مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٥٩

بحوث المقام

بحث علمي :

النصرة إما واقعيّة معنويّة حقيقيّة ، أو وهميّة خياليّة ، والاولى مبنيّة على الدوام والبقاء والثبات ، ولا تزول بخلاف الثانية ، والآثار الحقيقيّة تترتب على الاولى.

والنصرة المنفية في أمثال هذه الآية إنما هي الاولى ، وأما النصرة الوهميّة الخياليّة فليست من الله تعالى في شيء ، كما لا أثر لها عند ذوي العقول ، بل إطلاق النصرة عليها إنما يكون بالمجاز والعناية.

بحث روائي :

في الكافي : عن يونس بن ظبيان ، قال : سمعت الصادق عليه‌السلام يقول : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله عزوجل يقول : ويل للذين يختلسون الدنيا بالدين ، وويل للذين يقتلون الّذين يأمرون بالقسط من الناس ، وويل للذين يسير المؤمن فيهم بالتقيّة ، أبي يغترون أم عليّ يجترءون؟ فبي حلفت لأتيحن لهم فتنة تترك الحكيم منهم حيران».

أقول : قد ظهر حقيقة ما حلفه تبارك وتعالى في هذه الأعصار لكلّ ذي شعور.

وفي المجمع : عن أبي عبيدة الجراح قال : «قلت : يا رسول الله ، أي الناس أشدّ عذابا يوم القيامة؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : رجل قتل نبيا ، أو رجلا أمر بمعروف أو نهى عن منكر ، ثم قرأ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) ، ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا أبا عبيدة ، قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيّا أوّل

١٦١

النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فقتلوا من أمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر ، فقتلوا جميعا في آخر النهار من ذلك اليوم ، وهو الذي ذكره الله».

أقول : ما ورد في هذه الرواية من باب بيان بعض المصاديق ، وإلّا فحكم الآية الشريفة عام إلى يوم القيامة ، وقتل الأنبياء والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر يشمل كلا من المباشر والمسبّب بالأسباب المختلفة في كلّ عصر وزمان.

١٦٢

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥))

بعد ما ذكر سبحانه وتعالى أن أهل الكتاب إنما يختلفون في الدين ، ولا يؤمنون به عن بغي وظلم بعد ما علموا الحقّ ، وذكر جملة من قبائح أعمالهم من الكفر وقتل الأنبياء والآمرين بالقسط ، بين ما يوجب تشهيرهم من أن هؤلاء الّذين أوتوا نصيبا من الكتاب هم أولى الناس بأن يستجيبوا إذا دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم من الأميين الّذين لا يعلمون من الدين شيئا ، فأعرضوا عن ذلك واتخذوا الخلاف ، وليس ذلك إلّا لأجل أنهم ادّعوا اتصال النسب مع أنبيائه تعالى ، فهو الذي يمنعهم من البقاء في العذاب. فكان ذلك سببا للافتراء على الله تعالى واقتراف الآثام وتجرؤهم على الله سبحانه ، وقد أثبت سبحانه وتعالى أن الجزاء إنما يكون على الأعمال دون الأنساب ، وأوعدهم الخزي والعذاب في يوم يتجلّى العدل الإلهي ويجزي كلّ نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.

التفسير

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ).

الاستفهام للتشهير والتعجيب ، أو لبيان الحقيقة المستورة عن عامّة الناس.

مادة (نصب) تأتي بمعنى الوضع والتعب والحصة التي تضاف إلى الشخص أو العلامة ، قال تعالى : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) [سورة المائدة ، الآية : ٣] ، والنصب هو حجر كانوا ينصبونه في الجاهلية فيعبدونه ويذبحون له ، بل كلّ ما عبد من دون

١٦٣

الله فهو نصب ، وفي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فاطمة بضعة مني ، ينصبني ما أنصبها» ، أي يتعبني ما أتعبها.

ويمكن إرجاع الجميع إلى شيء واحد ، وهو الوضع ، لكنه يختلف باختلاف الخصوصيات. وقد استعملت هذه الكلمة في موارد من القرآن الكريم ، وغالب استعمالها فيه إنما هو في الذم.

والنصيب من المفاهيم القابلة للشدّة والضعف والقلّة والكثرة ، فهو من المفاهيم التشكيكيّة جدا ، فإن من فهم آية من آيات القرآن الكريم بحسب اعتقاده ، يكون له نصيب منه ، وفهم حقيقة نفس الآية بحسب الواقع نصيب منه أيضا ، وفهم أسرارها ودقائقها نصيب منه ، وهكذا في جملة من الآيات الشريفة. وإطلاق النصيب على بعض هذه الأنصباء ، من باب مجرّد الإطلاق اللفظي فقط إذا لو حظ بملاحظة بعض مراتبها الأخرى.

والمراد من الكتاب جنسه الذي يشمل التوراة والإنجيل ، وإيتاء النصيب من الكتاب عبارة عن تطبيق الكتاب حسب آرائهم ومعتقداتهم ، أي : أخذوا من كتاب الله خصوص ما ينفعهم ، وتركوا ما سواه ، وهذا هو عادة أهل الدنيا الّذين لا همّ لهم إلّا قضاء الحاجة الفعلية وهذا هو حظهم ممّا أوتوه من الكتاب ، وليس من حظهم في الواقع ، لأنه لا بد من أن يؤخذ بكلّ جزء منه مع مراعاة جميع ما فيه ، لأن الإيمان بالبعض لا ينفك عن الإيمان بالكلّ وبالعكس.

ويستفاد من الآية الشريفة وقوع التحريف في الكتاب ، وأن الذي بين أيديهم ليس إلّا نصيبا منه ، فإن التحريف الذي أوقعوه فيه وتغييرهم له ما أوجب إذهاب كثير منه ، وإنما بقي جزء منه ، كما يدلّ على أنهم لا يحسنون فهمه ولا يلتزمون العمل به ، فهم فقدوا الأهلية لتحمّله بسبب تحريفهم له.

والآية الشريفة تدلّ على العجب من حالهم وأفعالهم ، والاستفهام تقريري ، أي : انظر إلى أحوالهم تراهم كذلك ، فيتطابق المخبر به مع المحسوس. وهذا أحسن وجه لبيان فساد طريقتهم وسوء عقيدتهم ونفاق سريرتهم.

١٦٤

وهذه الآية الشريفة ونظائرها تبيّن فساد عادة من عادات الناس التي جرت على أن من اطلع على شيء من كتاب ما ، يدّعي الاطلاع على جميع ما ورد فيه والإحاطة به ، مع أنه ربما لم يصل إلّا إلى جزء منه ، ولم يدرك مفاهيمه العرفيّة فضلا عن دقائقه العلميّة ، هذا في الكتب المؤلّفة فضلا عن الكتب الإلهيّة النازلة من السماء على الرسل والأنبياء ، التي قال فيها : (ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ، وقد وعد الله تعالى أن يعلمها المتّقين من عباده ، قال تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٨٢].

قوله تعالى : (يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ).

مادة (دعو) تأتي بمعنى استدعاء الشيء سواء كان بالخير أم الأمر أم بنحو آخر وهو كالنداء ، وقد يستعمل كلّ منهما في موضع الآخر ، وهي من المواد التي كثر استعمالها في القرآن الكريم ، ولعلّ من ألطفها قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) [سورة الأنفال ، الآية : ٢٤] ، ومن أشدّها هيبة وتسخيرا قوله تعالى : (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ* مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) [سورة القمر ، الآية : ٧ ، ٨] ، وفي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الاكلة على قصعتها» ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم ، مثل الجسد إن اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».

والكلمة مستعملة في جميع العوالم الإمكانيّة والنشآت الربوبيّة ، فالله تعالى هو مبدأ الدعوة إلى الحقّ في تمام النشآت ، وإليه ختمها في جميعها ، فهو الحقّ المحض ومظهره ومظهره.

وكتاب الله هو القرآن العظيم المشتمل على حقائق واقعيّة وتشريعيّة ، التي جعلها عزوجل لتنظيم النظام الأحسن في الدنيا والآخرة ، وقد قامت الحجج الكثيرة على أنه منزل من الله تعالى.

١٦٥

ودعوتهم إلى كتاب الله باعتبار أنه جامع لكثير ما ورد في الكتب الإلهيّة المهيمن عليها ، وقد بشّرت به ، فلم يكن مجهولا عندهم ، يعرفه أهل الكتاب بأنه يحكم بالحقّ ويزيل كلّ لبس وجهالة ويمنعهم عن البغي والتعدّي ، فيكون حكمه نافذا ويجب اتباعه ، والداعي إلى الكتاب هو الله تعالى بلسان نبيّه. ولو نظرنا إلى حاق الواقع يكون الداعي إلى كتاب الله والمدعو إليه والمدعو به واحد ، والفرق إنما هو بالاعتبار ، ولعلّه تعالى إنما أجمل الدعوة لأجل هذه الجهة.

قوله تعالى : (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ).

أي : أنهم إذا دعوا إلى حكم الكتاب يتولّى كثير منهم ، اغترارا بما عندهم وما حرّفوه ووضعوه من عند أنفسهم ، واستغناء به ، وهم قد أعرضوا عن الحقّ ودلائله الواضحة.

وفيها دلالة على أن التولّي لا يكون إلّا عن البغي والجحود بعد معرفتهم الحقّ وعلمهم بالحجّة ، فلا يرجى زواله إلّا من ثبت إيمانه في قلبه فدعى إلى إجابة الدعوة التي دعا إليها دينهم وأمرت به عقيدتهم ، من الخضوع لأحكام الله تعالى والإيمان بالدين الجديد ، فالآية الشريفة تثبت جهتين من المذمّة عليهم :

الأولى : إدبارهم عن استماع الحقّ وعدم اجتماعهم على الحقّ ، مع أنه واجب عقلا ، وقد دعا إليه دينهم.

الثانية : إعراضهم عن الحقّ بقلوبهم وضمائرهم ، بعد ظهور الحجّة عليهم ، وهذا هو الشقاق والنفاق ومن أخبث الرذائل.

قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ).

أي : أن تولّيهم عن الحقّ بأبدانهم وإعراضهم عنه بقلوبهم ، وعنادهم لما عرفوه من الحقّ ، إنما هو لأجل زعمهم الفاسد ووهمهم الكاسد وافترائهم على الله بأنهم عباد الله الأخيار ، وهذه الفريّة إنما كانت معتقد عامّة بني إسرائيل في التأريخ وقد استحكمت هذه الفريّة في أنفسهم على مرّ الدهور ، بحيث سلبتهم الفكر عن البحث حولها فمنعتهم عن التسليم للحقيقة والواقع والخضوع للحق.

١٦٦

قوله تعالى : (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ).

مادة (غ ر ر) تدلّ على الأثر الحاصل للإنسان ، سواء كان سببه الغفلة أم شيء آخر ، وفي الحديث : «غر محجلون من آثار الوضوء».

والافتراء هو الكذب على الغير ، وفي حديث بيعة النساء : «ولا يأتين ببهتان يفترينه» ، والافتراء على الله تعالى هو نسبة ما ليس بمأذون منه تعالى إليه ، وبهذا المعنى يستعمل في غيره تعالى أيضا ، كالافتراء على الأنبياء وسائر الناس ، كما مرّ في الحديث ، وهو قبيح عقلا وشرعا ، لأنه ظلم ، كما أنه من المعاصي الكبيرة. وهو أخصّ من الكذب ، لأنه إخبار غير مطابق للواقع مطلقا ، فيصدق في ما إذا كذب لنفسه أو على نفسه ، بخلاف الافتراء فإنه الكذب على الغير فقط.

والافتراء على الله تعالى من أقبح القبائح وأعظم الكبائر ، تدلّ على ذلك آيات كثيرة ، منها قوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [سورة الحاقة ، الآية : ٤٤ ـ ٤٧].

ويمكن أن يقام الدليل الاعتباري على حرمته أيضا ، وهو أن القوانين مطلقا ـ سواء كانت سماويّة أم وضعيّة ـ لا بد أن تكون محدودة وتحت سلطة المقنّن ، ولا تتغيّر ولا تتبدّل إلّا بالسير التكاملي ، وما هو الأصلح للإنسان ، وحيث إنه لا يعقل التكامل بعد قوانين القرآن ، فلا وجه لجعل شيء فيه ابدا إلّا بالوحي المبين ، وكلّما يكون من غيره ، فإن كان بعنوان التعبّد والدين فهو بدعة وضلال ، بلا فرق بين الأصول والفروع بجميع أنواعهما ، والسنّة المقدّسة بحكم القرآن ، لأنها شارحة ومبيّنة له.

والمعنى : كان سبب غرورهم وبغيهم في دينهم الذي كان يأمرهم باطاعة الحقّ ونبذ المعصية والكبر والبغي ، إنما هو افتراؤهم في دينهم بأنهم شعب الله المختار ، وأن عذابهم محدود بسبب اتصال نسبهم إلى أنبياء الله تعالى ، فكان ذلك

١٦٧

سبب كفرهم بدين الله وإعراضهم عن كتابه ، فضلّوا عن الصراط المستقيم.

قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ).

برهان عقلي على بطلان جميع المزاعم الفاسدة والأوهام الباطلة ، ودليل قاطع على بطلان كلّ افتراء وقول لا يستند إلى حقيقة ، وهو ظهور الأعمال والأقوال والمعتقدات في السير الاستكمالي الإنساني في عالم محيط بهذا العالم ، تبدو الضمائر فيه وتنكشف السرائر ، فيرى الإنسان بنفسه جميع أعماله وأقواله ومعتقداته بنفسه حاضرة لديه بلا مرية وارتياب ، وحينئذ يغني العيان عن البرهان ، وهذا من أقوم الأدلّة العقليّة التي قرّرتها الشرائع السماويّة.

وفي الآية الشريفة روعة الأسلوب وبديع الفصاحة ، وفيها التوعيد والإيعاد ، وإنما ذكر الجمع دون الأحياء والبعث ، لأن الجمع يدلّ عليهما بالملازمة ، ولأن اجتماعهم على الافتراء ، والخلاف في الدنيا لا يغني عنهم جمعهم في الآخرة ولا يعجزه تعالى جمعهم ، وفيها من التهويل ما لا يخفى.

قوله تعالى : (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

أي : وتوفّى كلّ نفس ما كسبت وعملت ، وهم لا يظلمون في ذلك من دون أن ينقص من عملهم شيء.

وتدلّ الآية الشريفة على أن الجزاء معلول نفس العمل ، بلا مدخلية شيء آخر فيه ، ويصحّ أن يعبّر عن ذلك بظهور الأعمال بصورها المناسبة لذلك اليوم ، فإن الحقيقة واحدة والمظاهر مختلفة باختلاف العوالم ، ولذلك أتى بالفعل المجهول المنسوب إلى ذاتهم.

١٦٨

بحوث المقام

بحث أدبي :

التولّي عن الشيء يفيد معنى الإعراض عنه ـ ويصحّ العكس أيضا ـ بالقرائن ، وإنما جمع سبحانه وتعالى بينهما في قوله تعالى : (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٢٣] ، لبيان كثرة جحودهم للحقّ وجمودهم على الباطل بأبدانهم وقلوبهم ، أو لأجل بيان أن ذلك صار ملكة في أنفسهم لكثرة المداومة عليه ، فبناء على الأوّل يكون قوله تعالى : (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) جملة حالية للضمير في «منهم» ، أو من «فريق» المنعوت ، فهي إما مؤكّدة أو مبيّنة لاختلاف متعلّق التولّي والإعراض ، والواو حالية ، وعلى الثاني تكون الجملة في موضع النعت ل «فريق» ، والواو للعطف ، فيكون إخبارا عن حالهم وسجيتهم.

ومدخول كيف في قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ) مقدّر يدلّ عليه الكلام ، أي فكيف حالهم أو كيف يصنعون ونحو ذلك.

بحث دلالي :

يستفاد من الآيات الشريفة امور :

الأول : يستفاد من قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) أن ما عندهم ليس من الله تعالى ، بل هو من أهوائهم الفاسدة.

كما أنه يستفاد أن المعتبر في نسبة أهل الكتاب إليه إنما هي النسبة العمليّة مضافا إلى النسبة الاعتقاديّة ، فلا تكفي النسبة القوليّة ، ولعلّ التعبير ب (أوتوا الكتاب) إشارة إلى هذه الجهة ، حيث إنهم فقدوا النسبة العمليّة والاعتقاديّة لوقوع التحريف عنهم في الكتاب ، فعبّر عنهم ب (أوتوا) دون أهل الكتاب.

١٦٩

الثاني : أن الآية الشريفة : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) ، تشمل كلّ من يدعى إلى كتاب الله ليحكم بذلك في ما بينهم ثم يتولّى عن ذلك ، سواء كان من اليهود أم النصارى أم من غيرهم ، فلا تختصّ بملّة دون اخرى ، ويكون إظهار الحقّ واجبا عقليّا ، والإعراض عنه قبيحا كذلك ، فضلا عن جحوده وتلبيس الأمر على الناس ، كما أن عموم الآية المباركة يشمل الدعوة إلى اصول الدين وفروعه.

الثالث : تشير الآيات الشريفة إلى حقيقة اجتماعيّة ، وهي أن العصبية والأهواء الباطلة توجبان البعد عن الحقيقة والإعراض عن الحقّ ، فلا تنفع المواعظ والزواجر ، بل تزداد بعدا واستكبارا وإعراضا حتى تتمكّن في قلوبهم ، فيكون من الجهل المركب ، الذي هو داء ليس له دواء.

الرابع : إنما أجمل سبحانه الداعي إلى كتاب الله لبيان أن الداعي إلى كتاب الله والمدعو إليه والمدعو به واحد ، والفرق إنما هو بالاعتبار ، كلحاظ مرتبة إنشائه والاعتقاد به والعمل به أو غير ذلك ، وليشمل جميع من يدعو إلى كتاب الله علما وعملا على مرّ العصور.

الخامس : يستفاد من قوله تعالى : (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) ، أن سبب التولّي عن الحقّ وعدم الإيمان به إنما هو الإعراض المتمكّن في نفوسهم ، الذي صار عادة لهم في نبذ كلّ دعوة إلى الحقّ ، وأن سبب هذا الإعراض إنما هو الجهل المركب الناشئ من اختلال الطريقة وفساد العقيدة والعصبية والافتراء على الله تبارك وتعالى ، كما تقدّم في الآيات المباركة السابقة.

السادس : إنما أضاف سبحانه وتعالى الجمع إلى نفسه في قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ) لانحصاره به عزوجل فقط ، وأن ذلك تحت قدرته تعالى.

كما أنه أتى بالمجهول في قوله تعالى : (وَوُفِّيَتْ) ، لبيان أن الجزاء إنما هو نتيجة أعمالهم الحاصلة من كسبهم ، وأنه معلول نفس العمل بلا مدخليّة شيء آخر.

السابع : يستفاد من قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) ،

١٧٠

أهمية ذلك اليوم والتهويل فيه من جهات :

منها : نفس الجمع الذي تدهش منه العقول واستيلاء الحيرة على الناس والذهول.

ومنها : أن ذلك اليوم لا ريب فيه ، فهو من الأمور التكوينيّة الذي لا بد من المصير إليه ويعمّ الجميع.

ومنها : إضافة الجمع إليه سبحانه وتعالى ، التي يستفاد منها كمال هيمنته عليه الدالّة على عظم الفعل والصنع.

الثامن : يستفاد من قوله تعالى : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ، كمال العدل في ذلك اليوم ، فهم مع ظلمهم لا يظلمون في النقص من الأعمال والجزاء ، فلا ينقص من إحسان المسيء ولا يزاد على إساءته ، وهو يدلّ على نفي الظلم عنه عزوجل ، ويدلّ عليه البرهان العقلي أيضا ، وسيأتي في الموضع المناسب التفصيل إن شاء الله تعالى.

التاسع : تدلّ هذه الآية وأمثالها ـ مع اختصارها ـ على ثبوت المعاد ، وعلى كيفيّة الجزاء ، وقد دلّت على كلّ واحد منهما الأدلّة العقليّة.

بحث روائي :

في أسباب النزول : عن السدي في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) : «دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله اليهود إلى الإسلام ، فقال له النعمان بن أدفى : هلم يا محمد نخاصمك إلى الأحبار ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : بل إلى كتاب الله تعالى ، فقال : بل إلى الأحبار ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وفي الدر المنثور : عن ابن عباس قال : «دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بيت المدارس على جماعة من اليهود فدعاهم إلى الله ، فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد : على أي دين أنت يا محمد؟ فقال : على ملّة إبراهيم ، قالا : إنّ إبراهيم كان يهوديّا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فهلمّوا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم ، فأبيا عليه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية».

١٧١

وعن الكلبي : أن الآية نزلت في قضية اللذين زنيا من خيبر ، وسؤال اليهود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن حدّ الزانيين.

أقول : هذه الروايات قاصرة الدلالة ، مضافا إلى ضعف إسنادها ، وسيأتي الكلام في الرواية الأخيرة في قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ) [سورة المائدة ، الآية : ١٥].

بحث أخلاقي :

الغرور : هو استعظام النفس أو عمل من أعمالها أو صفة من صفاتها ، بحيث يوجب قصر النظر وانحصاره في ذلك وقطعه عن خالقه ومدبره ومديره ، وهو من مبادئ الشرك ، بل نفسه لدى النفوس القدسية ، قال تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [سورة يوسف ، الآية : ١٠٦].

والغرور رذيلة من الرذائل الخلقيّة ، بل يمكن أن يسمّى بأم الرذائل والخبائث.

وقد استعملت مادة (غرر) في القرآن الكريم في موارد شتّى مقرونة بالذم ، قال تعالى : (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) [سورة الإسراء ، الآية : ٦٤] ، وقال تعالى : (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) [سورة الملك ، الآية : ٢٠] ، ويكفي في ذم الغرور أن الدنيا تسمّى بمتاع الغرور ، قال تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) [سورة الحديد ، الآية : ٢٠] ، لأنها من مراتع الشيطان ، وهو يوجب الحرمان عن جملة من مكارم الأخلاق والبعد عن ساحة الرحمن.

وإذا لا حظ المغرور نفسه رأى أنه ممكن من الممكنات ، وحقيقة الممكن هي العدم المحض بالنسبة إلى ذاته ، وإنما يكون له حظ من الوجود من حيث الإضافة إلى جاعله وخالقه بحسب ما قدر له ، فهو الربّ المدبّر لأحواله وجميع شؤونه وإضافاته وخصوصياته ، وأن ما يحصل له يكون في معرض الزوال ، فهو لا حول له ولا قوة له إلّا بالله العليّ المدبّر العظيم ، فلا يبقى موضوع للغرور ، وما يعتقده

١٧٢

المغرور إنما هو وهم وخيال ، ومن نشأ في عالم الأضداد ودار الكون والفساد وتزاحم الآراء واختلاف الأهواء مع غلبة مشيئة العزيز الجبّار ، كيف يصلح له أن يغتر بشيء؟ وكيف يرى شأنا لنفسه من نفسه ، فإنه من أعظم أنواع كفران المنعم ونسيان النعمة والانهيار في الهاوية ، وهذه من المقامات التي تحط دونها الرحال وتزل فيها أقدام الرجال.

وينحصر علاج هذا الداء العظيم المهلك بالتفكّر في عظمة الله تعالى وفناء الدنيا وما فيها ، والتفكّر في الحوادث الواقعة بين أيدينا ، وبعد التأمّل في جميع ذلك يزول الغرور لا محالة ، كما نرى في حالات الأنبياء والأولياء وعباد الله المخلصين ، فإنهم لا يرون لأنفسهم شأنا إلّا بإضافة أنفسهم إلى الله تعالى ، قال علي عليه‌السلام : «كفى بي فخرا أن أكون لك عبدا ، وكفى بي عزّا أن تكون لي ربّا» ، وقد سأل شخص مولانا الباقر عليه‌السلام : «أنت من علماء أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ فقال عليه‌السلام : لست من جهالها» ، وفي الصحيفة الملكوتيّة السجاديّة : «اللهم لا ترفع لي درجة عند الناس إلا حططتني عند نفسي مثلها» ، وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام في الغرور ونواحيه إن شاء الله تعالى.

١٧٣

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧))

الآيتان من جلائل الآيات القرآنيّة تبيّن عظمة الباري جلّ شأنه وهيمنته وجبروته ، وسيطرته على جميع الموجودات سيطرة ملكوتيّة ، عمّت تمام المخلوقات بجواهرها وأعراضها وجميع اضافاتها وتبدّلاتها وحالاتها. وهما تبعثان في نفس المخاطب عظمة الله سبحانه وتعالى وكبرياؤه وتمام قدرته. فهو القائم على شؤون خلقه والمالك الذي يتصرف في ملكه كيف يشاء ، لا يعجزه شيء وهو العليم بأسرار خلقه والمدبّر لهم تدبير حكمة.

والآية المباركة تبيّن سرّ الوحدة الحقيقيّة التي ظهرت في أعيان التكثّرات ، وأنها بدت من الواحد بالذات والصفات.

وفيها تلقين للعباد كيفية التمجيد والثناء والابتهال ، يتّحد فيه الداعي والمدعو والدعاء فهو الله بالتحقيق والركن الوثيق والجار اللصيق ، كلّ ذلك بأسلوب رفيع ونظم بديع ونسق لطيف.

التفسير

قوله تعالى : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ).

خطاب (قل) موجّه إلى سيد الأنبياء باعتبار وجوده الجمعي وواسطة الفيض وغاية الإفاضة ، ليشمل جميع ذوي العقول والروحانيين ، بل يصحّ الشمول للجمادات أيضا ، لأن خطابات الله المقدّسة بالنسبة إلى الحقائق التكوينيّة شاملة للجميع ، كما في قوله تعالى : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا

١٧٤

طائِعِينَ) [سورة فصلت ، الآية : ١١] ، مع أن الخطاب عدم لجميع الممكنات ، يصحّ أن يكون لفظه أيضا كذلك.

اللهم : أصله «يا الله» ، والميم المشدّدة عوض عن حرف النداء (يا) ، ولا يجتمعان إلّا شاذا كما في قول الراجز :

إني إذا ما حدث ألما

أقول يا اللهم يا اللهما

وقال آخر :

وما عليك أن تقولي كلّما

صلّيت أو سبّحت يا اللهم ما

ومادة (ملك) تأتي بمعنى الاستيلاء والسلطنة ، وهما قد يكونان حقيقيتان ، وهي عبارة : عن الاستيلاء على الشيء من كلّ جهة إيجادا وإبقاء وافناء وربوبيّة ، وتصويره بكلّ صورة شاء وأراد. وهذا القسم مختصّ بالله سبحانه وتعالى ، فإنه مالك لجميع خلقه ملكيّة حقيقيّة من كلّ جهة يفرض فيها.

واخرى : اعتباريّة تدور مدار اعتبار العقلاء ، نحو ملكية الإنسان للأشياء التي تقع تحت استيلائه ، وفي الحديث : «أملك عليك لسانك» ، أي لا تجرّه إلّا بما يكون ذلك لا عليك ، وهذه الملكيّة الاعتباريّة تدور مدار اعتبار المعتبر ، وقابلة للتغيير والتبديل والزوال.

وهذا القسم يلازم القسم الأوّل دون العكس. فيصحّ اعتبار هذه الملكيّة بالنسبة إلى الله عزوجل بالأولى ، لأن كلّ وصف ممكن لا يستلزم من إطلاقه النقص بالنسبة إليه عزوجل ، فيصحّ وصفه به ، قال تعالى : (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) [سورة النور ، الآية : ٣٣] ، وقال تعالى : (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) [سورة التغابن ، الآية : ١] ، ويصحّ انتزاع هذه الملكيّة الاعتباريّة عن الملكية الحقيقيّة. وبها تنظيم الأغراض العقلائيّة الفرديّة والاجتماعيّة.

ثم إنّ الملكيّة الاعتباريّة ..

تارة : تكون بوضع من الله تعالى ، كملكيّة الإنسان لنفسه وأجزائه وتصرفاته السائغة في بدنه ، بحسب التكوين والتشريع.

١٧٥

واخرى : تكون بوضع واعتبار من العقلاء كما ذكرنا ، وأما بالنسبة إلى ملكيّة المولى للعبد ، فإنه لا ريب في كونها من الملك (بالكسر) الاعتباري ، لصحّة هذا الاعتبار عند الجميع ، وأما كونها من الملك (بالضم) ففيه منع ، إذ لا يعتبر العقلاء بين المولى والعبد الملوكيّة والرعيّة.

والملك (بالضم) اسم لما يملك ويتصرّف ، وإنه على قسمين أيضا ، ملك حقيقي وهو التصرّف في شؤون الرعية تصرفّا حقيقيّا بكلّ ما يريد من غير مزاحمة ولا معارضة ، وهو مختصّ بالله تعالى أو ما يمنحه الله عزوجل لبعض أنبيائه وأوليائه ، فهو جلّت عظمته خالق كلّ شيء ومالكه ، وله الربوبيّة العظمى العامّة والقيوميّة المطلقة ، قال تعالى : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) [سورة فاطر ، الآية : ١٣] ، فيرجع إلى الملك (بالكسر) الحقيقي وملازم له ، ويصحّ أن يعبّر عنه بأنه ملك في ملك.

واخرى : ملك (بالضم) اعتباري اعتبره الاجتماع ، مثل ملوك أهل الأرض الّذين يتسلّطون على جماعة من الناس ويتصرّفون فيهم تصرّفا يصلح بها شؤونهم. وبعد فرض أنه تعالى خالق لجميع الممكنات وموجدها من العدم ومبقيها ومفنيها ، وبيده تدبيرها وتربيتها ، وهو الربّ على الإطلاق والقيوم كذلك ، فهو مالك وملك ومليك ، وجميع هذه الإطلاقات من لوازم الفرض الذي فرضناه. وقد ورد جميع ذلك في القرآن الكريم أيضا قال تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٥٥] ، فقد أثبت الملكية لنفسه ، وقال تعالى : (مَلِكِ النَّاسِ) [سورة الناس ، الآية : ٢] ، الذي أثبت الملوكية لنفسه ، وقال تعالى : (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [سورة القمر ، الآية : ٥٥] ، حيث أثبت المالكيّة والملوكيّة لنفسه الأقدس ، فثبت قول جمع من الفلاسفة المتألّهين من أن بسيط الحقيقة من كلّ جهة يتّصف بكلّ شيء لا يستلزم النقص فيه ، وتقدّم بعض الكلام في سورة الحمد [سورة الحمد ، الآية : ٤] ، فراجع.

ومن ذلك يظهر أن الملك في الآية الشريفة هو الأعم من الحقيقي

١٧٦

والاعتباري في الملك (بالكسر) والملك (بالضم) ، ويبيّن ذلك بقية الآية الشريفة ، أي قوله تعالى : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) ، لأنّ مالكيّته تعالى للملك تستلزم مالكيّته لما يتسلّط عليه كلّ مالك وملك.

كما أنه يمكن أن يكون المراد بالملك طبيعته وذاته ، أي ما يصحّ أن يقع تحت الاستيلاء ، فيشمل جميع ما سواه عزوجل وجودا أو عدما ، فإن قسما من الأعدام أيضا داخلة تحت ملكه وسلطنته ، فهو مسلّط على إيجاد المعدوم وإعدام الموجود ، ويبيّنه ما بعده أيضا ، فتكون هذه الآية الشريفة شارحة لقوله تعالى : (لَهُ الْمُلْكُ) [سورة التغابن ، الآية : ١] ، وقوله تعالى : (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) [سورة الملك ، الآية : ١] ، ونحو ذلك.

وإنما عبّر سبحانه وتعالى بلفظ الملك دون غيره لإظهار معنى التسخير ، فكما أن المملوك مسخّر تحت إرادة المولى ، كذلك تكون جميع الممكنات بالنسبة إليه عزوجل ، وهذا المعنى ظاهر من سائر الآيات الشريفة.

قوله تعالى : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ).

مادة (نزع) تأتي بمعنى إخراج الشيء وقلعه عن محلّه ومقره ، كنزع الثوب عن البدن ، قال تعالى : (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما) [سورة الأعراف ، الآية : ٢٧] ، وقال تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) [سورة الحجر ، الآية : ٤٧] ، وقال تعالى : (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٠٨] ، وقال تعالى : (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) [سورة النازعات ، الآية : ١] ، والملك في المقام هو مطلق السلطنة والاستيلاء ، وقد ذكرنا أن المراد به طبيعته وذاته ، وهو ما يصحّ أن يقع تحت الاستيلاء والسلطنة ، ليشمل جميع الممكنات القابلة للوجود والإيجاد ، فيشمل الملك (بالضم) والملك (بالكسر) ، والنبوّة ، إذ هي ملك ايضا ، قال تعالى : (وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) [سورة النساء ، الآية : ٥٤] ، فإن جميع ذلك واقع تحت سلطان الله تعالى وإرادته المقدّسة ، وهي من مواهبه وعطاياه التي يمّن بها على من يشاء من

١٧٧

خلقه ويمنعها عمّن يشاء منهم ، وقد بنى الله تعالى النظام التكويني والتشريعي والاجتماعي على الملك ، وهو محبوب لدى المجتمع الإنساني تستقيم به حياتهم في النشأتين.

وأما ما يترتب عليه من الآثار السيئة ، فهي ترجع إلى كيفية إعماله والاستفادة منه ، دون أصله الذي هو محبوب كما ذكرنا ، وبه يقع الامتحان والابتلاء ، قال تعالى حكاية عن سليمان : (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [سورة النمل ، الآية : ٤٠].

وإنما علّق سبحانه وتعالى الإيتاء والنزع على المشيئة ، لبيان أن العباد غير مجبورين على ذلك على نحو الحتم والقضاء المبرم ، بل لإرادة العباد وأعمالهم المدخلية فيهما ، فجميع أعمال العباد الصادرة منهم منسوبة إليهم ، كما أنها منسوبة إلى الله تعالى ، كلّ منهما على نحو الاقتضاء لا العلّيّة التامّة.

نعم ، له عزوجل ألطاف وتوفيقات خاصة بالنسبة إلى المستفيض إن كان من أهل الصلاح والتقوى وإقامة العدل ، فيعطيه الله الملك لإقامة العدل والإصلاح بين العباد ، قال تعالى : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) [سورة الحج ، الآية : ٤١] ، وليس لغير أهل التقوى هذا التوفيق واللطف الخاص ، ولكنّه تعالى يقدّر الملك لمثل هؤلاء تنظيما للنظام والامتحان والاختبار وإتماما للحجّة ، قال تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) [سورة الأنعام ، الآية : ٦] ، وقال تعالى : (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ* قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)

١٧٨

[سورة يونس ، الآية : ٨٨ و ٨٩] ، كما أن في التعليق على المشيئة إشارة إلى أنه تعالى غير مجبور في أفعاله ، وإن كانت تجري وفق المصلحة والحكمة التامّة.

قوله تعالى : (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ).

مادة (عزز) تأتي بمعنى المنيع الذي لا ينال ولا يغالب ولا يعجزه شيء ، فيكون صعب المنال. وبهذه العناية يطلق على الشيء النادر الوجود أنه عزيز ، وفي المأثور : «إذ أعزّ أخوك فهن» ، أي إذا غلبك ولم تقاومه ، فلن له.

ومن أسمائه تعالى (العزيز) ، أي الغالب القوي الذي لا يغلب ولا يعجزه شيء ، كما أن من أسمائه تعالى (المعزّ) ، أي واهب العزّة لمن يشاء من عباده ، وقال تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [سورة التوبة ، الآية : ١٢٨] ، أي صعب وشديد عليه ، وقال تعالى : (وَعَزَّنِي) [سورة ص ، الآية : ٢٣] ، أي غلبني.

والعزّة والذلّة متقابلان ، فالذليل هو الذي يغلب عليه ويعجزه كلّ شيء ، سواء كان بالقهر وبلا اختيار ، كقوله تعالى : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) [سورة البقرة ، الآية : ٦١] ، وقال تعالى : (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) [سورة الإنسان ، الآية : ١٤] ، وفي الحديث : «اللهم اسقنا ذلل السحاب» ، أي ما لا رعد فيه ولا برق. أم بالاختيار ، قال تعالى : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ) [سورة الإسراء ، الآية : ٢٤] ، وقال تعالى : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [سورة المائدة ، الآية : ٥٤] ، وقال تعالى : (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) [سورة النمل ، الآية : ٣٤].

ومن أسمائه تعالى : «المذل» ، أي هو الذي يلحق الذلّ بمن يشاء من عباده وينفي عنه أنواع العزّة.

وهما من الأمور التشكيكيّة التي لها مراتب كثيرة ، وهما اما دنيوية أو اخروية أو هما معا ، والعزّة أعمّ من الملك ، وهي قد تكون حقيقيّة ، وهي التي يمنحها الله تعالى لعباده المخلصين وأوليائه المقرّبين ، قال تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [سورة المنافقون ، الآية : ٨] ، وقد تكون وهميّة خياليّة تابعة للملك

١٧٩

والسلطنة ، وهي إن كانت عزّة ظاهرا ولكنّها ذلّة في الحقيقة والواقع ، قال تعالى : (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [سورة النساء ، الآية : ١٣٩].

ويستفاد من الآية المباركة تلازم العزّة والذلّة خارجا ، لأن عزّة كلّ فرد تلازم ذلّة آخر ، كالعكس أيضا كما نراه بالعيان.

ثم إن العزّة والذلّة لا تختصّان بمورد واحد ، فقد تكون العزّة في أشياء كثيرة والذلّة كذلك ، فربّ عزيز من جهة ذليل من جهة اخرى ، وربّ ذليل من ناحية هو عزيز من ناحية اخرى ، وإعطاء العزّة والذلّة لعباده من شؤون ربوبيّته العظمى ، وكذا بالنسبة إلى جهاتها غير المحدودة بحدّ.

ويصحّ أن يقال : إنّ الممكن في حدّ ذاته الإمكانية ذليل ، أي ليس فيه أي حظ من الخير إلّا ما يمنحه الله تعالى. والكلام في تعليق العزّة والذلّة على المشيئة ما تقدّم في صدر الآية.

قوله تعالى : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ).

اليد تأتي بمعنى الاستيلاء. والمراد بها في المقام القدرة الكاملة والتدبير الكامل الموافق للحكمة البالغة المتعالية ، وبها تقوم جميع الممكنات في النظام الأحسن وينتظم شؤونها ، وهي القوّة القاهرة التي لا بد من انبعاث جميع قوى الموجودات عنها.

والخير ضد الشرّ ، ومعناه كلفظه مرغوب ومطلوب ، والمراد به في المقام حقائق الممكنات بجميع شؤونها وأطوارها ، حدوثا وبقاء ، وهو من الحقائق الواقعيّة التي لها مراتب كثيرة ، متفاوتة جوهرا وعرضا ، اشتدادا وتضعّفا ، هذا بالنسبة إليه تعالى.

وأما بالنسبة إلى الإنسان ، فهو خير اعتقادي بحسب ما يختاره ويقيسه بالنسبة إلى شيء آخر ، أو ما يتحقّق فيه رغبته ومطلوبه ، فقد يكون مطابقا للواقع ، كما في الحديث : «رأيت الجنّة والنار فلم أر مثل الخير والشرّ» ، أي لم أر مثلهما لا يميّز بينهما ، فيبالغ في طلب الجنّة (الخير) والهرب من الشرّ (النار) ، وقد يكون مخالفا

١٨٠