مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٥٩

قال تعالى : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ٢١٦].

وتدلّ الآية الشريفة على انحصار الخير فيه تعالى ، فيستفاد منها ومن أمثالها أمران :

الأوّل : أن ذاته تبارك وتعالى خير محض ، لقاعدة : «ان معطي الشيء لا يمكن أن يكون فاقدا له» ، فهو تعالى خير على الإطلاق ، ولكن لم يرد في الكتاب والسنّة إطلاق الخير بنحو الاسمية ، وإنما ورد في القرآن الكريم على نحو التوصيف ، قال تعالى : (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) [سورة طه ، الآية : ٧٣] ، وقوله تعالى : (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [سورة يوسف ، الآية : ٣٩] ، ولعلّ عدم إطلاق لفظ الخير عليه تعالى لتنزيهه عمّا يتبادر في أذهان الناس من نسبته إلى غيره.

نعم اطلق عليه بنحو الإضافة في موارد متعدّدة ، مثل قوله تعالى : (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سورة الحج ، الآية : ٥٨] ، وقوله تعالى : (وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) [سورة المؤمنون ، الآية : ٢٩] ، وقوله تعالى : (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) [سورة يونس ، الآية : ١٠٩] ، ونحو ذلك وإطلاقه في جميع الآيات الشريفة من باب إضافة الصفة إلى الاسم الذي ورد التوقيف فيه ، وهو لا محذور فيه.

الأمر الثاني : أنها تدلّ على أصالة الماهيّة في الجعل ، كما عليها أغلب المتكلّمين وجمع كثير من الفلاسفة ، لأن الخير المطلق وملكوت الأشياء ليس إلا حقائقها ، فإذا لا حظنا الحقائق باعتبار إضافتها الإيجادية الإشراقية إليه تعالى تشمل الحقائق بوجوداتها وماهياتها ، وليس ذلك تعدّدا في الجعل حتّى يلزم عليه مناقشات ومحذورات ، لأنّه بعد فرض كون أحدهما تبعا محضا للآخر ، كالماهيّة إن قلنا بأصالة الوجود ، فالوجود إن قلنا بأصالة الماهيّة ، فأين التعدّد الخارجي حتى يلزم المحذور ، ولا ينافي ذلك ما اشتهر بين الفلاسفة من أن الوجود خير محض ، لاتفاق الكلّ على أن الخيريّة المحضة إنما تكون بعد جعل الحقائق.

١٨١

بل يمكن أن يستفاد من مثل هذه الآية الشريفة الجعل المركب بالنسبة إلى الحقائق ، فهو الذي جعل النار نارا والماء ماء ، كما عليه بعض محقّقي مشايخنا قدس سرّهم ، وفي الحديث : «ان الله مجسّم الجسم وخالقه» ، وفي الحديث الآخر : «وهو الذي أيّن الأين وكيّف الكيف».

وهذه الآية في موضع التعليل لما تقدّمها وذكر العام بعد الخاص ، أي : أن الله تعالى يؤتي الملك والعزّة لمن يشاء ويمنعهما عمّن يشاء ، لأن بيده الخير الذي هو أعمّ منهما.

إن قيل : انتزاع الملك والذلّة ليسا من الخير ، فكيف يشملهما قوله تعالى : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ)؟

يقال : بعد أن كانت الذلّة وانتزاع الملك مطابقين للحكمة الواقعيّة التامّة يكونان خيرا محضا ، وإن كانتا بحسب اعتقاد الناس من عدم الخير.

وإنما قال تعالى : (بِيَدِكَ) ، لبيان أن جميع ما يفعله تعالى من إيتاء الملك ونزعه ونحو ذلك ، كلّه خير محض بحسب الواقع ، فهو عبارة اخرى عن الرحمة الرحمانيّة والرحمة الرحيميّة التي تعمّ الجميع.

وأما ما فرق به بعض أعلام المفسّرين بين الخير التكويني والخير التشريعي ، فهو في نفسه حقّ ، لأنّ الخير التشريعي منوط بإرادة الناس للطاعة ، بخلاف الخير التكويني ، فإنه منوط بإرادة الله تعالى فقط.

لكن ، لا وجه له في المقام ، لأنّ الخير التشريعي يرجع إلى الخير التكويني ، كما قرّره بعض مشايخنا في الأصول ، وخلاصة كلامه أن إثارة دقائق العقول وما في الفطرة من أهم وجهات نظام التكوين ، ولا يمكن ذلك إلّا بالتشريع ، فكما أن التكوين بلا تشريع باطل في النظام الأحسن ، كذلك التشريع بلا تكوين باطل أيضا ولا وجه له.

هذا موجز الكلام وسيأتي التفصيل في الموضع المناسب إن شاء الله ، هذا كله في الخير.

١٨٢

وأما الشرّ ، سواء كان تكوينيّا ، كنزع الملك والذلّة ، أم تشريعيّا وهو أقسام المعاصي والذنوب ، فإن رجع إلى عدم الخير وعدم التوفيق ، فيمكن انتسابه إلى الله تعالى ، وإن رجع إلى فعل المعاصي والذنوب والقبائح وأمثال ذلك فلا يمكن انتسابه إلّا إلى اختيار الإنسان ، وأما نسبته إلى الله تعالى المنزّه عن النواقص والقبائح فلا تصحّ.

قوله تعالى : (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

الجملة في مقام التعليل لجميع ما تقدّم ، أي : أن جميع ما سواه تحت قدرته وإرادته ، فكلّ ما يطلق عليه الشيئيّة جوهرا أو عرضا خارجا أو ذهنا أو في أي عالم من العوالم ، يكون تحت قدرته.

أي : أن الله تعالى قادر على إيتاء الملك ونزعه وإيتاء العزّة والذلّة ، بل كلّ ما هو خير مفروض يكون تحت إرادته وسلطانه ، وقدرة العبد على شيء من ذلك إنما هي مستندة إلى إيجاد القدرة فيه ومستندة إلى قدرته عزوجل ، قال تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) [سورة النساء ، الآية : ٧٨].

قوله تعالى : (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ).

الولوج هو دخول شيء في شيء بحيث يستره ، وسمّي السباع والحيات الوالجة لأنها تلج في كهف أو شعب أو حجر أو غيرها ، وفي المأثور : «إياك والمناخ على ظهر الطريق ، فإنه منزل للولجة» ، يعني السباع والحيات ، وسمّيت بالولجة لاستتارها في النهار بالاولاج.

وإيلاج الليل في النهار وبالعكس معلوم لكلّ من يقع في طي الزمان وتوارد الحدثان ، وهو المشاهد من اختلاف الليل والنهار في طول السنة ودخول أحدهما في الآخر ، بحيث يطول طرف ويقصر الطرف الآخر حسب سير دقيق ومنظم ، وهذا يختلف باختلاف الفصول والبعد عن خط الاستواء ، فيتساوى الليل والنهار

١٨٣

على خط الاستواء في جميع بقاع الأرض بحسب الحسّ ، وإن كان التغيير فيهما واقعا أيضا حقيقة ويختلفان باختلاف ميل الشمس عنه وسيرها في منطقة البروج ، فيتفاوتان بالزيادة والنقصان بحسب مواقع الأرض والزمان ، فنشاهد من أوّل الشتاء إلى أوّل الصيف يأخذ الليل بالزيادة والنهار بالنقيصة على حساب منظم ، وهذا هو ولوج النهار في الليل ، ثم تأخذ الليالي بالنقيصة والنهار بالزيادة من أوّل الصيف إلى أوّل الشتاء ، وهذا هو ولوج الليل في النهار ، ويختلف ذلك على سبيل التعاكس في المدارات الشماليّة والمدارات الجنوبيّة ، كلّ ذلك على تفصيل مذكور في علم الفلك ليس ها هنا محل ذكره.

وعموم الآية الشريفة يشمل كلّ ليل ونهار يفرض ، سواء كانا على وجه هذه البسيطة أم في كرات سماويّة اخرى ، كما قرّر في علوم الفلك.

وفي اختلاف الليل والنهار من الحكمة الباهرة وعموم الرحمة والنظام الدقيق والحكمة العظيمة ما تبهر منه العقول ، وتظهر فيه آثار القدرة الكاملة والحكمة العالية ، وهذا من أعظم مجالي قدرته تعالى وسلطته على الزمان ، التي تحيّر فيها عقول الحكماء ، حتى ذهب جمع إلى وجوب وجوده وقدمه ، وجمع آخر إلى خلاف ذلك ، حتّى حدى بعضهم على إنكار الزمان والقول بأنه مجرّد امتداد وهمي.

وفي هذه الآية وأمثالها يبين سبحانه وتعالى أن الزمان ممكن وواقع تحت قدرته ومجعول له تعالى ، ويقع التغيير والتبديل فيه فلا يمكن قدمه الذاتي ، كما ذهب إليه بعض ، ولا يصحّ القول بوهميّته ، لأنه خلاف ما هو المنساق من هذه الآيات والوجدان ، وبيّن سبحانه وتعالى في آيات اخرى المنافع والحكم العظيمة في ذلك ، وقد تقدّم في أحد مباحثنا الكلام في ذلك.

قوله تعالى : (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ).

الموت والحياة متقابلان ومعلومان لكلّ ذي حياة ، ولا يختصّان بخصوص الحيوان فقط ، بل لكلّ شيء حياة وموت حسب استعداده وقابليته ، كما أثبته العلم الحديث ، ولكن لكل شيء حياة خاصة به ، وكذلك الموت ، لا يمكن إدراكهما لغيره

١٨٤

تعالى ، قال جلّ شأنه : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) [سورة الإسراء ، الآية : ٤٤].

وخروج الحي من الميت وبالعكس لهما مظاهر مختلفة ، لا يمكن إدراكها إلّا لله تعالى ..

منها : خروج النباتات التي لها حياة نباتيّة من الأرض الميتة.

ومنها : خروج الإنسان من النطفة ثم موته بعد مدة.

ومنها : خروج المؤمن من صلب الكافر ، وخروج الكافر من صلب المؤمن ، فإن الإيمان أعظم أقسام الحياة المعنويّة ، قال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٢٢].

وعموم هذه الآية الشريفة يشمل جميع ما سواه تعالى ممّن له استعداد الحياة والموت بأي وجه يتصوّر ، وما ذكره المفسّرون في تفسير الآية المباركة من باب ذكر المصاديق.

قوله تعالى : (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ).

الجملة في مقام التعليل أيضا ، أي : أن إعطاءه الملك والعزّة والخير من صغريات رزقه الذي يرزق به من يشاء بغير حساب في الكميّة أو الكيفيّة وعدم المداقة ، بل من كلّ جهة.

والرزق هو العطاء المستمر ، ومن أسمائه تعالى : «الرازق» ، وهو الذي خلق الأرزاق وأعطاها الخلائق وأوصلها إليهم.

والرزق نوعان ظاهري للأبدان كالأقوات ، وباطني للقلوب والنفوس كالمعارف والعلوم ، فكما أنه يشمل المال والجمال والكمال ، وكلّ ما هو دائر في الاجتماع من الخير ، فهو رزق منه جلّ شأنه.

ولا يختصّ الرزق بالإنسان ، بل يشمل الحيوان والنبات والجماد ، فإن الرزق

١٨٥

يعمّ جميع ذلك بما لها من الأفراد والأنواع غير المتناهيّة ، فلا يكون الرزق متناهيا لا من حيث الإضافة إلى الله تعالى ، ولا من حيث الإضافة إلى المرزوق ، بل يستحيل ذلك لعدم التناهي بقاء وإن كان متناهيّا حدوثا ، وإذا لوحظ بالإضافة إلى كونه في غير حساب يصير من غير المتناهي في غير المتناهي.

ويستفاد من الآية الشريفة أن الرزق إنما هو فضل منه عزوجل يعطيه بلا مقابل وعوض ، وأن عمومه يشمل المؤمن وغيره ، وإن كان في نسبة الرزق إليه تعالى بالنسبة إلى الأخير كلام نتعرّض له مفصّلا إن شاء الله تعالى.

١٨٦

بحوث المقام

بحث أدبي :

اختلف الأدباء في صيغة «اللهم» ، فقيل إنّ أصله : «يا الله» ، فلما حذف حرف النداء جعلوا بدله الميم المشدّدة ، والضمة في الهاء ضمة الاسم المنادى المفرد. ولا يجتمع العوض والمعوض في الكلمة إلّا شاذا كما مرّ.

وقيل : إنّ أصله : «اللهم آمنا بخير» ، فحذف وخلط الكلمتان ، وأن الضمة التي في الهاء هي الضمة التي كانت في (أمنا) لما حذفت انتقلت الحركة إلى ما قبلها.

والحقّ : أن الكلمة هي واردة بهذه الهيئة كسائر الكلمات من دون احتياج إلى التماس الأصل فيها ، واستعمالها مع حرف النداء ـ كما مرّ ـ شاذ لا يقاس عليه.

وقوله تعالى : (مالِكَ الْمُلْكِ) ، منصوب على أنه منادى آخر مضاف أو على أنه صفة لاسم الله تعالى.

وقوله : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) ، إما في موضع الحال من المضمر في مالك ، أو أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره : «أنت تؤتي الملك من تشاء» ، وكذلك الحال في «تنزع» و «تعز» و «تذل».

وقوله تعالى : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) ، قيل : إنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي : «أنت بيدك الخير».

والصحيح : أنه جملة مؤلّفة من خبر مقدّم ومبتدأ مؤخّر تفيد الحصر.

وقيل : إنّ في قوله تعالى إيجاز بالحذف ، أي : «بيدك الخير والشر» ، نظير قوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [سورة النحل ، الآية : ٨١] ، أي والبرد.

ولكن الحذف خلاف القاعدة ، ولا نحتاج إلى التقدير مع أن الجملة وافية بالمقصود من دون تقدير ، وكأن السبب في الحذف والتقدير هو ما يرتبط بآراء المعتزلة بعدم استناد الشرور إليه تعالى ، ولكن المبنى والبناء كليهما باطل ، كما عرفت ، ويأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

١٨٧

بحث دلالي :

تدلّ الآيات الشريفة على امور :

الأول : يصحّ أن يكون المخاطب في قوله تعالى : (قُلِ اللهُمَ) ، هو سيد الأنبياء ، لأنه واسطة الفيض وغاية الإفاضة وأكمل الممكنات من الاستفاضة ، كما يصحّ أن يكون الخطاب الأعمّ من التشريع والتكوين ، نظير قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [سورة فصلت ، الآية : ١١].

وعظمة مضمون الخطاب في المقام تشمل كلا منهما ، لشهادة جميع الموجودات بلسان الحال بمضمون المقال.

وربما يقال : إنّ الآية الثانية قول الله تعالى مباشرة ، وفي المقام أمر بالقول ، فلا وجه لتعليقه بالتكوينيّات.

يقال : إنه إذا كان الأمر من الله عزوجل ، فلا فرق بين أن يتعلّق بالقول أو بشيء آخر ، أن المناط كلّه إرادة المنشئ (بالكسر) ، إلّا أن في التشريعيات يصدر الفعل عن اختيار العبد تصحيحا للثواب والعقاب ، وفي التكوينيّات لا اختيار في البين بحسب إدراكاتنا القاصرة.

الثاني : تقديم اسم الجلالة في الآية الشريفة لبيان السبب ، أي : أن مالكيته تعالى للملك وكون العزّة والخير والقدرة والرزق بيده ، لأنه الله المستجمع لجميع صفات الجمال والكمال.

الثالث : في الآية الشريفة من أسرار البلاغة ولطائفها ما تبهر العقول منها ، فإنه تعالى جمع بين أنحاء من أفعاله المتقابلة ، فجمع بين إيتاء الملك ونزعه ، وهما ممّا يقوم به نظام الاجتماع ، كما جمع بين النهار والليل وإيلاج أحدهما في الآخر ، وهما من أتم ما يقوّم نظام العالم ، والمناسبة بين هذين الأمرين ، فإن إيتاء الملك نحو كمال وحياة وتسليط لبعض الأفراد على بعض ، فيكون من قبيل إيلاج النهار في الليل ،

١٨٨

حيث يتسلّط الضوء وتذهب الظلمة ، ونزع الملك نحو حزازة ومنقصة بالنسبة إلى من ينزع عنه ، فيكون من قبيل تسليط الليل على النهار وإذهاب الضوء.

وفي الآية الثانية ذكر إيتاء العزّة لمن يشاء ، وقال جلّ شأنه (تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) ، وهو نوع من الحياة ، فإن العزيز له نحو حياة عند المجتمع ، والإذلال نحو من الموت عندهم ، وهذا ممّا يناسب قوله تعالى : (تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ).

الرابع : جمع سبحانه وتعالى في هذه الآيات بين أربعة من الأمور التكوينيّة ، وهي : إيلاج الليل في النهار وبالعكس ، والموت والحياة ، وأربعة من الأمور الاجتماعيّة ، وهي : إيتاء الملك ونزعه والعزّة ، والذلّة ، وهذه الأمور الثمانية يناسب أحدها الآخر ، فإن إيتاء الملك ونزعه يناسبان الليل والنهار ، والعزّة والذلّة تناسبان الحياة والموت.

وذكر : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) ، لبيان تسلّطه على هذه الأمور الاجتماعية ، و (تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) ، لبيان تسلّطه على الأمور التكوينيّة ، فكانت المقابلة بين هذين الأمرين أيضا من هذه الجهة. ويجتمع الجميع في الحياة بالمعنى الأعمّ ، أي الحياة الفردي والاجتماعي ، ويستلزم ذلك الاقتدار على مقابلها وهو الموت ، لأن القدرة على شيء يستلزم القدرة على نقيضه أيضا ، وإلّا لا معنى للقدرة.

الخامس : إنما عبّر سبحانه وتعالى في هذه الآيات المباركة بالمشيئة دون الإرادة ، لأن إرادته المقدّسة من صفات فعله ، والمشيئة مقدّمة على الإرادة ، فبيّن تعالى أن إيتاء الملك ونزعه والعزّة والذلّة داخلة تحت مشيئته ، والأسباب الظاهريّة التي تبذل في طلبها ليست علّة تامّة لحصولها.

السادس : إنما ذكر تعالى العزّة والذلّة دون غيرهما من الأمور الدائرة في الاجتماع ، كالغنى والفقر ونحوهما ، لأن لهما مصاديق كثيرة ، تشملان جميع شؤون الدنيا ، وفيه ردّ على مزاعم أهل الكتاب من طلب العزّة بغير الله تعالى.

السابع : إنما اقتصر سبحانه وتعالى على ذكر الخير فقط ، لأن المقام مقام تعليم الدعاء والثناء عليه والتعريض بالبشرى به ، ولا معنى لذكر الشرّ ، مع أننا

١٨٩

ذكرنا سابقا أن الشرّ داخل تحت قضائه وقدره ، وإن لم يكن مرضيّا له ، مضافا إلى أنه يمكن استفادته من ذكر الذلّة ونزع الملك.

ولا يستفاد من عدم ذكر الشرّ قول المعتزلة من نفي استناد الشرور إليه تعالى ، فإنهم إن أرادوا نفي رضاه تعالى به فهو مسلّم ولا يقول به أحد ، وإن أرادوا نفي قضائه له وعدم قدرته تعالى عليه ، فهو خلاف صريح الآية الشريفة والأدلّة العقليّة والنقليّة.

الثامن : يستفاد من قوله تعالى : (تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) ، أن أهمّ مقاصد الإنسان الذي هو العزّة ، لا بد وأن ترجع إليه تعالى ، كما أن أهم ما يبتعد عنه وهو الذلّة ترجع إليه أيضا ، فجميع ما ينفع في هذا العالم وما يضرّ ترجع إليه عزوجل ، وقد دلّت الأدلّة العقليّة والنقليّة عليه ، لأن جميع الممكنات لا بد أن يرجع إلى الواجب بالذات. قال تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) [سورة النساء ، الآية : ٧٨] ، فالآية المباركة ترشد إلى أمر عقلي وهو استيلاء الله جلّت عظمته على هذا العالم.

التاسع : الآية الشريفة جامعة للتوحيد الذاتي في قوله تعالى : (قُلِ اللهُمَ) ، والتوحيد الفعلي في بقية الآية المباركة في نظم بديع ونسق لطيف.

العاشر : الآية الشريفة من القضايا التي تشتمل على العلّة والمعلول ، فيصحّ أن يقال إنه مالك الملك ، لأنه على كلّ شيء قدير ، كما يصحّ أن يقال إنه على كلّ شيء قدير ، لأنه مالك الملك ، وكذلك بالنسبة إلى سائر جملاتها ، ويصحّ اجتماع العلّيّة والمعلوليّة في شيء واحد باختلاف الاعتبار وتعدّد الجهات.

بحث روائي :

فضل الآية :

وردت روايات تدلّ على فضل آيات شريفة كآية الكرسي وآية (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٨ و ١٩] ، وهذه الآية المباركة :

١٩٠

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) وغيرها من الآيات ، فقد وردت في فضل هذه الآية المباركة روايات :

منها : ما تقدّم في آية الكرسي ، وآية ١٨ من سورة آل عمران.

ومنها : ما عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «اسم الله الأعظم الذي إذا دعي أجاب في هذه الآية».

أقول : المراد من كون الاسم الأعظم في هذه الآية الشريفة إما الاسم الأعظم الحالي لمن حصل له حالة خاصة ، أو المقالي ، لكن مع شروط خاصة لا بد منها.

ومنها : ما عن بعض الأعاظم أن من قرأ هذه الآية وبعد تمامها قال : «يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطي منهما ما تشاء وتمنع منهما ما تشاء ، اقض عني ديني» ، يقضى عنه دينه.

أقول : وقد جرّب ذلك بعض ، والله العالم.

تفسير الآية :

في الكافي : عن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت له : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، أليس قد آتى الله بني امية الملك؟ قال عليه‌السلام : ليس حيث تذهب!! إن الله عزوجل آتانا الملك وأخذته بنو امية ، بمنزلة الرجل يكون له الثوب فيأخذه الآخر فليس هو الذي أخذه».

أقول : المراد بذلك بعض بطون الآية ، وإلّا فالآية المباركة عامّة شاملة لكلّ ملك ، حقيقيّا كان ـ وهو الإحاطة على حقائق الموجودات بحسب الاستعداد ـ أو ظاهريّا واقعيّا كان أم تشريعيّا ، وقد يقع الخلط بينها كما وقع لراوي الحديث ، لأن الملك الحقيقي والواقعي كان لهم عليهم‌السلام.

وفي المجمع : روي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام في قوله تعالى : (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) ، قيل : معناه وتخرج

١٩١

المؤمن من الكافر ، وتخرج الكافر من المؤمن».

وفي الدر المنثور : عن ابن مسعود وعن سلمان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : في قوله تعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن».

أقول : هذا من باب ذكر بعض المصاديق ، لأن الحياة والموت كما مرّ في التفسير تشملان الحياة الحقيقيّة والجسمانيّة.

وفي الدر المنثور ـ أيضا ـ : عن سلمان الفارسي : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لما خلق الله آدم عليه‌السلام أخرج ذرّيته فقبض قبضة بيمينه ، فقال : هؤلاء أهل الجنّة ولا أبالي ، وقبض بالأخرى قبضة فجاء فيها كلّ رديء ، فقال : هؤلاء أهل النار ولا أبالي ، فخلط بعضهم ببعض فيخرج الكافر من المؤمن ويخرج المؤمن من الكافر ، فذلك قوله تعالى : (تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ)».

أقول : تقدّم وجهه وأن ذلك من باب بيان بعض المصاديق ، وأمثال هذه الرواية كثير وردت في أبواب الطينة وسنتعرّض لها إن شاء الله تعالى في الآيات المناسبة.

وفيه ـ أيضا ـ : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما خطّ الخندق عام الأحزاب ، وقطع لكلّ عشرة أربعين ذراعا وأخذوا يحفرون ، خرج من بطن الخندق صخرة كالتل العظيم لم تعمل فيها المعاول ، فوجّهوا سلمان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يخبره ، فأخذ المعول من سلمان فضربها ضربة صدعتها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم ، وكبّر وكبّر المسلمون ، وقال : أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب ، ثم ضرب الثانية فقال : أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم ، ثم ضرب الثالثة فقال : أضاءت لي قصور صنعاء وأخبرني جبرائيل عليه‌السلام أن امتي ظاهرة على كلّها فابشروا ، فقال المنافقون : ألا تعجبون يمنّيكم ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى ، وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا ، فنزلت :

١٩٢

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

أقول : أبطل الله مزاعمهم المحصورة على خصوص المحسوسات التي يرونها بأعينهم في وقت خاص ، ولا يطّلعون على المستقبل وما يظهره الله بقدراته على يد نبيّه أو على يد أمته صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وفي أسباب النزول للواحدي : عن ابن عباس وأنس بن مالك : «لما فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مكّة ووعد أمته ملك فارس والروم ، قال المنافقون واليهود : هيهات هيهات؟!! من أين لمحمد ملك فارس والروم؟ هم أعزّ وأمنع من ذلك ، ألم يكف محمدا مكّة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ) ـ الآية ـ».

أقول : تقدّم ممّا ذكر وجهه.

وفيه ـ أيضا ـ : عن قتادة : «ذكر لنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سأل ربّه أن يجعل ملك فارس والروم في أمته ، فأنزل الله تعالى (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ)».

أقول : يمكن أن تكون الرواية من باب تعدّد المورد ، مع أنها لا تنافي ما تقدّمتها من الروايات.

بحث فلسفي :

تدلّ الآيات الشريفة على قواعد فلسفيّة لها الشأن الكبير في كلّ من الفلسفة الإلهيّة والطبيعيّة.

منها : أن قوله تعالى : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) ، يدلّ على أن لله تعالى صفات جماليّة هي عين ذاته ، لا يمكن التفكيك بينهما ، فمنها الملك ، وهي صفة جماليّة ليست داخلة تحت أية مقولة من المقولات العشر التي أثبتها الفلاسفة والحكماء ، ويمكن إرجاع ملكه ومالكيّته إلى الإحاطة القيوميّة على جميع مخلوقاته ، إيجادا

١٩٣

وإبقاء ، وتدبيرا وافناء ، وإيجادا بعد الافناء ، ويشهد لذلك ما ورد في بعض الدعوات المعتبرة : «اللهم إني أسألك باسمك الذي تبلي به كلّ جديد ، وتجدّد به كلّ بال».

ومنها : أنه يمكن أن يستفاد من قوله تعالى : (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) ونظائرها من الآيات المباركة ، القاعدة التي نقلت عن بعض قدماء فلاسفة اليونان ، وهي : «ان كلّ شيء في كلّ شيء» ، وأثبتوها بالبراهين وأطالوا القول في النقض والإبرام حولها ، والمراد منها أن جميع ما في هذا الكون من العناصر والمواد والآثار والصور تكمن في كلّ شيء كمونا هيولائيّا ، فيمكن أن يستخرج أحد الضدين من الآخر ، كما يستخرج في هذه الأعصار من مادة النفط ـ مثلا ـ كثير من الأمور التي ربما يكون أحدها مضادا للآخر.

ولعلّ نظرية الفلسفة الديالكتيكيّة القائلة بأن كلّ شيء يحمل ضدّه ، مأخوذة من هذه القاعدة ، وكذا نظرية داروين القائلة بالتنازع في البقاء وبقاء الأصلح ، وإن كان لنا كلام في هاتين النظريتين يأتي في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.

وكيف كان ، فإن كانت الأشياء حاملة لكلّ شيء ، فهي لا تخرج عن قدرته ، بل هي داخلة تحت قدرته وربوبيّته العظمى وقهّاريته التامّة ، كما يدلّ عليه ذيل هذه الآية الشريفة : (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

ومنها : أنه يمكن أن يستدلّ بقوله تعالى : (تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ) ، وأمثال هذه الآيات الشريفة على الحركة الجوهريّة الثابتة في ذوات الأشياء وحقائقها ، بدعوى أن تلك الحركة إما بذاتها لذاتها من ذاتها ، أو بذاتها من غيرها ، والأوّل باطل مع فرض الإمكان وإجماع الشرائع الإلهيّة على حدوث الأشياء ، فيتعيّن الثاني ، والمحرك الأوّل هو القديم الأزلي ، وقد أثبت جمع من الفلاسفة وجود الله تبارك وتعالى بالحركة ، فتكون الحركة الجوهرية ثابتة في الحقائق من محرك غيبي ، وهو الله تعالى ، ولا محذور فيه من عقل أو نقل.

وهذه الآية الشريفة تدلّ على وجود الحركة في جميع الأشياء من النقص إلى الكمال ، ومنه إلى الأكمل حدوثا وبقاء ، لكن هذه الحركة مستمرة مع جميع جهاتها

١٩٤

تحت إرادة مدبّر فيها ، والحركة بما شاء وأراد ، فهو من جميع ذرات الكون معيّة قيوميّة مدبّر لها بالربوبيّة العظمى ، التي لا يعزب عنه شيء في السموات والأرض.

وهذه الحركة بهذا المعنى عامّة لجميع مخلوقاته ، وهي صحيحة ، وممّا اتّفقت عليه الكتب السماويّة وكلمة الأنبياء وكلمات جمع من الفلاسفة المتألّهين.

وأما الحركة التي ذكرها بعض الفلاسفة الطبيعيّين ، وهي الحركة في الطبيعة والمادة فحسب ، وقالوا إنها ذاتيّة لها والذاتي لا يعلل ، فإن أرادوا أنها واجبة بالذات فهو باطل بالضرورة ، وإن أرادوا أنها تحت قدرة الله تعالى فهي قسم من تلك الحركة التي ذكرناها آنفا.

بحث قرآني :

لا ريب في أن نظام هذا العالم يتقوّم بترتب العلل والمعلولات المتتالية وغيرها ، وهذه السلسلة لا بد أن تنتهي إلى الله تعالى ، الذي تكون أزمّة الأمور تحت إرادته ، والإنسان مسخّر ومقهور تحت قوى فعّالة ، منها قدرة الله تعالى وإرادته التامّة ، فهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. ومنها قوى الطبيعة التي قلّ ما يسلم أحد من آفاتها وعاهاتها. ومنها النفس الأمّارة بالسوء والشيطان الرجيم الذي لا يسلم منه أحد. فالإنسان قرين هذه القوى وإن كانت جميعها مقهورة تحت قدرة العزيز الجبّار ، وهذه الآية الشريفة ونظائرها شاهدة على ذلك ، فإن قوله تعالى : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) ، يدلّ على انتهاء الوسائط إليه عزوجل ، ولكن ذلك لا ينافي أن تكون المسبّبات والنتائج مترتبة على الأسباب ، وقد جرت عادته عزوجل على إجراء الأمور بأسبابها التي لها دخل في تحقّقها ، وعلى الإنسان أن يعد الأسباب الظاهريّة التي تكون دخيلة في حصول المسبب ، ثم تفويض الأمر إليه في الجهات التي تقصر عقولنا عن الإحاطة بها ، وقد دلّت على ذلك آيات كثيرة ، قال تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [سورة النجم ، الآية : ٣٩] ، وقال تعالى : (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) [سورة القصص ، الآية : ٧٧] ، وهذا هو التوكّل الذي

١٩٥

أمرنا به وحث عليه القرآن الكريم ، ولكن التماس الأسباب على قسمين :

الأوّل : أن تلحظ مستقلة مع قطع النظر عنه عزوجل بالمرّة ، وهذا مذموم بل هو الشرك بعينه ، وتكون قرينة الخيبة غالبا.

الثاني : أن ينظر إليها من حيث إنها من قبيل المعدات قد أفاضها الله عزوجل ، وهذا القسم ممدوح بل هو التوحيد الخالص ، ولكن ترتب النتيجة منوط بإرادة الله تعالى ، فإن اعتقاد الخير في نظر الفاعل لا يغيّر الواقع عمّا عليه ، قال تعالى : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ٢١٦].

وبالجملة : أن كون الخير بيده عزوجل ، وأن بيده ملكوت كلّ شيء ، لا ينافي تسبّب الأسباب الظاهريّة وإيكال الأمور الخارجة عن علم الإنسان إليه عزوجل ، بل لا بد من ذلك.

بحث عرفاني :

الإنسان قرين الحاجة والفقر ، وهو يحتاج في حدوثه وبقائه إلى الله جلّ جلاله ، وبعد كون الخير بيده تعالى فلا بد من الرجوع إليه عزوجل والتماس الخير منه والإعراض عمّا سواه ليتمّ له التوحيد الفعلي ، كما يتمّ بذلك تفويض الأمر إليه عزوجل وتتجلّى في قلبه هذه الآية الشريفة ، ويكون من مظاهر : «لا حول ولا قوة إلّا بالله» ، فتسهل عليه جملة من الصعاب التي عاقت أهل الدنيا عن الوصول إلى مقاصدهم ، فإن من شاهد القيوميّة المطلقة منه تعالى في وجوده وبقائه وجميع شؤونه ، لا يرى لنفسه شيئا إلّا مثل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) [سورة الانشقاق ، الآية : ٦] ، وتتم بذلك نشأة الآخرة ، حيث تكون من مظاهر قوله تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي) [سورة الفجر ، الآية : ٢٧ ـ ٣٠] ، ولا معنى للعبوديّة الحقيقيّة إلّا ذلك ، ويتّحد المبدأ والمآب حينئذ من كلّ

١٩٦

جهة ، بل إن وصل إلى مرتبة التفاني في مرضاة الله يتّحد السائر والسير والمسير إليه.

فهذه الآية الشريفة من أجلّ موارد تجلّيات الله تعالى لعباده ، ولأن خرّ موسى بن عمران عليه‌السلام صعقا في تجلّ واحد منه تعالى للجبل ، لكن صار الكروبيون والروحانيون وعقول ذوي الألباب صرعى في مثل هذه التجلّيات الإلهيّة القرآنية.

ولأن كان للاسم الأعظم الذي هو أم الأسماء الحسنى مظاهر كثيرة ، يكون العالم واحدا منها ، فيصحّ أن تكون هذه الآية من بعض مظاهره ، وصحّ ما نسب إلى سيد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله حين سئل عن الاسم الأعظم فقرأ هذه الآية الشريفة ، كما مرّ ، فإن فيها اجتمع كمال الذات والصفات.

١٩٧

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢))

بعد أن ذكر سبحانه وتعالى كيفيّة الثناء عليه وتمجيده والابتهال إليه جلّ شأنه ، وبيّن الوجه في ارتباط الخلق مع الخالق ، وأنه لا بد من الالتجاء إلى الله عزوجل والاعتراف بربوبيّته وسلطانه.

في هذه الآيات يبيّن سبحانه وتعالى تنظيم العبوديّة بين العبد والمعبود ، فأرشد عباده إلى اللجوء إليه عزوجل ونبذ الاغترار بغيره تعالى ، بحيث ترفع التفرقة والتخالف بين أهل الإسلام ، والاختلاف بين الأديان والمعتقدات ، ونهى المؤمنين عن الامتزاج الروحي والمخالطة القلبيّة مع أعدائه تعالى ، وحذّرهم عن ذلك ، وأمرهم بحبّ الله تعالى وطاعته وطاعة الرسول والتحابب بينهم ، ووعدهم بالرأفة والغفران ، ولا تخلو الآيات عن ارتباط بالآيات السابقة من التعريض بالكافرين وأهل الكتاب.

١٩٨

التفسير

قوله تعالى : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ).

الاتخاذ هو الأخذ مع الاعتماد والثقة والمشي على الطريقة والعمل بالسيرة ، يقال : «لو كنت منا لاتخذت بأخذنا» ، أي على طريقتنا وشكلنا. والمراد بالمؤمنين كلّ من أسلم ودخل في دين الإسلام ، كما أن المراد من الكافرين كلّ من أنكر الإسلام ، فيشمل أهل الكتاب والمشركين وغيرهم.

والأولياء جمع الولي كالأذكياء جمع ذكي ، والمراد بالولي في المقام ونظائره هو الخليل والمحبوب ، بحيث يتقرّب أحد إلى آخر ويمتزج معه امتزاجا روحيّا يوجب التأثير عليه ، فيكون أحدهما تابعا والآخر متبوعا في العمل والمودّة والمحبّة وسائر شؤون الحياة ، فإن دلّت قرينة معتبرة خارجيّة على التخصيص بشيء معين تتبع ، وإلّا فيؤخذ بالإطلاق.

والآية تنهى عن اتخاذ الكافرين أولياء والركون إليهم والاتصال معهم مع الانفصال عن المؤمنين والابتعاد عنهم ، وهي عامّة تشمل جميع أسباب الاتصال والركون إليهم في الأخلاق والتصرّفات والموادّة ، فضلا عن إيثار محبّتهم على محبّة المؤمنين ، قال تعالى : (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً* الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [سورة النساء ، الآية : ١٣٨ ، ١٣٩] ، وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) [سورة النساء ، الآية : ١٤٤] ، وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [سورة المائدة ، الآية : ٥١] ، ويشهد لتعميم الولاية قول

١٩٩

نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من تشبّه بقوم فهو منهم» ، وفي الحديث القدسي : «لا تسكنوا مساكن أعدائي ، ولا تلبسوا ملابس أعدائي فتكونوا أعدائي» ، وفي الحديث : «ليخرجن ناس من قبورهم على صورة القردة بما داهنوا أهل المعاصي ثم وكفوا عن علمهم وهم يستطيعون» ، أي قصّروا ونقصوا عن علمهم.

و (من) في قوله تعالى : (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) للابتداء ، ومادة (دون) من الدنو ، وهو إما في المحل ، أو في الحال ، أو في العمل ، وقد اشتهر استعمالها في ظرف المكان ، وتتضمّن معنى الغيريّة مع الإشعار بأن المورد الذي أضيف إليه (دون) فيه نحو دناءة وسفالة بالنسبة إلى غيره. قال تعالى : (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [سورة المائدة ، الآية : ٧٦] ، وقال تعالى : (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [سورة المائدة ، الآية : ١١٦] ، ولا ريب في دناءة كلّ ذلك بالنسبة إلى الله تعالى. وقال جلّ شأنه : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [سورة النساء ، الآية : ١١٦] ، أي ما سوى ذلك الذي ممّا هو أدون حزازة من الشرك والكفر.

والمعنى : لا يعدل المؤمنون بولايتهم عن المؤمنين إلى الكافرين ويتّخذوهم أولياء في المحبّة والنصرة والعمل ، فإن الكافرين أدون مكانا وأسفل درجة من المؤمنين ، الّذين هم أعلى مكانا وأشرف رتبة ودرجة.

ويستفاد من الآية الشريفة أن سبب النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين هو الإيمان والكفر ، اللذين بينهما غاية التباعد والتنافر والبينونة ، بحيث أن كلّ من يقترب إلى أحدهما يبتعد عن الآخر بمقدار ما اقترب من الأوّل ، بل قد يوجب الاتحاد وفساد الآخر ، لما عرفت أن الولاية قد توجب الاتحاد والاعتماد ، فإذا تولّى المؤمن الكافر أوجب ذلك فساد إيمانه والابتعاد عن الله تعالى ، كما نبّه على ذلك في ذيل الآية المباركة : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ).

٢٠٠