مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٥٩

الله تعالى لا من الشيطان.

وهو مردود أيضا ، فإنه إن كان باعتبار نفس مقام نبوّة زكريا عليه‌السلام فهو باطل ، لأنه بعد أن علم يقينا بخطاب الملائكة ، وأن المحاورة المتقدّمة لا تدع مجالا للشك في أنها لم تكن من الشيطان ، خصوصا مع ملاحظة مقام زكريا ونبوّته المرتبطة مع الملائكة ارتباطا تاما. وإن كان باعتبار تعريف غيره ، فهو باطل أيضا ، فإنه لم يعرف شيئا من هذه المحاورة حتى يشكّ فيها ، بل هي من جملة الأسرار بين زكريا عليه‌السلام وبين الله تعالى ، كما في استجابة الدعوات بالنسبة إلى كلّ مؤمن مستجاب الدعوة ، وسيأتي في البحث الكلامي الفرق بين خطاب الرحمن وكلام الملك وهمسات الشياطين.

قوله تعالى : (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ).

أي : قال الله تعالى لزكريا : آيتك التي طلبتها هي أن لا تتكلّم مع الناس ، وإنما خصّ الناس بالذكر لبيان أنه لم يكن ممنوعا من التكلّم بذكر الله والدعاء ، فيستفاد أن الممنوع منه إنما هو التكلّم مع الناس في شؤون الدنيا ، لا عدم التكلّم المطلق ، حتى التكلّم بالحقّ مع الحقّ ، كالمناجاة والدعاء ونحو ذلك ، بقرينة ذكر الناس والتكلّم بالرمز.

والمشهور بين المفسّرين أن عدم التكلّم كان اضطراريا بالنسبة إليه ، لأن الله عزوجل قد سلب قدرته على ذلك ، إما باعتقال لسانه من غير آفة أو معها ، وهي أنه ربّا لسانه وزاد في فيه حتى ملأه فمنعه الكلام ، وإن كان قادرا على التسبيح والصلاة والمناجاة معه عزوجل ، وهذه آية كانت من قبل الله تعالى في نفس النبيّ لا يقدر عليها غيره ، لمكان العصمة فيه.

وعن بعض المفسّرين أن حبس لسانه كان من باب العقوبة له ، لأنه طلب الآية بعد المشافهة مع الملائكة والبشارة له ، والسبب في ذلك تشكيك الشيطان له في كون البشارة من الله تعالى. ويقرب هذا ممّا ورد في إنجيل لوقا : أن جبرئيل قال لزكريا : وها أنت تكون صامتا ولا تقدر أن تتكلّم إلى اليوم الذي يكون فيه هذا ،

٢٦١

لأنك لم تصدق كلامي الذي سيتم في وقته. [إنجيل لوقا : ١ ـ ٢٠].

والحقّ أن يقال : إن الآية الشريفة لا تدلّ على شيء ممّا ذكروه ، أما ما ذكره بعض المفسّرين فهو مردود من جهات كثيرة لا تخفى على من تأمّل فيه ، ويكفي في وهنه أنه من الإسرائيليات ، ولا وجه لكون ذلك عقوبة له بعد ما ذكرنا من أنه كان على يقين من أمره ، وأنه إنما طلب الآية لدفع شبه المنافقين وإنكار المنكرين ، ولإظهار الخضوع والخشوع والتبتل إليه عزوجل ، وبيان النعمة ، فلا معنى لأن يكون عدم التكلّم عقوبة له.

الا أن يقال : إن عدم تكلّمه مع الناس لأجل ما حصل منه من ترك الأولى بقوله : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) ، الظاهر في التعجّب من البشارة الإلهيّة ، فإن مثل ذلك من أنبياء الله تعالى مع علمهم بكمال قدرته جلّت عظمته حتى على الممتنعات العادية ، ممّا لا ينبغي ، فأخذ بقوله هذا بعدم تكلّمه مع الناس ثلاثة أيام ، فيكون هذا نحو توبة لما صدر منه ، بقرينة قوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) وبهذا وإن أمكن الجمع بين جميع أقوال المفسّرين في المقام ، ولكن مع ذلك أنه مجرّد احتمال.

وأما قول المشهور ، فظاهر الآية الشريفة ينفي ذلك أيضا ، لأن نسبة الفعل إلى الفاعل في قوله تعالى : (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) ، ونفيه عنه ظاهر في كونه اختياريّا ، فهي تدلّ على أن عدم التكلّم كان اختياريّا له ، فإنه بعد أن طلب من الله تعالى الآية التي تكون علامة لصدقه أمام الناس ، ليتمكن أن يدفع بها شبه الملحدين ، وإظهار كرامته عند الله تعالى ، ومنزلة المولود الجديد لديه عزوجل ، لا معنى لكونها آية اضطراريّة له ، ونظير هذه الآية في ولادة يحيى عليه‌السلام ما وقع عند ولادة عيسى ، قال تعالى في مريم العذراء : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) [سورة مريم ، الآية : ٢٦] ، ولم يقل أحد إن صوم مريم عليها‌السلام كان اضطراريّا لها.

وقد ذكرنا أن هذه الآية الشريفة إنما جاءت موافقة ومناسبة لموردها ممّا قد

٢٦٢

يواجهه من الناس ، وليست كلّ آية تناسب موردها ، وفي المقام يتطلّب المورد أن تكون الآية لدفع إنكار المعاندين وشبه المنافقين وإظهار المنزلة والكرامة للنبيّ والمولود الجديد ، وأحسن شيء يتحقّق فيه هو الإرجاع إلى البديهيّة والحسّ والوجدان ، والسكوت على تلك الشبهات التي لا يكون ردّها والتعرّض لها إلا من المغالطة والمحاجّة ، التي يجلّ عنها مقام العقلاء فضلا عن الأنبياء ، وهذا ظاهر لمن تأمّل في هذه الآية التي تحقّقت بالنسبة إلى عيسى وامه مريم العذراء عليهما‌السلام من شبهات لم تتورّع اليهود أن يلصقوها بمريم الصدّيقة ، ويمكن أن يستفاد ذلك من اضافة الآية إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال تعالى : (آيَتُكَ) ، أي الآية التي تناسب حالك ومقامك.

قوله تعالى : (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً).

مادة (رمز) تأتي بمعنى التحرّك ، والرمز هو الافهام بتحرك شيء ، سواء كان بالرأس أم اليد أو العين أو غيرها ، وقيل هو مختصّ بالشفة ، ولم يدلّ دليل على التخصيص. والاستثناء منقطع.

والمراد بثلاثة أيام مع لياليها ، بقرينة قوله تعالى في موضع آخر : (ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) [سورة مريم ، الآية : ١٠] ، وكلتا الآيتين قرينة على استمرار مدّة الرمز وتواليها.

والمعنى : أنه لا تتكلّم مع الناس في ردّ مقالاتهم في هذا الموضوع إلا إشارة باليد أو الرأس أو نحو ذلك ، وهذا أعظم شيء لتسكيت خطاب الجاهلين عند تعرّضهم للمخاطبة.

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ).

العشي والإبكار طرفا النهار ، أي : واذكر ربك باللسان والقول كثيرا ، وأدم على صلواتك في أطراف النهار.

٢٦٣

بحوث المقام

بحث أدبي :

قوله تعالى : (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) ، نصب على الحال من الأسماء التي وردت من قبل بمعنى ذرّية في حال كونهم متناسبين ، وقيل : إنها نصبت على البدلية من الآلين. ولو استؤنفت فرفعت كان له وجه أيضا لبيان الأهمية.

و (من) في قوله تعالى : (بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) اتصالية.

والظرف (إذ) في قوله تعالى : (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ) ، قيل فيه وجوه ، فعن بعض أنه زائد ، وهو غلط.

وعن آخر أنه منصوب على الظرفيّة لما قبله ، ولكنه لا يناسب مجيئه بعنوان الصفة الدالّة على الثبوت الدائم المطلق.

وقيل : إنه منصوب بفعل مقدّر ، أي اذكر وهو بعيد عن السياق.

وقيل : انه ظرف لاصطفى المذكور في أول الآية المتقدّمة.

ويرد عليه أنه لا يصحّ أن يكون ظرفا لاصطفاء آدم ونوح.

والوجه أنه معمول لفعل مقدّر يدلّ عليه الكلام ، وهو استجابة لها إذ قالت.

و (محررا) في قوله تعالى : (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) منصوب على الحالية من (ما).

وأنثى في قوله تعالى : (إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) ، إما حال مؤكّد من الضمير ، أو بدل منه ، أو مفعول ثان لوضعت.

وإنما أتى عزوجل ب (ما) الموصولة في قوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) دون (من) لأن الاولى يؤتى بها لما يحصل به ، فهي تلازم الجهالة غالبا.

و (نباتا) في قوله تعالى : (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) ، إما اسم مصدر ، أو مفعول مطلق لأنبتها بدل عن مصدره.

٢٦٤

و (كلما) في قوله تعالى : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ) منصوب ب (وجد) ، أي وجد كلّ دخلة ، ونصب المحراب على التوسع ، إذ حقّ الفعل أن يتعدّى ب (في) ، أو (إلى) وإظهار الفاعل.

و (هنا لك) في قوله تعالى : (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا) منصوب على الظرفيّة ، لأنه ظرف يستعمل للزمان والمكان ، وإن كان أصله للمكان ، وقد تجر بمن وإلى.

وقوله تعالى : (وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) ، وهو قائم مبتدأ وخبر ، والجملة حاليّة من مفعول النداء. و (يصلي) حال من الضمير في (قائم) ، والظرف (في المحراب) متعلّق إما ب يصلي أو ب قائم ، لأن أحدهما يلازم الآخر في المقام.

وإنما اختلفت الجملتان في قوله تعالى : (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) ، فكانت الاولى فعليّة ، والثانية اسميّة ، لأن الكبر مترقّب الحدوث ، يحدث شيئا فشيئا ، فلم يكن وصفا لازما ، بخلاف الثانية ، فإن العقر وصف لازم ثابت ، ولذلك صارت الجملة اسميّة.

وقوله تعالى : (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) يمكن إعرابه على وجهين :

الأول : أن يكون المراد بالجعل التغيير ، فيتعدّى إلى مفعولين ، أحدهما (آية) والثاني (لي).

الثاني : أن يكون الجعل بمعنى الخلق والإيجاد ، فيتعدّى إلى مفعول واحد ، وهو (آية) ، ويكون (لي) في موضع النصب على الحال من (آية) ، وصفة النكرة إذا تقدّمت عليها أعربت حالا منها.

بحث دلالي :

يستفاد من الآيات الشريفة امور :

الأول : يدلّ قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً) ، على أن الاصطفاء إنما يكون بإرادة من الله تعالى واختياره ، وليس للإنسان إرادة فيه ، فإنه جلّت عظمته أعلم حيث يجعل رسالته ، نعم إن للاصطفاء أسبابا كثيرة ، بعضها اختياري

٢٦٥

للعبد المصطفى ـ كما تقدّم ـ ولكن نفس الاصطفاء والنبوّة والولاية ونحوها لا بد أن تكون بإذن من الله تعالى وتعيين منه عزوجل ، ولا يمكن أن تكون تحت اختيار البشر لعدم إحاطة العقول بذلك ، فيلزم الخلاف أو الفساد.

الثاني : لم يذكر سبحانه وتعالى خاتم الأنبياء في آية الاصطفاء صريحا ، ولكن قد ذكره في قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) ، ويستفاد من ذلك أن مقامه صلى‌الله‌عليه‌وآله فوق مقام الاصطفاء ، حيث جعل متابعته صلى‌الله‌عليه‌وآله سببا لمحبّته تعالى ، التي هي من مقتضيات الاصطفاء كما عرفت.

الثالث : يستفاد من آية الاصطفاء أن اصطفاء الله تعالى لبعض عباده يدلّ على الامتياز ، وأن المصطفين ممتازون عن سائر الخلق ، لتحقّق الإنسانيّة الكاملة فيهم ، وأن لهم نفوسا قدسية هي المرآة الأتم لأخلاق الله تعالى والعبوديّة المحضة ، وهي مظهر أسمائه وصفاته ومحل تجلّيه عزوجل ، فهم آيات الله التكوينيّة والتشريعيّة.

الرابع : لعلّ الغرض الأهم من آية الاصطفاء وآية المحبّة هو سوق الناس إلى المكارم وإيقاظ من هو غافل عن الحقيقة والكمال ، فإن محبّة الله تعالى واصطفاء لمحبّيه لا يمكن أن تحصلا إلا بالإيمان بالله تعالى إيمانا حقيقيّا ، والتوجّه إليه تعالى والعمل بما أنزله عزوجل بجد وإخلاص ، فيشمله حينئذ ما شمل أولياء الله تعالى المصطفين من التوفيقات ونزول البركات ، ويستعد لتلقّي فيوضات الله تعالى ، ويصلح أن يكون وليّا يصلح به نظام الدنيا والآخرة ، فالآية الشريفة ترشد الناس إلى طريق هؤلاء الذين اصطفاهم الله تعالى على العالمين ، وأن يكون سيرهم وسلوكهم كسيرهم وسلوكهم ، فتكون الآية من الكناية التي هي أبلغ من التصريح.

الخامس : يستفاد من قوله تعالى : (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) ، أن هذه الذرّية المصطفاة من الخلق هي محفوظة من لدن آدم عليه‌السلام إلى نوح إلى آل إبراهيم إلى آل عمران ، وأن ذكر الأفراد قبل ذلك إنما هو لبيان اتصال السلسلة والاتحاد بين تلك الأفراد ، وأنها محفوظة إلى آخر الدهر وفناء الدنيا ، لا يمكن أن تنقطع هذه السلسلة

٢٦٦

وإن تقادم عليها الدهر ومرّت عليها السنون والأعوام ، وأن لهذه الذرّية أفرادا في كلّ زمان ، بهم تحفظ الشريعة ويستقر النظام.

ومن ذلك يعلم أن محمدا وآله وإن لم يذكروا صريحا في هذه الآية الشريفة ، ولكنهم داخلون فيها ، بمقتضى التعليل في آخرها ، ويدلّ على ذلك قول الإمام الباقر عليه‌السلام : «نحن منهم ، ونحن بقية تلك العترة» ، وأن صاحب الأمر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) يحتجّ عند ظهوره بالآية المباركة ، وأنه أولى الناس بنوح وإبراهيم ، وقد ورد عن أهل البيت أنهم كانوا يقرءون الآية الشريفة (وآل إبراهيم وآل عمران وآل محمد على العالمين) ، كما في تفسير القمّي وأمالي الشيخ الطوسي وتفسير العياشي ، وفي تفسير الثعلبي مسندا عن الأعمش عن أبي وائل ، قال : قرأت في مصحف ابن مسعود : (ان الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل محمد على العالمين) ، فأبدل اسما مكان اسم» ، وروى مثله هشام بن سالم قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً) فقال عليه‌السلام : هو آل إبراهيم وآل محمد على العالمين» ، ويمكن أن يكون الوجه في ذلك أنه من باب التنزيل ، وأن أهل البيت أهم المقصودين من إبراهيم وآله بمقتضى الوحي على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيكون ما ورد في مصحف ابن مسعود وغيره بعنوان التأويل ، ومثل ذلك كثير في القرآن الكريم كما ذكرنا مرارا ، فلا يستفاد من الروايات المتقدّمة التحريف بعد صحّة حملها على بيان المصاديق والتنزيل ، وما ورد من أنه «أبدل اسما مكان اسم» ، يكون بحسب التنزيل لا أصل الوحي.

ژ السادس : يدلّ قوله تعالى : (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) ، على كمال انقطاع امرأة عمران إليه تعالى ، فإنها حرّرت وليدها عن طاعتها إلى طاعته عزوجل ، وأعتقته لوجهه الكريم ، والآية تدلّ على أنها طلبت الولد في ضمن نذرها ، لعدم لياقة الأنثى لما تريده.

السابع : إنما ذكرت امرأة عمران (ما في بطني) ، حفظا لأدب الدعاء مع الكبير العظيم ، وتحفظا لعدم ذكر ما يقرب من العورة مع إمكان إظهار المعنى بغيره

٢٦٧

بلفظ هو أشمل منه ، قال تعالى : (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) [سورة النجم ، الآية : ٣٢].

الثامن : يدلّ قوله تعالى : (قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) على كمال تحسّرها وتحزّنها عند وضعها الحمل أنثى ، وأن هذا الكلام صدر عن قلب كسير وفؤاد حزين ، ومع ذلك فقد دعت للمولودة بقولها (والله أعلم بما وضعت) ، وعظّمت وفخّمت شأنها ، حيث أدخلتها في علم الله تعالى ، وطلبت رعايتها منه عزوجل بقولها : (إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) ، واعترفت بالعجز أمام قدرته سبحانه وتعالى ، وأن إرادته فوق إرادة البشر ، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

التاسع : يستفاد من قوله تعالى : (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) ، أن التسمية كانت من حقوقها ، وليس لأحد غيرها هذا الحقّ ، فقد مات أبوها وهي حامل بها ، مع أنه يمكن أن يستفاد من تبادرها بالتسمية أنها كانت تعلم بها سابقا ، وأن لهذه المولودة شأنا كبيرا ، وفيها الصلاحية لخدمة البيت ، مضافا إلى أن التسمية من المخلوق الممكن ينفي شبهة الغلو في مريم العذراء.

العاشر : يدلّ قوله تعالى : (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) ، على أنها طلبت بقاءها صحيحة لا تعترضها صوارف الدهر وعاديات الزمان ، حتى تكبر وتتحقّق امنيتها ، وهي الولد الذكر.

وإنما قدّمت الاستعاذة وأدّت بالفعل المضارع ، للدلالة على استمرار الاستعاذة ودوامها والاهتمام بشأنها ، وبذلك لم يبق للشيطان فيها وفي ذرّيتها نصيب.

والآية المباركة لا تدلّ بشيء من الدلالات على أن كلّ مولود يمسّه الشيطان إلا من عصمه الله تعالى ، وقد تكلّف جمهور المفسّرين في تأويل هذه الآية الشريفة بما لا محصل له ، مع أن ما ذكروه في المقام لا يصلح للاعتماد عليه ، فالآية ليست إلا في مقام الإرشاد إلى أن الإنسان لا بد له من الاستعاذة من عدو قد آلى على نفسه

٢٦٨

أن يغويه ويضلّه عن الطريق ، فلا بد من الالتجاء إلى الله تعالى في جميع الحالات ، لا سيما من مثل امرأة عمران التي نذرت ابنتها لله عزوجل ، وطمعت أن تكون عابدة مطيعة ، وأن تكون لها ذرّية طيبة ، وقدر أن يكون لها شأن كبير في المستقبل.

الحادي عشر : يدلّ قوله تعالى : (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) ، على الجزاء العظيم الذي وعده الله تعالى لهذه المرأة المؤمنة المطيعة ، جزاء إخلاصها في نذرها ، فهو عزوجل قد رضي بالأنثى وتلقّاها بوجه حسن ، فهو الربّ الكريم الذي تعهّد تربيتها تربية حسنة في جميع شؤونها وحالاتها ، فصارت امرأة عابدة لخالقها مطيعة لربّها ، طهّرها عن الرذائل واصطفاها على نساء العالمين ، وجميع ذلك كان استجابة لدعاء أمها وتحقّقت جميع امنياتها ، وممّا جعله الله تعالى وسيلة لتربيتها الحسنة أن دخلت مريم في كفالة زكريا النبيّ الكريم.

ويستفاد من ذلك أنه لا بد للإنسان من الدخول في كفالة من يقوم بتربيته تربية صالحة ، ولا يتأتى ذلك لكلّ فرد ولا يقدر أن يقوم كلّ أحد لوحده في تربية نفسه ، وكأن هذه الآية الشريفة تبيّن سبب اصطفاء الله تعالى مريم ، وهو الإنبات الحسن ورضاه تعالى بها.

الثاني عشر : يدلّ قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) ، على أن العلّة في ارتزاق مريم عليها‌السلام هي أن جميع الأرزاق ـ سواء كانت ماديّة أم معنويّة ـ بيد الله تعالى ، وأنه يعلم بخصوصيات الرزق والمرزوق وكيفيّته وجهاته. ولذلك يمكن تطبيق هذه الآية في كلّ مورد علم من الأدلّة الصحيحة القويمة أنه داخل تحت الآية الشريفة ، كما ورد بالنسبة إلى فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، فإنها أيضا ممّن تقبّلها ربّها بقبول حسن ، وقد أبان فضلها على سائر النساء وطهّرها من جميع الرذائل الخلقيّة والخلقيّة ، وتدلّ الأدلّة النقليّة والعقليّة على ذلك ، فلئن كانت مريم العذراء مصطفاة على نساء العالمين في وقتها ، ولكن الصدّيقة الطاهرة مصطفاة على جميع نساء العالمين ، ولئن رزقت مريم عليها‌السلام من الرزق المخزون عند الله تعالى لوحدها إلا أن فاطمة الزهراء عليها‌السلام قد رزقت هي وأولادها وآثرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على نفسها ،

٢٦٩

فقد روى أبو يعلى عن جابر : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أقام أياما لم يطعم طعاما حتى شق ذلك عليه ، فطاف في منازل أزواجه فلم يجد عند واحدة منهن شيئا ، فأتى فاطمة فقال : يا بنية هل عندك شيء آكله فإني جائع؟ فقالت : لا والله ، فلما خرج من عندها بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم ، فأخذته منها فوضعته في جفنة لها ، وقالت : لأوثرن بهذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على نفسي ومن عندي ، وكانوا جميعا محتاجين إلى شبعة طعام فبعثت حسنا أو حسينا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فرجع إليها فقالت له : قد أتى الله تعالى بشيء قد خبأته لك ، قال : هلمي يا بنية بالجفنة ، فكشفت عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزا ولحما ، فلما نظرت إليها بهتت وعرفت أنها بركة من الله ، فحمدت الله تعالى وقدّمته إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما رآه حمد الله تعالى ، وقال : من أين لك هذا يا بنية؟ قالت : يا أبت هو من عند الله ، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ، فحمد الله سبحانه ثم قال : الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل ، فإنها كانت إذا رزقها الله تعالى رزقا فسئلت عنه قالت : («هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) ، ثم جمع عليا والحسن والحسين عليهم‌السلام وجميع أهل بيته حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو ، فأوسعت فاطمة عليها‌السلام على جيرانها».

الثالث عشر : يدلّ قوله تعالى : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) ، أن أقرب ما يكون الإنسان إلى ربّه هي حالة الصلاة ، فإنها أفضل عبادة وأفضل القربات ، كما تقدّم.

الرابع عشر : يدلّ قوله تعالى : (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) ، على رجحان طلب الأولاد وحسنه ، وهو سنّة الأنبياء والصالحين والصدّيقين ، وقد دلّت عليه آيات اخرى ، منها قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه‌السلام : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) [سورة الصافات ، الآية : ١٠٠] ، وكذا قوله : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) [سورة الشعراء ، الآية : ٨٤] ، وقال تعالى : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) [سورة الفرقان ، الآية : ٧٤] ، وفي السنّة المقدّسة الشيء الكثير من ذلك.

٢٧٠

الخامس عشر : يدلّ قوله تعالى : (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) ، على القاعدة المعروفة أن كلّ نبيّ لا بد أن يخبر عن نبيّ آخر سابق أو لا حق ويصدقه ، وهي من إحدى ركائز النبوّات الإلهيّة كما عرفت.

السادس عشر : يستفاد ممّا ورد في طلب زكريا الذرّية أن للكلام الصادر من الوالدين أثرا في تربية النطفة ، سواء كانت في الصلب أم في الرحم ، وهذا ليس ببعيد ، فإن للغذاء والتغذية أثرا كبيرا في التربية ، فلا بد وأن يكون للتكلّم والكلام أثر كذلك.

السابع عشر : لا يستفاد من قوله تعالى : (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) المقدار الذي بلغ إليه زكريا من العمر ، ولكن ورد في موضع آخر في هذه القصة : (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) [سورة مريم ، الآية : ٨] ، أنه عليه‌السلام قد بلغ ما بلغ من العمر بحيث يبست عظامه من شدّة الكبر.

الثامن عشر : لا يدلّ قوله تعالى : (وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) على أن العقر عارض لأجل الكبر أو كان سابقا ، ولكن في سورة مريم حكاية عنه : (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) [سورة مريم ، الآية : ٨] ، وهو يدلّ على أنها كانت كذلك في مقتبل عمرها ، وهي مضافا إلى شيخوختها عاقرة أيضا.

التاسع عشر : يستفاد من ظاهر قوله تعالى : (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) ، أن عدم التكلّم كان تحت اختياره ، وهو صحيح سليم الجوارح سوي الخلقة لا علّة فيه ، ولكنه منع من التكلّم إلا رمزا ، ولا تدلّ الآية الشريفة على أن المانع هو البكم الطارئ عليه أو آفة تمنعه عن ذلك ، كما ذكره جمهور المفسّرين.

بحث فقهي :

تحرير ما في البطن لله تعالى في المقدّسات الدينية ـ أمكنة كانت أم غيرها ـ يتصوّر على وجوه :

٢٧١

الأوّل : التحرير على نحو يوجب التضييع والضياع وإهماله عن الكمالات ، وهذا لا يجوز ولا يصحّ في أية شريعة من الشرائع الإلهيّة.

الثاني : التحرير على نحو يوجب سمو النفس وجمعها للكمالات المعنوية ، ولكن بحيث يخرج عن مراقبة الوالدين بالكلّية والخروج عن ولايتهما الشرعيّة والتكوينيّة ، وهذا لا يجوز أيضا.

الثالث : نفس القسم السابق مع ثبوت الولاية عليه بما ثبتت في الشريعة الإلهيّة ، وهذا صحيح ولا محذور فيه ولم يرد ردع في الشريعة الاسلاميّة عنه ، لفرض وجود المقتضي للصحّة وفقد المانع عنها ، نظير دفع المولود للرضاعة إلى المرضعة مع بقاء سلطة الوالدين عليه ، أو دفعه إلى معلّم خاص ليعلّمه بعض الكمالات.

الرابع : التحرير مع انقطاع سلطنة الأبوين عن الولد بحيث لم يكن لهما أمر ونهي بالنسبة إليه ولا يعمل الولد لهما ، وإن ثبتت البنوّة التكوينيّة لهما. وهذا أيضا صحيح إذا أقدم الوالدان باختيارهما على ذلك وألقيا وجوب إطاعتهما عنه ، وأخلصوه لطاعة الله تعالى فقط. ويظهر من التواريخ أن التحرير في تلك الأعصار كان من هذا القسم.

ثم إن التبتل والانقطاع عن النكاح على أقسام :

الأوّل : أن يكون لأجل الرياضات غير المشروعة ، وهذا غير جائز ، وقد دلّت عليه الأدلّة الكثيرة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من رغب عن سنتي فليس مني» ، وهذه هي الرهبانيّة التي ابتدعت في بعض الأديان ، قال تعالى : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) [سورة الحديد ، الآية : ٢٧].

الثاني : أن يكون لأجل مانع في البين ، كالعنة وأمثالها ، ولا يتّصف ذلك بالحرمة لفرض عدم القدرة.

الثالث : ما إذا كان مع وجود المقتضي والقدرة على النكاح ، لكن كان في البين أهمّ ديني يقتضي تقديمه على النكاح ، والحصر في يحيى من هذا القسم ، وهو جائز بل راجح ، وتشخيص ذلك لا بد أن يكون من ناحيته تبارك وتعالى.

٢٧٢

بحث عرفاني :

تقدّم أن حقيقة الإيمان بالله جلّت عظمته إنما هي ارتباط خاص بين العبد وبين الله تعالى الذي له من الصفات الجماليّة والكماليّة مالا يمكن أن يحدّها حدّ ، فله القدرة والملك والتدبير والربوبيّة والرأفة والكمال والجلال ، والعالم كلّه مظاهر جلاله وجماله وأسمائه وصفاته ، وله التأثير التامّ في نظام العالم.

والإيمان ارتباط بين عالم الشهادة وعالم الغيب ارتباطا اختياريّا ، وهذا الارتباط الخاص الاختياري وإن كان في نظرنا أمرا عرضيّا قائما بالغير ، لكنه في الواقع جوهر نوراني يضيء لأهل السماء ، كما تضيء النجوم لأهل الأرض ، وهو الركن الشديد الذي يعتمد عليه عند الشدائد والأهوال وفي مختلف الأحوال ، وهذا الارتباط قد يقوى وقد يضعف ، تبعا لدرجات الإيمان ، ويمكن أن يصل إلى حدّ الجذبة ، فيصل العبد إلى مقام الاصطفاء وهو التجاذب التامّ من الطرفين ، فالجذبة من ناحية العبد هي العبوديّة المحضة والانقطاع إلى ربّ العزّة بكلّ همة ، وجذبة الله ما هو متناه من كلّ جهة ، فإنه يحظى من عطاء الله تعالى ولطفه غير المتناهي.

وفي الاصطفاء يظهر سرّ العبوديّة والامتحان الإلهي ، وفيه تبدو الأخلاق الكاملة الربانيّة ، وهو مظهر الكمالات والتحليات ، والمصطفى (بالفتح) هو الإنسان الكامل الذي يكون قطب رحى الوجود ، يتشرّف أهل الأرض بوجوده ، ويترقب أهل السماء لقاءه ، فهو الأمان من كلّ شرّ ، وبه يدفع كلّ بلية وعظيمة ، وهو الذي باهى الله تعالى الملائكة بخلقه وإيجاده ، وهو عرش الرحمن ، وهو واسطة الفيض الإلهي على سائر الخلق.

وتختلف درجات الاصطفاء حسب اختلاف درجات الفضل ، ورأس كلّ مصطفى ورئيسهم أشرف الكائنات على الإطلاق وسيد الخلائق ، مجمع كلّ فضيلة ومكرمة ، ومظهر كلّ فيض ورحمه ، خاتم الأنبياء الذي وصل إلى ما لم يصل إليه أحد من العالمين في الأخلاق الساميّة والكمالات الإنسانيّة ، حتّى وصل إلى مقام

٢٧٣

قاب قوسين أو أدنى بما لم يحظ به الأملاك والأفلاك ، ويلحق به أهل بيته الذين هم من البضعة الطاهرة الصدّيقة ، التي تربّت في حجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ووصلت إلى مقام الرضا لأبيها ، وهو القائل فيها : «فاطمة مني يرضيني ما يرضيها ويغضبني ما يغضبها» ، وهي مستودع علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومظهر أخلاقه القدسية ، والذرّية الطيبة من نسلها ، وهم المعصومون المطهّرون الممتازون عن سائر الخلق خلقا وخلقا ، وهم أسرار الله تعالى ومظهر أسمائه وصفاته ومحال تجلّياته الخاصة ومبلغ أمره ونهيه ، وهي من تلك الذرّية المصطفاة ، التي تبقى هذه الذرّية إلى آخر الدهر لتقيم العدل وتمحق الجور.

ومن تلك الذّرّية المصطفاة مريم العذراء ام المسيح كلمة الله التي اصطفاها الله تعالى على نساء العالمين ومظهر تجليّات الله تعالى وأسمائه عزوجل ، فهي البرّة التقية العابدة الزكية الطاهرة النقية محل إبداع الله عزوجل ومورد امتحانه تعالى ومستودعة سرّه ، وهي المنذورة لله تعالى في الطاعة والإخلاص من قبل أمها الطاهرة المصطفاة أيضا المنقطعة إليه عزوجل كمال الانقطاع ، حتّى أنها ألقت عن نفسها أشدّ أنحاء العطف والحنان بالنسبة إلى وليدتها ، إخلاصا لله وقدّمتها إليه عزوجل ، من دون أن يكون في قلبها شيء سوى محبّة الله تعالى ، فحظيت مقام المحبّة فيه عزوجل ، وفتحت لها أبواب الاصطفاء فصارت بمنزلة جدّها الخليل ، حيث قال : (يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [سورة الصافات ، الآية : ١٠٢] ، ولا بدع في ذلك فإن الذرّية بعضها من بعض ، وأن الذرّية بمنزلة الروح لهذا العالم وهو بمنزلة الجسد لها.

بحث روائي :

عن ابن بابويه عن أبان بن الصلت قال : «حضر الرضا عليه‌السلام مجلس المأمون وقد اجتمع إليه في مجلسه جماعة من أهل العراق وخراسان ـ إلى أن قال ـ قال

٢٧٤

المأمون : هل فضّل الله العترة على سائر الناس؟ فقال أبو الحسن عليه‌السلام : إن الله عزوجل أبان فضل العترة على سائر الناس في محكم كتابه ، فقال المأمون : وأين ذلك من كتاب الله؟ فقال له الرضا عليه‌السلام : في قوله عزوجل : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) ، قال عليه‌السلام : يعني أن العترة داخلون في آل إبراهيم ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من ولد إبراهيم عليه‌السلام وهو دعوة إبراهيم وعترته منه صلى‌الله‌عليه‌وآله».

أقول : تقدّم ما يتعلّق بهذه الرواية وأنه (صلوات الله عليه) تمسّك بظاهر الآية الشريفة لشمول إطلاق الذرّية لجميع من ينسب إلى إبراهيم عليه‌السلام ، وليس ذلك من التأويل ولا من التفسير في شيء.

وفي تفسير العياشي : عن أحمد بن محمد عن الرضا عن أبي جعفر عليهما‌السلام : «من زعم أنه قد فرغ من الأمر ، فقد كذب لأن المشيئة لله في خلقه يريد ما يشاء ويفعل ما يريد ، قال الله : (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ، آخرها من أوّلها ، وأوّلها من آخرها ، فإذا أخبرتم بشيء منها بعينه أنه كائن وكان في غيره منه ، فقد وقع الخبر على ما أخبرتم عنه».

أقول : أما قوله عليه‌السلام : «من زعم أنه قد فرغ من الأمر فقد كذب» ، موافق للأدلّة العقليّة والنقليّة. أما النقليّة مثل قوله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [سورة الرحمن ، الآية : ٢٩] ، وقوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) [سورة المائدة ، الآية : ٦٤] ، وغيرهما من الآيات الشريفة والسنّة المقدّسة.

وأما العقليّة ، فلما أثبته الفلاسفة الإلهيون على أن مناط الاحتياج إلى العلّة هو الإمكان ، وهو مساوق للفقر والحاجة ، وهما دائمان فإفاضاته تعالى دائمة إلى الأبد.

نعم ، من توهّم أن مناط الحاجة هو الحدوث ، فإذا حدث شيء لا يحتاج إلى العلّة بعد ذلك يتم الوجه بناء على هذا القول ، ولكنه مجرّد وهم ، وقد أبطلوه

٢٧٥

ببراهين كثيرة ذكرت في محلّها.

وأما قوله عليه‌السلام : «آخرها من أوّلها ، وأوّلها من آخرها» صحيح ، وذلك لأن الزمان والزمانيّات بالنسبة إليه كائن واحد ليس فيه تسلسل زماني ، مع أنا أثبتنا في علم الأصول أن الزمان مطلقا ليس مأخوذا في الأفعال ، ويدلّ عليه ذيل الرواية.

وفي تفسير القمّي : عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «أوحى الله إلى عمران : إني واهب لك ذكرا مباركا يبرئ الأكمه والأبرص ويحي الموتى بإذني ، وجاعله رسولا إلى بني إسرائيل ، فحدّث امرأته بذلك وهي ام مريم ، فلما حملت بها كان حملها عند نفسها غلاما ذكرا ، فلما وضعتها أنثى ، قالت : (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى ... وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) ، لأن البنت لا تكون رسولا ، يقول الله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) ، فلما وهب الله لمريم عيسى كان هو الذي بشّر الله به عمران ، ووعده إياه ، فإذا قلنا لكم في الرجل منا شيئا فكان في ولده أو ولد ولده ، فلا تنكروا ذلك ، فلما بلغت مريم صارت في المحراب وأرخت على نفسها سترا وكان لا يراها أحد ، وكان يدخل عليها زكريا المحراب فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف ، فكان يقول : (أَنَّى لَكِ هذا) ، فتقول : (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)».

أقول : يستفاد من الرواية امور :

الأوّل : ان عمران نبيّ ، ويدلّ عليه أيضا ما عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : سألته عن عمران أكان نبيّا؟ فقال عليه‌السلام : نعم كان نبيّا مرسلا إلى قومه ..» ، ولا بأس بذلك لأن أنبياء بني إسرائيل كثيرون ، فكان مثل نبيّ في بني إسرائيل مثل العلماء العاملين في امة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله الموجودين في كلّ قرية ، ويشهد لذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «علماء امتي أفضل من أنبياء بني إسرائيل».

الثاني : أن مقتضى سياق مثل هذه الآيات عدم اختصاص امتنان الله تعالى بمن أخبر به فقط ، بل يمكن شموله لآخر من نسله قريبا كان أو بعيدا ، وهذا هو

٢٧٦

صريح قوله عليه‌السلام : «إذا قلنا لكم في الرجل منا شيئا فكان في ولده ، أو ولد ولده فلا تنكروا ذلك» ، بل في بعض الروايات يمكن أن يوجد ذلك بعد سبعين بطنا.

الثالث : الرواية ظاهرة في أن قوله تعالى : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) من كلام ام مريم لكونها ملتفتة إلى ما أوحي إلى زوجها.

ولكن يبقى هنا شيء وهو ان مقتضى القواعد الأدبيّة المتعارفة أن في مقام نفي التشبيه تدخل كلمة التشبيه على الأفضل لا المفضول ، بخلاف المقام حيث ادخلت على الأنثى ، وهي مفضولة بالنسبة إلى الذكر.

ولعلّ السرّ في ذلك كمال هذه المرأة وعلو شأنها ومنزلتها عند الله تعالى ، بحيث إنها تكون أفضل من كثير من الرجال.

الرابع : دلالة هذه الرواية وأمثالها على مقام مريم ونزول الفواكه المختلفة عليها ، وهذا ليس ببعيد من قدرة الله تعالى بالنسبة إلى مريم والصدّيقة الطاهرة ، وإنكار مثل ذلك ليس إلا مكابرة ، بل هو قبيح ممّن يعترف بعالم الغيب.

وفي تفسير العياشي : في الآية المباركة عن الصادق عليه‌السلام : «ان المحرر يكون في الكنيسة ولا يخرج منها ، فلما وضعتها أنثى قالت : رب إني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى ، إنّ الأنثى تحيض فتخرج من المسجد ، والمحرّر لا يخرج من المسجد».

أقول : قوله عليه‌السلام : «إنّ الأنثى تحيض» ، لبيان الفرق بين الأنثى والذكر في الجملة ، لا من حيث تطبيقه على مريم عليهما‌السلام ، فإنها طاهرة مطهّرة بالاتفاق ، وأن «بنات الأنبياء لا يطمئن» ، كما في جملة من الروايات.

وفي تفسير العياشي ـ أيضا ـ : عن أحدهما عليهما‌السلام : «نذرت ما في بطنها للكنيسة أن يخدم العباد ، وليس الذكر كالأنثى في الخدمة ، قال : فشبت وكانت تخدمهم وتناولهم حتى بلغت ، فأمر زكريا أن تتخذ لها حجابا دون العباد».

أقول : ظهر وجهه ممّا تقدّم.

وفي تفسير العياشي : عن الصادق عليه‌السلام قال : «ان زكريا لما دعا ربّه أن يهب له ولدا ، فنادته الملائكة بما نادته به ، أحبّ أن يعلم أن ذلك الصوت من الله ، فأوحى

٢٧٧

إليه أن آية ذلك أن يمسك لسانه عن الكلام ثلاثة أيام ، فلما أمسك لسانه ولم يتكلّم علم أنه لا يقدر على ذلك إلا الله ، وذلك قول الله : (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً)».

أقول : الرواية تدلّ على أن عدم التكلّم كان بإرادة منه عزوجل لا باختيار زكريا ، وتقدّم أن هذا من أحد معاني الآية الشريفة ، ولا بأس به في حدّ نفسه ، لأنه اعتبار حسن ، وأما عدم تيقّن زكريا من قول الملائكة بأنه من قول الله تعالى ، فلأن قول الملائكة الموكلة بالإنسان المدبّرة لشؤونه على نحوين :

الأوّل : أن يكون نفس القول اوحي إليه من ربّ العالمين ، فهم من مجرّد الواسطة.

الثاني : أن يكون ذلك القول ممّا فوّضه الله إليهم في تدبير شأن من وكّلوا به ، ولعلّ زكريا أراد تعيين أحد الاحتمالين.

٢٧٨

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١))

بعد أن ذكر سبحانه وتعالى جملة المصطفين الأبرار ، وذكر منهم مريم عليها‌السلام وبيّن نشأتها وتربيتها اللائقة التي أعدّتها لاصطفائها ، وأتى بقصة زكريا تأكيدا للأولى وتثبيتا لما ورد فيها ، وتقريرا لصدق ما نزل ، أردفها سبحانه وتعالى بقصة عيسى عليه‌السلام ، فذكر سبحانه أوّلا اصطفاء مريم عليها‌السلام لما كانت عليه من التربية الصالحة والإعداد الحسن ، ولأجل ذلك استعدّت لحمل عيسى كلمة الله من دون أب ، ثم ذكر جملة من حالات المسيح والآيات الباهرات التي جرت على يديه.

٢٧٩

التفسير

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ).

الجملة معطوفة على الجملة السابقة : «إذ قالت امرأة عمران» ، والجملتان في مقام الشرح لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ).

و (إذ) منصوب ـ كما عرفت ـ بفعل مقدر وهو اذكر ، والمراد من الملائكة جنسها كما تقدّم سابقا ، فلا ينافي أن يكون المتكلّم واحدا.

وقول الملائكة أعمّ من أن يكون بالإلهام في القلب ، أو بظهور الشخص خارجا والتكلّم الشفهي معها ، وإن كان الظاهر هو الثاني ، ويدلّ عليه قوله تعالى في سورة مريم : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) ، ولا محذور فيه من عقل أو نقل ، كما أن ظاهر الآية المباركة في أن مريم كانت محدّثة تكلّمها الملائكة وهي تسمع كلامهم وقد ترى شخصهم.

والاصطفاء الاختيار كما عرفت سابقا ، وذكرنا أن جهة الاصطفاء تعرف من القرائن الحافّة بالكلام ، فقد تكون متّحدة ، وقد تكون متعدّدة ..

فتارة : تكون لأجل قداسة الذات.

واخرى : تكون لأجل جهات خارجيّة اختياريّة أو تكوينيّة.

وثالثة : تكون لأجل الخلوص في العبادة والتقوى.

ورابعة : لجميع ذلك.

والمراد به في المقام أن الله اختارك بقبوله تعالى لك ورضائه بك ، وتقبّلها لعبادته عزوجل حينما نذرت أمها تحريرها لله عزوجل ، وقد تقدّم جميع ذلك في الآيات السابقة.

٢٨٠