مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٥٩

العقاب وشدّة العذاب وأنواع الحرمان ، وهو كذلك لكثرة المفاسد المترتبة عليه كما هو معلوم ، فيكون التولّي وترك التحذّر من الله نفسه من أعظم مصاديق الطغيان على الله تعالى ، لأنه يتبع إبطال الدين وفساد العقيدة ، وأنهم قد أمروا بالاستقامة في عدّة آيات ، قال الله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ* وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) [سورة هود ، الآية : ١١٢ ـ ١١٣] فكأن هذه الآية الشريفة شارحة للآية التي تقدّم تفسيرها ومبيّنة للتحذير ، فإن التولّي والركون إلى الظالمين يوجب الطغيان ، وهو يستتبع أشدّ العذاب وحرمان الأنصار ، ولأجل ذلك كانت هذه الآية شديدة الوقع على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد ورد انها شيّبته.

السادس : يدلّ قوله تعالى : (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) ، منضما إلى تكرار التحذير من الله ، شدّة التهديد ، حيث إنه لا مفرّ منه عزوجل ولا صارف عن بلائه ، ويدلّ أيضا أنه من القضاء الحتم الذي لا مبدّل له.

السابع : يدلّ قوله تعالى : (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) على إحاطة علمه عزوجل وشموليته لجميع الموجودات ، وسعته الشاملة للأمور الموجودة والتي ستوجد بعد ذلك. وهذه الآية من الأدلّة الدالّة على علمه بالجزئيات ، وردّ على من قال بعدم علمه بها.

الثامن : يستفاد من قوله تعالى : (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) ، تأكيد التهديد والتخويف ، فإن مثل هذا التعبير إذا أتي به في مقام التخوّف والتحذير يكون لتثبيته واشعار المخاطب بأن المتكلم انما هو ناصح شفيق ، ولا يريد إلا الخير والصلاح ، فلا ينبغي التعرّض لسخطه ، فيكون إخباره بذلك رأفة به.

ويمكن أن يكون ذلك لأجل أن من فعل ذلك وارتكب هذه المعصية العظيمة ، إن رجع عنها وأراد الإصلاح فإن الله تعالى يقبل منه توبته رأفة به ، وإن كان وبالها عظيما.

التاسع : إنما بدأ سبحانه وتعالى بحبّ الله ، لأنه أصل الدين وأساس

٢٢١

الكمالات الحقيقيّة الإنسانيّة ، وما عداه باطل زائل ، وهذا مفاد جملة من الآيات الشريفة وعدّة من الروايات ، ففي بعضها : «وليس الدين إلا الحبّ في الله والبغض في الله» ، وفي البعض الآخر : «وهل الدين إلا الحبّ والبغض» ، ولذلك ذكر الحبّ دون الولاية.

العاشر : يدلّ قوله تعالى : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) على أن الاتباع في الآية السابقة الموجب لمحبّة الله للتابع ، إنما يتحقّق في إطاعة الله وإطاعة الرسول ، وهما متقومتان بالإخلاص ، فيكون حبّ الله متمثّلا في الإخلاص له عزوجل ويرجع بالآخرة إلى أن دين الله إنما يكون في الإخلاص له عزوجل ، وهو جعل العبد نفسه وجميع شؤونه في مرضاة الله تعالى ، وهو المراد من قوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٩] ، فإن الإسلام من التسليم ، وهو يتجلّى في الإخلاص ، وهو ينتهي إلى الحبّ.

الحادي عشر : إنما كرّر تبارك وتعالى لفظ (قل) في الآيات الشريفة ، إما لأجل أن خطاب الملك مع رعيته إنما يكون بواسطة أخصّ وزرائه المطّلع على الخصوصيات ، أو لأجل انطواء العقول في الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله انطواء الجزء في الكلّ ، فإنه سيد الأنبياء والعقل الكلّ ، وكلّ العقول ، فيكون الخطاب إليه خطابا إلى الكلّ ، فهو مظهر جميع التشريعات السماويّة ، بل جميع الخطابات التكوينيّة. ومقام خاتم النبوّة صلى‌الله‌عليه‌وآله إنما هو مرتبة سرّ الوجود والإيجاد ومنتهى الكمالات ، فهو سابق السائرين إلى الله تعالى وقائدهم إليه عزوجل ، وقد ورد في بعض الأخبار أن الشمس جزء من سبعين جزء من نور العرش ، فإذا كانت الشمس الجسمانيّة تستضيء من العرش وتضيء لما سواها ، فالشمس المحمديّة الأحمديّة تستضيء من الأحديّة المطلقة ، وتضيء لما سواها.

ويمكن أن يكون التكرار في هذه السورة الشريفة لأجل أن المقام مقام الاحتجاج مع أهل الكتاب والمشركين ، وفي التكرار تثبيت لرسالته صلى‌الله‌عليه‌وآله وكمال الخلّة بينهما.

٢٢٢

بحث عرفاني :

يستفاد من الآيات المباركة المتقدّمة مباحث عرفانيّة مهمّة :

الأوّل : أنه يدعو الله تعالى في الآيات المتقدّمة إلى العقل السليم والفطرة المستقيمة ، وهما محجوبان بحجب كثيرة ، ومن أغلظها الحجب الشهوانيّة التي تكفي في استفزازها النفس الأمّارة بعد ما يدعو إليها الشيطان ويهيء لها جميع السبل التي تثيرها ، لا سيما بعد قوله : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [سورة ص ، الآية : ٨٢ ـ ٨٣] ، فاجتمع على إثارة الشهوات داعيان ، هما النفس الأمّارة والشيطان ، ولذا كان داعي الشيطان أكثر إجابة من داعي الرحمن.

وإنما يأمن الإنسان من كيد الشيطان وقهر النفس الأمّارة بالإيمان بالله عزوجل ومتابعته وطاعته في جميع ما أنزله الله تعالى ، ويرتقي إلى درجة الخلّة والحجب ، وبذلك تنجلي تلك الحجب وتنخرق على قدر مراتب الإيمان.

وممّا لا يمكن اجتماعهما في قلب الحبيب هو تولّي الله تعالى وتولّي أعدائه ، فإنهما أمران متنافيان في أي مرتبة كانا ، ومن المعلوم أنه بتولّي الكفّار لا تزال الحجب تغلظ حتّى تستولي على إيمانه فيزول رأسا ، ولأجل ذلك ورد النهي عن تولّي الكافرين والمنافقين والجائرين الظالمين في القرآن الكريم والسنّة المقدّسة ، وقالوا : «لا عدو أعدى من قرين السوء» ، والشواهد العقليّة تدلّ على ذلك ، لأن سرّ العبوديّة بين المعبود الحقيقي والعابد من أفضل الموجودات في عالم الممكنات ، وبهذه الإضافة يصل العبد إلى أقصى درجات القرب وأعلى المقامات ، وهذه الرابطة فعّالة لكلّ ما تشاء ، وخلّاقة لما تريد ، ولا يجوّز العقل أن تدنس هذه الإضافة المباركة بتولّي الكفّار والايتلاف مع الفجّار الأشرار ، وليس ذلك إلا كمن أغفل عن الجوهرة الكريمة التي لا تقدر بثمن وأوقعها في الكنيف.

الثاني : يمكن أن يكون المراد من قوله تعالى : (إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ

٢٢٣

تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ) ، الواردات القلبيّة ، التي ترد على قلوب أوليائه تعالى ، فيكون المراد بالإخفاء عدم إذنه تعالى في إنشائه وإظهاره كجملة من أسرار القضاء والقدر ، والمراد من الإبداء إذنه في ذلك ، فإن الله سبحانه وتعالى يحول بين المرء وقلبه ، قال عزّ شأنه : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [سورة الأنفال ، الآية : ٢٤] ، فتكون جميع تلك الخاطرات والواردات مورد علمه ومشيئته وإرادته بنحو الاقتضاء لا بنحو العلّيّة التامّة حتّى يلزم المحذور من الجبر وأمثاله ، فإن قلوب الأولياء من أجلّ مشارق أنوار الغيب ، وفي القدسيات : «لا تسعني أرضي ولا سمائي ، بل يسعني قلب عبدي المؤمن» ، لأنّ إيمان المؤمن بالله تعالى يجعل قلبه متّصلا بما لا يتناهى له من كلّ جهة ، فيخرق حجب الإمكان إلى أن يصل إلى مرتبة لا يمكن تحديدها. وفي الحديث سأل موسى عليه‌السلام ربّه فقال : «أين أجدك يا رب؟ فقال تعالى : إني عند القلوب المنكسرة» ، أي كسرها حبّ الله جلّ جلاله ، وجبرها تجلّي المحبوب فيها ، فكسرت الهيبة الإيمانيّة جميع الحجب الظلمانيّة ، بل الجهات الإمكانيّة ، فاتصلت إلى معدن النور ومنبع الخير والسرور ، فاستعدّت للإشراق فأشرقت عليها المعارف الحقّة والعلوم الغيبيّة ، ممّا لا يعقل تحديدها بالكلام ولا يمكن تحصيلها بالجهد والإلمام ، وهو على كلّ شيء قدير. وللكلام تتمة تأتي في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى ، فحينئذ الآية المباركة تختصّ بالمؤمنين الّذين لهم الدرجات العليا في الإيمان.

الثالث : أن محبّته تعالى لخلقه إن كانت من المحبّة التكوينيّة فهي من صفات الذات الأقدس ، لرجوعها إلى العلم والحكمة ، وهما عين الذات ، ولا يعقل فيها الاشتداد والتضعّف ، وإن كانت من المحبّة الفعليّة فهي من صفات الفعل ، لرجوعها إلى الرضا والتوفيق والتسديد ، وكلّ ذلك من صفات الفعل ، ولا يعقل أن تكون في مرتبة الذات لقابليتها للتغيّر والتبديل.

وهذه المحبّة الاختياريّة من العبد لله عزوجل هي موضوع السير والسلوك والوصول إلى مقامات العارفين ، وبعضهم سمّى أهل هذا السير والسلوك ب : القافلة

٢٢٤

الإلهيّة. وخلاصة ما قالوه فيها : إنها قافلة تسير من الله تعالى إلى الله مع الله ، وقال جلّت عظمته في شأنهم : (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ) [سورة النور ، الآية : ٣٧] ، وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) [سورة فصلت ، الآية : ٣٠] ، ورائد هذه القافلة ورئيسها محمد حبيب الله ، وإبراهيم خليل الرحمن ، ويد الله فوق رؤوسهم ترفرف بأنحاء اللطف والرحمة ، وتجذبهم روحانيّة خليل الرحمن إلى خليله ، ومعنويّة حبيب الله إلى حبيبه ، وان سعيهم الوصول إلى أقصى الكمال ، وهذا أكمل سير في الممكنات.

الرابع : أن التحذّر عن الله جلّ جلاله له مصاديق كثيرة ، من أعظمها الإيذاء والاستخفاف بعباد الله تعالى الّذين مدحهم في آيات كثيرة وذكر صفاتهم ، فقال عزّ شأنه : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً* وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً* وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) [سورة الفرقان ، الآية : ٦٣ ـ ٦٥] ، وذكر علي عليه‌السلام صفاتهم في جملة من كلامه فقال : «نطقوا فكان نطقهم صوابا ، وسكتوا فكان سكوتهم حكمة ونظرهم عبرة ، صحبوا الدنيا بأبدان ، أرواحهم معلّقة بالملإ الأعلى ، أنفسهم منهم في تعب والناس منهم في راحة ، شعارهم الخضوع ومأكلهم وملبسهم القنوع» ، وقد ورد في السنّة المقدّسة في مدحهم ما لا يحصى ، حتّى أنه ورد فيها أن الله جلّت عظمته قال : «من آذى وليي فقد بارزني بالمحاربة» ، وقوله عليه‌السلام : «ولو لاهم لساخت الأرض بأهلها» ، إلى غير ذلك ممّا ورد في مدحهم وثنائهم ، ولا بد أن يكون كذلك ، لأنهم أعظم مظهر لمكارم أخلاق الله تعالى ، وأن قلوبهم المقدّسة لا تزال مستشرقة بشوارق من عالم الغيب ، فتزيل عنها كلّ شكّ ودنس ، فهم الأنوار التي تخرج بهم الناس من الظلمات إلى النور ، وهم الصراط المستقيم.

٢٢٥

بحث فلسفي :

أثبتت الفلاسفة الإلهيّون والطبيعيّون أن كلّ ممكن زوج تركيبي ، له ماهية ووجود ، وقد فصّلوا البحث في كلّ منهما من جميع الجهات بما لا مزيد عليه.

كما أثبتوا أن كلّ مركب ممكن ، واستدلّوا عليه ببراهين كثيرة ، وأهمّها الافتقار كما تقرّر ذلك في محله.

وأثبتوا أن الماهيّة (الذات) قبل الوجود لا أثر لها ، بل تكون ليسا محضا ، أي عدما. وهذه الأمور الثلاثة من المتسالم عليها بينهم.

وإنما اختلفوا في أن المجعول ومتعلّق الجعل هل هو الوجود أو الماهيّة (الذات) ، أو الاتصاف بينهما؟ وهذه من المسائل العويصة بينهم ، وأي منها كان مجعولا يلزمه جعل الآخرين بالعرض ، ليتمّ الجعل التركيبي ويترتب الأثر لا محالة.

كما أن أيا منها كان مجعولا للجاعل تكون لوازمه مجعولة له بنحو الاقتضاء ، فإذا كان الله جلّ جلاله خالق الإنسان وجاعله ، يكون جاعلا لعلمه وإرادته ومشيئته ، فقوله تعالى : (إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ) من علم العلّة بالمعلول ، وهو أتقن أنحاء العلوم كما ثبت في محلّه.

وللفلاسفة الإلهيّين أصلان مهمان يتفرّع عليهما مسائل كثيرة ذكرت في محلّها :

أحدهما : أصالة التحقّق ، فيبحثون في أن الأصل في التحقّق هل هو الوجود أو الماهيّة (الذات)؟ على اختلاف بينهم ، فيثبت كلّ منهما دعواه بأدلّة كثيرة مذكورة في محلّها.

ثانيهما : أن الأصل في الجعل هو الوجود أو الماهيّة.

والمراد من الأول أنها تلحظ بالنسبة إلى نفس المجعول ، كما أن المراد من الثاني أنها تلحظ بالنسبة إلى نفس الجاعل ، ولكن بعد اتفاق جميع الفلاسفة على أنه لا أثر للجعل والمجعول إلا بعد تحقّق الوجود ، يرتفع هذا النزاع في البين ، وأنه لا

٢٢٦

يمكن التفكيك بين الوجود والماهيّة مطلقا ، فالآثار مترتبة على الوجود ، سواء قلنا بالأولى أم الثانية.

وهناك نظرية اخرى قرّرها بعض أعاظم مشائخ مشايخنا ، وهي جعل نفس الذات جعلا مركبا ، أي قد وجدت الذات وتجوهرت الجواهر. فالأشياء بما لها من الصفات والذات تعلق بها الجعل ، واستدلّ بآيات كثيرة وبجملة من الروايات.

ويستفاد من قوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وغيره من الآيات الشريفة ، أن تمام الأشياء بذواتها ووجوداتها وصفاتها ، مجعولة ومخلوقة له تبارك وتعالى.

وما يقال : من عدم إمكان الجعل التركيبي بين الشيء ونفسه ، إنما هو في قدرة الممكن والقوى الممكنة ، لا القدرة القهّارة التي هي فوق الكلّ. وعلى هذا فيكون الأمر أوضح كما هو معلوم.

ثم إن العلل والمعلولات كما أنها مترتبة في سلسلة نظام التكوين ، فلو تخلل في البين نقصان في بعضها لا تحصل الغاية المطلوبة والغرض المقصود ، فكذلك في نظام التشريع ، من غير فرق بينهما من هذه الجهة.

بل التشريع هو الأصل في بناء التكوين إذ لو لا نظام التشريع لم يكن للتكوين أثر ، لا في الدنيا ولا في العقبى.

ومنه يظهر الوجه في خطاب الله تعالى مع حبيبه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لولاك لما خلقت الأفلاك» ، فالعلّة الغائيّة لأصل التكوين وبنائه مطلقا هي التشريع ، وقد أثبتت الفلاسفة أن العلّة الغائيّة إنما هي علّة فاعليّة الفاعل ، فهي وإن كانت مؤخّرة وجودا لكنها مقدّمة علما ، فلا بد وأن يكون نظام التشريع في جميع جهاته أرفع وأجلّ من نظام التكوين ، فلا سبيل للوصول إليه إلا بواسطة الرسول ، فهو يسدد العقل الكلّي ، وأن العقل يستمد منه فلا مناص لأحدهما بدون الآخر في مقام الإطاعة والعصيان في امتثال تكاليف الرحمن ، ممّا ضبطته السنّة والقرآن ، قال

٢٢٧

تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ٩٦] ، وقال تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) ، فقوله تعالى : (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) ، يدلّ أن متابعته صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الأصل في تنظيم نظام التشريع الذي يترتب عليه نظام التكوين بما شاء الله تعالى.

كما أنهم أثبتوا أنه لا بد من تحقّق العلاقة والربط بين الجاعل والمجعول ، وإن لم نقل باعتبار السنخيّة بينهما ، كما في الجاعل المطلق وخالق الخلق ، حيث دلّت الأدلّة على عدم السنخيّة بينه وبين خلقه ، وأنها بينونة صفة لا بينونة عزلة ، ولكن أصل الربط والعلقة ممّا لا بد منه بينه تعالى وبين خلقه ، وفي القرآن والسنّة المقدّسة شواهد كثيرة تدلّ على هذه العلقة والربط ، ولها مراتب كثيرة جدا ، فيصحّ أن يقال : إن محبّته تعالى سارية في جميع الموجودات من علوياتها وسفلياتها ، ولكن هذه المحبّة التكوينيّة يمكن أن تكون غير ملتفت إليها أصلا ، فالمحبّة التي وردت في هذه الآية الشريفة هي الاختياريّة منها ـ كما تقدّم ـ لأنها ملازمة لمتابعة النبيّ المختار وعليها يدور الثواب ، وعلى تركها العقاب ، ويمكن أن يجمع في بعض عباد الله تعالى قسمان من المحبّة ، فإن لهم المحبّة التكوينيّة والمحبّة الاختياريّة ، ويأتي في قوله تعالى : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) [سورة طه ، الآية : ٣٩] ، تتمة الكلام إن شاء الله تعالى.

بحث روائي :

في أسباب النزول والدر المنثور : «عن ابن عباس في قوله تعالى : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) ، كان الحجاج بن عمرو وكهمس ابن أبي الحقيق وقيس بن زيد ـ وهؤلاء كانوا من اليهود ـ يباطنون نفرا من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم ، فقال : رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعيد بن خيثم لأولئك النفر : اجتنبوا هؤلاء اليهود ، واحذروا لزومهم ومباطنتهم ، لا يفتنوكم عن دينكم ، فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم وملازمتهم ، فأنزل الله هذه الآية».

٢٢٨

أقول : هذا كلّه من باب بيان بعض المصاديق.

وفي أسباب النزول وغيره : عن الضحاك عن ابن عباس : «نزلت الآية في عبادة بن الصامت الأنصاري وكان بدريّا نقيبا ، وكان له حلفاء من اليهود ، فلما خرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الأحزاب قال عبادة : يا نبي الله ، إن معي خمسمائة رجل من اليهود ، وقد رأيت أن يخرجوا معي فاستظهر بهم على العدو ، فأنزل الله لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء».

أقول : تقدّم أن هذا وأمثاله من باب بيان تعدّد المصاديق.

وفي تفسير العياشي : عن الصادق عليه‌السلام قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : لا إيمان لمن لا تقية له ، ويقول : قال الله : إلا أن تتقوا منهم تقاة».

أقول : بعد أن كانت التقية مقتضاة الحكمة الشرعيّة وتطابقت عليها قوانينها ، فتارك التقية يكون حينئذ ممّن لا دين له ، فالرواية الشريفة إرشاد إلى حكم عقلي.

وفي الكافي : عن الصادق عليه‌السلام : «التقية ترس الله بينه وبين خلقه».

أقول : كما أن الترس «بالضم» يحفظ عن مفسدة هجوم الأعادي ، كذلك التقية تحفظ صاحبها عن الآفات والشرور.

وعن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : «التقية في كلّ شيء يضطر إليه ابن آدم ، وقد أحلّ الله له».

أقول : هذه الرواية أيضا مطابقة للقواعد العقليّة ، والروايات في ذلك متواترة وكثيرة ، ولها شروط وأحكام مفصّلة ذكرناها في كتابنا [مهذب الأحكام].

وفي تفسير العياشي ومعاني الأخبار وغيرهما : عن الصادق عليه‌السلام : «هل الدين إلّا الحبّ ، إن الله عزوجل يقول : (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ)».

أقول : الروايات في أن الدين هو الحبّ كثيرة ، وأنها موافقة للقانون العقلي أيضا ، إذ من أحبّ شيئا تبعثه نفسه إلى متابعته وتزجره نفسه عن مخالفته.

وفي المعاني ـ أيضا ـ عن الصادق عليه‌السلام قال : «ما أحبّ الله من عصاه ثم :

٢٢٩

تعصي الإله وأنت تظهر حبّه

هذا لعمري في الفعال بديع

لو كان حبّك صادقا لأطعته

إن المحب لمن يحبّ يطيع

أقول : ظهر ممّا تقدم وجه هذه الرواية.

وفي الدر المنثور : أخرج عبد بن حميد عن الحسن قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من رغب عن سنّتي فليس مني ، ثم تلا هذه الآية : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ)».

أقول : متابعة سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لا تتحقّق إلا بامتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه ، وذلك لا يتم إلا بمتابعة العلماء العاملين بسنّته ، القائمين مقامه.

وفي الدر المنثور ـ أيضا ـ : أخرج ابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والحاكم عن عائشة قالت : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء ، وأدنى ذلك أن يحبّ على شيء من الجور ، ويبغض على شيء من العدل ، وهل الدين إلا الحبّ في الله والبغض في الله؟ قال الله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ)».

أقول : أما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا .. إلخ» فيأتي شرحه في قوله تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [سورة يوسف ، الآية : ١٠٦] ، وفي جملة من الأخبار الواردة : «أن قول الرجل لأخيه : لو لا فلان لهلكت ، هذا نحو شرك ، فقيل له : يا رسول الله كيف نقول؟ قال : قولوا لو لا أن من الله عليّ بفلان لهلكت».

وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «هل الدين إلا الحبّ والبغض في الله» فمعناه أن محبّة ما يحبّه الله تعالى وبغض ما يبغضه الله تعالى هما الدين ، ولا معنى للدين إلا ذلك ، سواء لوحظ من الوجه الكلّي أم الوجه الفردي الشخصي.

في الدر المنثور ـ أيضا ـ : أخرج أبو أحمد ، وأبو داود ، والترمذي وابن ماجة ، وابن حيان والحاكم ، عن أبي رافع عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري ممّا أمرت به أو نهيت عنه ، فيقول : لا ندري ما

٢٣٠

وجدناه في كتاب الله اتبعناه».

أقول : قد صار مفاد هذه الرواية شائعا بين الناس ، كلّ ما قيل لهم حكم من أحكام الشريعة يقولون : أين محلّه من كتاب الله ، مع أن كتاب الله تعالى من دون سنّته المتبعة لا ينفع العالم وغيره.

وفي أسباب النزول : عن ابن عباس : «أن اليهود لما قالوا : نحن أبناء الله وأحبّاؤه ، أنزل الله تعالى هذه الآية : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) ، فلما نزلت عرضها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على اليهود فأبوا أن يقبلوها».

أقول : لأن منشأ إظهار مودّتهم للمسلمين وتعزيز أنفسهم لهم حيث كانوا يقولون : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [سورة المائدة ، الآية : ١٨] ، وهذه من مزاعمهم الفاسدة ، وأن الآية الشريفة تفنّد جميعها.

وفيه ـ أيضا ـ : عن محمد بن إسحاق بن يسار ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، قال : «نزلت في نصارى نجران ، وذلك أنهم قالوا : إنما نعظّم المسيح ونعبده حبّا لله وتعظيما له ، فأنزل الله هذه الآية ردّا عليهم».

أقول : مرّ أن هذا من باب بيان بعض المصاديق ، فلا منافاة بين الجميع.

٢٣١

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧) هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١))

الآيات الشريفة فاتحة قصص عيسى بن مريم والاحتجاج على أهل الكتاب ، وبدأ فيها بالإخبار عمّن أحبّهم واصطفاهم وجعل منهم الرسل والأوصياء ، وهم آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ، وأثبت فيها أن الاصطفاء هو اختيار الله تعالى من تلك الذرّية الطيبة التي أحبّهم تعالى.

وذكر فيها بعض ما دار بينه عزوجل وبين هذه الذرّية الطيبة ، ويظهر فيه كمال الخلّة والمحبّة.

٢٣٢

والآيات الشريفة لا تخلو عن الارتباط بما قبلها من الآيات الدالّة على وحدة الدين والآمرة بحبّ الله واتباعه ، فإن بهما يستعدّ المرء أن يكون من أصفيائه وأحبّائه.

التفسير

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً).

الاصطفاء ، والاختيار ، والاجتباء نظائر ، وأصل الكلمة من الصفاء ، وهو النقاوة من الدنس والفساد ، والطاء في اصطفى بدل من تاء الافتعال ، مثل الاختيار ، فيكون الاصطفاء هو أخذ الشيء صافيا من كلّ ما يكدّره ويختلط معه. ويختلف باختلاف الجهات التي تكون سببا للصفاء ، فقد يكون الاصطفاء من حيث الاختلاف مع الغير والاندماج معه ، فيكون بمعنى الاختيار للرسالة ، كما في قوله تعالى في شأن موسى عليه‌السلام : (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) [سورة الأعراف ، الآية : ١٤٤] ، أو يكون الاصطفاء للملك والسلطة ، كقوله تعالى في شأن طالوت : (إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٤٧] ، أو يكون باعتبار الانتساب إلى التوحيد ونبذ الأوثان ، قال تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) [سورة فاطر ، الآية : ٣٢] ، أو يكون الاصطفاء باعتبار صنف على آخر ، كما في قوله تعالى : (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) [سورة الصافات ، الآية : ١٥٣]. أو من حيث التخلّص من الشرك وكونه جامعا للكمالات ، كما في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٣٢] ، أو باعتبار التخلّص من الشركاء في الملك ، كما في المأثور : «إن أعطيتم الخمس وسهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والصفي ، فأنتم آمنون» ، والصفي : ما كان يأخذه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويختاره لنفسه قبل القسمة ، ويقال له الصفية.

وقد تكون جهة واحدة في الاصطفاء ، وربما تجتمع أكثر من جهة ، كما في

٢٣٣

شأن إبراهيم عليه‌السلام : (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٣٠] ، فإن اختياره كان بسبب النبوّة والملك والتقدّم في الإيمان والدعوة إليه والإخلاص لله تعالى.

وفي المقام الأنسب هو الاصطفاء للرسالة والولاية والعبوديّة المحضة ، التي هي أساس الكمالات الإنسانيّة ، ويدلّ على ذلك قوله تعالى : (عَلَى الْعالَمِينَ) ، فلو كان الاصطفاء بمعنى الانتخاب منهم ، لكان الأنسب أن يقول : (من العالمين) ، فهو نوع اختيار لهم وتقديم على العالمين باعتبار أمر خاص فوق مقام النبوة والصلاح لا يشاركهم غيرهم فيه ، وهو العبوديّة والزعامة والإمامة على الناس.

وقد ذكر سبحانه وتعالى أربعة ممّن اصطفاهم على العالمين ، وهم آدم ، ونوح ، وآل إبراهيم ، وآل عمران ، ولم يذكر غيرهم ، لا سيما الذي بين آدم ونوح من الأنبياء والرسل والأوصياء ، كهبة الله شيث وإدريس وغيرهم عليهم‌السلام ، وهذه قرينة اخرى أيضا على أن الاصطفاء فيهم خاص ، كما ذكرنا.

وأوّل من ذكره سبحانه هو آدم عليه‌السلام ، وقد ورد ذكره في القرآن الكريم في ما يقارب من خمسة وعشرين موردا ، وقد اعتنى به الجليل عزوجل اعتناء بليغا باعتبار كونه أبا للبشر ، وأوّل الخليقة ، وأوّل خليفته في الأرض ، قال تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [سورة البقرة ، الآية : ٣٠] ، وهو أول نبي من أنبياء الله تعالى ، وأوّل من شرّع له الدين ، وأوّل من اجتباه وتاب عليه ، قال تعالى في شأنه : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) [سورة طه ، الآية : ١٢٢] ، وهو الذي خلقه الله تعالى بيده وأمر الملائكة أن يسجدوا له ، وكان من ذرّيته النبيون والمرسلون وغير ذلك من المناقب التي لم يشاركه فيها غيره ، وكفى بذلك منقبة ، فهو مرآة الكمالات المعنويّة الإنسانيّة المتمثّلة في شخص خليل الرحمن وحبيب الله وآدم أبيهما.

وكم أب قد علا بابن له شرف

كما علا برسول الله عدنان

وأما نوح : الأب الثاني للبشر ، فقد ورد ذكره في القرآن الكريم أكثر من

٢٣٤

أربعين موردا ، وهو أحد الأنبياء الخمسة وأولي العزم ، بل أوّلهم ، وصاحب الكتاب والشريعة ، وهو شيخ المرسلين ، وممّن سلّم عليه ربّ العالمين ، قال تعالى : (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ* وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) [سورة الصافات ، الآية : ٧٧ ـ ٧٩].

ونوح : اسم أعجمي إلا أنه ينصرف ، لأنه على ثلاثة أحرف ساكن الوسط. وقيل : إنه مشتق من ناح ينوح ، أي صاح ، لأنه كان يصيح في قومه ويدعوهم إلى الإيمان ، قال تعالى على لسانه : (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً* فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) [سورة نوح ، الآية : ٥ ـ ٦].

قوله تعالى : (وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ).

الآل والأهل سواء ، إلا أن الأول يستعمل في خاصة الإنسان والملحقين به ، ومن يؤول إليه أمره ، ويختصّ بالأشراف من أعلام الناطقين دون النكرات والأزمنة والأمكنة ، بخلاف الأهل ، فيقال أهل الخياط ، وأهل زمن كذا ، وأهل بلد كذا ، وقد تقدم الكلام فيه.

وكيف كان ، فالمراد بآل إبراهيم وآل عمران هم خاصتهما والملحقون بهما ، فيختصّ ببعض الذرّية الطيبة الطاهرة لا جميعها.

أما آل إبراهيم فهم الطاهرون من آله ، الطيبون من ذرّيته ، لأن إبراهيم عليه‌السلام أبو الأنبياء جميعا بعد نوح ، حيث لا نبي منذ إبراهيم إلا من نسله الخاص ، كإسماعيل وإسحاق ويعقوب ، وسائر الأنبياء من بني إسحاق ، وسيدهم وأعلاهم قدرا وأنبّههم ذكرا محمد خاتم النبيّين ، الذي هو المصطفى بالقول المطلق ومظهر لكمال الحقّ وآله الطاهرون الذين يؤول أمرهم إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله في الجهات التشريعيّة والكمالات الإنسانيّة ، ومكارم الأخلاق ، والملحقون به في الولاية ، ويشهد لذلك قوله تعالى في ذيل الآية الشريفة : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) [سورة آل عمران ، الآية : ٦٨] ، فإنه ظاهر في أن المناط في مفهوم الآل هو المتابعة في الاعتقاد والعمل ، وبهذا الاعتبار يشمل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وذرّيته

٢٣٥

الطاهرين والذين آمنوا به.

ويمكن الاستيناس له أيضا بقوله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) ، فإن محبّة الله تعالى لمتابع النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله تكون من مقتضيات الاصطفاء له أيضا ، وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله تعالى : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) [سورة إبراهيم ، الآية : ٤٠] ، «أنا دعوة أبي إبراهيم».

والآية المباركة ليست في مقام تعداد المصطفين واحدا بعد واحد والحصر فيهم ، فلا يضرّ عدم تعرّضها لاصطفاء نفس إبراهيم وموسى وغيرهما عليهم‌السلام ، الذين ورد ذكرهم في غير موضع من القرآن الكريم ، الدال على سمو قدرهم وعلو شأنهم ، وقد ذكر سبحانه وتعالى في آية اخرى اصطفاء إبراهيم عليه‌السلام قال تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٣٠].

وأما موسى بن عمران وغيره عليهم‌السلام ، فقد ورد ذكرهم في آيات اخرى قال تعالى : (يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) [سورة الأعراف ، الآية : ١٤٤] ، وقال تعالى : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [سورة الحج ، الآية : ٧٥].

وقد شرح سبحانه وتعالى هذه الآية في موضع آخر بما يرفع إجمالها ، فقال سبحانه عزّ شأنه في سياق كلامه في شأن إبراهيم عليه‌السلام : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ* وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [سورة الأنعام ، الآية : ٨٤ ـ ٨٧].

مع أنه لو كانت الفروع والأغصان من المصطفين ، فأصل الشجرة تكون كذلك بالأولى.

٢٣٦

ومن مجموع الآيات الشريفة يستفاد أنه ليس جميع ذرّية إبراهيم عليه‌السلام هم من المصطفين ، ولا جميع ذرية بني إسرائيل كذلك ، وإن كان الله عزوجل فضّلهم على العالمين ، قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) [سورة الجاثية ، الآية : ١٦] ، فإن تفضيلهم على العالمين من جهة لا ينافي تفضيل غيرهم من جهات اخرى.

وأما آل عمران فهم من آل إبراهيم أيضا ، والظاهر أن المراد بهم هم ذرّية عمران أبي مريم أم عيسى ، الذي ينتهي نسبه إلى إبراهيم عليه‌السلام أيضا من ناحية امه. ويدلّ على ذلك ..

أولا : اقتضاء المقام التصريح به ، لأن هذه الآيات وما بعدها نزلت في مقام الاحتجاج مع أهل الكتاب ، اليهود والنصارى.

وثانيا : خفاء الإشارة إلى عيسى بعموم آل إبراهيم.

وثالثا : عدم ورود ذكر عمران أبي موسى في القرآن الكريم مع تكرار ذكر عمران أبي مريم.

ورابعا : تعقيب هذه الآية الشريفة بالآيات الذي يذكر فيها قصة امرأة عمران ومريم ابنته ، قال تعالى : (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ، فإنه قرينة على المراد من هاتين الآيتين ، فهما كالمقدّمة لبيان حال مريم ابنة عمران وابنها عيسى ، فيكون آل عمران هم عمران وزوجته ومريم وعيسى.

وأما موسى بن عمران ، فهو داخل في عموم آل إبراهيم ولا خفاء فيه ، كما هو موجود بالنسبة إلى دخول عيسى عليه‌السلام ، كما عرفت.

ثم إن الحصر في الآية الشريفة ليس حقيقيا ولا مفهوم لها حتّى تدلّ على نفي الاصطفاء في غيرهم ، وقد ورد في القرآن الكريم موارد اصطفاء الله تعالى ، كما يأتي ، مضافا إلى ما ورد في السنّة الشريفة من أن أهل التقوى أهل الاصطفاء.

نعم ، للاصطفاء مراتب كثيرة تبعا لاختلاف سبب التفاضل ، قال تعالى :

٢٣٧

(وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) [سورة الإسراء ، الآية : ٥٥].

قوله تعالى : (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ).

الذرّية من الألفاظ الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم ، وأصلها من الذر بمعنى النشر والانتشار ، واستعملت في مطلق الأولاد والنسل لانتشارهم من مصدر واحد ، ويطلق على الواحد والكثير ، وقد يأتي الذراري في الجمع ، وتقدّم في قوله تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٢٤] ، بعض الكلام.

والجملة عطف بيان ، ونصب «ذرّية» على الحال.

ومعنى (بعضها من بعض) ، أن هذه الذرّية مضافا إلى أنها متداخلة متشعّبة بعضها من بعض ، فكلّ بعض يفرض فهو مبتدئ لبعض آخر ومنتهى بعض آخر ، هي متشابهة الأطراف في الصفات والخيرات والحالات.

والآية الشريفة تدلّ على أن هذه الذرّية متّفقة في الصفات التي اقتضت اصطفاءها على العالمين ، فلم يكن جزافا ولا عبثا ، فالجملة في موضع التعليل لتعميم الاصطفاء ، أي : لأنهم متّفقون في الصفات ومتشابهو الأفراد اصطفاهم الله تعالى.

قوله تعالى : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

أي : والله سميع لأقول الذين اصطفاهم ، وسميع لدعاء الداعين ورجاء الراجين ، مستجيب لهم ، عليم بمواقع اللطف وضمائر الناس وما في قلوبهم.

والجملة في موضع التعليل لجهة الاصطفاء ، أي : أنه تعالى سميع يسمع الأقوال ويستجيب الدعاء ، ويعلم ما في القلوب والضمائر ، فهو أعلم حيث يجعل رسالته ويصطفي من عباده.

ويمكن أن يكون ذكر (عليم) للإشارة إلى أن الاصطفاء من القضايا العقليّة التي يكون دليلها معها ، أي : حيث إنهم كانوا واجدين لشرائط الاصطفاء وفاقدين لموانعه ، اصطفاهم الله تعالى ، ولا يعلم وجدان الشرائط وفقدان الموانع إلا العليم

٢٣٨

بالضمائر وما في القلوب.

والآية الشريفة على إجمالها لا تبيّن سبب الاصطفاء ، ولكن يمكن استفادة ذلك من آيات اخرى ، فإن أسبابه كثيرة ، بعضها اختياريّة وبعضها الآخر غير اختياريّة ، وأهمّ تلك الأسباب كمال الإيمان بالله تعالى ، الذي هو جذبة معنوية غيبيّة ، يجذب به الله تعالى عباده إلى الكمال المطلق ، وآخر مقامات الجذبة الإلهيّة هو الاصطفاء ، ومن العجيب أن كلّ اصطفاء تحقّق في فرد وقع ضده في فرد آخر الذي هو مظهر الفساد والشر ، كآدم وإبليس ، وإبراهيم ونمرود ، وموسى وفرعون إلى غير ذلك ، وبهذا التزاحم والتنافر يتحقّق الاختيار.

ومن أسباب الاصطفاء أيضا المجاهدات في سبيل تكميل النفوس الإنسانيّة والتخلّق بأخلاق الله تعالى والتحلّي بالإنسانيّة الكاملة ، حتّى يصل إلى مقام الاصطفاء ، فهو آخر مقامات الإنسانيّة الكاملة.

ومن أسبابه الصدق والخلوص في العبوديّة والإخلاص لله تعالى ونهاية الانقطاع إليه ، بحيث يصير الإنسان كالمرآة الأتم لجلال الله وجماله ، وغاية الصبر في الدعوة إليه عزوجل بما يتحمّله من المصائب والمتاعب في سبيل تلك الدعوة ، فيكون الاصطفاء مقارنا للابتلاء والصبر.

ومن الأسباب الدخول في مرتبة حبّ الله تعالى له بالعمل بما أنزله عزوجل والصبر في جنبه والإحسان إليه والتّقوى والجهاد في سبيله وغير ذلك ، فإن اصطفاء الله تعالى فرع محبّته عزوجل.

ومن آثار الاصطفاء هو تشريع الشريعة على يديه وتأسيس الدين الإلهي واقتداء سائر الأنبياء به ، كما في إبراهيم عليه‌السلام ، فإنه مبدأ التشريع وآخره.

وبالجملة : فإن الاصطفاء لبعض العباد يرجع إلى أمر غيبي ، لا يعلمه غيره عزوجل ، ولكن ذلك لا يكون على نحو العليّة التامّة المنحصرة ، بل الاتّصاف بالصفات الكاملة الحقيقيّة له دخل في الاصطفاء ، فهو مركّب من أمرين اختياري وغيره ، ومع فقد كلّ واحد منهما لا منشأ له.

٢٣٩

ثم إن الاصطفاء لا يختصّ بالإنسان ، بل قد يقع بالنسبة إلى غيره أيضا ، وإن كنا لا نعلم ذلك. ويشهد لذلك بعض الأحاديث بأن العقل هو أوّل من اصطفاه الله تعالى ، حيث قال : «بك أثيب وبك أعاقب» ، فهو أوّل من اصطفاه الله تعالى وآخره في قوسي الصعود والنزول ، فيكون المصطفى (بالفتح) حقيقة واحدة لها مراتب متفاوتة.

نعم ، بناء على ما نسب إلى بعض أعاظم الفلاسفة المتألّهين وبعض أكابر العرفاء الشامخين من وحدة الوجود والموجود ، فالمصطفي (بالكسر) والمصطفى (بالفتح) واحد لكنهما مختلفان بالاعتبار ، ولهم في ذلك كلمات نظما ونثرا ، والتفصيل يطلب من محلّه.

وكيف كان ، فالاصطفاء منشأ الخيرات والبركات في هذا العالم ، ويكون شأن من اصطفاه الله تعالى في هذه الدنيا شأن ربان السفينة في البحر المتلاطم المحفوف بالمخاطر ، والناس في هذه السفينة حيارى قد أدهشهم الخوف ، فلا بد لهذا الربان من علم إلهي بكيفية السير والسلوك ، كما هو معلوم في السفر من الخلق إلى الحقّ.

قوله تعالى : (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً).

بيان لأحد أسباب الاصطفاء وتقرير لكيفيّته. والنذر هو إيجاب شيء على النفس والالتزام به ، والإنذار الإخبار بالتخويف ، ويمكن فرض الجامع بينهما وهو إعلان التخويف على المخالفة ، سواء كان المنشأ حاصلا من نفس الإنسان على نفسه أم من الله تعالى ابتداء.

ومحرّرا من التحرير ، وهو الخلوص والتخلّص عن الوثائق ، كتحرير العبد ، أي خلوصه عن الرقيّة ، وتحرير الكتاب هو تخليصه عن الفساد والاضطراب ، أو إطلاق المعاني عن قيد الذهن والفكر ، ويقال لكلّ ما خلص أنه حر :

تمسّك إن ظفرت بودّ حر

فإن الحرّ في الدنيا قليل

٢٤٠