مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٥٩

مورد إرادته الكاملة وفق النظام الأحسن الأكمل ، وإلا يكون من تخلّف المراد عن الإرادة ، وهو محال.

وثالثا : أن الإرادة إن كانت علّة تامّة لحصول المراد ، فإنما هو بالنسبة إلى حصول المراد بالأصل لا المراد بالعرض. والمراد بالأصل فيه عزوجل يرجع إلى ابتهاج ذاته بذاته في ذاته ، بلا محذور في البين ، كما قالوا ذلك في علمه الأزلي بما سواه ، وسمعه ، وبصره. وفي الحديث : «عالم إذ لا معلوم ، وسامع إذ لا مسموع ، وبصير إذ لا مبصر».

وبعبارة اخرى : تكون الإرادة التكوينيّة من هذه الجهة ، كالإرادة التشريعيّة ، فإذا أراد الله تعالى الصلاة ـ مثلا ـ من عباده ، أرادها وفق نظام خاص ، بحيث يكون أوّلها تكبيرة وآخرها تسليمة ، مع تخلل القيام والركوع والسجود والأذكار في البين ، فإرادته انبساطية على جميع ذلك ، كما أن إرادته الأزلية التكوينيّة تكون كذلك.

قد يقال : إن ما ذكر ينافي قوله تعالى : (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة آل عمران ، الآية : ٤٧].

ويمكن الجواب عنه : بأن مرتبة الأمر التكويني غير مرتبة الإرادة ، كما هو ظاهر الآية الكريمة. هذا كلّه بحسب القواعد العقلية.

وأما بحسب ظواهر النصوص التي تدلّ على جعل الإرادة والمشيئة من صفات الفعل لا الذات ، فلا بد من اتباعها ، ولا محيص عمّا ورد فيها. هذا إجمال ما يتعلّق بموضوع القضاء والقدر ، اللذين هما من أسباب الفعل في كلّ فاعل مختار.

وأما أسرار القضاء والقدر في فعل الله جلّ جلاله ، فقد حيّرت الملائكة المقرّبين والأنبياء المرسلين. وفي الحديث عن علي عليه‌السلام : «بحر عميق فلا تلجه ، وطريق مظلم فلا تسلكه ، وانه سرّ الله فلا تتكلّفه» ، وسيأتي في الموضع المناسب تتمة الكلام إن شاء الله تعالى.

وتعليق التصوير على المشيئة الإلهية إنما هو لأجل تعميم التصوير ليشمل

٢١

جميع أقسامه في أصل الخلق والصفات والكيفيات الأخلاقيّة والطبيعيّة ، والإرشاد إلى عدم إحاطة الأفهام والعقول ، كما لا يمكن الإحاطة بالمشيئة الإلهية.

والمشيئة في قوله تعالى : (يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) ، مشيئة تقدير وإرادة مشيئة حتم ، وهو يرشد إلى اختلاف الحالات والعوارض واللوازم الواردة على النطف في الأرحام ، فإن جميع تلك الأمور ـ سواء كانت من لوازم الوجود أم من لوازم الماهيّة ، التي هي مجعولة بالعرض ـ تكون تحت القدرة الإلهية ، بل تشمل جميع التقديرات الحاصلة للإنسان كالعزّة والذلّة والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر والعذاب ونحو ذلك ، فإن جميعها يكون في الرحم على نحو الاقتضاء والمشيئة ، كما يظهر من الأخبار ، منها قول نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «السعيد من سعد في بطن امه ، والشقي من شقي في بطن امه» ، ولا بأس بتسمية جميع ذلك بالصورة بمعناها الأعم.

ومن ذلك يعلم الوجه في تعقيب الآيات المتقدّمة بهذه الآية الشريفة ، ويصحّ أيضا أن تكون تحذيرا وتخويفا بقدرة الله تعالى ، فإنه قادر على أن يبدل صورة الإنسان إلى صورة اخرى ، إتماما للحجّة وبيانا للقدرة الكاملة ، ليرتدع الناس عن المعاصي والآثام.

قوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

تعليل لما تقدّم ، وعود إلى ما بدأ به الكلام من التوحيد ، أي : هو المتوحّد في الالوهية والمتفرّد في جميع شؤون خلقه ، العزيز بقدرته وسلطانه ، لا يغلب في إرادته وقضائه ، هو الحكيم ، أي : يفعل بمقتضى الحكمة التامّة.

٢٢

بحوث المقام

بحث دلالي :

تدلّ الآيات المتقدّمة على امور :

الأول : أنه قد أثبت أكابر الفلاسفة المتألّهين توحيد الذات ، وتوحيد المعبود ، وتوحيد الصفة والفعل لله جلّ جلاله ـ بمعنى أنه لا شريك له تعالى في شيء من ذلك ، فهو واحد متوحّد متفرّد في جميع ذلك ـ ببراهين عقليّة متينة (جزاهم الله تعالى خيرا) ، ويمكن استفادة وجه يجمع تلك البراهين من قوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) ، فإنه يدلّ على وحدانية الذات المستجمعة لجميع صفات الجلال والجمال والمعبودية الحقيقيّة في الإله الواحد القهّار.

وذلك بأن يقال : إن الذات الجامع لجميع الكمالات الواقعيّة ، والمسلوب عنه جميع النقائص كذلك ، إما أن يفرض وجوده أو لا؟

والثاني باطل بالضرورة ، والأول يستلزم تحقّقه كذلك ، أي مسلوبا عنه جميع النقائص الواقعيّة وجامعا لجميع الكمالات كذلك ، وإلا لزم الخلف ، وهو باطل بالضرورة أيضا ، ولا بد أن يسلب عنه الإمكان ، ويكون العلم والحياة والقيوميّة والحكمة عين ذاته ، لأن خلاف كلّ ذلك نقص ، والمفروض أنه مسلوب عنه جميع النقائص الواقعيّة مطلقا.

الثاني : انما ذكر سبحانه : «الحي القيوم» أولا ورتّب عليه تنزيل الكتاب بالحقّ ، ليعلم من عظمة المنزل عظمة التنزيل ، فكما لا حدّ للحيّ القيوم جلّت عظمته ، كذلك لا يمكن تحديد هذا الكتاب العظيم الذي نزل بالحقّ ، المهيمن على جميع الكتب الإلهية ، ويكون ترتّب تنزيل الكتاب بالحقّ على الحيّ القيوم من قبيل ترتب المعلول على العلّة التامّة المنحصرة ، يعني حيث انه تعالى حي وقيوم نزل الكتاب بالحقّ.

٢٣

الثالث : إنما عبّر سبحانه بالتنزيل ، للإشارة إلى كثرة العناية والاهتمام بوجود القرآن العظيم ، فإنه كنسخة واحدة لشرح نظامي التكوين والتشريع ، فقد تجلّى الله تعالى فيه وأنزله بالحقّ ومن الحقّ ، وفي الحقّ ، وإلى الحقّ.

أما أنه بالحقّ ، فهو من لوازم كونه من الحقّ المطلق ، إذ لا يعقل نزول شيء منه إلا بالحقّ.

وأما أنه في الحقّ ، لأنه نزّل الكتاب لتكميل الإنسان كمالا معنويا وظاهريا ، حتى يصير بذلك خلّاقا لما يشاء وفعالا لما يريد من المعنويات.

وأما أنه نزل إلى الحقّ ، لأنه نزل من الحي القيوم إلى قلب سيد المرسلين ، والغاية منه هو النعيم الأزلي الذي يبقى ولا يفنى.

الرابع : يدلّ قوله تعالى : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) على أن اعتبار الكتب الإلهية السابقة إنما يكون بإمضاء القرآن العظيم ، فهو الأصل في مدرك الاعتبار ، ويكون هو المعتمد في الموافقة والمخالفة ، وفي الكلام من براعة الأسلوب وروعة البيان ما لا يخفى.

الخامس : إنما قدّم سبحانه تنزيل الكتاب على نبيّه في الذكر على إنزال التوراة والإنجيل ، لأن القرآن العظيم هو الأصل في الكتب السماويّة ، وأن تأخّر انزاله في سير الزمان لمصالح كثيرة ، منها حصول استعداد النفوس لذلك ، وإلا فهو الأول والأصل ، فمعارفه شموس طالعة ، وأحكامه أقمار منيرة ، وآدابه نجوم مضيئة ، تستشرق الأرواح من شوارقه وتستنير النفوس من بوارقه ، تحيا الأرواح حياة أبدية وتتنعم الأشباح بنعمة سرمدية ، توصلها إلى قاب قوسين أو أدنى والاقتراب من العلي الأعلى.

ألم بنا وصف أجلّ من الوصف

أدق من المعنى وأخفى من اللطف

تمازجه الأرواح وهي لطيفة

إذا هو روح الروح والروح كالظرف

نعمنا به رغدا من العيش برهة

وراس رتبته المعقول في عالم الكشف

السادس : الفرقان يصحّ أن يكون وصفا بحال ذات القرآن ، فإنه الفارق بين

٢٤

الحقّ والباطل ، والهداية والغواية ، كما يصحّ أن يكون ذلك وصفا بحال المتعلّق ، أي الفارق بين المؤمن وغيره ، فيستفيد كلّ منهم بقدر لياقته واستعداده ، قال تعالى : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) [سورة الرعد ، الآية : ١٧].

السابع : إنما كرّر سبحانه وتعالى مادة (ن ز ل) في الآية المباركة ثلاث مرات ، للاهتمام التامّ بالمنزل وكثرة العناية به ، والمراد بالكتاب في أوّل الآية المباركة هو القرآن الذي هو بين أيدينا ، بقرينة قوله تعالى : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) ، والمراد من التنزيل التدريجي نجوما متفرّقة حسب تعدّد الخصوصيات ، فلاحظ سبحانه وتعالى باعتبار وجوده الجمعي بعد تمامية مراتب التنزيل وذكره مستقلا.

وأما التوراة والإنجيل فيستظهر من الآية الشريفة : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) أنهما نزلا دفعة وهو كذلك ، لأن الإنجيل مقتبس من التوراة ، وهي نزلت دفعة.

وأما قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) ، فهو عبارة عن المحكمات الفارقة بين الحقّ والباطل ، التي تكون في ضمن القرآن ، والتكرار ثانيا لكثرة أهميتها وجعل إنزالها إنزالا دفعيا ثانيا مضافا إلى التنزيل التدريجي ، ولا بأس بجعل الاختلاف في التعبير من باب التفنّن في الكلام الذي هو من جهات الفصاحة والبلاغة.

ويمكن أن يوجّه بوجه آخر أدقّ وألطف ، وهو أنه إذا لوحظ الوحي بالنسبة إلى الموحي وقلب الموحى إليه ، فهو نزول مطلقا ، لتنزههما عن الزمان والزمانيات ، ولكن إذا لوحظ بحسب هذا العالم المادي الزماني المتدرّج الوجود ، فهو تنزيل ، فيكون كلّ منهما بحسب وعائه وعالمه ، وبذلك يجمع بين جميع الآيات السابقة من غير محذور في البين.

الثامن : يستفاد من قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) تقدير جميع الأمور المتعلّقة بالإنسان ، فيكون كفر الكافر وإيمان المؤمن غير خارجين عن تقدير الله تعالى على نحو الاقتضاء ، ويكون الكلام تعميما بعد التخصيص ، وقد ذكر التقدير في الإنسان إتماما للحجّة ، وتثبيتا لإيمان المؤمن ،

٢٥

وتطييبا لنفوسهم وتخويفا بانتقام الكافرين وتعريضا بالنصارى في أمر المسيح عليه‌السلام.

التاسع : يدلّ قوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) بعد ذكر ما تقدّم من إنزال الكتب الإلهية والفرقان والانتقام من الكافرين وتصوير الإنسان في الأرحام ، على أن جميع ذلك دليل على وحدانيته ، وأنه لا بد من استنادها إلى إله واحد مدبّر حكيم ، يفعل ذلك بعزّته فلا يغلبه أمر.

العاشر : أن المتأمّل من أهل العرفان في جملة من الآيات الشريفة من سورة آل عمران ، والآيات المباركة في آخر سورة الحشر ، والآيات الاول من سورة الحديد ، يعلم أنها تتضمّن أبوابا من المعارف ، وحقائق من الواقعيات ، وإشارات من المعنويات ، ولا يصل إلى جميع ذلك إلا بتصفية النفس والمجاهدة في سبيل الله تعالى.

وعن بعض المشايخ : أن في هذه الآيات أسرارا أفاضها الله تعالى علينا ، انه ولى الإفاضة ، خصوصا في تكرار لفظ «هو» أربع مرات.

تارة : مشيرا إلى تجلّي الذات.

واخرى : مشيرا إلى التجلّي الفعلي بتصوير صورة الإنسان ، التي هي أعظم آية وعليها يدور خلق سائر العوالم.

وثالثة : مشيرا إلى تجلّي العزّة والحكمة.

ورابعة : بالتجلّي التشريعي في المعارف الحقّة والقوانين التامّة ، ويلزمه التجلّي الجزائي أيضا ، فإن التشريع بلا جزاء لغو.

بحث روائي :

في الكافي : عن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) قال عليه‌السلام : «القرآن جملة الكتاب ، والفرقان المحكم الواجب العمل به».

وفي تفسير القمّي : «الفرقان هو كلّ أمر محكم ، والكتاب جملة القرآن الذي يصدقه من كان قبله من الأنبياء».

٢٦

أقول : قد تقدّم ما يتعلّق بذلك في التفسير.

في المجمع : عن الكلبي ، ومحمد بن إسحاق والربيع بن أنس ، وفي الدر المنثور : عن أبي إسحاق وابن جرير وابن المنذر ، عن محمد بن جعفر بن الزبير وعن ابن أبي إسحاق ، عن محمد بن سهل بن أبي أمامة وغيرهم : «أن صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها نزلت في وفد نجران لما قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانوا ستين راكبا وفيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم ، وفي الأربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم ، العاقب : أمير القوم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه واسمه عبد المسيح ، والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم واسمه الأيهم ، وأبو حارثة بن علقمة أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم ، وكان قد شرف فيهم ودرس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم ، وكانت ملوك الروم قد شرّفوه وموّلوه وبنوا له الكنائس لعلمه واجتهاده ، فقدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي المدينة ودخلوا مسجده حين صلّى العصر ، عليهم ثياب الحبرات جباب وأردية ، في جمال رجال بني الحارث بن كعب ، يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما رأينا وفدا مثلهم ، وقد حانت صلاتهم فأقبلوا يضربون بالناقوس وقاموا فصلّوا في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : دعوهم فصلّوا إلى المشرق ، فكلّم السيد والعاقب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال لهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أسلما. قالا : قد أسلمنا قبلك ، قال : كذبتما ، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولدا ، وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير ، قالا : إن لم يكن عيسى ولدا لله فمن أبوه؟ وخاصموه جميعا في عيسى ، فقال لهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟ قالوا : بلى ، قال : ألستم تعلمون أن ربّنا حيّ لا يموت ، وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا : بلى ، قال : ألستم تعلمون أن ربّنا قيم على كلّ شيء يحفظه ويرزقه؟ قالوا : بلى ، قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا : لا. قال : فإن ربّنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء ، وربّنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث ، قالوا : بلى ، قال : ألستم تعلمون أن عيسى حملته امه كما تحمل المرأة ، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ، ثم

٢٧

غذى كما يغذى الصبي ثم كان يطعم ويشرب ويحدث؟ قالوا : بلى ، قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فسكتوا ، فأنزل الله عزوجل فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها».

أقول : ما ورد في الرواية مطابق للأدلّة العقلية أيضا ، وليس فيها جهة من جهات التعبّد ويمكن أن يكون نزول مجموع الآيات التي ذكرت في الرواية بعضها من باب المقدّمة لدفع احتجاجاتهم ، لا أن تكون بنفسها احتجاجا عليهم.

في العلل : عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «سمّي القرآن فرقانا لأنه متفرّق الآيات ، والسور نزلت في غير الألواح وغير الصحف ، والتوراة والإنجيل والزبور أنزلت كلّها جملة في الألواح والورق».

أقول : أما التوراة والإنجيل والزبور أنزلت جملة واحدة ، فيمكن ان يستشهد بقوله تعالى : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٥٤].

فيستفاد منه أن التوراة كانت مكتوبة بالخط الأزلي في الألواح ، وأما أن الألواح من أي شيء كانت ، فلا يستفاد ذلك من الآية المباركة. ويشهد لما قلنا قوله تعالى : (صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) [سورة الأعلى ، الآية : ١٩].

وأما أن الإنجيل نزل جملة واحدة ، فلقوله تعالى : (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٦] ، وغيره من الآيات المباركة التي يستفاد من سياقها أنه كان مكتوبا وأتاه الله إلى عيسى عليه‌السلام.

وأما الزبور ، فيشهد قوله تعالى : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) [سورة النساء ، الآية : ١٦٣] ، فإن المنساق منه أيضا النزول الجمعي.

ثم إن القرآن والفرقان من الأمور الإضافية النسبية ، فيصحّ نسبة الجمع إلى القرآن في كلّ ما يصحّ انتساب الجمع إليه ، كالجمع بين الدفتين ، أو الجمع في قلب سيد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو الجمع في اللوح المحفوظ ، أو الجمع في علم الله تعالى ، أو الجمع في غير ما ذكر من العوالم.

٢٨

كما أن الفرقان يصحّ بانتساب التفريق إلى كلّ ما صحّ ذلك عقلا وشرعا من التفريق بين المحكم والمتشابه ، والتفريق بين اصول المعارف والأحكام ، والتفريق بين الآيات الدالّة على التكوين والآيات الدالّة على القصص والحكايات ، إلى غير ذلك من جهات الفرق. فما ذكر في الروايات في معنى الفرقان يكون من باب ذكر المصداق ، كما مرّ.

وفي الكافي : عن الباقر عليه‌السلام قال : «إن الله إذا أراد أن يخلق النطفة التي هي ممّا أخذ عليها الميثاق في صلب آدم عليه‌السلام أو ما يبدو له فيه ، ويجعلها في الرحم حرك الرجل للجماع وأوحى إلى الرحم أن افتحي بابك حتى يلج فيك خلقي وقضائي النافذ وقدري ، فتفتح بابها ، فتصل النطفة إلى الرحم ، فتردد فيه أربعين يوما ثم تصير علقة أربعين يوما ، ثم تصير مضغة أربعين يوما ، ثم تصير لحما تجري فيه عروق مشتبكة ، ثم يبعث الله ملكين خلاقين يخلقان في الأرحام ما يشاء الله ، فيقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة ، فيصلان إلى الرحم وفيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، فينفخان فيها روح الحياة والبقاء ، ويشقّان له السمع والبصر والجوارح وجميع ما في البطن بإذن الله تعالى ، ثم يوحي الله إلى الملكين : اكتبا عليه قضائي وقدري ونافذ أمري واشترطا لي البداء في ما تكتبان ، فيقولان : يا ربّ ما نكتب؟ فيوحي الله عزوجل إليهما : أن ارفعا رءوسكما إلى رأس امه فيرفعان رؤوسهما ، فإذا اللوح يقرع جبهة امه فينظران فيه فيجدان في اللوح صورته وزينته وأجله وميثاقه شقيا أو سعيدا وجميع شأنه ، قال : فيملي أحدهما على صاحبه ، فيكتبان جميع ما في اللوح ويشترطان البداء فيما يكتبان ، ثم يختمان الكتاب ويجعلانه بين عينيه ثم يقيمانه قائما في بطن امه ، قال : فربما عتا فانقلب ، ولا يكون ذلك إلا في كلّ عات أو مارد ، وإذا بلغ أوان خروج الولد تاما أو غير تام أوحى الله إلى الرحم : أن افتحي بابك حتّى يخرج خلقي إلى أرضي وينفذ فيه أمري فقد بلغ أوان خروجه ، قال : فيفتح الرحم باب الولد فيبعث الله إليه ملكا يقال له زاجر فيزجره زجرة فيفزع منها الولد فينقلب فتصير رجلاه

٢٩

فوق رأسه ورأسه في أسفل البطن ليسهّل الله على المرأة وعلى الولد الخروج ، قال : فإذا احتبس زجره الملك زجرة اخرى فيفزع منها فيسقط الولد إلى الأرض باكيا فزعا من الزجرة».

أقول : هذا الحديث يبيّن جملة من أسرار التكوين ببيان واضح ، والأمور التي ذكرت فيه أسرار معنوية وأسرار تكوينيّة حقيقيّة لا تنافي الأسباب الطبيعيّة المعروفة ، إذ يمكن أن يكون في شيء واحد أسباب جليّة واضحة وأسباب خفية معنوية ، لا يحيط بها إلا الله تعالى ، وهما في حاق الواقع يرجعان إلى شيء واحد ، وكلّ واحد منهما يكون من المقتضى لتحصيل المعلول ، أو يكون كلّ واحد منهما علّة تامّة مترتّبة كلّ سابقة علّة للاحقتها ، فيصير كلّ واحد علّة تامّة من جهة ومقتضيا من جهة اخرى ، كما هو شأن العلل والمعلولات المترتّبة في حصول النتيجة القصوى.

وأما قوله عليه‌السلام : «النطفة التي ممّا أخذ عليها الميثاق» ، فهو مطابق للقانون العقلي ، وهو انبعاث المعلول عن علّته ، ولا ريب في أن جميع الموجودات خصوصا النطفة التي يريد أن يجعلها سويا أتم خلق الله وأهمّه ، وارتباطه تكوينا مع الله ثابت ، ويصحّ أن يعبّر عن هذا الارتباط بالميثاق ، فهو ميثاق تكويني من جهة ، واختياري من جهة اخرى ، يسمّى في الأخبار بعالم الذر والميثاق ، كما يأتي شرحه عند قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٧٢] ، ويصحّ أن يعبّر عن ذلك بالطينة أيضا ، لما ورد فيها من أخبار كثيرة.

وأما قوله عليه‌السلام : «أو ما يبدو له» من البدء الذي دلّت عليه نصوص كثيرة ، ويظهر من الرواية أن البداء يكون في مرتبة الميثاق أيضا ، فالميثاق قضاء حتمي وما يبدو له غير حتمي متوقّف على البدء.

وأما قوله عليه‌السلام : «فتصل النطفة إلى الرحم» هذا من الأسباب الطبيعيّة ، وقد

٣٠

تقدّم آنفا أنه يمكن أن يجتمع مع الأسباب المعنوية أيضا.

وأما قوله عليه‌السلام : «ثم تصير لحما تجري فيه عروق مشتبكة» ، قد ورد في ذلك كمية وكيفية نصوص كثيرة ، وقد كشف العلم الحديث كثيرا منها ، وفرّع الفقهاء على ذلك تعيين دية ما في الأرحام.

وأما قوله عليه‌السلام : «ثم يبعث الله ملكين خلّاقين» ، يصحّ أن يعبّر عن القوة الخلّاقة بالملك ، لأن الطبيعة بأجزائها وجزئياتها كلّها من جنود الله تعالى.

وأما قوله عليه‌السلام : «يقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة» ، المراد من الاقتحام هو تشبيه المعقول بالمحسوس ، توضيحا للأفهام وتشريفا للملك ، فإنه مختصّ بأعالي البدن ، وفي الحديث : «نظفوا المأزقتين فإنهما محل الرقيب والعتيد» ، والملك إن كان جسما لطيفا فهو ألطف من البخار الحاصل من حركة الدم ، فاقتحامه في البطن والعروق معلوم ، ويعبّر عن ذلك في الفلسفة ب (الروح البخاري) ، وإن كان مجرّدا فهو أوضح من أن يخفى ، فيكون من سنخ الإدراكات المحسوسة التي توجب حصول صورة في النفس ، وكما أن أعالي البدن موكولة بالملك فأسافلها موكولة بافعال الشيطان ، كما يظهر من روايات كثيرة.

وأما قوله عليه‌السلام : «فيصلان إلى الرحم وفيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال وأرحام النساء» ، يمكن أن يراد من الروح القديمة موضع مادة الروح ، وهي ماء الرجل وماء المرأة معا ، فيكون بمنزلة الموضوع لتعلّق الحياة به ، والتعبير ب «القديمة» لفرض التقدّم الزماني على نفخ الروح الحياتي ، فالمراد به القدم الإضافي ، لا القدم الحقيقي.

وأما قوله عليه‌السلام : «فينفخان فيها روح الحياة والبقاء ويشقّان له السمع والبصر والجوارح وجميع ما في البطن بإذن الله تعالى» ، يصحّ انطباق ذلك كلّه على القوى الطبيعيّة المسخّرة تحت أمر الله تبارك وتعالى ، فإن شئت فسمّها ملكا ، وإن شئت فسمّها قوى طبيعية مسخّرة تحت إرادة الله عزوجل ، ويصحّ التعبير في جميع ذلك ب (الحركة الجوهرية) ، التي هي تحت إرادته عزوجل ، لأن إرادته الأزلية

٣١

تعلّقت بالاستكمال والترقّي والتعالي.

وأما قوله عليه‌السلام : «ثم يوحي الله إلى الملكين : اكتبا عليه قضائي وقدري ونافذ أمري واشترطا لي البداء فيما تكتبان» ، يظهر من جملة من الروايات أن المكتوب عليه هو الجبين. وأما اشتراط البداء فيدلّ عليه نصوص كثيرة ، الدالّة على ثبوته في جملة من موارد القضاء والقدر ، وسنتعرّض لتفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.

وأما قوله عليه‌السلام : «فيقولان : ما نكتب؟ فيوحي الله عزوجل إليهما : أن ارفعا رءوسكما إلى رأس امه فيرفعان رؤوسهما فإذا اللوح يقرع جبهة امه فينظران فيه» ، لأن محل مجمع الحواس هو الجبهة ، فيكون أشرف من سائر أعضاء البدن ، والتخصيص بالأم لأن الأب قد انفصل عنه بانفصال النطفة ، ولكثرة علاقة الام بالحمل ، ولذا يكون جبينها حاملا للمواثيق.

وأما قوله عليه‌السلام : «فيجدان في اللوح صورته وزينته وأجله وميثاقه سعيدا أو شقيا وجميع شأنه فيملي أحدهما على صاحبه فيكتبان جميع ما في اللوح ويشترطان البداء فيما يكتبان» ، ولعلّ اشتراط البداء من أجل أن الحوادث اللاحقة على الإنسان وما يجري عليه في المستقبل ، تكون لأجل مقتضيات خاصة لا بد من تبدّلها وتغيّرها ، فلا بد من اشتراط البداء حينئذ ، حفظا لنظام الأسباب والمسبّبات ، وممّا ذكرنا ظهر شرح بقية الحديث.

القمّي في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) ، قال عليه‌السلام : «يعني ذكرا أو أنثى وأسود وأبيض وأحمر وصحيحا وسقيما».

أقول : ما ذكره عليه‌السلام من باب الغالب والمثال وإلا فتصورات الأرحام بالنسبة إلى جميع الجهات والمقتضيات غير معلومة إلا له تبارك وتعالى ، ولذا قال تعالى : (كَيْفَ يَشاءُ) معلّق على مشيئته غير المحدودة ، ويشهد لذلك أنه عليه‌السلام لم يذكر الجمال ـ مثلا ـ مع أنه من أهم وأتمّ جهات صور الإنسان.

٣٢

بحث فلسفي :

عن جمع من الفلاسفة أنهم حدّدوا الفيض النازل من الحي القيوم إلى الممكنات بحدّ خاص مترتب طولا ، فلا يستفيض كلّ لا حق إلا بواسطة السابق عليه ، وجعلوا أوّل هذه السلسلة ما أصطلحوا عليه ب «القاهر الأعلى» ، وآخرها ما أسمّوه ب «الهيولى الاولى» ، وفصّلوا القول في ذلك بالنسبة إلى خلق الممكنات من علوياتها وسفلياتها ، وهو تصور حسن في نفسه ، ولكنه تحديد لقدرة الله تبارك وتعالى وإرادته الكاملة ، بحسب غاية ما يدركونه بعقولهم ، وهو أعمّ من الواقع بلا إشكال ، لأن الواقع ذاتا وصفة وفعلا ومن كلّ حيثية وجهة غير محدود ، فكما أن ذاته الأقدس أجل من أن يحيط به العقول ، فكذا صفاته العليا وفعله وسائر ما هو من ناحيته جلّت عظمته ، فلا يمكن تحديد قوله تعالى : (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) بشيء أبدا.

نعم إن أرادوا به السنّة الإلهية من أنه أبى أن يجري الأمور إلا بأسبابها ، فهو صحيح ، ولكن لا دليل على تحديد ما ذكروه من عقل أو نقل ، وللبحث بقية نتعرّض لها إن شاء الله تعالى.

بحث عرفاني :

لا ريب في أن الإنسان أشرف الممكنات ، لأنه الفصل الأخير لجميعها في المسير الاستكمالي ، فيكون الكلّ متوجّها إليه بالتكوين ، توجّه المقدّمات بالنتيجة.

وفيه اجتمعت العلل الأربع ، أما العلّة الفاعلية ، فقد قال الله تعالى بعد ذكر الأدوار وعوالم خلق الإنسان : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [سورة المؤمنون ، الآية : ١٤].

وأما العلّة المادية ، فقد أخبر سبحانه وتعالى أنه المباشر للخلق والتربية :

٣٣

(إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) [سورة ص ، الآية : ٧١] ، وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) [سورة الأنعام ، الآية : ٢].

وأما العلّة الصورية قال تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) ، وقال تبارك وتعالى : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ) [سورة الحشر ، الآية : ٢٤].

وأما الغائية فقد قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [سورة البقرة ، الآية : ٢٩].

فجميع الموجودات يحبّ الإنسان محبّة تكوينية ، فالكلّ مسخّر له ، قال تعالى : (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) [سورة لقمان ، الآية : ٢٠] ، كما ان الإنسان بطبعه يحبّ جميع الموجودات لفرض تفانيها فيه ، فتكون المحبّة والعشق من الطرفين (أي تعاشقا) ، فالموجودات كالشجرة بالنسبة للإنسان وهو كالثمرة ، فخلقت الدنيا له ولأجله.

فلا بد للإنسان من بذل الجهد لكشف أسرار الموجودات ورموزها واستخراج الحقائق منها ، وذلك لا يكون إلا بالارتباط التامّ مع الربّ المطلق والقيوم بالحقّ ، قال الله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [سورة الأعراف ، الآية : ٩٦] ، فهو أشدّ أنحاء العلم وأمتنه وأقواه ، كما أثبته الفلاسفة ـ من قديمهم وحديثهم ـ وجميع أهل العرفان.

ولكن الإنسان قصّر في ذلك ، فأوقع نفسه في ظلمات بعضها فوق بعض ، لا يمكنه التخلّص عن بعضها فكيف عن جميعها ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة الحديد ، الآية : ٢٨] ، وليس المراد بهذا المشي في طريق خاص أو علم مخصوص ، بل المشي في جميع أبواب العلوم والمعارف ، مشيا مطابقا للواقع يصل إلى النتيجة الحقّة ، قال تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [سورة الحشر ، الآية : ١٩].

٣٤

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧))

بعد أن ذكر سبحانه وتعالى في الآيات المتقدّمة نزول الكتاب على النبيّ الهادي الأمين ، بيّن في هذه الآية الشريفة بعض أوصاف الكتاب ، بأنه يشتمل على اصول المعارف واضحة ومفهومة ، هي ام الكتاب ، واخرى يصعب درك المراد منها ، فتختصّ معرفتها به جلّت عظمته وبالأنبياء والأولياء الأمناء على الوحي المرتبطين به عزوجل فيعول في درك حقائقها عليهم ، فإن معرفة تلك الأصول والآيات تفوق العقل البشري ، فلا يعلم حقائقها إلا الله العالم المحيط بما سواه ، أو الذين أفاض عليهم أنوار علومه ، وكرّمهم بمعرفة أسرار كتابه ورموزه والإحاطة بتأويله ، فهم يشرحون لمن دونهم الواقع المطلوب وما استفادوه من الغيب المحجوب. وهذا من إحدى جهات جامعيّة هذا الكتاب المبين ، وكمال نظمه في تقنين القوانين.

ولكن الذين في قلوبهم انحراف وضلال عن سواء الفطرة ، ويميلون عن الحقّ ، يتركون الأصول الواضحة والمعارف الحقّة التي تطابقت مع فطرة العقول ، ويتحرّون وراء المتشابه ، طلبا لإيقاع الفتنة بين الناس وإضلالهم وتلبيس الواقع عليهم.

على خلاف الذين بلغوا من علمهم ما يعرفون به الحقائق ، واعترفوا بالحقّ الواقع بأن جميع الكتاب وكلّه لله تعالى ، فأرشدوا الناس إلى الهداية والسعادة. وختم سبحانه وتعالى الآية المباركة بمدحهم مدحا بليغا لا حد له ، فوصفهم بأنهم من أولى الألباب.

٣٥

التفسير

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ).

تقدّم الفرق بين الإنزال والتنزيل بالنسبة إلى جميع الآيات المباركة بوجه كلّي ، وإنما ذكر عزوجل الإنزال لأن المقصود الأهمّ في المقام هو بيان تبعيض الآيات الشريفة ، بأن بعضها محكمات والاخرى متشابهات.

ومادة (حكم) تأتي بمعنى الإتقان والإصلاح والحتم والمنع عن الخبط والفساد ، وهي كثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات مختلفة ، قال تعالى ـ حكاية عن نوح ـ : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) [سورة هود ، الآية : ٤٥] ، وفي الحديث : «ان الجنّة للمحكمين» ، أي الذين حتم عليهم القتل بعد ما خيّروا بين الشرك والقتل فاختاروه على الشرك.

والإحكام في الكتاب تستعمل في موردين :

الأول : بالنسبة إلى جميع هذا الكتاب العظيم ، المشتمل على الأسلوب المحكم المتقن والصادر من المصدر الأزلي الحكيم ، وهذا وصف لجميع آيات القرآن حتّى المتشابهات منه ، لأنها منه عزوجل ، وهي محكمة من تمام الجهات ، من حيث الصدور ، ومن حيث الأسلوب ، ومن حيث الإعجاز ، ومن حيث الهداية ، فهي محكمة بجميع ما مرّ من معاني الإحكام ، قال تعالى : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [سورة هود ، الآية : ١].

الثاني : في مقابل المتشابه ، فتصير الآيات الشريفة حينئذ على قسمين ، محكمة ومتشابهة ، والمراد من المحكمات في هذه الآية الشريفة معلومة الدلالة ومفهومة المراد ، أي : مصونة عن طرو التردد والاحتمال عند الأذهان المستقيمة.

قوله تعالى : (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ).

مادة (ا م م) تأتي بمعنى الأصل ، قال تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً

٣٦

عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ) [سورة الشورى ، الآية : ٧] ، وسمّي اللوح المحفوظ ب (ام الكتاب) ، قال تعالى : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) [سورة الزخرف ، الآية : ٤] ، وأم النجوم المجرّة ، وسمّيت المحكمات ام الكتاب لأنها اصول المعارف الإلهية ، والقوانين الخلقية ، وتنظيم الأنظمة الدنيوية والاخروية ، فإذا كانت المحكمات اصول القرآن فهي اصول جميع الكتب السماويّة ، لأن جميع الكتب السماويّة شوارق من أشعة القرآن ، استشرقت بها قلوب الأنبياء السابقين ، حتى تجلّت بتمامها في قلب سيد المرسلين ، فشرقت شوارق قلبه المقدّس بعد الاتصال بالذات الأقدس بجوامع الكلم التي هي في نفسها مدار الفقه والفلسفة والبرهان لأهل اليقين والعرفان ، لاتصال النور بالنور ، فيشع في مراتب البروز والظهور.

والتشابه من الشبه ، وهو من المفاهيم العامة الاستعمال في المحاورات الدائرة بين الناس ، فيستعمل في مطلق مشابهة شيء بشيء آخر كيفا أو كما أو في جهة اخرى ، وربما يكون ظهور اللفظ في معنى عرفي يوجب التشابه والالتباس في مورد الاستعمال ، كقوله تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [سورة الفتح ، الآية : ١٠] ، وقوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [سورة طه ، الآية : ٥] ، كما أن المجمل كذلك أيضا.

وقد يتّصف جميع الكتاب بالتشابه أيضا ، كما في قوله تعالى : (كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) [سورة الزمر ، الآية : ٢٣] ، لتشابه جميع آياته في الفصاحة والبلاغة وبديع الأسلوب وكمال الجمال ، وأنها صادرة عن مبدئ حكيم قدير ، لا يمكن أن يحيط بحكمته وصنعه ادراك الممكنات.

وهو غير التشابه الذي ورد في هذه الآية الشريفة كما في المحكمات ، والمعنى أن الآيات المحكمات التي هي ام الكتاب هي الأصل الذي لا بد أن يرجع إليه عند قصور العقول عن درك معاني غيرها.

٣٧

قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ).

مادة (ز ي غ) تأتي بمعنى الميل عن الاستقامة إلى خلافها ، وهي مستعملة بهيئات كثيرة في القرآن ، لعلّ أشدّها على النفس قوله تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [سورة الصف ، الآية : ٥].

وزيغ القلوب ميلها عن الحقّ ، وله مراتب كثيرة فعلا وقولا واعتقادا ، بل وخطرة في القلب ، والكلّ مضبوط لدى العليم الخبير بالدقائق والشاهد للحقائق.

والآية الشريفة تعبّر عن أحوال الناس في تلقيهم الآيات الشريفة بمحكماتها ومتشابهاتها ، فإن منهم مائلا عن الحقّ ، يتبع المتشابه ابتغاء للفتنة والضلال ، كما عبّر جل شأنه ب : (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ).

قوله تعالى : (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ).

مادة (ب غ ي) وردت بمعنى طلب تجاوز الاقتصاد كما أو كيفا ، تجاوزه أو لم يتجاوزه.

والبغي على قسمين : محمود ومذموم ، والأوّل مثل قوله تعالى : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) [سورة الإسراء ، الآية : ٢٨] ، وفي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ان الله يحبّ بغاة العلم» ، وكذا تجاوز العدل إلى الإحسان. والثاني كتجاوز الحقّ إلى الباطل أو الشبه ، والتمييز بينهما بالقرائن ، فإن كان الطلب لشيء محمود ، فالابتغاء فيه يكون كذلك ، وإذا كان الطلب مذموما ، فالابتغاء مذموما أيضا ، ولكن أكثر موارد استعماله يكون في الذم.

وهيئة الافتعال تدلّ على كثرة الاهتمام بذلك ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) [سورة الرعد ، الآية : ٢٢].

والفتنة : الاختبار ، من قولهم فتنت الذهب بالنار ، أي : اختبرته للتمييز بين جيده ورديئه ، ولها مراتب كثيرة ، قال تعالى : (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) [سورة طه ، الآية : ٤٠] ، وتستعمل في النار وفي العذاب أيضا من باب استعمال اللفظ في بعض لوازم المعنى ، وليس ذلك من المشترك اللفظي في شيء ، قال تعالى : (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ

٣٨

هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) [سورة الذاريات ، الآية : ١٤] ، أي عذابكم ، وقوله تعالى : (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) [سورة التوبة ، الآية : ٤٩] ، والتأويل من الأول ، أي : الرجوع إلى الأصل ، أو البيان ، وله مراتب كثيرة ، قال تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) [سورة الأعراف ، الآية : ٥٣] ، ولكن البيان ..

تارة : يكون واقعيا وعن حجّة معتبرة ، وهو ممدوح.

واخرى : يكون اعتقاديا وبلا حجّة معتبرة ، وهو مذموم.

والمعنى : أن الذين في قلوبهم زيغ يميلون عن المحكمات إلى المتشابهات ، لأجل ابتغاء الفتنة ، أو ابتغاء تفسير الآية وبيانها حسب آرائهم ومعتقداتهم.

وسياق الآية الشريفة أنها في مقام ذمّ الصنفين ، فلا بد وأن يكون ابتغاء الأمرين بالاختيار والتعمّد حتّى يتعلّق به الذم ، وكذا إذا كانا منتسبين إلى قصور الإدراك وترتّب على ذلك الفتنة والتأويل بلا اختيار وعمد لهما ، كبعض من فسّر الآيات المتشابهة من القرآن وبيّنها برأيه الخاص ، مغرورا بنفسه ، فيصحّ توجيه الذم إليه لتقصيره في السبب.

قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا).

الرسوخ : الثبوت والاستقرار والتحقّق ، وله مراتب كثيرة كمراتب أصل الإيمان به جلّت عظمته ، ولم يستعمل هذا اللفظ في القرآن الكريم إلا في موردين ، أحدهما المقام ، والثاني قوله تعالى : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) [سورة النساء ، الآية : ١٦٢].

والمعروف بين المفسّرين وجمع من الأدباء أن جملة : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) مستأنفة ، وأن الجملة الاولى مبتدأ والثانية خبر ، فيكون المعنى : أن الراسخين في العلم يقولون : آمنا بالله عزوجل وأن الآيات كلّها من عند الله

٣٩

تعالى ، في مقابل من كان في قلبه زيغ فيتّبع ما تشابه منها.

ويرد عليه : أن قول : كلّ من عند ربنا ، قول عامّة المسلمين ، فإنهم يعتقدون بأن القرآن كلّه من عند الله تعالى ، بلا فرق بين عالمهم وجاهلهم وأهل البادية والسوق منهم ، وسياق الآية الشريفة سياق المدح والثناء ، فيختصّ بقوم خاص ، ولا يعمّ كلّ من قرأ القرآن ولا يلتفت إلى مداليل الآيات المباركة ومعانيها ، فهذا الوجه مخدوش.

إلا أن يراد من الراسخين في العلم المعنى السلبي ، أي : من ليس في قلبه زيغ ولم يمل من الحقّ إلى الباطل ، فيشمل عامّة المسلمين أيضا ، ولا يختصّ بصنف خاص. فيصير معنى الآية المباركة : من كان بصدد الإضلال والإلحاد يتبع المتشابه ، ومن لا يكون كذلك يقول : كلّ من عند الله.

وهو بعيد عن سياق الآية الشريفة أيضا.

والمنساق من الآية الشريفة أن الجملة معطوفة على الله ، أي : لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم. والراسخ في العلم منحصر بسيد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن استفاد منه هذا العلم ، حيث قال فيه : «اللهم علّمه التأويل» ، وعن علي عليه‌السلام : «علّمني رسول الله ألف باب من العلم يفتح من كلّ باب ألف باب» ، فالجملة ليست مستأنفة بل معطوفة على المستثنى ، ويكون من قبيل عطف البعض على الكلّ مثلا ، لأن هذا العلم بالنسبة إلى الله تعالى أولا وبالذات ، وبالنسبة إلى سيد الأنبياء ثانيا وبالعرض ، فيكون كنسبة علم المتعلّم إلى المعلم ، وهذا الوجه هو الظاهر من الآية المباركة ، وتدلّ عليه روايات كثيرة ، كما يأتي. وإنما أتى بلفظ الجمع تعظيما وإجلالا ، وليشمل المصطفى سيد المرسلين والمتّقين ، الذي هو في قمة مقام اليقين بالنسبة إلى المعارف الربوبية ، ولا فرق بين علمه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتأويل وعلمه تعالى به إلا بالاعتبار ، لفرض أن علمه بالتأويل من علم الله تعالى ، فالفرق بينهما بالمظهر (بالضم) والمظهرية (بالفتح) في مقام التنزيل والتأويل ، ولذا صار صلى‌الله‌عليه‌وآله خاتما لمن سبق وفاتحا للعلوم والمعارف لمن لحق ، وهذا في الممكنات يختصّ به ، فهو الراسخ

٤٠