مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٥٩

فالآية الشريفة كما تشتمل على الحكم وهو النهي عن تولّي الكافرين ، تبيّن سببه أيضا ، وذلك من أعلى درجات البلاغة والفصاحة.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ).

أي : ومن يتّخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين فليس من ولاية الله في شيء ، ولا نسبة له مع الله تعالى لزوال تلك النسبة والمحبّة بينه وبين الله تعالى بالموالاة مع الكافرين ، وقد قال سبحانه وتعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٥٧].

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) يفيد العموم ، أي ليس عمله مرضيّا لله تعالى ، ولا يكون جزاؤه جزاء من أحسن عملا ، ولا تشمله العنايات الخاصة والتوفيقات الإلهيّة ، ولا يدخل تحت قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) [سورة المائدة ، الآية : ٥٦] ، بل يكون حينئذ مصداقا لقوله تعالى : (نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) [سورة الحشر ، الآية : ١٩].

وإنما أتى عزوجل بلفظ عام ـ أي (من) ـ ولم يشخّص ، وذكر لفظ (يفعل) ولم يذكر المؤمنين ، للإشارة إلى أنه أمر قبيح لا بد للمؤمن الإعراض عنه وأن يستنكره ويتنزّه عنه ، كما يتنزّه عن القبائح الظاهريّة ، ولذا كنّى عنها في الخطاب كما يكنّى عن القبائح ، وتنزيها للمؤمنين من أن ينسب إليهم هذا الأمر القبيح والفعل الشنيع.

قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً).

استثناء عن الولاية الحقيقيّة واستدراك عمّا يتوهّم أن النهي إنما يكون عن الولاية الصورية ، أو النهي انما يكون في جميع الأحوال حتّى لو استلزم الضرر على المؤمن ، أو كان في الموالاة المصلحة.

وتتقوا : والتقاة من الوقاية ، وهي المنع عمّا يوجب الأذية والحفظ عنها ، وهذه المادة كثيرة الاستعمال في القرآن بهيئات مختلفة ، قال تعالى : (قُوا أَنْفُسَكُمْ

٢٠١

وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [سورة التحريم ، الآية : ٦]. وقال عزّ شأنه : (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ) [سورة رعد ، الآية : ٣٧] ، وقال تعالى : (وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) [سورة الطور ، الآية : ١٨] ، وعن علي عليه‌السلام : «كنا إذا أحمرّ البأس اتقينا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أي جعلناه وقاية لنا من العدو وقمنا خلفه واستقبلنا العدو به ، وفي الحديث : «من عصى الله لم تقه من الله واقية».

ومن هذه المادة التقوى التي هي أساس دعوة القرآن وأصل المدارج المعنويّة للإنسان ، لأنها تحفظه عن الوقوع في المحارم ، وتوقفه على الحدود الإلهيّة حتّى يصل إلى أعلى المقامات المعنويّة.

كما أن منها التقية ، التي هي من الأصول النظاميّة التي شرعها الإسلام حفظا للنظام وتأليفا بين الأنام. وسيأتي أنها ترجع إلى القاعدة العقليّة التي قرّرتها الشرائع السماويّة ، وهي : «تقديم الأهمّ على المهمّ» ، فتكون التقية من القواعد العقليّة الشرعيّة.

ولا ريب في جواز التقية ، بل أنها من القواعد المسلّمة لدى الجميع ، والمرتكزة في الأذهان ولا تحتاج إلى إقامة البرهان ، لأنها كما عرفت من صغريات قاعدة : «تقديم الأهمّ على المهمّ» ، التي هي من القواعد الفطريّة ، وقد قرّرتها السنّة بأساليب مختلفة ، ويكفي في مشروعيتها بل أهميتها ، ما ورد عن أهل البيت عليهم‌السلام من أنها من الدين والتحريض على العمل بها وأن تاركها مخالف لأوامر الله سبحانه وتعالى ، ففي الحديث : «التقية تسعة أعشار الدين» ، وقد ورد في تفسير قوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [سورة الحجرات ، الآية : ١٣] ، أي أعملكم بالتقية. وغير ذلك ولعلّ الجميع مأخوذ من عموم قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٩٥].

ومعنى التقية هو إتيان الشيء على غير الوجه المأمور به الأولي ، لغرض مهم شرعي يترتب عليه ، وهذا المعنى يرجع إلى القاعدة العقليّة الفطريّة كما ذكرنا ، فلا

٢٠٢

يسع لأحد إنكارها أو تخصيصها بوقت دون آخر ، فإن التقية بشرائطها المقرّرة في الفقه جارية إلى يوم ظهور الحقّ ، كما عليه القرآن والسنّة الشريفة.

وتقاة في قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) مصدر ، وهي مفعول مطلق لتتقوا ، وأصلها وقية على فعلة على وزن تهمة ، قلبت الواو تاء والياء ألفا. والتاء تفيد الوحدة ، وهي تحدد الاتقاء ، أي تتقوا منهم تقاة محدودة بأن تظهروا المودّة الصورية ما تدفعوا بها شرورهم حتّى تتحقّق المندوحة في ذلك ، لما فيها من المصلحة لكم ولدينكم.

ومن جميع ذلك يظهر أن الاستثناء منقطع إن كان المستثنى منه المودّة الحقيقيّة ، وأما إذا كان المراد منه مطلق الموادّة ولو كان صوريا ظاهريا مع المخالفة في الحقيقة والاعتقاد ، فحينئذ يصير الاستثناء متصلا وبه يمكن الجمع بين القولين.

وما عن بعض المفسّرين في توجيه كون الاستثناء منقطعا ، من أن إظهار آثار التولّي ظاهرا من غير عقد القلب على الحبّ والولاية ليس من التولّي بمعنى الحبّ ، لأن الخوف من الغير والحبّ له أمران قلبيان متباينان لا يمكن اجتماعهما ، فيكون الاستثناء منقطعا.

مخدوش : لصحة اجتماعهما في مورد واحد باعتبارين وجهتين ، فيتولّى الغير ظاهرا للتحرز عن ظلمه وكيده ، ويحبّ الله واقعا مع عقد القلب عليه.

قوله تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ).

التحذير من الحذر وهو الاحتراز عن أمر مخوف والابتعاد عنه ، وقد استعملت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة بالنسبة إلى الدنيا والآخرة ، قال تعالى تحذيرا عن المنافقين وفتنتهم : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ) [سورة المنافقون ، الآية : ٤] ، وقال تعالى تحذيرا عن مخالفة أوامره وأحكامه التي تعتبر من ملاحم القرآن الكريم : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [سورة النور ، الآية : ٦٣].

والمراد بالنفس هي الذات ، وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في

٢٠٣

أكثر من عشرين موردا ، وفي الجميع يراد منها الذات دون ما يرادف الروح التي ترتبط بالبدن قال تعالى : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [سورة التحريم ، الآية : ٦] ، وقال تعالى : (كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ٥٧] ، وقال تعالى : (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) [سورة التوبة ، الآية : ٤١] ، ولا ريب في صدق الذات بالمعنى الكلّي بالنسبة إليه جلّ جلاله ، للقاعدة التي أثبتها الفلاسفة وقرّرتها الشريعة أن كلّ شيء لا يستلزم ثبوته النقص بالنسبة إليه تبارك وتعالى يصحّ اتصافه به ، ولا ريب أن الذات كذلك.

نعم ، لا بد أن نقول في المقام ما ورد عن أهل البيت عليهم‌السلام من أنه : «ذات لا كالذوات ، وشيء لا كالأشياء».

ولكن لم يرد إطلاق الذات عليه تعالى في القرآن الكريم بخلاف النفس ، ولعلّ ذلك لأنّ النفس أقرب إلى فهم المخاطبين من لفظ الذات ، ولأنّ النفس لوحظ فيها الإدراك والشعور ، بخلاف الذات ، فإنها أعمّ من ذلك ، ولا ريب في تحقّق الحذر والتحذير من لفظ النفس في المقام ، إذ ليس المراد من النفس مفهومها من حيث هو ، بل الذات القهّارة والجبّارة فوق ما يتعقلّ من معنى ذلك.

وقد حذّر سبحانه وتعالى من يتولّى الكافرين ذاته الأقدس في هذا المورد ، لأنّه هو الله تعالى العزيز الجبّار شديد العقاب ، الذي لا يعجزه شيء ، ولا عاصم عنه ، فلا ناصر ولا شفيع غيره.

ومن تعليق التحذير على نفسه يستفاد أن التحذير إنما يكون عن نفسه القادر على إنفاذ ما أوعده ، والذي لا يعجزه شيء ، وأنه يكفي نفس الذات في ذلك من دون استعانة بشيء.

وفيه نهاية التهديد وعظيم التوعيد ، فإن شدّة العقاب تتبع قوة المعاقب وقدرته على تنفيذه ، ولبيان أنه ليس هناك من يدفع عنه العقاب والعذاب ، فهو قضاء حتمي ، لا بد أن يقع عند تحقّق المخالفة ، وهذا من ملاحم القرآن الكريم الذي أخبر عزوجل به قبل وقوعه ، كما نراه بالوجدان.

٢٠٤

وما ورد في هذه الآية الشريفة قضية عقليّة من أوضح القضايا بعد التأمّل فيها ، لأن من بيده الإيجاد والإفناء ، والحياة والموت ، والحدوث والبقاء ، لا بد وأن يتحذّر عن مخالفته ويحذّر عن التعرّض لسخطه وعقابه ، فالآية المباركة تتضمّن الحكم والدليل بوجه لطيف.

ومن ذلك يعلم أنه لا يحتاج إلى التقدير في الكلام ، كما عليه جمهور المفسّرين ، أي : يحذّركم الله عقاب نفسه ، فإن عذابه وإن كان لا بد ممّا يحترز عنه ، كما أكّد عليه سبحانه وتعالى في آيات اخرى ، قال عزّ شأنه : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) [سورة الإسراء ، الآية : ٥٧] ، ولكن ظاهر الآية أشدّ تحذيرا من التقدير.

قوله تعالى : (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ).

تأكيد للتحذير ، لأن من كان مصيره إلى الله تعالى ولا مفرّ منه ولا صارف له ، لا بد من التحذير عن الوقوع في مخالفته والتحذير عن سخطه وعقابه.

قوله تعالى : (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ).

خطاب إلى الرسول الكريم بإبلاغ أعظم حقيقة ، وهي علم الله تعالى بالمضمرات في النفوس وما هو الظاهر ، وأنه تعالى الذات المحيطة بجميع ما سواه إحاطة حقيقيّة واقعيّة فوق ما نتعقّله من معنى الإحاطة ، لأن العلم وكشف الواقع عين الذات ، فلا بد أن تكون لهذه الذات الإحاطة العلميّة بجميع ما سواها وانكشاف الحقائق لديها.

وبحث العلم الربوبي من أهم البحوث في الفلسفة الإلهيّة ، ويمكن إقامة البرهان على ذلك بوجه مختصر سديد ، وهو أن الذات المسلوب عنها جميع النواقص الواقعيّة والادراكيّة موجودة ، ولا بد أن يكون عالما بما في الضمائر وما يبدو منها ، وإلّا يلزم الخلف ، وهو محال ، فيكون فرض إحاطة الذات وإحاطة الربوبيّة ، وإحاطة الحكمة والتدبير ، ليس إلّا فرض إحاطة علمه تعالى بجميع مخلوقاته ، كلّياتها وجزئياتها ، قال تعالى : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ* أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [سورة الملك ، الآية : ١٣ ، ١٤].

٢٠٥

مع أن العلم بالكلّي يستلزم العلم بالفرد والجزئي ، خصوصا في العلم الواقعي الإحاطي الحقيقي الفعلي ، فلو كانت الشمس ذات قوة درّاكة فعليّة ، لكانت مدركة لجميع أشعتها الجزئية المنبسطة على ذرات الأشياء ، فمن ذهب من الفلاسفة إلى نفي العلم بالجزئيّات عنه تبارك وتعالى ، لأنها لا تدرك إلّا بالمدارك الجزئيّة ، وهو تعالى منزّه عنها. فهو وإن أراد التنزيه ، لكنه وقع في التعطيل ، ولعلّ هذا من أحد معاني قول علي عليه‌السلام : «من أراد ما ثم هلك» ، وفي سياقه أحاديث كثيرة ، والأدلّة العقليّة شاهدة على أن المحدود لا يعقل أن يحيط بغير المحدود.

وهذه الآية الكريمة مكرّرة بأساليب مختلفة في القرآن الكريم ، قال تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٨٤] ، والاختلاف في تقديم المخفي والبادي في الآيتين باعتبار مناسبة الحساب للبادي ، ومناسبة العلم بالمخفي ، فقدّم سبحانه المخفي في المقام ، بخلاف الآية الواردة في سورة البقرة. أو الحمل على مراتب الإخفاء والإبداء ، فبعض مراتبهما تستحق المحاسبة ، والبعض الآخر يعفى عنه ، وإن تعلّق العلم بالجميع. ونظير المقام قوله تعالى : (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) [سورة النمل ، الآية : ٢٥].

وربما يكون الوجه في التكرار هو الاعلام بأن علمه تعالى ليس حصوليّا مستلهما من ظواهر الممكنات وصور الموجودات ، كما هو المعلوم في علم الإنسان ، ولذا قيل : «من فقد حسّا قد فقد علما» ، بل علمه عزوجل حضوري إحاطي فوق ما نتعقّله من معنى الحضور والإحاطة ، وفقر الممكن إلى الله عزوجل ـ حدوثا وبقاء ـ يستلزم هذا النحو من الحضور ، وكيف يخفى عليه ما هو أوجده؟!! أم كيف يغيب عنه ما هو يدبّره؟!! وفي جملة من الدعوات المأثورة : «سبحانك تعلم خطرات القلوب ولمحات العيون وضجيج الوحوش في الفلوات وأنين الحيتان في البحار الغامرات» ، ولا عجب في ذلك بالنسبة إلى القيوميّة المطلقة ، ومن يكون ما سواه كذرة ملقاة بين يديه.

كما أنه يمكن أن يكون الوجه في التكرار هو استحضار الإنسان جلال ربّ

٢٠٦

العزّة ، فتستولّي عليه خشية هذا الربّ العظيم ، ويسعى كمال السعي لأن يتقرّب إلى وجهه الكريم ، فقد جمعت هذه الآيات الكريمة التحريض والترغيب إلى الكمال المطلق ، والتخويف عن سطوة العليم الخبير الحقّ المبين.

وفي الآية الشريفة التحذير عن النفاق والموادّة مع من حاد الله تعالى ، وعن ولاية الكفّار فإنه لا تخفى عليه ضمائركم وإليه المصير ، وهو محاسبكم على كلّ ذلك.

قوله تعالى : (وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).

تأكيد لإحاطة علمه بما سواه من جميع الممكنات ، لأنه خالق لها وهو يعلم ما خلق ، وتقدّم الكلام في تفسير هذه الآية في سورة البقرة ، الآية : ٢٨٤.

قوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

تأكيد لهيمنته على ما أحاط به علمه الأتم ، فإن إثبات القدرة بعد ثبوت العلم فيه عزوجل تأكيد بليغ على الإحاطة القيوميّة والهيمنة والقهّارية. فإن كلّ مخالفة له ـ سواء كانت مخفية في الضمائر ، أم بادية على الظواهر ـ أن الله تعالى يعلمها ومحاسبكم عليها وقادر على مجازاة فاعلها ، فان مصيركم إليه تعالى.

وفي الآية الشريفة تأكيد على عموم قدرته ، وأنها تتعلّق بكلّ شيء ، فهي تشمل جميع ما سواه بكلّ ما هو ممكن إلّا ما كان مستحيلا ذاتا ، فإن القدرة لا تتعلّق به لقصور المقدور حينئذ ، لا ثبوت النقص في قدرته عزوجل ، ولا فرق في الممكن بين الحقائق الواقعيّة ـ الجوهريّة أو العرضيّة ـ والأمور الاعتباريّة ، كالملك والعزّة والذلّة والجزاء ونحو ذلك ، فإن كلّ ممكن يقع تحت قدرته ، سواء كان الوجود هو المعلول والمترشّح من وجود العلّة ، أم كانت الماهيّة ، فإن جميع ذلك مفتقر إليه تعالى.

نعم ، بعض الأمور له تأصل في الواقع ، والبعض الآخر ليس له كذلك ، بل هو تابع لجعل الحقائق الواقعيّة ، ولكن ذلك لا يستلزم الخروج عن تحت قدرته.

وإن شئت قلت : إن مقدورية الأشياء له تعالى أعمّ من أن تكون بدون الواسطة أو معها ، لانتهاء الجميع إليه عزوجل ، وأنها مفتقرة إليه ، كما هو كذلك في

٢٠٧

سلسلة العلل والمعلولات.

ومن ذلك يعلم النظر في ما عن بعض المفسّرين من الإشكال في تعلّق القدرة بالأمور الاعتبارية ، لأنها غير مستندة إليه عزوجل ، إذ لا وجود حقيقي لها أصلا ، وإنما وجودها اعتباري لا يتعدّى ظرف الاعتبار والوضع ، فاستشكل في انتساب ما في الشريعة من الأحكام التكليفيّة والوضعيّة إليه تعالى ، لأن كلّها امور اعتبارية. ولكنه أجاب عن ذلك بأنها وإن كانت كذلك ، إلّا أن آثارها امور حقيقيّة مقصودة تنسب إليه عزوجل وتتعلّق بها القدرة.

وما ذكره قدس سرّه تطويل بلا طائل تحته ، فإن تعلّق القدرة بالأثر عين تعلّقها بمنشإ الأثر ، فإنه إذا تعلّقت بأحدهما تتعلّق بالآخر ، وكونها أمرا اعتباريا لا يوجب عدم الانتساب ، وما سواه يفتقر إليه تعالى ومنسوب إليه عزوجل إما بواسطة أو بغيرها ، كما عرفت.

قوله تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً).

بيان لما تقدّم في الآيات الشريفة وشرح إجمالي لبعض خصوصيات المصير إليه ، وإعلام بكشف الحقائق ، وظهور الأعمال وبروز الأسرار وما تطويه الضمائر والأحوال ، وإرشاد للتحذّر عمّن خضعت له الأملاك والأفلاك ، والتعريض للعباد بالرأفة بهم في أشدّ حالات احتياجهم إليها يوم التناد ، فيكون ما في الآية الشريفة برهانا ودليلا على ما تقدّم في الآيات بأتمّ برهان وهو الوجدان.

وتجد من الوجدان وهو حضور الشيء لدى النفس ، وهو إما في الدنيا ، وذلك إما أن يكون عين الواقع كالإحساس بحرارة النار أو برودة الماء ونحو ذلك ، أو تكون من الأمور الوجدانيّة المستعملة في العلوم التي تكون مشوبة بالتخيّلات والأوهام حتى تعدّ بعض المعتقدات من الوجدانيّات.

وأما في الآخرة وهو كشف الواقع بما هو عليه في نفس الأمر بلا مدخلية شيء من الوهم والخيال فيه ، وهو الوجدان الحقيقي.

والظرف «يوم» متعلّق بالمصير في قوله تعالى : (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) ، الذي

٢٠٨

هو كالمرآة لجميع التكاليف الإلهيّة وجزاء لها ولا يضرّ الفصل الطويل ، وقيل وجوه اخرى سيأتي في البحث الأدبي نقلها.

و (ما) في قوله تعالى : (ما عَمِلَتْ) موصولة تشمل جميع الأعمال ، والعائد محذوف مقدّر.

و (من) في قوله تعالى : (مِنْ خَيْرٍ) بيانيّة ، والتنكير في «خير» للتعميم والشمول للجميع ، أي كلّ خير وهو يشمل جميع أنواع الخير من الاعتقاد ، أو الأقوال ، أو الأفعال ، حركة أو سكونا ، حتى الأعدام ، مثل كفّ الأذى وإماطتها عن الطريق ، وتحمّل الأذى ونحو ذلك ، نظير قوله تعالى : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) [سورة البقرة ، الآية : ١١٠] ، وأمثالها من الآيات الشريفة.

وكلّ نفس تشمل جميع الخلائق والعباد ، سواء كانوا من المؤمنين أم غيرهم ، إذا صدر منهم الخير ولم يصدر منهم ما يمحقه ويحبطه ، فهو محفوظ عند الله ، كما يدلّ قوله تعالى : (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) [سورة سبأ ، الآية : ٢١].

وإنما عبّر سبحانه وتعالى بقوله : (مُحْضَراً) دون حاضرا ونحوه ، لبيان أن جميع الأعمال موجودة عنده محفوظة لديه ، ولكنه يعدّها الله تعالى ويحضّرها لخلقه المحسنين تكريما وتبجيلا لهم ، فهو تعالى يعلمها ويحفظها ويحضرها لئلا يكونوا في تسويف وبعد منال.

قوله تعالى : (وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً).

الجملة معطوفة على قوله تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ) ، أي وتجد كل نفس من العباد ما عملت من سوء وما يترتب عليه من الجزاء ، فتتمنّى النفس من شدّة الأهوال وما يتبعها من الآلام والأحزان لو أن بينها وبين هذا السوء بعدا كبيرا.

والأمد هو الغاية ينتهي ما ينتهي إليها ، وجمعه آماد ، ولم يذكر هذا اللفظ في القرآن الكريم إلّا في مواضع ـ أربعة ، قال تعالى : (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) [سورة الحديد ، الآية : ١٦] ، وقال عزّ شأنه : (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما

٢٠٩

تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) [سورة الجن ، الآية : ٢٥] ، وقال تعالى : (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) [سورة الكهف ، الآية : ١٢].

والمراد منه في المقام البعد ، والفرق بينه وبين الأبد بعد تقاربهما ، أن الأبد ليس له حدّ محدود ولا يمكن تقييده ، بخلاف الثاني ، فإنه يمكن تقييده ، فيقال : أمد كذا ، أو يقال : للإنسان أمدان ، مولده وموته ، كما أن الفرق بينه وبين الزمان أن الثاني عام يستعمل في المبدأ والغاية ، بخلاف الأمد ، فإنه باعتبار الغاية ، كما عرفت.

والآية المباركة تخبر عن حال كلّ نفس مع عملها ، وتدلّ على تجسّم الأعمال ، وأنها تحضر بالحال التي تسرّ النفس بها إن كانت خيرا ، وتسوؤها إن كانت سيئة ، بحيث تودّ البعد بينه وبينها من شدّة الهول والمكاره.

وإنما تمنّى النفس البعد عنها دون أن تتمنّى عدمها ، لما كانت تعلم أنها محفوظة بحفظ الله تعالى وباقية بمشيئته عزوجل ، فلم يكن بوسعها إلّا عدم حضورها في أشدّ الأحوال وأشقّ الأهوال ، كما تتمنّى في القرين السوء في قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ* وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ* حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) [سورة الزخرف ، الآية : ٣٦ ـ ٣٨] ، ويستفاد من الآية المباركة الأخيرة أن تمنّي النفس بعدها عن المكاره إنما يكون في الدارين.

وإنما أكّد الأمد بكونه بعيدا لشدّة الهول والموقف المروع ، وهيهات ذلك مع حصول اليقين وشهود الحقائق.

قوله تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ).

تأكيد جديد لأهمية الموضوع ، وبيان نهاية التحذير ، ومن لطيف الأسلوب أنه جميع بين الإنذار والتبشير ، ويمكن أن يكون تكرار التحذير من رأفته أيضا ، فإنه من إحدى سبل النجاة والهداية ، ومن سياق العبارة يستفاد أنه تعالى في مقام الترأف بعباده ، لا يريد لهم إلّا الخير والصلاح مع إعلامهم بعدم التعرّض لسخطه ، فلا ينافي التحذّر عن نفسه تعالى مع سبق رحمته غضبه ، فإن من رحمته إنزال

٢١٠

الأحكام الإلهيّة ، والنهي عن المعاصي التي لها الآثار المهلكة والواقعة قريبا ، والتي لا تنفع في رفعها شفاعة الشافعين ، فإذا تعرّض لها أحد من عباده فإنها تصيبه ويقع في سخطه وخذلانه.

والمراد من النفس : الذات الداركة بمراتبها المختلفة غير المتناهيّة ، فيطلق عليه تعالى وعلى غيره حقيقة حسب المرتبة ، ولا حاجة فيها إلى تعدّد المعاني والاستعارة كما تقدّم.

وإنما أضاف التحذير إلى نفسه الأقدس ، لأن العلم والحكمة عين ذاته المقدّسة ، والذات هي المنشأ لجميع الحوادث في الدنيا ، التي هي جنود الله تعالى فيها ، وهي مسخّرات تحت أمره ، وكذلك في العقبى التي لا حدّ لها ، قال تعالى : (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة الفتح ، الآية : ٧] ، فالتحذير من مثل هذه الذات موافق للعقل والفطرة إذا توجّه الناس إليه في الجملة ، وقال علي عليه‌السلام : «احذر الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك حيث نهاك».

ويستفاد من الآية الشريفة أهمية التحذّر من الله تعالى ، كما أنها ترشد إلى حكم عقلي ، لأنه واجب في النظام الأحسن ، فإن إرشاد الناس إلى المهلكات وتحذيرهم عنها واجب على الحكيم العلام تعالى.

والتحذير منه تعالى تترتب عليه آثار كثيرة متعدّدة الجوانب ، فإن من الآثار التي تترتب عليه إنما هو استقامة الإنسان ، التي هي أشرف غاية وأعظم كمال ، بل هي منتهى الكمالات ، وهي قرّة عين الأنبياء ومطلوب كلّ عبد صالح ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [سورة فصلت ، الآية : ٣٠].

ومن الآثار المترتّبة عليهم تنظيم الروابط بأحسن وجه بين العبد وبين الله تعالى وبين أفراد الإنسان بعضهم مع بعض.

ومنها : أنه يوجب استشعار العبد عظمة الله تعالى ، فيكون خائفا منه عزوجل مراقبا لنفسه.

٢١١

ومنها : أنه يوجب التحلّي ببعض مكارم الأخلاق ، كالرضا به تعالى لانحصار الأسباب فيه عزوجل ، والتوكّل عليه ، فإن القدرة إذا انحصرت في واحد انقطع الرجاء عن غيره.

ومنها : أنه يوجب التخلّي عن جملة من الأخلاق الذميمة ، كالحرص في طلب الدنيا ـ بل يطلبها من حيث ما أمره الله تعالى ـ والحسد على الأمثال والأقران ، لفرض استناد الكلّ إلى المدبّر الحكيم ، وغير ذلك من محاسن الأخلاق ، ولعلّ ذلك من أحد أسباب تكرار هذه الجملة المباركة.

قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي).

الآية الشريفة من روائع الآيات التي تخاطب الضمير الإنساني بأسلوب لطيف ، فقد بدأت بالخطاب مع أشرف خلقه ، واسطة الفيض ومظهر الحبّ الإلهي ومن تجلّت فيه المعارف الربوبيّة ، ومن هو قطب رحى الوجود ومكارم الأخلاق ، تستمد منه الأرواح.

ثم في تقديم حبّ الله تعالى والوعد بالغفران وإثبات الرحمة والمبالغة في المغفرة والوعد بأكمل الكمالات الإنسانيّة ، وهو محبّته تعالى التي بلغت في الجمال والجلال ما لا يمكن دركها بأي مشعر من المشاعر ، بل لا يدانيها من الجذبة الأحدية للذات المحمّديّة حتّى يظهر الحال.

فالآية الشريفة جذبة روحانيّة تدفع الغفلة عن الإنسان ، وترفع عنه الضلالة والخسران ، ومن عجيب الأمر دعوة الحنّان القدير القهّار المقتدر الفعّال لعبده الضعيف إلى محبّته ، وإخراجه من الظلمات إلى النور ، وهو مع ذلك يمتنع عنه ، فسبحان من كان خيره إلينا نازلا ، وشرّنا إليه صاعدا ، وهو مالك قادر على يشاء ، فعال لما يريد.

وتقدّم معنى الحبّ في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٦٥] ، وذكرنا أنّه لا يختصّ بالإنسان ، بل يتحقّق في جميع الموجودات ، الواجب منها والممكن ، وهو من المعاني الوجدانيّة التي يدركها كلّ

٢١٢

أحد ، وإن قصرت الأفهام عن درك حقيقته ، فهو الترابط الوثيق الذي يربط بين الموجودات بعضها مع بعض والجميع مع الخالق.

والقول بأن الحبّ يختصّ بغيره لأنه نوع من الإرادة ، وهي لا تتعلّق إلا بالمعاني والمنافع ، فيستحيل تعلّقها بذاته وصفاته.

غير صحيح : لأنه إخراج للحبّ عن معناه الحقيقي مع أنه أطلق عليه سبحانه وتعالى في كثير من الآيات الشريفة ، قال عزّ شأنه : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٢٢] ، وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٩٥].

والحبّ من المعاني القلبيّة التي لا بد أن يظهر أثرها على الجوارح ، وهو الداعي إلى نيل المطلوب عمّا يحبّه ، فالإنسان يحبّ الغذاء ليرفع به الجوع ، والنكاح ليدفع ما عليه من الغريزة الجنسيّة ، فهو لا بد أن يقترن بالأثر وإلا فهو مجرّد وهم وخيال.

والحبّ يتعلّق بكلّ شيء ، فقد يتعلّق بالله تعالى ويسمّى بالحبّ الإلهي ، وهو وليد كمال معرفة الله جلّت عظمته ، والناشئ عن الجمال المطلق ولا يحصل إلا بالتخلية عن الرذائل والتطهير عن كلّ ما يشغل القلب عن الله تعالى والتحلية بالفضائل ، وقد أمر الله تعالى عباده بالإخلاص له ، قال تعالى : (هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [سورة المؤمن ، الآية : ٦٥] ، وقال تعالى : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) [سورة المؤمن ، الآية : ١٤] ، ولا ريب في أن الإخلاص لا يتحقّق إلا بحبّه عزوجل ، ولا يحصل مع تعلّق القلب بما سواه ولو كان أمرا أخرويا ، إلا إذا رجع إلى الله تعالى ، فالعبد المخلص لا يحبّ إلا الله ولا يشغل قلبه أمر من الأمور إلا ما يرجع إلى محبوبه وهو الله تعالى ، وهو يقضي التدين بدينه بالايتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه ، فهو علامة محبّة العبد لله تعالى ، ويدلّ على ذلك سيرة الحبيب المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي بيّن سلوكه في محبّته لله تعالى ، حيث حكى عنه عزوجل : (قُلْ

٢١٣

هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [سورة يوسف ، الآية : ١٠٨] ، فإن سبيله الدعوة إلى الله عن بصيرة وعلم ، والإخلاص له ونبذ كلّ ما يشغله عنه عزوجل ، ومن كان متّبعا له صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا بد أن يكون كذلك. وهذا هو أفضل مراتب الحبّ وكلّ ما أزداد الشخص عرفانا بالله العظيم ، ازداد محبّة له عزوجل.

وهو ذو مراتب متفاوتة ، آخرها الفناء فيه ثم البقاء به ، ولا يحصل إلا بمتابعة سيد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والجامع بين جميع تلك المراتب هو الحبّ لله ، وفي الله ، وكلّ ما كان الحبّ أشدّ كانت السعادة أتمّ وأعظم. وهذا هو الدين الخالص الذي أمرنا به ، وهو الدين الذي يندب إليه الأنبياء العظام ، وقد وصفه تعالى بالخضوع والتسليم والإخلاص في كتابه المجيد ، فقال جلّت عظمته : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٩] ، وقال تعالى : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) [سورة الزمر ، الآية : ٣] ، وهو الذي تدعو إليه الفطرة ، قال تعالى : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) [سورة الروم ، الآية : ٣٠] ، ولأجل ذلك عقّب سبحانه وتعالى بأنّ محبّة العبد لله لا تتحقّق إلا باتباع هذه الشريعة التي تضمّنت جميع أسباب المحبّة له عزوجل.

ومن ذلك يظهر أن ذكر الآية الشريفة بعد نهي الله سبحانه وتعالى موادّة الكفّار والمشركين أن الاتباع لهذه الشريعة لا يحصل إلا بنبذ تولّي الكفّار ، وأنه مع محبّة الله أمران متضادان لا يجتمعان في قلب امرئ ، وممّا يؤكّد ذلك قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ* إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) [سورة الجاثية ، الآية : ١٨ ـ ١٩] ، فإن المستفاد منه أن ولاية الله إنما تثبت للمتّقين المطيعين لله والرسول والمتّبعين شريعته ، وغيرهم خارجون عن ولايته تعالى ، التي لا تحصل إلا بحبّ الله عزوجل ونبذ كلّ ما يوجب الخروج عنه.

٢١٤

قوله تعالى : (يُحْبِبْكُمُ اللهُ).

أي : أن اتباع الله سبحانه وتعالى والدخول في ولايته عزوجل باتباع الرسول الكريم الذي هو الكتاب الناطق ، فإنه : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [سورة النجم ، الآية : ٣ ـ ٤] ، يستدعي محبّة الله تعالى له ، وكفى بذلك فخرا وسعادة. وهو المقام السامي الذي يقصده كلّ مخلوق.

ويستفاد من الآية الشريفة أن محبّة الله تعالى للعبد تترتب على محبّة العبد لله تعالى ، وعند التخلّف لا يكون إلا ادعاء ، بل هي محبّة الهوى لا محبّة الله تعالى ، ولكن لكلّ منهما مراتب متفاوتة.

وعلامة محبّة الله تعالى للعبد هي التوفيق للطاعة والهداية والبعد عن المعصية ، والانقلاع عن دار الغرور ، والانقطاع إلى دار الخلود ، وهذا هو الفوز المبين.

وإنما ذكر سبحانه محبّته للعبد دون ولايته ، فإن الحبّ هو الأصل الذي تبتنى عليه الولاية ، وبه يصل العبد إلى مقام الولاية.

قوله تعالى : (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ).

عطف اللازم على الملزوم ، أي : إذا تحقّقت محبّة الله تعالى لعبده ، يتحقّق غفرانه لا محالة. والذنوب هي التي تمنع من أن يحظى العبد مقام القرب من الله تعالى ، كما أنها هي التي توجب ستر الحقائق عنه وحجبه عن ربّه ، قال تعالى : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ* كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [سورة المطففين ، الآية : ١٤ ، ١٥].

والمحبّة هي الجذبة الروحانيّة بين الحبيب والمحبوب ، وهي لا تتحقّق مع الذنوب ، فكما أن محبّة العبد لله تعالى توجب الإخلاص له ، كذلك محبّة الله العبد تستدعي قربه تعالى له وإزالة الحجب التي حصلت من الذنوب عنه ، فالحبّ يقتضي غفران الذنوب وما يتبعه من الإفاضات المعنويّة والظاهريّة والمقامات التي تقصر العقول عن دركها ، فإن إفاضاته غير محدودة إلا ما كان من جهة المستفيض ، قال تعالى : (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) [سورة الإسراء ، الآية : ٢٠].

٢١٥

قوله تعالى : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

إعلان عامّ لسعة غفرانه ورحمته مع قابلية الموضوع ، وهو في مقام التعليل لصدر الآية الشريفة.

قوله تعالى : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ).

تأكيد لما تقدّم ، وبيان لحقيقة متابعة الرسول ، وشرح لمعنى محبّة الله تعالى ، فإن الآية السابقة تدعو إلى محبّة الله ومتابعة الرسول ، وهما لا تحصلان إلا بإطاعة الله والرسول ، وهي لا تحصل إلا باتباع الشريعة التي أنزلها الله تعالى على نبيّه بإخلاص ، وبه تتحقّق طاعة الله ورسوله ، فتكون إطاعة الله وإطاعة الرسول واحدة. ويدلّ على ذلك عدم تكرار الأمر ، فلو كانت الإطاعتان مختلفتين لقال عزوجل : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول كما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [سورة النساء ، الآية : ٥٩].

نعم ، يكفي صدق إطاعة الله ورسوله بإتيان العبادات تقرّبا إلى الله تعالى ، وإتيان غيرها على حسب الوظيفة الشرعيّة التي أرادها الله تعالى ، وبه تتحقّق متابعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، سواء قصدها حين العمل أم لا ، لأن هذا القيد يحتاج إلى دليل وهو مفقود.

وظاهر الأمر إرشاد إلى إتيان نفس التكاليف كلّها ، كما في أوامر (أطيعوا الرسول) في كلّ ما ورد في القرآن الكريم.

قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ).

أي : أن التولّي من إطاعة الله والرسول كفر ، والله لا يحبّ الكافرين ، والتولّي إما أن يكون اعتقادا وعملا فهو الكفر ، وإن كان عملا فقط مع بقاء الاعتقاد ـ لو فرض ـ فهو الفسق ، وقد يوجب الكفر ، ولعلّ إجمال قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) ، لأجل هذه الجهة.

وفي الآية المباركة اشعار بأن الحبّ المنفي إنما يكون في التولّي عن طاعة الله والرسول ، كما أن صدر الآية الشريفة يثبت أن الحبّ إنما يكون في متابعة الله والرسول ، ولا يخلو ذلك من اللطف كما لا يخفى.

٢١٦

بحوث المقام

بحث أدبي :

قوله تعالى : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) ، لا ناهية ، والفعل مجزوم بها ، وهو متعدّ لمفعولين.

وقوله تعالى : (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) ، (من) لابتداء الغاية ، والجملة حال من الفاعل ، أي : متجاوزين عن ولاية المؤمنين إلى الكافرين.

وقيل : الجملة في حيز الصفة لأولياء ، وقيل : متعلّق بالاتخاذ.

و (تقاة) في قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) ، مفعول مطلق وزنها فعلة وأصلها وقية ، ثم أبدل الواو تاء كنجاة وتكاة ، فصارت تقية ، ثم قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فصارت تقاة. و (منهم) متعلّق ب (تتقوا) ، والفعل تعدّى بمن ، لأنه بمعنى خاف وهو يتعدّى بها.

والظرف في قوله تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ) ، قيل إنه منصوب ب (يحذركم) ، أي يحذّركم الله نفسه في يوم تجد.

وأورد عليه : بأنه لا يكون (يوم) مفعولا ليحذّركم ، لأن يحذركم لا تتعدّى إلا إلى مفعولين ، وقد استوفاهما ، ولا بدلا من أحدهما كما لا يخفى.

وقيل : إنه ظرف للتحذير.

وفيه : أن التحذير وفائدته إنما هما في الدنيا ، كما أنه لا يمكن أن يكون ظرفا للحذر ـ لو صحّ في نظائره ـ لأن الحذر في ذلك اليوم لا فائدة فيه ولا غاية.

وقيل : إنه معمول فعل مضمر ، أي : اذكر ـ يا محمد ـ يوم تجد ، فتكون الجملة منقطعة.

وأورد عليه شيخنا البلاغي أنه لا دليل يدلّ على ذلك ، ولا يقاس على تقدير ذلك عند قوله تعالى : (وإذ) في موارد متعدّدة من القرآن الكريم ، أي واذكر

٢١٧

إذ ، لأن السياق هناك يشير إلى ذلك ، وقد تكرّر ذكره صريحا في عدّة آيات ، منها قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ) [سورة مريم ، الآية : ١٦] ، وقوله تعالى : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى) [سورة ص ، الآية : ٤١] ، وقوله تعالى : (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ) [سورة الأحقاف ، الآية : ٢١].

وقيل : إنّ العامل فيه قدير في قوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

وقيل : إنه متعلّق بقوله تعالى : (يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ) ، ويصحّ تعلّق علمه ب (اليوم) ، لأنه ظرف لعلمه بالنسبة إلى ظهور الأمر لنا ، لا بالنسبة إلى تحقّقه منه تعالى ، كظهور ملكه وقدرته وقوته في ذلك اليوم ، مع أنها دائمة له تعالى ، وإنما اختصّ بذلك اليوم لظهور الحقيقة بالنسبة إلى خلقه.

وقيل : إنه متعلّق ب (المصير) ، أي وإليه المصير في يوم تجد ، والفاصل ليس بأجنبي ، واختاره شيخنا البلاغي واعتبره من أكمل الصلاحية والمناسبة ، وقال الزمخشري : إنّ يوم معمول ل (تود) ، والضمير في (بينه) يعود إلى ذلك اليوم.

وفيه : أن الآية المباركة إخبار عن حال كلّ نفس وهي تود أنها لو عملت من خير محضرا أن يتعجّل يوم القيامة لكي تفوز بسعادته.

و (ما) في قوله تعالى : (ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) موصولة والعائد محذوف ، و (من) بيانيّة ، و (محضرا) حال من العائد المحذوف تقديره ما عملته من خير محضرا.

وقيل : إنه مفعول ثان ل (تجد) ، إن جعلت بمعنى تعلم.

و (تود) في قوله تعالى : (تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ) في موضع الحال من الضمير المرفوع في عملت ، أي (ما عملت من سوء). وإذا قطعتها ممّا قبلها وجعلتها للشرط جزمت تود جوابا للشرط وخبرا لما.

وقيل : إن (ما) في (ما عملت من سوء) في موضع رفع بالابتداء ، وتود الخبر.

و (تحبّون) في قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي) من حب ، كما أن (يحببكم) من أحب ، ويرد الأول على (فعل) ومنه الحبيب ، ويرد الثاني على (فعل)

٢١٨

ومنه المحبوب ، ولم يرد اسم الفاعل من حبّ المتعدّي ، فلا يقال : أنا حاب ، كما أنه لم يرد اسم المفعول من (أحب) إلا قليلا كقول الشاعر :

ولقد نزلت فلا تظني غيره

مني بمنزلة المحبّ المكرم

بحث دلالي :

تدلّ الآيات الشريفة على امور :

الأول : إنما عبّر سبحانه بالاتخاذ في قوله تعالى : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ) ، لأن الاتخاذ أبلغ في المطلوب ، وليشمل جميع العلائق الروحيّة منها والماديّة ، وكلّ ما يوجب التقرّب إلى الكافر والامتزاج معه ، وقد ورد هذا اللفظ بالنسبة إلى المشركين وعبّاد الأوثان ، قال تعالى : (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) [سورة النحل ، الآية : ٥١] ، وقال تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) [سورة التوبة ، الآية : ٣١] ، إلى غير ذلك من الآيات الشريفة. ومن ذلك يظهر السرّ في تكرار النهي في آيات اخرى ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) [سورة المائدة ، الآية : ٥١].

والآية الشريفة ترشد إلى أعظم دستور إلهي ينظم علاقات المؤمنين بعضهم مع بعض ، والعلاقات بينهم وبين أعدائهم ، الّذين لم يضمروا في أنفسهم سوى الكراهة من أعدائهم ممّا كان السبب في مشاكلهم ومتاعبهم ، وقد شدّد الله سبحانه على ترك هذا الأمر الإلهي والحكم الاجتماعي بما لم يذكره في غيره ، إذ فيه حياتهم وسعادتهم ، وكلّ ما كان المؤمنون أبعد من الامتزاج مع أعدائهم ، كلّ ما كانت سعادتهم أعظم وسيادتهم أكثر ومشاكلهم أقل ، فهلموا أيها المسلمون إلى العمل بالقرآن الكريم وجعل إرشاداته وأحكامه نصب أعينكم ، ولا يسبقنكم إلى العمل بالقرآن غيركم ، فإن فيه هلاككم وتشتت جمعكم ، وهذا من ملاحم القرآن الكريم.

الثاني : إنما ذكر سبحانه (المؤمنون) و (الكافرين) في الآية الشريفة للدلالة على أن سبب هذا الحكم هو الإيمان والكفر ، فإن بينهما أقصى التباعد والتنافر ، وهو

٢١٩

يسري إلى جميع الفروع والجهات ، بل يسري حتى إلى الصور الذهنيّة ، وكذلك تكون بين من يتلبّس بهما ، فإن بينهم غاية الاختلاف والتباعد في جميع الأمور ، من المعارف وسائر شؤون الحياة ، فيكون الامتزاج مع الكافرين يوجب فساد العقيدة وإذهاب خواص الإيمان وآثاره ، وإبطال أصل الدين ، ولأجل ذلك عقّبه سبحانه وتعالى بقوله تعالى : (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ).

الثالث : يدلّ قوله تعالى : (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) على انقطاع العلاقة بين الله جلّ جلاله وبين من يتّخذ الكافرين أولياء ، والبعد عنه عزوجل وإيكال الأمر إلى أنفسهم وسلب التوفيق عنهم ، وهو ما نشاهده بالحسّ والوجدان ، وهو يدلّ على كفر من تولّى الكافرين.

الرابع : يدلّ قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) ، على مشروعيّة التقية والرخصة فيها في موارد محدودة ، وهي تتقدّر بقدر الضرورة ، ولذا ذكر سبحانه وتعالى : (تقاة) ، الدال على مقدار التقية ـ وخصوصياتها ويختلف حكم التقية حسب اختلاف المورد ـ إلى الأحكام الخمسة التكليفيّة ، فقد تكون التقية واجبة كما لو استلزمت جلب قلب الكافر وإدخاله في الإسلام ونشر أحكام الدين الحنيف ، ونحو ذلك ممّا ترجع فائدته إلى أصل الدين والمتديّنين به ، وكذا إذا استلزم ترك التقية الضرر والفساد على المسلمين ، ولكن في جميع ذلك لا بد من الاهتمام على حفظ العقيدة والتحذّر عن فسادها وتزلزلها.

وبالجملة : أن مورد التقية من الكفّار هو دفع الضرر عن النفس أو المال أو العرض ، أو جلب النفع النوعي ، بحيث لا يكون محذور شرعي في البين ، ولا فرق في النقع بين النوعي منه والشخصي ، إذا انطبق عليه عنوان الضرر ، وقد فصّل ذلك في الفقه.

الخامس : يستفاد من قوله تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) أن النهي من التولّي من أعظم المناهي ، وأن معصية التولّي قد بلغت غاية القبح وتناهت فيه ، بحيث حذّر الله سبحانه وتعالى في هذا المورد عن نفسه ، وهو ينذر عن عظيم

٢٢٠