والمراد بمكر بني إسرائيل في المقام اعمالهم جهات النفاق مع عيسى عليه‌السلام ، كما حكى الله تعالى عنهم مع أنبياء الله تعالى في آيات اخرى ، مثل تحريف الكلم عن

٣٢٢

مواضعه وإيذاء الأنبياء وقتلهم وتشريدهم.

كما أن المراد بمكر الله تعالى جزاؤهم بما خفي عن ادراكهم ولم تصل إليه عقولهم ، بأن شبه المسيح عليهم وردّ كيدهم على أنفسهم مع اعتقادهم بأنهم قتلوه ، فإنه لو رفعه الله تعالى علنا وبمرأى منهم لاستحكمت شبهة الغلو والالوهية فيه ، ولو رفعه خفية لطال التشاجر والنزاع والمحنة على المؤمنين وكثر فيهم القتل وهتك الإعراض ، طلبا منهم لإظهاره وتسليمه ، فكان ذلك التشبيه لطفا خفيّا ومكرا منه عزوجل وفق الحكمة.

قوله تعالى : (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ).

أي : والله يفعل أفعالا خفيّة بما تقتضيه الحكمة المتعالية مع غفلة أهل المكر عن ذلك ، وكون مكره تبارك وتعالى خيرا محضا ، إذ لوحظ بالنسبة إلى النظام الكلّي ، ويكون المكر بعباده في نصرة الحقّ وأهله وإبطال الباطل وإزهاقه.

قوله تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ).

بيان لمكره عزوجل وإعمال سرّه الخفي على الناس ، والعامل في (إذ) قوله (ومكر الله).

ومادة (وف ي) تدلّ على أخذ الشيء وافيا تماما في الجملة ، وهذا المعنى هو الشائع في جميع استعمالاتها العرفيّة والقرآنيّة ، وفي حديث المعراج : «فمررت بقوم تقرض شفاههم كلّما قرضت وفت» ، أي نمت وطالت أو كملت كالأوّل ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا : «انكم وفيتم سبعين امة أنتم خيرها» ، أي تمت العدّة بكم سبعين.

وأما الوفاة بمعنى الموت ، فهو أحد موارد استعمالات هذه المادة ، وليس من المعنى الحقيقي لها.

نعم ، شاع استعمالها في الموت ، ولعلّه لأجل أن الإنسان يأخذ من الحياة نصيبه التام بحسب استعداده ، فالله يميته بعد ذلك وينقله إلى عالم آخر.

ويدلّ على ما ذكرنا جملة من الآيات الشريفة ، منها قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) [سورة الأنعام ، الآية : ٦٠] ، والمراد

٣٢٣

به التوفّي بأخذهم النوم وغلبته عليهم ، وقوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى) [سورة الزمر ، الآية : ٤٢] ، ولا يستقيم معنى الآية الشريفة لو كان معنى التوفّي هو الموت ، أي الله يميت الأنفس حين موتها والتي لم تمت يميتها في منامها.

ومن هذه الآيات وما تقدّم من نظائرها يستفاد أن التوفّي أعمّ من الموت ، بل لم يستعمل التوفّي في الموت إلا بعناية خاصة ، ولذا لو لم تكن هذه العناية استعمل الموت بدله ، وهي أن الوفاة إنما تستعمل في مورد يكون فيه أخذ الشيء محفوظا من دون نقص ، كما في وفاء الدين ونحوه ، فيقال : «وافيته في الميعاد» ، وبهذه العناية تستعمل في الموت والنوم ، حيث تحفظ فيهما نفس الإنسان ولا تنعدم فيهما ولا يبطل شأنهما ، فالله تعالى يأخذ الأنفس ويحفظها حتى زمان عودها إلى الأجساد ، لكن يختلف عالم النوم وعالم الموت.

وقد عبّر سبحانه وتعالى بالموت في عيسى في مورد آخر ، حيث لم تكن هذه العناية ، قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) [سورة النساء ، الآية : ١٥٩].

وبالجملة : التعمّق في موارد استعمال هذه المادة في الألسنة واعتبارها مرادفة له ، بحيث يتبادر منه هذا المعنى كلّ ما اطلق ، ولكنه مع ذلك لا يوجب صرف اللفظ عن المعنى الموضوع له ، ويقتضى أن الجامع القريب هو ما ذكرناه.

فيكون معنى الآية الشريفة هو أخذ عيسى عليه‌السلام من عالم الأرض ومن بين الناس وحفظه عن مكر اليهود من دون أن ينالوا منه شيئا ، حتى زمان عوده إلى الأرض ، ويدلّ على ذلك قوله تعالى في موضع آخر ردّا على اليهود : (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً* بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) [سورة النساء ، الآية : ١٥٧ ـ ١٥٦]. وهذه الآية الشريفة صريحة في ردّ مزاعم اليهود في قتله وابطال دعوى النصارى

٣٢٤

في موت المسيح بالصلب ورفعه إلى السماء بعد قتله على ما ذكروه في الأناجيل. مضافا إلى أن قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) [سورة النساء ، الآية : ١٥٩] ، ظاهر في أنه لم يمت وأن موته سيقع بعد ذلك ، وبانضمام هذه القرائن لا يبقى مجال للقول بأن المراد بالتوفّي هو الموت ، هذا ولجمهور المفسّرين وجوه في تفسير الآية الشريفة.

منها : ما نسب إلى ابن عباس أنه قال في قوله تعالى : (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) ، أي مميتك.

ولكن النسبة إليه مشكوكة ، كما نسب إليه جملة من مسائل نافع بن الأزرق ، وعلى فرض صدق النسبة لا دليل على حجّيته إلا إذا نسبه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بوجه معتبر.

ومنها : ما نسب إلى الربيع بن أنس أنه قال : «وفاة نوم لا وفاة موت» ، واستشهد لذلك بجملة من الآيات الشريفة.

ولكنه مردود بما عرفت سابقا ، كما أنه اجتهاد بلا دليل عليه.

ومنها : ما عن قتادة : هذا من المقدّم والمؤخّر ، أي : رافعك إلي ومتوفيك. وهو خلاف الظاهر ، بل مخالف لصريح الآيات الاخرى.

ومنها : أن المراد هو الإماتة العادية المعروفة ، وأن الرفع بعدها للروح ، كما قال تعالى في شأن إدريس : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) [سورة مريم ، الآية : ٥٧].

ولكنه بعيد عن سياق الآيات ، مع مخالفته لصريح الآيات الاخرى والنصوص الدالّة على حياته الجسمانيّة ، وسيأتي الكلام في رفعه إلى السماء.

ومنها : ما عن بعض المفسّرين أنه عليه‌السلام نجا من اليهود ومات حتف أنفه ودفن في الأرض ثم رفعت روحه ، واستدلّوا بظاهر لفظ الوفاة في المقام ، وفي سورة المائدة ، الآية : ١١٧ ، وقوله تعالى حكاية عنه : (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). وكذا قوله تعالى حاكيا عنه : (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) [سورة مريم ، الآية : ٣٣] ، الدال على أن

٣٢٥

عيسى ككلّ البشر يولد ويموت ويبعث.

وفيه : أن أصل الكبرى مسلّمة ، فإنه عليه‌السلام كسائر الأنبياء له موت بلا إشكال ، وأما أن المراد بالتوفّي في المقام هو الموت الشائع ، فهو أوّل الدعوى يحتاج إلى دليل ، والآية المباركة لا تدلّ على ذلك ، بل هي ناظرة إلى أصل الكبرى ، ويدلّ عليه أيضا ما يأتي من :

قوله تعالى : (وَرافِعُكَ إِلَيَ).

عطف على خبر إن ، والرفع : ضد الوضع ، وهو يستعمل في ما يشتمل على العلو ، سواء كان علوا معنويّا ، كشرف المنزلة والفضيلة وغيرهما مثل قوله تعالى : (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) [سورة الزخرف ، الآية : ٣٢] ، وقوله تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) [سورة المجادلة ، الآية : ١١] ، قال الشاعر :

تلك الأماني يتركن الفتى ملكا

على الأنام ولم ترفع له رأسا

يعني : أن الآمال توهم الفتى أنه قد صار ملكا ، ولكن لا تعطيه كرامة وشرفا في الواقع.

أو محسوسا ظاهريا كما في الأجسام الخارجيّة ، إذ أعليت عن مقرّها ، مثل قوله تعالى : (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) [سورة البقرة ، الآية : ٦٣] ، وقوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) [سورة البقرة ، الآية : ١٢٧] ، وفي حديث الاعتكاف : «كان إذا دخل العشر الآخر ايقظ أهله ورفع المئزر» ، ولعلّه كناية عن الاجتهاد والجد في العبادة بارتقاء النفس.

وهو من الأمور النسبيّة تختلف باختلاف المتعلّق ، قال تعالى حكاية عن يوسف : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) [سورة يوسف ، الآية : ١٠٠] ، وقال تعالى : (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ) [سورة الرحمن ، الآية : ٧].

ومن أسمائه تعالى : «الرافع» ، وهو الذي يرفع المؤمنين بالإسعاد وأولياءه بالتقرّب إليه. وتقدّم في قوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) بعض الكلام.

٣٢٦

والجملة قرينة اخرى لبيان معنى التوفّي في الجملة السابقة. أي : أخذك من بين اليهود وأحفظك من مكرهم بالرفع إليّ.

وإنما قيد الرفع بقوله : (الي) مع أنه تعالى لا يحويه مكان ولا يخلو عنه مكان ، تفخيما لغاية الرفع من الأرض التي طالما أفسدها الكافرون والفساق ، فرفعه تعالى إلى موضع خاص محض لتسبيح الله تعالى وتقديسه ، ولا توجب هذه الكلمة (إليّ) صرف الرفع إلى الرفع المعنوي ، باعتبار أنه لا يتصوّر القرب والبعد المكاني إليه عزوجل ، فيكون نظير قوله تعالى : في شأن إدريس : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) [سورة مريم ، الآية : ٥٧] ، لأن ظاهر الخطاب وتكريم الرفع إلى عيسى عليه‌السلام بكاف الخطاب ظاهر في رفع الموجود في الخارج وهو الجسم مع الروح ، لا أحدهما فقط.

إن قلت : إنّ الشأن في الإنسان هو الروح فقط والجسم تابع لها ، فيصحّ توجيه الخطاب إلى الروح فقط.

قلت : نعم هو صحيح في الجملة ، ولكن سياق الكلام يأبى عن ذلك ، لأن رفع الروح إلى السماء إنما هو شأن كلّ نبي ، بل ولي وأهل التقوى ، فلا تبقى خصوصية في تخصيص عيسى بذلك ، ولا بد أن يكون في البين جهة معينة ، وهي رفع روحه مع جسمانيّته الظاهرة ، وبذلك امتاز عيسى عليه‌السلام عن إدريس الذي كان الرفع فيه معنويّا روحانيّا ، بقرينة قوله تعالى : (مَكاناً عَلِيًّا) [سورة مريم ، الآية : ٥٧] ، أي مكانة ومنزلة ممتازة عن غيره ، فيكون الخطاب في المقام بالنسبة إلى عيسى كقوله تعالى بالنسبة إلى موسى عليه‌السلام : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) [سورة طه ، الآية : ٤١] ، حيث إنّ ظاهر حرف الخطاب إنما يكون مع الإنسان الخارجي روحا وجسما ، مع أنه لو جعلنا الإنسان البرزخي كالإنسان في الدنيا مركبا من الجسم والروح كما أثبتناه في محلّه من أن الموجودات البرزخيّة والاخرويّة عين ما في العالم ، فالأمر أوضح.

إن قلت : بناء على ذلك فلا فرق بين عيسى عليه‌السلام وغيره في أن للجميع وجودا برزخيّا أيضا.

٣٢٧

يقال : الفرق حينئذ أنهم ماتوا فصار وجودهم وجودا برزخيّا ، وعيسى عليه‌السلام لم يمت بل صار بوجوده العنصري الدنيوي وجودا برزخيّا ، فيكون عيسى عليه‌السلام من قبيل الكلّي المنحصر في الفرد ، كما هو شأن الموجودات الفلكيّة.

قوله تعالى : (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا).

الطهارة معروفة ، وهي تستعمل في الطهارة الظاهريّة من الأرجاس ، والمعنويّة من الذنوب والأحداث. وفي معنى آخر ألطف من ذلك كلّه وهو : التخلّص ممّا هو من غير سنخه وصنفه.

والجملة معطوفة على خبر (إن) ، وهي قرينة اخرى على أن المراد بالرفع هو الجسماني والروحي معا ، والمراد منها الطهارة المعنويّة من رجس الكافرين وكفرهم وابتعاده عن مخالطتهم ومكائدهم ، وعن مجتمع استولت عليه كلّ رذيلة وكفر وجحود ، وتنزيهه عن شبههم ، فيكون بمنزلة ابتعاد الطير عن السباع بل أشدّ.

ويستفاد من قوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) سبب تطهيره ، وهو الكفر ومجالسة الكفّار.

قوله تعالى : (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا).

وعد حسن وبشرى لعيسى عليه‌السلام ومتبعيه. والمراد من الّذين اتبعوك هم الّذين آمنوا بعيسى عليه‌السلام واهتدوا بهديه ، واتبعوه في جميع ما أنزل الله تعالى عليه ، فنالوا رضى الله تعالى وحبّه عزوجل ، ووعدهم الخير والتفوّق على الّذين كفروا وأعرضوا عن نبوّته.

ومن سياق المقابلة بين الطائفتين يستفاد أن الطائفة الاولى هي المؤمنة الهادية المطيعة لربّها ، التي اتصفت بمقام الرضا والمحبّة لله تعالى ، وهم مختصّون بمن تابع عيسى عليه‌السلام واستقام على الهدى دون كلّ من نسب نفسه إلى النصرانيّة ، كيف وقد اعتقدوا بالكفر وما يخالف العبوديّة وأنكروا ما جاء به عيسى عليه‌السلام ، على ما حكى عنهم عزوجل في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم ، فيشمل النصارى المؤمنة قبل ظهور الإسلام والمسلمين بعد ظهوره ، المؤمنين بعيسى عليه‌السلام المبشّر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٣٢٨

وظاهر الآية الشريفة يدلّ على تفوّقهم وتلبّسهم بالنسبة إلى الكافرين بعيسى عليه‌السلام ، وهم اليهود في الظاهر والباطن وفي الحجّة والبرهان والعدد ، ولم يقيّد سبحانه التفوّق بوقت خاص ، بل يستفاد من الآية الشريفة أنه بشارة ووعد أبدي لهم ، فقد تحقّق هذا الوعد برهة من الزمن حين ما رفع عيسى عليه‌السلام من بين المؤمنين به مع شدّة مجاهدة الكفّار واليهود على محو دينه وإزالة طريقته وقتل المؤمنين به ، فقد أظهر الله تعالى الحقّ وانتشر دينه وكثر اتباعه إلى أن خرجوا عن الصراط المستقيم واستولى عليهم الظلم والفساد ، وسيتحقق وعد الله أيضا إذا رجعوا إلى الملّة المستقيمة والدين القويم ، وهو ما أخبرنا عزوجل بظهور عيسى عليه‌السلام في آخر الزمان ، ويدلّ عليه قوله تعالى : (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ).

وقيل : إنّ المراد بالفوقيّة الفوقيّة في الاحتجاج والبرهان ، وفي جهة المقبوليّة لحجج المتبعين له ، واستماع الناس لها وكونهم أطوع لها.

وفيه : أن ذلك احتمال حسن ثبوتا ، كما هو كذلك في شريعة لاحقة بالنسبة إلى الشريعة السابقة ، ولكن ظاهر الآية الشريفة التأبيد والدوام بالنسبة إلى الفوقيّة ، لا بالنسبة إلى الاحتجاج الذي هو له حدّ معين إلى ظهور الإسلام.

وقال بعض المفسّرين : إنّ ظاهر قوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، إخبار عن المستقبل ووعد صرف عمّا يقع بعيسى ومتبعيه من الله تعالى.

وفيه : أنه خلاف ظاهر الآيات الشريفة التي وردت في شأن عيسى عليه‌السلام في المواضع المختلفة من القرآن الكريم ، بل أن ظاهر قوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) ، تحقّق التوفّي بالنسبة إليه ، ولا معنى لإخباره عزوجل بأنه سيتوفاه بعد إماتته ، مع أن ذلك كلّه خلاف السنّة الشريفة التي وردت في شرح حالات عيسى عليه‌السلام ، وهي بمجموعها ممّا لا يسع لأحد إنكارها.

نعم ، ما ورد عن النصارى في حالات عيسى عليه‌السلام قابل لكلّ احتمال ، وجملة منها باطلة لا يمكن قبولها بوجه.

٣٢٩

قوله تعالى : (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).

التفات عن الغيبة إلى الخطاب ، ليشمل عيسى عليه‌السلام والّذين اتبعوه ، والّذين كفروا به ، فإن الجميع مصيرهم إلى الله تعالى ويحشرون إليه في يوم القيامة ، فيقضي بينهم بالحقّ في ما اختلفوا في أمر عيسى عليه‌السلام ودينه وشريعته ، وما اختلف فيه متّبعوه والّذين كفروا به.

وفي الخطاب الدلالة على شدّة الاعتناء بإيصال الثواب والعقاب لمستحقيهما.

قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً).

تفريع على ما تقدّم وتفصيل بعد إجمال ، لبيان جزاء المبطل وكيفيّته ، وهو الحكم الإلهي الذي يقضي به على الّذين كفروا ، وهم اليهود الّذين خالفوا عيسى عليه‌السلام وحاربوه.

قوله تعالى : (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ).

ذكر سبحانه وتعالى في الدنيا ، لبيان تفوق الّذين اتبعوا عيسى عليه‌السلام على اليهود الّذين كفروا به ، فقد شدّد الله العذاب عليهم في الدنيا أن جعلهم مغلوبين مخذولين ، ابتلاهم الله تعالى بأنواع البلايا من القتل والتشريد والذلّة. وفي الآخرة بأشدّ العذاب ، وما لهم في ذلك من ناصرين وأعوان يدفعون بهم عذاب الله.

وإنما أتى سبحانه بالجمع (من ناصرين) لبيان أن كلّ واحد منهم ليس له ناصر.

وفي نفي الناصرين عنهم دلالة على أن ذلك قضاء حتم لا يقبل الشفاعة.

قوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ).

بيان لحال المؤمنين ووعد حسن بالجزاء الأوفى لهم ، وفيه التفات من التكلّم إلى الغيبة ، تلطفا بهم وتحنّنا عليهم ، ولزيادة ثقة المؤمنين بالجزاء.

وإنما عدل سبحانه عن التعبير ب «الّذين اتبعوك» بهذا الخطاب ، لبيان حقيقة

٣٣٠

الاتباع ، وهي الإيمان والعمل الصالح ، وأن مجرّد الاتباع من دون أن يستتبع ذلك بعمل صالح لا أثر له ، ولا يستلزم استحقاق هذا الجزاء الحسن ، وقد أكّد ذلك سبحانه وتعالى في عدّة مواضع من القرآن الكريم ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ٦٢] ، وتوفية الجزاء ، أي إعطاء الثواب وافيا من غير نقص كما تقدّم ، ومقتضى المقابلة بين الجملتين أن يكون الجزاء في الدارين الدنيا والآخرة ، ففي الدنيا الفوقيّة والذكر الحسن والغلبة والنصرة ، وفي الآخرة الجنّة وحسن المآب.

قوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ).

تأكيد لمضمون ما ورد في الآية السابقة ، وهو أن مجرّد الاتباع لبعض الأفراد لا يوجب اللحوق بالمؤمنين ما لم يستتبع الإيمان بالعمل الصالح ، فإنه ظالم والله لا يحبّ الظالمين ، فهذه الآية المباركة تشير إلى الطائفة الثالثة ، وهي المتبعون في اللسان ومن انتسب إلى عيسى عليه‌السلام بالقول فقط ، من دون أن يتلبّس بحقيقة الإيمان ، ولعلّه لذلك لم يختم سبحانه وتعالى الآية الشريفة بما يدلّ على الرحمة والرأفة والمغفرة ، كما هو عادته تعالى في سائر الموارد.

قوله تعالى : (ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ).

إشارة إلى قصص عيسى عليه‌السلام التي ذكرها الله تعالى من حين ولادته إلى رفعه إلى السماء. والمراد بالذكر الحكيم هو القرآن الكريم الذي أحكمت آياته بخلوصها من الباطل ، والمتّقن نظمه والمشتمل على الحكمة ، يهدي المؤمنين إلى الصراط المستقيم والدين القويم ، المبيّن للمغيبات.

وإنما أتى بما يدلّ على البعد للإشارة إلى عظيم منزله المشار إليه وكرامته وشرفه ، وبهذه الآية الشريفة يختتم سبحانه وتعالى قصص عيسى عليه‌السلام وأخباره من حين ولادته إلى وفاته ورفعه في المقام ، ولكنه تعالى لم يفرغ منها ، وهذا ممّا تدلّ عليه هيئة المضارع في «نتلوه» ، الدالّة على استمرار الوحي.

٣٣١

والآية المباركة تدلّ على نبوّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وصدق دعواه وبطلان ما سواها.

قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

إجمال بعد تفصيل وإيجاز بعد إطناب لتأكيد الحجّة ، وهذا من الأساليب المستحسنة المتّبعة في مقام الاحتجاج والاستدلال.

والآية الشريفة في مقام الردّ على شبهة طائفتين :

الاولى : اليهود الذين استبعدوا خلق الإنسان من غير أب ، فاتهموا مريم العذراء.

والثانية : النصارى الذين ضلّوا في عيسى عليه‌السلام ، فزعموا أنه ابن الله تعالى ، فكان الجواب قاطعا ، حيث إن كلتا الطائفتين تعترفان بآدم وأنه خلق من غير أب ولا ام ، فما يقول فيه اليهود والنصارى يقال في عيسى عليه‌السلام ، فاكتفى سبحانه وتعالى بالتشبيه بخلق آدم عليه‌السلام حيث اقتضى الحال أن يوجز البيان.

والآية الشريفة على إيجازها اشتملت على حجّتين :

الاولى : أن عيسى وآدم عليهما‌السلام مخلوقان مسبوقان بالعدم ، وقد خلقهما الله تعالى حسب حكمته وعلمه ، وفقد الأب فيهما لا يصير خلقهما ممتنعا ، ولا يوجب ادعاء التهمة في عيسى.

الثانية : أن عيسى عليه‌السلام كآدم في خلقه بالأمر التكويني ، فلو اقتضى خلق عيسى من غير أب دعوى الالوهيّة فيه ، لاقتضى خلق آدم تلك أيضا ، مع أنه لم يدع أحد الالوهيّة ولعلّه أنه أولى بذلك ، إذ لم يخلق من أب وأم ، وأنه مسجود الملائكة ، بخلاف عيسى الذي خلق من ام ومن نفخ جبرائيل ، فاجتمعت في مريم العذراء الحالة الانعقاديّة والمنعقديّة ، فهو أبعد من دعوى الالوهية بمراتب عن آدم عليه‌السلام.

ثم إنّ الآية الشريفة تثبت حقيقة من الحقائق الواقعيّة ، وهي أن مجاري

٣٣٢

الأمور تحت قدرة الله تعالى وإرادته المقدّسة ، وأنه إذا أراد شيئا يتحقّق ولا يقف دونها شيء ، وإن كان خلاف العادة في عالم الأسباب والمسبّبات.

ويستفاد من قوله تعالى : (كُنْ فَيَكُونُ) ، ترتب الكون على الأمر من دون أن يتخلّف عن ذلك بلا احتياج إلى سبب معين.

ولكن الآية الشريفة لا تدلّ على انتفاء التدريج ، إذ أن جميع الموجودات مخلوقة بإرادته التكوينيّة ، سواء كانت من التدريجيّات أم لم تكن ، والتدرّج إنما يلاحظ بالنسبة إلى الأسباب ، وأما إذا لوحظ بالقياس إلى أمر الله فلا تدريج ولا مهلة.

وإنما عبّر سبحانه وتعالى بالفعل المضارع : (كن فيكون) ، مع أن الأمر كان في الماضي لتصوير ذلك الأمر تصوير مشاهدة وتجسيم في أذهان المخاطبين ، كأنه واقع الآن ، ولأن المضارع أظهر في التحقّق والثبوت.

وقوله تعالى : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) يدلّ على وجه الشبه بين عيسى وآدم عليهما‌السلام في أنهما خلقا على خلاف العادة ، ويحتمل أن يكون المراد به أن آدم عليه‌السلام في الخلق أغرب وأعظم ، ومع ذلك لم يدع أحد الالوهيّة فيه ، يكون أقطع للخصم وأحسم للشبهة.

قوله تعالى : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ).

تأكيد لما ذكر في الآيات السابقة من قصص عيسى عليه‌السلام في أنها الحقّ وليست قابلة للافتراء والتشكيك ، كما تدلّ الآية المباركة على أن الحقّ منحصر به تبارك وتعالى ، وما سوى ذلك من الباطل.

وفي الآية الشريفة إيماء إلى أن جميع ما اوحي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الحقّ ، وهو على الحقّ أيضا كما تقدّم مكررا.

وإنما ذكر سبحانه وتعالى : (مِنْ رَبِّكَ) ، للدلالة على أن الحقّ منه دون غيره ، وإليه ينتهي كلّ شيء ، لفرض أنه المبدأ والمعاد.

وقوله تعالى : (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) يدلّ على أن ما ذكره اليهود

٣٣٣

والنصارى في شأن عيسى عليه‌السلام مفتعل وامتراء ، وفيه تشجيع لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على المحاجّة معهم وإبطال دعاويهم.

والآية المباركة تشتمل على أبدع الأسلوب والبيان في مقام الاحتجاج والمخاصمة ، كما في قوله تعالى : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) [سورة هود ، الآية : ١٠٩].

وإنما نسب الامتراء إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مع أنه لا يحتمل فيه ذلك أبدا :

أوّلا : لصحة مخاطبة أحد وإرادة غيره على نحو : (إياك عني واسمعي يا جارة) ، وهو شائع في المحاورات الفصيحة.

وثانيا : لإثبات دعواه ونفي دعاوي اليهود والنصارى ، وعدم صحّة انتسابها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٣٣٤

بحوث المقام

بحث أدبي :

الظرف في قوله تعالى : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) متعلّق بأنصاري بتضمين النصرة معنى السلوك والسير والذهاب ، كما في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه‌السلام : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) [سورة الصافات ، الآية : ٩٩] ، والتضمين من المحسّنات البلاغيّة.

وقيل : متعلّق بفعل محذوف وقع حالا من الياء ، وهي مفعول به ، ومعناه : من ينصرني حال كوني داعيا إلى الله تعالى ، وإنما قالوا ذلك حفاظا على القواعد المعمولة في علم النحو ، ولكن ذلك تطويل بلا طائل تحته ، مع أن التضمين من المحسّنات البلاغيّة ـ كما عرفت ـ وهو أمر مرغوب فيه.

وقيل : أن «إلى» بمعنى مع ، ولكن لا كلّية في ذلك ، وإنما تأتي (إلى) بمعنى (مع) في موارد معدودة ، فلا يقال : جاء زيد إليه مال. مع أنه مخالف لأدب عيسى عليه‌السلام والقرآن مع الله تعالى.

وقال الزمخشري : إن (إلى) بمعنى الانتهاء ، أي : من ينصرني منتهيا نصره إلى الله تعالى.

وفي قوله تعالى : (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) الطباق التام ، وهو من المحسّنات البديعيّة.

وقوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) خبر أن ، (وَرافِعُكَ) عطف عليه ، وكذا (جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ). ومتوفيك أصله متوفيك (بالضمة على الياء) ، ولكن حذفت الضمة استثقالا.

وتقديم الجار والمجرور في قوله تعالى : (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) ، يفيد تأكيد الوعد والوعيد.

٣٣٥

و (ثم) في قوله تعالى : (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) للتراخي في الإخبار ، لا في المخبر به.

وجملة : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) ابتدائية لا محل لها من الإعراب ، مبيّنة لوجه الشبه.

بحث دلالي :

الآيات الشريفة تدلّ على امور :

الأوّل : يدلّ قوله تعالى : (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) على ظهور الكفر اليهود ظهورا بيّنا ، بحيث تعلّق به الإحساس ، فلم يبق أي احتمال لرشدهم واهتدائهم ، ولذا عقّبه سبحانه وتعالى بما يدلّ على الامتحان الذي هو الوسيلة الوحيدة لتمييز المؤمن عن الكافر.

الثاني : يدلّ قوله تعالى : (قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) على حقيقة من الحقائق الواقعيّة ، وهي أن كلّ مرشد اجتماعي لا بد له من مركز يعتمد عليه في ما يلاقيه في سبيل نشر دعوته ، والحافز الذي يحفزه على العمل عند ما يرى ما يثبطه فيه ، وله الأثر الكبير في تنفيذ العمل وإنجازه ، وهذا ممّا نشاهده في القوى الطبيعيّة أيضا ، فإنها تتمركز في نقطة ثم تنتشر منها.

الثالث : يدلّ قوله تعالى : (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) على جلالة قدر الحواريين ، فإنهم آمنوا بجميع ما انزل على عيسى عليه‌السلام بعد ما كفر قومه ، وأسلموا أمرهم إلى الله تعالى واتبعوا ما جاء به رسولهم ، واتقوا الله وعبدوا الله ربّهم وسلكوا الصراط المستقيم الذي يوصلهم إلى السعادة والكمال. وهذا هو الذي طلبه عيسى عليه‌السلام منهم عند ما قال : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ* إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) ، إلا أن جميع ذلك لا يدلّ على كونهم أوصياء أو أنبياء ممّا ورد في هذه الآيات الشريفة الدالّة على مدحهم والمبيّنة لعظيم منزلتهم من بين سائر الناس الّذين كفروا بعيسى.

٣٣٦

الرابع : أن قوله تعالى : (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) ، يدلّ على أن للشاهدين منزلة كبرى ودرجة عظمى من بين الناس ، سواء في الدنيا أم في الآخرة ، حيث إن كلّ مؤمن إنما يطلب أن يكون مع الشاهدين ، قال تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [سورة المائدة ، الآية : ٨٣] ، فالشاهد هو الحجّة على الخلق ، سواء كانت شهادته على التبليغ أم كانت على أعمال الخلق أو سائر الامة.

والشاهد هو الذي بلغ من التقوى درجة عليا ، ومن الإيمان منزلة كبرى حتّى اختاره الله تعالى لدرجة الشهادة ، وهو الكامل الذي له الشهادة على الناقص ، كما نشاهده في الطبيعيّات أيضا ، وقد تقدّم في قوله تعالى : (يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [سورة البقرة ، الآية : ١٤٣] ، بعض الكلام.

الخامس : يدلّ قوله تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ). أن كلّ مكر في دين الله يترتب عليه الجزاء لا محالة ، سواء في الدنيا أم في الآخرة ، ومكره تعالى أشدّ وأقوى من غيره ، ومع ذلك فهو يفعل وفق الحكمة المتعالية ، وبه يصل المحسن إلى إحسانه والمسيء إلى نكال أعماله ، ولذا كان في مكره كمال العناية بخلقه واللطف بعباده ، ويظهر ذلك بوضوح في مكره عزوجل باليهود الّذين أرادوا قتل المسيح وصلبه ، فرفعه الله تعالى من بين أيديهم وحفظه وحفظ المؤمنين ودينه من الضياع ، لئلا تذهب جميع أتعابه سدى.

السادس : يدلّ قوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) ، على أن لعيسى بن مريم عليهما‌السلام شأنا من بين الأنبياء ، فقد أخذه من عالم الأرض الذي كثر فيه الفساد واستولى على أهله العصيان والكفران ورفعه إلى السماء ، التي هي محلّ القدس والقديسين ، ولعلّ السرّ في ذلك أن عيسى عليه‌السلام خلق من مادة أرضيّة متكوّنة من مريم العذراء ومادة ملكوتيّة هي نفخة جبرائيل ، وتجاذبت المادتان فالاولى تجذب عيسى إلى عالمها ، والثانية كذلك ، وغلبت الثانية ورفعت عيسى عليه‌السلام إلى السماء إلا أن الاولى أوقفت هذا الرفع العلوي في السماء الرابعة ، ولو لم تكن هذه لرفع

٣٣٧

عيسى عليه‌السلام إلى العرش الأعلى.

ويمكن أن يكون تحديد الرفع إلى السماء الرابعة أيضا ما كان معه من حطام الدنيا ، وهو مدرعة صوف ، وكان قلبه متوجها إلى امه الحنينة عليه الرؤوفة به ، ولو لا هذان الأمران لما كان لرفعه حد معين ، فإن توجّه القلب ولو في الجملة إلى غير الله تعالى يوجب التحديد ، وكذلك المادة التي هي من الأرض توجب منع السباحة في ذلك اليم ولو كانت من غزل ونسيج مريم عليها‌السلام.

ومن ذلك يعرف انقطاع قلب خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله عن جميع ما سوى الله بالكلّية حين رفع إلى العرش الأعلى وخاطب الله تعالى مواجهة ، كما حكى عنه الجليل في كتابه.

إن قلت : إنّ آدم عليه‌السلام خلق أيضا من مادة أرضيّة ونفخة روحانيّة كما حكى عنه عزوجل في القرآن الكريم ، قال تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) [سورة الحجر ، الآية : ٢٩] فلا بد أن يكون هذا التجاذب فيه أيضا.

قلت : إنّ آدم عليه‌السلام خلق من الأرض وللأرض ولم تكن فيه حكمة رفعه إلى السماء ، بخلاف عيسى عليه‌السلام فإنه خلق من مادة أرضيّة ونفخة ملكوتيّة وتحقّقت فيه الحكمة لرفعه مدة معينة.

السابع : يدلّ قوله تعالى : (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، على أن الرفع لم يكن رفعا معنويّا فقط ، بل كان جسمانيّا وروحانيّا معنويا ، فقد طهّره الله تعالى من مجالسة الّذين كفروا به ورفع ذكره ونزّهه عن الفسقة والعصاة.

ولو كان التطهير معنويا لما اختص عيسى عليه‌السلام ، بل أن جميع الأنبياء مطهّرون من الأرجاس والأنجاس والكفر والعصيان.

الثامن : يدلّ قوله تعالى : (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) على تفوق من اتبع عيسى عليه‌السلام على الّذين كفروا به في جميع شؤون السلطة والعدد ، والحجّة والبرهان والشرف.

٣٣٨

وإنما عبّر سبحانه ب : (الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ) ، لتضمّنه العلّة لهذا التفوق ، وهي الاتباع والإيمان والعمل الصالح والتقوى ، فيختصّ بمن اتبعه مخلصا في أوّل دعوته وأهل الإسلام الذي اتبعوه باتباع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

عذابا شديدا في الدنيا والآخرة : «فإن تعذيب الّذين كفروا بعيسى عليه‌السلام في الدنيا والآخرة يستلزم تفوق الّذين اتبعوه».

التاسع : إنما علّق سبحانه وتعالى توفية أجور المؤمنين على الإيمان والعمل الصالح ، للدلالة على كمال هذين الأمرين والإرشاد إلى الدعوة إليهما ، وعلّق العذاب على الكفر إيذانا بعظم قبح الكفر والابتعاد عنه.

العاشر : يدلّ قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) على صحّة الاستدلال والاحتجاج مع الخصم بالوجه الحسن ، فإنه تعالى أثبت خلق عيسى من غير أب كما خلق آدم عليه‌السلام من غير أب ولا ام ، فإنهما في التقدير واحد.

الحادي عشر : يدلّ قوله تعالى : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) على أن الحقّ مبدؤه من الله تعالى وختمه إليه عزوجل ، وأن رسوله على الحقّ.

كما يدلّ على تحريك العزيمة فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله للاحتجاج والمخاصمة على الحقّ وتثبيته على اليقين ، وهذا أسلوب لطيف في تحريك العزائم وتهييج الفطرة على الثبات في مقام الاحتجاج على الحقّ.

ويدلّ على أن ما عند غيره باطل لا أثر له ، وأن السامع إذا ألقى إليه هذا الخطاب انزجر وارتدع عن المخاصمة مع الحقّ ، وقد ورد نظير هذه الآية الشريفة في سورة البقرة ، آية ١٤٧ ، أيضا وتقدّم الكلام فيها أيضا.

الثاني عشر : يدلّ قوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) على أن مجرّد الاتباع لا يكفي في القرب إليه تعالى وتوفية الأجر الكبير إلا إذا كان مقرونا بالعمل الصالح والانقلاع عن الظلم ، وإلا فإنه يوجب البعد عنه عزوجل ، فكأن هذه الآية الشريفة مسوقة لبيان حال طائفة ثالثة ، وهي الفساق ومرتكبوا الظلم بعد ذكر

٣٣٩

طائفتين هما الّذين اتبعوا عيسى عليه‌السلام ، والثانية هم الّذين كفروا به.

بحث روائي :

في تفسير القمّي : في قوله تعالى : (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) عن الصادق عليه‌السلام : «أي لما سمع ورأى أنهم يكفرون. والحواس الخمس التي قدّرها الله في الناس : السمع للصوت ، والبصر للألوان وتمييزها ، والشم لمعرفة الروائح الطيبة والمنتنة ، والذوق للطعوم وتمييزها ، واللمس لمعرفة الحار والبارد واللين والخشن».

أقول : ما ذكره عليه‌السلام موافق لما اتفق عليه الفلاسفة الإلهيون والطبيعيون ، وهو عليه‌السلام ليس في مقام الحصر ، بل في مقام بيان ما هو الغالب وإلا فقد أثبت العلم الحديث حواس اخرى ليست من المذكورات.

وفي العيون : عن ابن فضال عن أبيه قال : «قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام : لم سمّي الحواريون الحواريين؟ قال عليه‌السلام : أما عند الناس فإنهم سمّوا حواريون لأنهم كانوا قصارين يخلصون الثياب من الوسخ بالغسل ، وهو اسم مشتق من الخبز الحوار ، وأما عندنا فسمّي الحواريون الحواريين لأنهم كانوا مخلصين في أنفسهم ، ومخلصين لغيرهم من أوساخ الذنوب بالوعظ والتذكير».

أقول : يمكن فرض الجامع القريب بينهما ، لأن غسل الثوب مستلزم لإزالة وسخه ، والوعظ والتذكير عن إخلاص يستلزمان نظافة النفس وطهارة الروح عن الذنوب.

وفي التوحيد : عن الصادق عليه‌السلام : «أنهم كانوا اثني عشر رجلا ، وكان أفضلهم وأعلمهم لوقا».

أقول : وفي تفسير القمّي أيضا كذلك.

وفي تفسير القمّي : عن حمران بن أعين عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إن عيسى عليه‌السلام وعد أصحابه ليلة رفعه الله إليه ، فاجتمعوا إليه عند المساء وهم اثنا عشر رجلا ، فأدخلهم بيتا ثم خرج عليه من عين في زاوية البيت ، وهو ينفض

٣٤٠