مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٥٩

وتحرير الولد لله تعالى أو للأمكنة المقدّسة ، أو النفوس المحترمة ، هو التفرّغ للعبادة والعمل للآخرة ، قد كان متعارفا في الأمم القديمة ، وكانوا يعتبرون ذلك وسيلة لحفظ الولد عن الضياع والتربية الحسنة وعبادة الله الواحد القهّار ، فلا يتزوج ولا يعمل للدنيا.

ومعنى التحرير في تلك الأزمنة كان هو تحرير الولد من قبل الأبوين ، أي : تحريره عن التبعيّة لهما والولاية عليه ، فليس لهما بعد التحرير السلطنة على الولد في استخدامه لاغراضهما ، بل هو داخل بالنذر تحت ولاية الله تعالى ، فلا بد من صرف خدمته في سبيله عزوجل ، إما في التفريغ لعبادته تعالى أو خدمة الأماكن المقدّسة والنفوس المحترمة ، وهذا العمل كان جائزا في الشرائع الإلهيّة السابقة ، ويعتبرون ذلك من نذر الأبرار.

واللام في «لك» للتعليل ، أي لعبادتك وخدمتك ، ويدلّ قوله تعالى : (ما فِي بَطْنِي) ، على أنها كانت حاملا حين ما قالت هذا القول ، وكان الحمل من عمران ، كما تدلّ الآية على أنها كانت تعتقد أن ما في بطنها ذكرا لا أنثى ، فإن كلامها على نحو البت والجزم ، لا نحو التعليق.

وتذكير (محرّرا) لا يدلّ على كونها نذرت ما في بطنها كائنا من كان ـ ذكرا أو أنثى ـ وإلا لما كان وجه لتحسّرها وحزنها كما حكى عنها عزوجل : (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) ، ولما كان معنى لقوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى).

وحكاية الله تعالى هذه المناجاة عنها تدلّ على أنها لم تكن من غير فكر وجزافا ، أو كان لأجل الظن الحاصل عن العادة المتّبعة في تلك الأعصار ، بل أنها تدلّ على أنها تنتهي إما إلى إلهام من الله تعالى إليها ، أو غاية العبوديّة والإخلاص منها لله تعالى ونهاية الانقطاع له عزوجل ، وعلى كلّ منهما ، فهي تدلّ على كون هذه المرأة كاملة وأنها من الأبرار الصالحات ، وفي ذلك سرّ إلهي يدلّ على تحقّق العبوديّة لله تعالى في جدّة عيسى وامه ونفسه ، فتفخر الجدّة بأنها نذرت ما في

٢٤١

بطنها محرّرا لخدمة البيت الشريف ، وتفتخر مريم بذلك ، وعيسى عليه‌السلام لم يصل إلى ما وصل إليه إلا بالانقطاع إلى الله عزوجل والعبوديّة له ، قال تعالى حكاية عنه : (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا* وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) [سورة مريم ، الآية : ٣٠ ـ ٣١] ، ومن كان كذلك نفسا واما وجدّة ، لا يصحّ توهّم الغلو فيه ، ولعلّ ذكر كلمة (البطن) في الآية الشريفة والفرج في قوله تعالى : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) [سورة التحريم ، الآية : ١٢] ، وأكل الطعام في قوله تعالى : (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) [سورة المائدة ، الآية : ٧٥] ، للدلالة على أن التلبّس بهذه الأمور لا يليق بمرتبة روح القدس ، فضلا عن مقام الملك القدوس ، إلا بناء على الحلول ووحدة الوجود والموجود ، وهما باطلان بالأدلّة العقليّة والنقليّة ، وسيأتي التفصيل في مستقبل الكلام.

وكيف كان ، فاستناد هذا النذر إلى الهام إلهي لا يدلّ على أنها ألهمت بكون ما في بطنها ذكر أيضا.

نعم ، لو أريد بالذكوريّة الأعمّ من المنذور وابنها فله وجه ، ويشهد لذلك قولها : (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) حيث أثبتت لها ذرية.

ولم يذكر سبحانه اسم هذه المرأة الصالحة تعظيما لها وعناية بشأنها ، كما أنها لم يذكر اسمها في الكتب المقدّسة وتكلّف النصارى في كتبهم في إثبات نسب مريم وأبيها ، إلا أنه ورد في بعض الروايات أن اسمها كانت حنة بنت قاقوذ بن قنبل الإسرائيلي ، وكانت له بنتان أحدهما هي وقد تزوّجها عمران ، وهو إسرائيلي أيضا وأولدها مريم ، واسم الثانية ايشاع وتزوّجها زكريا وولدت منه يحيى ، فيحيى بن زكريا ومريم ام عيسى هما ابنا خالة.

ومات عمران وحنة حامل منه فنذرت حملها لخدمة البيت المقدّس ، كما عرفت.

٢٤٢

قوله تعالى : (فَتَقَبَّلْ مِنِّي).

التقبّل هو أخذ الشيء على وجه الرضا ، ويمكن فرض الجامع القريب بينه وبين القبول وهو أصل الرضا ، ولكن هيئة التقبّل تدلّ على عناية خاصة فيها ، وهي لا توجد في القبول ، وتشهد الآيات اللاحقة لهذه العناية ، وللمقام نظائر كثيرة في القرآن الكريم ، وقد اشتهر في علم اللغة : «أن زيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني» ، وهي قاعدة متّبعة خصوصا في لغة العرب التي بنيت على الدقة والفصاحة والبلاغة. ولكن يمكن أن يرجع ذلك إلى تعدّد الدال والمدلول.

والقبول الحسن هو السرّ المطوي في التقبّل ، وقد ورد التقبّل في القرآن الكريم في عدّة موارد تبلغ العشرة. وفي جميعها يدلّ على أن في المورد سرّا خاصا إما في الحال ، أو العمل ، أو الانقطاع إلى الله تعالى اقتضى ذكر التقبّل ووقوع الاستجابة مطابقة له.

والمفعول من قوله تعالى : (فَتَقَبَّلْ مِنِّي) وإن كان محذوفا ، إلا أنه معلوم إما هو النذر ، أي تقبّل نذري هذا ، لأنه عمل صالح أرادت منه التقرّب إلى الله تعالى ، أو هو الولد المحرّر ، ويدلّ عليه قوله تعالى : (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ).

قوله تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

ثناء منها عليه تعالى ، لجعل الدعاء والمناجاة أقرب إلى القبول ورجاء الإجابة والتفضّل ، أي : أنك أنت السميع للدعاء ، العليم بنيّتي وصحتها وإخلاصها.

والتأكيد في هذه الجملة للدلالة على انقطاع رجائها عن غيره تعالى ، وأنها على يقين في استجابة دعائها ، وفيه نهاية التضرّع والابتهال إليها عزوجل. وتقديم السميع على العليم لأجل أن المقام مقام استدعاء الإجابة والقبول.

قوله تعالى : (فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى).

الضمير في قوله : (فَلَمَّا وَضَعَتْها) راجع إلى ما في بطنها ، وفيه إيجاز لطيف ، وإنما أنّث الضمير باعتبار علم المتكلّم بأن المرجع مؤنّث وأن المولود أنثى.

وجملة : (قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) خبريّة ، يراد بها التحسّر والتحزّن

٢٤٣

ممّا داهمها من خيبة الرجاء ، فليس الغرض هو الإخبار فقط.

وإنما أنّث الضمير في قوله تعالى : (إِنِّي وَضَعْتُها) ، باعتبار الواقع الخارجي ، وفيه من الخيبة وانقطاع الأمل والمسارعة إلى إظهار التحسّر ما لا يخفى.

قوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ).

الجملة معترضة مقولة له عزوجل : و (ما) ترجع إلى المولود الذي جهلت الام السرّ الإلهي فيه ، والمراد من الجملة تعظيم شأن المولود ، أي : أن الله تعالى هو الذي خلقها وصوّرها ، وهو أعلم بها بما تحمل من الأسرار وعظائم الأمور ، التي ربما لا تكون تلك ممكنة في المولود الذكر التي كانت ترجوه ، والام غافلة عن جميع ذلك ، فلو كانت عالمة بذلك لما أظهرت التحزّن والتحسّر في وضعها أنثى.

وقيل : إن الجملة مقولة قولها ، وإنما قالتها اعتذارا إلى الله تعالى ممّا كانت ترجوه في المولود الذي لا يصلح لذلك الغرض.

ولكن الاحتمال الأوّل أولى ، وقد وردت فيه رواية أيضا.

قوله تعالى : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى).

جملة معترضة اخرى ، لبيان ما اشتملت الجملة السابقة على علمه بالمولود. واللام في الذكر والأنثى للعهد ، أي ذلك الذكر الذي كانت امرأة عمران ترجوه وتتمنّاه ، لأن يكون خادم البيت الشريف ورسولا ، ليس مثل الأنثى التي وضعتها التي لا تقدر أن تقوم بما وقع النذر المحرّر لأجله ، فالجملة من قول الله تعالى أيضا ، أي : ليس الذكر الذي كانت تتمنّاه مثل الأنثى التي فيها سرّ إلهي يظهر بعد ذلك ، فإنها خير من الذكر.

وقيل : إن الجملة مقوله قولها.

ولكن يردّ عليه : أنه لو كان الأمر كذلك لكان الأنسب أن تقول : «وليس الأنثى كالذكر» ، كما هو واضح.

قوله تعالى : (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ).

عطف على (إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) ، وما بين الجملتين اعتراضية كما عرفت

٢٤٤

آنفا ، من ذلك يستفاد شدّة الانس والمحبّة بين الله تعالى وبين هذه المرأة الصالحة. وكمال الخلّة بينهما.

ومريم علم امرأة سريانيّة معناها خادمة الرب أو المرتفعة بالعبادة ، ومن مبادرتها بالتسمية يستفاد يأسها من كون الولد ذكرا تتحقّق فيه رغبتها ، وإنما رضيت بكون الأنثى هي المنذورة المحرّرة وحولت النذر إليها ، وأعدّتها للعبادة بالتسمية ، ويدلّ عليه قوله تعالى بعد ذلك : (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ).

قوله تعالى : (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ).

دعاء منها لحفظها وذريتها دائما من جميع المساوئ والمكاره ، والحاصلة من دسائس الشيطان الرجيم. وقد استجاب الله دعاءها ، فكانت صدّيقة عابدة صالحة وذرّيتها أيضا من الصدّيقين الصالحين ، فتطابق الاسم والمسمّى فيها ، لأن مريم في لغتهم العابدة الخادمة ، كما عرفت.

ويستفاد من قولها : (وذريتها) من دون شرط وقيد أنها كانت تعلم بأنها سترزق ولدا ذكرا من عمران ، فلما لم يتحقّق في حملها ، توقّعت أن يكون من ذرّيّتها ، وهي منحصرة في فرد واحد ، وهو عيسى ابن مريم.

قوله تعالى : (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ).

التقبّل هو الرضا بشيء مع عناية خاصة به كما تقدّم آنفا. ومادة (حسن) من الألفاظ التي يكون لفظها ومعناها مطلوبين مطلقا ، أعمّ من أن يكون الحسن اعتقاديا ، كما في قوله تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) [سورة فاطر ، الآية : ٨] ، وواقعيّا حقيقيّا ، كما في قوله تعالى : (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) [سورة الأنفال ، الآية : ١٧] ، وقوله تعالى : (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) [سورة التوبة ، الآية : ٥٢] ، نظير الخير والصلح والجمال ونحو ذلك.

والقبول الحسن هو القبول كما سألته أمها وزيادة عليه ، وإنما أكّد سبحانه

٢٤٥

التقبّل الدال على القبول على الرضا بالقبول الحسن ، للدلالة على اصطفاء مريم ، لأنها هي التي وقعت مورد الرضا محرّرة للعبادة والتسليم لله تعالى وخدمة البيت ، مع صغرها وأنوثتها ، وهذا هو الاصطفاء الذي تقدّم معناه ، ولأجل ذلك دخلت في جملة المصطفين الذين ورد ذكرهم في الآية السابقة.

وممّا ذكرنا يظهر أن هذه الجملة وقعت استجابة لقولها : (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) ، أي مع كونها أنثى وجعلتها محرّرة فتقبّلها ربّها بقبول حسن ، ولم تكن هذه الجملة واردة لقبول تقرّب امرأة عمران بالنذر وإعطاء الثواب الاخروي ، لما عرفت من أن القبول نسب إلى مريم المنذورة المحرّرة ، وإن كانت تدلّ على قبول تقرّب امرأة عمران بالتبع والملازمة.

وإنما خصّ سبحانه الربّ بالذكر ، للدلالة على رعايتها آنا بعد آن ، والعطف عليها في كلّ حال وتربيته تعالى لها.

قوله تعالى : (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً).

الإنبات هو التربية بما يصلح الحال وحسن النشأة ، وتعهّدها حالا بعد حال ، كما يتعهّد الزارع الزرع بالسقي ونموه.

والمراد من الآية الشريفة هو حسن نشأتها وتربيتها في صلاحها وكمالها ، وتطهيرها من الرذائل الخلقيّة والخلقيّة ، والإطلاق يشمل التربية الجسديّة والروحيّة كلتيهما ، لها ولذريّتها.

والجملتان متكاملتان ، إحديها تبيّن اصطفاءها ، والثانية تبيّن طهارتها وزكاتها وحسن تربيتها بما تصلح أن تكون اما لكلمة الله المسيح المرفوع إلى السماء ، وتقدر على أن تؤدّي الأمانة التي وقعت على كاهلها ، وتهيئتها لتحمّل المسؤولية الملقاة على عاتقها ، وقبول السرّ الإلهي ، فأصبحت مريم العذراء الصدّيقة الطاهرة المطهّرة المصطفاة على نساء العالمين ، وبذلك استعدّت أن تتلقّى الخطاب الملكوتي : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ).

٢٤٦

قوله تعالى : (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا).

مادة كفل تأتي بمعنى الضمان والتعهّد ، وغلب استعمالها في ضمان الإنسان لمثله ، والكفيل من أسماء الله تعالى ، لأنه عزوجل مدير ما سواه ورازقه ومدبّره.

وزكريا هذا من بني إسرائيل من ولد سليمان بن داود ، وهو الذي طلب من الله تعالى أن يرزقه ولدا وهو شيخ كبير وكانت امرأته عاقرا كما يحكي عزوجل عنه في الآيات اللاحقة. وإن كان يظهر من التواريخ أن المسمّى بزكريا متعدّد. واللفظ ممنوع من الصرف للعلميّة والعجمة.

والمعنى : وصار زكريا كفيلها وقائما بشؤونها ، والكفالة هذه إما أن كانت بحسب التقدير ، أو بحسب القرعة التي أصابتها باسمه بعد أن كانت كفالتها مورد الاختصام ممّن هو قائم بشؤون البيت الشريف. كما حكى عنهم عزوجل في قوله : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٤٤].

ويمكن الجمع بين الاحتمالين بأن المقدّر هو أن يكون الكفيل زكريا ، ولكن الله تعالى هيّأ له ذلك عن طريق القرعة.

وكيف كان ، فهو كفيل صالح أمين رؤوف ، فأكرم به من كفيل ، والظاهر أن كفالتها إنما كانت من أوّل أمرها فوقع الإنبات الحسن بمباشرة زكريا وتسبيب من الله عزوجل.

قوله تعالى : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ).

المحراب هو المكان العالي ، وسمّي محراب المسجد محرابا لأجل علوه وشرفه بالنسبة إلى غيره من جهة قيام الإمام فيه.

وقيل : إن المراد بالمحراب هو المسمّى عند أهل الكتاب بالمذبح ، وهو مقصورة في مقدّم المعبد ، لها باب يصعد إليه بسلم ذي درج قليلة ، يكون من فيه محجوبا عمّن في المعبد ، ومنها المقصورات التي أحدثها بعض الخلفاء لنفسه في الإسلام.

٢٤٧

وقيل : إن المسجد حيث كانت مساجدهم تسمّى بالمحاريب.

وكيف كان ، فالجملة بيان لقبول زكريا لها بالكفالة وعنايته لها ، ولهذا لم تعطف.

وإنما قدّم الظرف (عَلَيْها) على الفاعل (زَكَرِيَّا) لإظهار كمال العناية والاهتمام بأمرها.

قوله تعالى : (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً).

أي : أصاب في حضرتها رزقا وألوانا من الطعام ، والتنكير للإعظام من كلّ جهة ، وفيه الإيماء إلى كونه رزقا غير معهود ، ولعلّ ما ورد في الرواية ـ أنه كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف ـ مستفاد من نفس هذه الآية الشريفة ، ويمكن أن يستشهد على ذلك من سؤال زكريا ب (أنى) الدالّة على التعجّب ، وجواب مريم له بأنه من عند الله تعالى ، فإنه يكشف عن أنه ليس برزق عادي هيئ في وقت خاص. كما أنه يدلّ على ذلك دعاء زكريا ربّه أن يهب له ذرّية طيبة بعد أن عرف أن هذا الرزق كرامة من الله سبحانه وتعالى لمريم الصدّيقة الطاهرة.

ويمكن أن يكون هذا الرزق من الله تعالى هو الذي أعدّه إعدادا حسنا لحمل عيسى عليه‌السلام ، فقد تحقّق في مريم حالتا المنعقديّة والانعقاديّة ، فصارت أهلا لأن يتمثّل روح الأمين لها ، فتأثّرت بما هو ألطف من نسيم السحر ومن ضياء الشمس ونور القمر ، لتلد مريم العذراء رجلا هو كلمة الله ، يرفع إلى السماء ويبشّر الناس بمقدم خاتم الأنبياء.

قوله تعالى : (قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا).

جملة استئنافيّة بيانيّة ، و (أنى) كلمة استفهام بمعنى أين تدلّ على السؤال عن الوضع والجهات ، وفيها معنى التعجّب.

أي : من أين لك هذا الرزق. والسؤال إنما كان لعظمة هذا الرزق ـ كما عرفت ـ مع أنها امرأة عاجزة عن تحصيله في هذا الموضع المعيّن وهذه الحال.

٢٤٨

قوله تعالى : (قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ).

جملة مستأنفة كالسابقة ، أي : أن الرزق الذي أوجب دهشة هذا النبيّ الكريم هو نازل من عند الله تعالى. والإطلاق يشمل جمع الأنواع والأصناف ، فكان هذا الرزق خارقا للعادة من حيث الكم والكيف وسائر الجهات ، فسيطر ما عند الله على الطبع والطبيعة والمادة ، فكان ذلك كرامة لها. وقد قنع زكريا بهذا الجواب ولم يسألها عن شيء آخر.

ومن ذلك يعرف الخدشة في ما ذكره بعض المفسّرين في المقام من أن الإضافة إلى الله تعالى إنما هي عادة جرت من العرف بإضافة الرزق إليه تعالى ، وليس في هذه دلالة على أنه من خوارق العادات ، وبالاخرة فليس ذلك كرامة لها.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ).

تتمّة مقالة مريم ، أي : أن الله تعالى يقدر على رزق من يشاء من عباده بغير تقدير بحدّ.

ومن هذه الكلمة يستفاد أمران :

الأول : عظمة هذا الرزق ، حيث عبّر عنه بغير حساب.

الثاني : عظمة انقطاع القائل إلى الله تعالى ، حيث ظهر لها هذا التجلّي العظيم الإلهي.

قوله تعالى : (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ).

جملة مستأنفة ترتبط بما قبلها لتثبيت ما ذكر فيها ، وتقرير ما سيقت لأجله.

و (هنا لك) نظير هناك من أسماء الإشارة ، إلا أن اللام في الأوّل للبعد والكاف للخطاب ، أي في ذلك المكان ، والمعروف بين الأدباء أن الموضوع له في أسماء الإشارة خاص ، وأنها من المبنيّات لتقوّمها بالغير ، فأشبهت الحروف من هذه الجهة وانسلخت عن الإعراب فصارت مبنيّة.

ولكن الدعوى الأولى باطلة لما أثبتناه في علم الأصول ـ من أن الوضع منحصر في قسمين ، الوضع الخاص والموضوع له الخاص ، كما في الأعلام. والوضع

٢٤٩

العام والموضوع له العام ، كما في البقية مطلقا ، ولا معنى للوضع الخاص والموضوع له الخاص ، أو الوضع الخاص والموضوع له العام ، كما لا وقوع للوضع العام والموضوع له الخاص ، راجع [تهذيب الأصول] ويظهر من ابن مالك أيضا ، قال في الالفية :

بذ المفرد مذكر اشر

حيث جعل الموضوع له عامّا وجعل الخصوصيّة في ناحية الإشارة لا الموضوع له.

وأما الدعوى الثانية فتصويرها حسن ، ولكن الحقّ أن تمييز الألفاظ بالإعراب والبناء إما أن يكون من لوازم الألفاظ ، أو من لوازم الماهيّة ، فإن جميع الجواهر والأعراض متميّزات بعضها عن البعض ، فلا بد أن تكون الألفاظ ـ التي هي من أعظم ما أنعم الله تعالى به على خلقه ، هكذا أيضا.

وإذا دار الأمر بين التعليل بالذاتي أو التعليل بالعرضي ، فالأول أولى بلا ريب ، وربما يكون مرادهم ممّا ذكروه ذلك أيضا ، وإن قصرت عباراتهم عن ذلك ، وعلى هذا فيسقط قول بعض النحاة.

الاسم منه معرب ومبني

لشبه من الحروف مدني

كالشبه الوضعي في اسمي جئتنا

والمعنوي في متى وفي هنا

هذا خلاصة ما يحقّ أن يقال في بناء الأسماء وإعرابها ، كما أفاده بعض محقّقي مشايخنا (أعلى الله درجاتهم) في أثناء بحثه في مباحث الألفاظ من علم الأصول وقد بسط القول في ذلك.

وكيف كان ، فإن زكريا بعد ما رأى الكرامة التي جرت لمريم عليها‌السلام أقبل على الدعاء من غير تأخير ، ويستفاد ذلك من تقديم الظرف ، أي حين ما رأى زكريا أن رزق مريم خارق العادة وخلاف مجرى الطبيعة طمع في الدعاء وحمل نفسه على أن يسأل ربه ما هو خارق العادة وخلاف مجرى الطبيعة أيضا ، وهو حمل العاقر من الشيخ الكبير مع علم زكريا بأن الله تعالى لا يجري الأمور إلا بأسبابها

٢٥٠

الطبيعيّة ، ولكن أنبياء الله تعالى وأولياءه يعترفون بأنه لا بد أن يكون في الممكنات امور خارقة للعادة ولنظام الطبيعة التي تكشف عن القدرة القهّارة ، فسأل ربه من تلك القدرة ، فوقع السؤال موقع الإجابة بحسب تلك القدرة الجبّارة لتسخير نواميس الطبيعة.

مع أننا ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أن المعجزة لا تخرج عن نواميس الطبيعة وإن خفيت الأسباب عن الحواس الظاهرة.

وممّا زاد في همّته قول مريم عليها‌السلام له : (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ). والطمع في الدعاء وطلب النعمة إذا شوهدت من الله تعالى على شخص يكون على أقسام ثلاثة :

الأوّل : أن يطلب النعمة لنفسه مع حبّ سلبها عن غيره.

الثاني : أن يطلب مثلها لنفسه أيضا ، فإن مواهب الله تفيض وخزائنه لا تغيض ، ويسمّى بالغبطة.

الثالث : أن يستسر بحصول النعمة له.

والأوّل حسد مذموم ، والأخيران لا بأس بهما ، بل هما ممدوحان. وسؤال زكريا من أحد الأخيرين.

قوله تعالى : (قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً).

بيان لكيفية الدعاء. والهبة بمعنى العطية ، وهي التمليك بلا عوض ، والذرّية هي النسل ، تأتي واحدة وجمعا ، ذكرا وأنثى ، وإنما أنّثت (طيبة) لتأنيث لفظ الذرّية.

والطيب ما يستطاب فعله وخلقه بالذات ، أو بما يلائم صاحبه بما قرّره العقل والشرع ، ويقابله الخبيث ، ويقال : عيش طيب ، أي ما تسكن النفس إليه ويكون ملائما لها ، كما يقال : ماء طيب ، أي : عذب ، قال تعالى : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) [سورة الأعراف ، الآية : ٥٨] ، أي ما يكون البلد موافقا لنفس أهل البلد من جميع الجهات.

والذرّية الطيبة هي التي تسكن إليها النفس ويستطاب أفعالها وصفاتها ،

٢٥١

فتكون صالحة مباركة ، كما في مريم لما لها من الكرامة والصفات الحسنة والشخصية الكاملة.

وقد استعمل الداعي أدب الدعاء وما يوجب ترغيب المدعو إلى الإجابة ، كما في قوله : (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) ، وقوله في موضع آخر : (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) [سورة مريم ، الآية : ٤] ، وقوله في موضع ثالث : (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٨٩].

وقدّم اسم الربّ لأنه أقرب إلى الإجابة ، وأدّى الطلب بالهبة ، لأنها إحسان محض لا يكون في مقابله شيء ، فيناسب المقام ، حيث اعتبر نفسه عاجزا عن تحقيق رغبته إلا بعناية منه عزوجل.

وقد استجاب الله تعالى دعاءه ووهب له يحيى الذي لم يجعل له من قبل سميّا ، وقد جمع الله فيه ما في مريم وعيسى عليهما‌السلام من الصفات والكمال والكرامة ، فكان أشبه الناس بعيسى عليه‌السلام.

قوله تعالى : (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ).

لفظ سميع يأتي بمعنى القبول والاجابة ، كما في قول : «سمع الله لمن حمده» ، أي يقبل حمد من حمده ويثيب عليه ، وذكر السمع وإرادة القبول والإجابة شائع في المخاطبات العرفيّة ، يقال : فلان سمع حاجتي فقضاها ، وفي الحديث : «أي الساعات أسمع؟ قال : جوف الليل الآخر» ، أي أوفق لاستماع الدعاء فيه وأولى بالاستجابة.

والسميع من أسمائه تعالى ، وهو الذي لا يعزب عن إدراكه مسموع وإن خفي ، فهو يسمع بغير جارحة.

والمعنى : أنك كثير الإجابة لدعاء الداعين ، والجملة في موضع التعليل.

قوله تعالى : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ).

العطف بالفاء يدلّ على سرعة الإجابة ، وأن جميع ذلك دعاء واحد متعقّب بالتبشير ، والمنادي هو جنس الملائكة تمييزا عن نداء البشر ، وإن كان المنادي واحدا ، وهو أعمّ من أن يكون بالإلهام في القلب ، أو ظهور شخص الملائكة

٢٥٢

والتكلّم مباشرة مع المخاطب ، وإن كان الظاهر هو الثاني ، والضمائر كلّها ترجع إلى زكريا ، والمراد بالصلاة هي الأقوال والأفعال المعهودة بين كلّ ملّة.

قوله تعالى : (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى).

البشارة والتبشير هو الإخبار بما يفرح الإنسان. ويحيى اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلميّة والعجمة.

وقيل : إنه عربي منقول من الفعل ، فيكون المنع من الصرف هو العلميّة ووزن الفعل ، وقيل وجوه في تسميته بهذه الاسم :

فعن بعض أنه لما علم الله تعالى أنه يستشهد ، والشهداء أحياء عند ربّهم يرزقون فسمّي به ، وعن بعض آخر أنه يحيا بالعلم والحكمة ، أو يحيى به الناس بالهداية ، وقال القرطبي : إنه كان اسمه حيّا في الكتاب الأوّل ، وجميع ذلك يحتاج إلى دليل. والموجود في الأناجيل المعروفة أنه يوحنا المعمدان.

ويستفاد من الآية المباركة أن التسمية كانت من الله تعالى ، ويدلّ على ذلك قوله تعالى في موضع آخر : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) [سورة مريم ، الآية : ٧] ، كما يستفاد من مجموع قصتي امرأة عمران ، وزكريا أنه لو لم تبادر امرأة عمران بالتسميّة لمولودها لأمكن أن تأتي التسمية من قبل الله تعالى ، ولعلّ الحكمة في ذلك أن الله تعالى أراد أن ينفي جهات الغلو من مريم الصدّيقة الطاهرة ، بأن تكون التسمية من ممكن محتاج لممكن آخر مثله.

وقد وصف الله تعالى هذا المولود المبشّر به بأوصاف تدلّ على عظمته وكرامته وجلالة قدره ، ومن مجموع ذلك يستفاد التشابه الكبير بين هذا المولود ومريم العذراء وابنها عيسى عليهم‌السلام.

قوله تعالى : (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ).

هذا هو الوصف الأوّل ليحيى ، والجملة في موضع الحال من يحيى ، والمراد بالكلمة هو عيسى بن مريم كما وصفه الله تعالى بها ، قال عزوجل : (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٤٥] ،

٢٥٣

وهو إما لأجل أن أنبياء الله تعالى ـ لا سيما أولي العزم منهم ـ أجلّ كلمات الله التامّات ، أو لأجل وجوده بكلمة «كن» من دون توسط أب في البين ، فهو مشابه للإبداعيات في عالم الأمر ، قال تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة البقرة ، الآية : ١١٧].

والتصديق به هو الإيمان به والدعوة إليه ، وهو مدح كبير منه عزوجل له وتمجيد له بالخضوع والتسليم له عزوجل ، مع أن الإيمان بعيسى من أصعب الأمور في ذلك العصر.

ويستفاد من ذلك أن النبوّات السماويّة تتقوّم بأمرين :

أحدهما : الإخبار عن الله تعالى ، أي الدعوة إلى التوحيد في العبوديّة والمعبوديّة.

الثاني : إخبار كلّ نبي سابق عن النبي اللاحق ، فإنهم كلسان واحد في الدعوة إلى الواحد الأحد ، وبدون ذلك لا يجب اتباع النبيّ ، ففي المقام أن يحيى يدعو إلى عيسى ، وهو يدعو إلى خاتم الأنبياء.

قوله تعالى : (وَسَيِّداً وَحَصُوراً).

السيد من السواد ، أي ساد يسود ، فهو سيد فقلبت الواو ياء لأجل الياء الساكنة قبلها ثم أدغمت ، وهو الشخص المطاع ، والسيادة هي تولي الأمور وزعامة الناس ، فالسيد هو الذي يسود غيره إما في الزعامة وتولّي أموره ، أو في الفضائل المحمودة والأخلاق الكريمة ، فيكون فائقا على غيره ، وفي الحديث : «أنا سيد ولد آدم ، ولا فخر» ، فأخبر صلى‌الله‌عليه‌وآله عمّا أكرمه الله تعالى به من الفضل والسؤدد ، تحدّثا بنعمة الله تعالى عليه ، ويطلق على الباري جلّ شأنه ، لأنه المتفرّد في جميع الكمالات وتحقّقت له السيادة الحقيقيّة المطلقة ، ففي الحديث : «انه جاءه رجل فقال : أنت سيد قريش؟ فقال : السيد الله» ؛ وهي من الأمور الاضافية فيما سواه تعالى ، ففي الحديث : «كلّ بني آدم سيد ، فالرجل سيد أهل بيته ، والمرأة سيدة أهل بيتها» ، وكذا سيد القوم وسيد العشيرة ، ولعلّ المراد في المقام سيد قومه وعشيرته ، ولا يطلق على

٢٥٤

المنافق سيد ، كما في الحديث : «لا تقولوا للمنافق سيد ، فإنه إن كان سيدكم وهو منافق فحالكم دون حاله ، والله لا يرضى لكم ذلك».

وقد وصفه تعالى بهذه الصفة لأنه ساد غيره في الكمال ، وفاق الناس في الفضائل ، فهو النبيّ الكريم المحمود الصفات.

و (حصورا) عطف آخر وصفة اخرى ، والحصور هو الذي لا يأتي النساء مع القدرة عليه ، وقد يطلق على الممتنع عن غيرها أيضا ، وهو صفة كمال تدلّ على عزوفه عن مشتهيات الدنيا وزهده عنها ، لأن الممتنع عن الجماع ..

تارة : يكون لأجل آفة ونقصان فيه ، وهو غير ممدوح.

واخرى : يكون لأجل تقديم الأهمّ من المعنويات عليه ، وهو ممدوح في الجملة إذا وافقته الشريعة ، كما في زمان يحيى عليه‌السلام ، وأما إذا وصلت النفس إلى مرتبة من الكمال بحيث لا يشغلها المهم عن الأهم ، فلا موضوع لهذا البحث فيه ، كما في سيد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قوله تعالى : (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ).

صفة رابعة وخامسة تدلّان على علو مقامه وكمالاته المعنويّة ، وأن الصفات السابقة ممهدات لهاتين الصفتين ، فإنهما نهاية المقامات المعنويّة والكمالات الإنسانيّة وهي النبوّة ، وكونه من الصالحين ، وقد طلب خليل الرحمن من الله تعالى أن يجعله من الصالحين ، فقال تعالى حكاية عنه : (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [سورة الشعراء ، الآية : ٨٣].

والمراد به في الأنبياء صلاح الذات والصفات والأعمال ، ليكونوا صالحين لاقتداء الأنام بهم ، وبعبارة اخرى : الصلاح هو المرآة الأتم لأخلاق الله تعالى. وبهذه الصفات الجليلة اختار الله تعالى يحيى وجعله من الذرّية الطيبة التي طلبها زكريا منه عزوجل.

ويستفاد من مجموع ما ورد في شأن يحيى وما ورد في شأن كلمة الله عيسى بن مريم عليهما‌السلام ، الشبه الكثير بينهما ، وهو ما كان يريده زكريا عند طلبه من الله

٢٥٥

تعالى أن يرزقه ولدا يكون له من الكرامة عند الله تعالى ما لمريم العذراء عنده ، بعد ما شاهد الآيات الباهرات منها ، فأوّل الشبه بينهما أن مريم وابنها آية من الله تعالى ، قال عزوجل : (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٩١] ، وأن تسمية عيسى من الله تعالى ، قال عزوجل : (إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٤٥] ، وأن يحيى آية منه عزوجل أيضا ، حيث كانت تسميته من عند الله تعالى في بدء ما بشّر به زكريا ، قال تعالى : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) [سورة مريم ، الآية : ٧].

الثاني : أن يحيى قد أوتي الكتاب والحكم وهو صبي ، قال تعالى : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) [سورة مريم ، الآية : ١٢] ، وكذلك أوتي عيسى الحكم والنبوّة والكتاب في صباه ، قال تعالى حكاية عنه : (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا* وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) [سورة مريم ، الآية : ٣٠ ـ ٣١].

الثالث : أنهما اشتركا في الخصال الحميدة ، كالبر بالوالدين والسيادة والوجاهة ، وأنهما لم يكونا من الجبّارين ، قال سبحانه وتعالى في شأن يحيى : (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا* وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا) [سورة مريم ، الآية : ١٣ ـ ١٤] ، وقال عزّ من قائل في شأن عيسى : (وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) [سورة مريم ، الآية : ٣٢].

الرابع : أنهما اشتراكا في السّلام عليهما في المواطن الثلاثة المهمّة ، الولادة والموت والبعث ، قال تعالى في شأن يحيى : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) [سورة مريم ، الآية : ١٥] ، وقال عزوجل في شأن عيسى : (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) [سورة مريم ، الآية : ٣٣].

ولكن يبقى الفرق بينهما أن عيسى عليه‌السلام نبي من أولي العزم وصاحب شريعة ، وأن يحيى عليه‌السلام كان أوّل المصدّقين به ، وذلك لأن عيسى عليه‌السلام كان أسبق من يحيى في

٢٥٦

التقدير ، فإن زكريا بعد ما شاهد من مريم الصدّيقة عليها‌السلام من عجائب الرزق والكرامات طلب من الله أن يرزقه ذرّية طيبة ، يكون وليا مرضيا. هذا ما يقتضي التدبّر في مجموع الآيات النازلة في هذين النبيين الصالحين عليهما‌السلام في المقام ، وفي سورة مريم.

قوله تعالى : (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ).

جملة مستأنفة تدلّ على التعجّب ، ففيها استفهام عن حقيقة الحال ، وطلب لتفهّم خصوصيات الإفاضة والإنعام ، مع الاشتياق إلى المناجاة مع الحبيب والتلذّذ بالحديث معه ، وهو من أعظم الابتهاج للنفس ، وليس فيها دلالة على أن الاستفهام كان لأجل الاستعظام والاستبعاد ، كيف وهو المبشّر بما طلبه ، وإن الله سيرزقه الغلام الذي تجتمع فيه جميع الصفات الحميدة التي شاهدها في مريم الصدّيقة ، وهو على يقين بقدرة الله تعالى على ذلك.

وقد ذكر زكريا عليه‌السلام وصفين في المقام ، هما المنشأ في التعجّب والاستعلام ، وكان لهما أبلغ الأثر في حزنه وتأثّره مع علمه بأن الأمور لا تجري إلا بأسبابها كما اقتضته الحكمة الإلهيّة ، وهذا اعتراف من زكريا بحسن نظام هذا العالم وما عليه من التناسل بين بني آدم ، ولكن مع ذلك يعترف بأن الإرادة القهّارة الربوبيّة فوق جميع ذلك ، والكلّ مسخّر تحت تلك الإرادة ، فيرجع المعنى إلى أن طلب الولد خلاف النظم الطبيعي من مثله وعن زوجة عاقر ، لو لا قدرتك ورحمتك ومشيئتك القاهرة ، وهذان الوصفان قد ذكرهما في ضمن الدعاء في موضع آخر ، فقال تعالى حكاية عنه : (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا* وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) [سورة مريم ، الآية : ٤ ـ ٥].

والغلام الطار الشارب أو الابن في أوّل نبت شاربه. ومادة (غلم) تدلّ على شدّة شهوة النكاح وهيجانها ، كما يظهر من جملة استعمالاتها ، ففي الحديث : «خير النساء الغلمة على زوجها العفيفة بفرجها» ، وقد ورد هذا اللفظ في القرآن مفردا

٢٥٧

وتثنية وجمعا ، ولعلّ ألطف ما ورد فيه هذا اللفظ جمعا ، قوله تعالى : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) [سورة الطور ، الآية : ٢٤] ، خدمة لأهل الجنّة وهي لذّة للمخدوم والخادم ، وقال تعالى : (يا بُشْرى هذا غُلامٌ) [سورة يوسف ، الآية : ١٩]. وإنما ذكر الغلام باعتبار أنه قد بشّر به سابقا ، قال تعالى : (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً) ، وقال تعالى : (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) [سورة مريم ، الآية : ٧].

وإنما خاطب زكريا ربّه من دون واسطة في البين مبالغة في التضرّع ، وإعلاما لنهاية التأثّر والتحزّن.

قوله تعالى : (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ).

جملة حالية من ياء المتكلّم ، وإسناد البلوغ إلى الكبر توسعا ، فكأن الكبر قد طلبه وهو مطلوب له. والجملة كناية عن عدم القدرة على الجماع وممارسة الشهوة لبلوغه الكبر وطعنه في السن ، وكانت له تسع وتسعون أو مائة وعشرون سنة ، ولامرأته ثمان وتسعون ، حين قال ذلك على ما قالوا ، وإن كان ذلك كلّه رجما بالغيب. وفيه نهاية الأدب كما أن فيه تحريك المدعو إلى استجابة دعاء الشيخ العاجز.

قوله تعالى : (وَامْرَأَتِي عاقِرٌ).

العقر بمعنى عدم الحمل ، ويطلق على الرجل الأبتر الذي لا ولد له أيضا ، ولفظ (عاقر) هنا بمعنى ذات عقر ، وحينئذ لا فرق بين المذكّر والمؤنّث.

قوله تعالى : (قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ).

الجملة مقول قول الله تعالى ، سواء كان بواسطة الملك الذي ناداه سابقا بالبشارة ، أم كان بغير وساطة ، أي وحيا. وإن كان الظاهر هو الأوّل ، ويدلّ عليه ـ مضافا إلى ظاهر السياق ـ قوله تعالى في موضع آخر من هذه القصة : (قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) [سورة مريم ، الآية : ٩].

٢٥٨

و (كذلك) في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر والتقدير كذلك ، وهو ظاهر في كونه من القضاء الحتم الذي لا يعتريه التغيير والتبديل ، ويدلّ عليه قوله تعالى في هذه القضية : (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) [سورة مريم ، الآية : ٢١] ، كما يشهد له قوله تعالى : (قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) ، حيث جعل خلق يحيى مقدّرا من حين خلقه لزكريا.

وجملة (اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) في موضع التعليل ، أي : لأنّ الله تعالى يفعل ما يشاء من الأفعال الخارقة للعادة ، يخلق الولد في تلك الحالة التي يستبعدها الناس عادة ، فإن إرادته ومشيئته فوق الطبيعة ، وهي مسخّرة تحت تلك الإرادة.

وإنما أتى بلفظ الجلالة للتعظيم ، ولبيان أنه الجامع لجميع الصفات الجمالية والكمالية ، القادر على كلّ شيء ، إليه تنتهي جميع العلل والأسباب.

ثم إن الولادة ـ بخلاف الأسباب الظاهريّة ـ قد ذكرت في القرآن الكريم بالنسبة إلى أنبياء الله تعالى في موارد ثلاثة :

الأوّل : إبراهيم خليل الرحمن ، قال تعالى حكاية عنه : (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ* قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ* قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) [سورة هود ، ٧١ ـ ٧٣].

الثاني : عيسى روح الله ، قال عزوجل حكاية عن مريم العذراء : (قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا* قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) [سورة مريم ، الآية : ٢١].

الثالث : زكريا الذي دعا الله أن يرزقه ذرّية طيبة : (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) [سورة مريم ، الآية : ٨] ، وجميع من ولد في هذه الموارد الثلاثة هم من الأنبياء الذي وهبوا أنفسهم لله تعالى.

قوله تعالى : (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً).

الآية العلامة الدالّة على شيء ، ولهذه الكلمة أهمية عظمى في القرآن الكريم ،

٢٥٩

فقد وردت فيه بأطوار مختلفة ـ مفردة وتثنية وجمعا ـ في ما يقرب من خمسمائة مورد ، ولعلّ الوجه في ذلك هو إثبات أن جميع ما سوى الله تعالى آيات جماله وجلاله وشواهد أقواله وأفعاله ، وهي إما آيات يستدلّ بها الخالق على الخلق ، أو يستدلّ بها المخلوق على وجود الخالق ومعبوديّته المطلقة ، وقهّاريته التامّة ، ورحمته الواسعة وجميع العوالم ـ الطولية والعرضية ـ آياته تبارك وتعالى ، ولكنها مختلفة في جهة كونها آية ، كاختلافها في مراتب الوجود.

والجامع القريب العلامة التي تدلّ على ارتباط الممكن بالذات مع الحيّ القيوم ، كما هي علامة عناية العزيز الجبّار الغني بالذات مع الفقير المحتاج ، أو هما معا.

والآية في قوله تعالى : (اجْعَلْ لِي آيَةً) ، أي علامة يعرف الناس والبيئة البشريّة ، بأني مرتبط معك ، ودلالة ملموسة بها تطمئن نفسي ، وتكون أنت المعين في اموري ، لأدفع بها دعاوي المبطلين وتشكيك المنافقين ، واعترف بها عجزي وخضوعي وتسليمي لأمرك ، وابدي شكري على جميع نعمائك ، وهذا ما تقتضيه هذه المحاورة بين زكريا النبيّ العظيم وبين الله تعالى الربّ الجليل ، فإنها تدلّ على كمال الخلّة ونهاية التبتّل والخضوع له عزوجل ، ويشهد لذلك سنخيّة الآية مع المورد ، فإن الآية التي جعلها الله تعالى له هي أمره بعدم التكلّم وقطع المحاجّة مع الكفّار والمنافقين ، وإيكالهم إلى الأمور البديهيّة كالحسّ والوجدان ، كما ستعرف.

ومن ذلك يعلم أن ما ذكره المفسّرون في المقام في حكمة جعل الآية غير صحيح ، فقد ذكر بعض المفسّرين أن جعل الآية له إنما كان لأجل أن يستدلّ بها على حمل امرأته ويعلم وقت الحمل.

وفيه : أنه بعد معرفته بأنه سيرزق ولدا ، وإن الله تعالى بشّره بذلك ، وكان على يقين فيه ، لا معنى لطلب آية تكون علامة على حمل امرأته ، بل هو لغو من عاقل فضلا عن الأنبياء.

وقيل : إن الحكمة في جعل الآية هو الاستدلال بها على أن البشارة كانت من

٢٦٠