مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٥٩

يردّ أمره ، ويستفاد من الآية المباركة تمام الثناء وكمال التعظيم له عزوجل.

قوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ).

الدين هو الطاعة والانقياد للشريعة ، ويطلق على نفس الشريعة أيضا ، كما يطلق على الملّة والجزاء ، وهو من إطلاق اللازم على الملزوم ، الذي هو من المحسّنات البلاغيّة ، ويستفاد الفرق من الاعتبار والقرائن ، وفي الحديث : «ان الله ليدين للجماء من ذات القرن» ، أي يقتصّ ويجزي.

ومن أسمائه تعالى : (الديّان) ، وهو فعال ، يعني : قهر خلقه على الطاعة ، يقال : «دنتهم فدانوا» ، أي قهرتهم فأطاعوا ، ومنه قولهم للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا سيد الناس وديّان العرب» ، وفي الحديث : «كان عليّ ديّان هذه الامة».

ومادة «سلم» من المواد المحبوبة الممدوحة في أية هيئة استعملت ، وتأتي بمعنى التعرّي عن العيوب والآفات الظاهريّة والباطنيّة ، ويقال للجنة : «دار السلام» ، لأنها دار الإسلام عن العيوب والآفات ، ومن أسمائه سبحانه وتعالى : «السلام» ، لأنه لا يتّصف بما يتّصف به الخلق من العيب والفناء أو الحوادث.

وتأتي بمعنى الانقياد والطاعة والعبوديّة التي تكون حقيقتها الخضوع والانقياد للمعبود ، فتكون كلّ عبوديّة وطاعة لله عزوجل إسلاما ، وكلّ إسلام له عزوجل عبوديّة له ، سواء كانت في القول واللسان ، أم في القلب ، أم في العمل ، أم في الجميع ، وفي الحديث : «ما من آدمي إلّا ومعه شيطان ، قيل : ومعك؟ قال : نعم ، ولكن الله أعانني عليه فأسلم» ، أي : انقاد لي وخضع وقد كفّ عني ، ويمكن أن يكون المراد بإسلام الشيطان في الحديث الشريف تسليمه من كلّ جهة للنبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لفرض انقطاعه صلى‌الله‌عليه‌وآله من كلّ جهة إلى الله تبارك وتعالى ، واستيلاء عقله المقدّس على جميع ما سوى الله تبارك وتعالى ، لأنه العقل الكلّي ، وهو أوّل ما خلقه الله تبارك وتعالى.

وقد اختصّ لفظ (الإسلام) بالغلبة في رسالة خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله وشريعته التي تناسب جميع ما ذكر في معنى الإسلام ، لا سيما بعد قول نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «المسلم

١٤١

من سلم المسلمون من يده ولسانه» ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا : «من غش مسلما فليس بمسلم» ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من بات شبعانا وجاره جائع فليس بمسلم» ، فيكون من استعمال العام في الخاص ، وهو كثير في اللغة والعرف.

والمعنى : أن كلّ دين سماوي تكون فيه العبوديّة لله تعالى يكون إسلاما له عزوجل ، وهو واحد لا اختلاف فيه ، وأن حقيقة الطاعة لله عزوجل والانقياد له تعالى ، وهي روح جميع الأديان الإلهيّة والشرائع السماويّة التي نزلت على الأنبياء ، فيكون الإسلام الحقيقي هو الإذعان والانقياد المساوق للإيمان بالقلب والعمل بالجوارح والأركان ، فيكون العمل بالدين إبقاء للدين وإعلاء لكلمة التوحيد ، وجهادا مع الملحدين.

والآية الشريفة ترشد إلى قضية عقليّة حقيقيّة ، وهي بيان حقيقة الدين التي هي الفطرة السليمة المقرّرة في شرع السماء ، وأن الدين هو الدستور الإلهي والشريعة المتكفّلة لتصحيح نظام الدنيا والآخرة ، وأن العمل به يجلب السعادة للإنسان في الدارين ، لأنه نزل من مشرّع وجاعل حكيم في أفعاله ، عليم بجميع خصوصيات عباده ، مهيمن على دينه وتشريعه ، وهو منحصر في الله تعالى ، فلا بد أن يكون الدين واحدا من حين وجود الإنسان على هذه البسيطة إلى انقراضه عنها ، وهذا هو مقتضى العدل والعلم والحكمة ، فلا موضوع للتعدّد في سلسلة العلل والمقتضيات ، كما لا تعدّد في مرحلة الجزاء والحساب.

والاختلاف في الأديان الإلهيّة إنما هو في بعض التشريعات التي يرجع سببها إلى الاختلاف في مقتضيات الظروف واستعداد الأمم ، ويدلّ على ذلك جملة من الآيات الشريفة ، منها قوله تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [سورة النحل ، الآية : ١٢٣] ، وقوله تعالى : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) [سورة المائدة ، الآية : ١١١] ، هذا إذا عمّمنا الدين ليشمل مجموع الاعتقاد والعمل ـ كما هو الصحيح ـ وإن جعلناه

١٤٢

عبارة عن خصوص الاعتقاد والتوحيد في مقابل الشرك ، فالأمر أوضح.

ويستفاد من سياق الآية المباركة الحصر ، فتدلّ على أن كلّ دين من الله واحد لا اختلاف فيه ، وأنه حق وأن غيره باطل ، وأن فيه الاختلاف ـ كما تقدم ـ وهو يشمل جميع الشرائع والأديان أصلا وعكسا ، وقد دلّت على ذلك الأدلّة العقليّة والنقليّة ، قال تعالى : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً) [سورة الحج ، الآية : ٧٨].

والآية الشريفة دستور إلهي ، تدلّ على تصحيح الاعتقاد والعمل حسب ما يرتضيه الله تعالى ، كما تدلّ بالملازمة على نفي الشرك بجميع أنواعه ، وأن غير الإسلام والطاعة له عزوجل باطل غير مرضي له تعالى ولا أثر له ، وهو لا ينفع الناس في دنياهم وآخرتهم.

ثم إن هذه الآية الشريفة كالتوطئة لما سيأتي من الآيات اللاحقة ، التي يذكر فيها المعاندون والمشركون والكافرون ، فإن كلّ أمر يكون مخالفا لما شهد به الحقّ بالحقّ والملائكة وأولوا العلم ، يكون باطلا ، سواء كان في نظام التكوين أم التشريع ، ويكون مغالطة ولجاجا وزخرفا.

قوله تعالى : (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ).

بغيا : منصوب إما على أنه مفعول لأجله ، أو على الحال من الذين ، والمراد من الذين أوتوا الكتاب هم اليهود والنصارى ، أي : وما كان اختلاف أهل الكتاب في دينهم الحقّ ـ الذي بيّنه الله تعالى لهم على لسان أنبيائه ورسله ـ إلى مذاهب وأهواء ـ مع أن دين الله واحد لا اختلاف فيه ـ إلّا بعد علمهم بحقيقة الدين والحقّ المبين من بعد ما رأوا الآيات الواضحة والدلائل الجليّة.

وهذا الاختلاف لم يكن عن عذر ، بل كان عن بغي وظلم بينهم ، فتمرّدوا على الحقّ وحرّفوا الكتاب وأوّلوه ، فكان أن بغى المنحرفون على المؤمنين الموحدين وتجاوز الرؤساء الحدود ونصروا مذهبا على مذهب ، وضلّلوا من

١٤٣

خالفهم ، فأوقعوا الفتنة ، فكفروا بآيات الله وأنكروا رسالة الرسل.

ويحدّثنا التأريخ ما وقع من الاختلاف الكبير في اليهود والنصارى بعد ما علموا الحقّ وآمنوا به ، ممّا حمل الكثير من اليهود على إنكار التوحيد وتقبّلهم الشرك والوثنيّة ، وحرّفوا التوراة ، كما ذهب النصارى إلى التثليث وتأليه المسيح وإنكار الشريعة.

وفي الآية الشريفة توبيخ شديد لأهل الكتاب وتهديد لهم بما وقع بينهم من البغي الموجب للانتقام ، كما أن الآية المباركة تخبر عن بعض الحقائق التأريخيّة التي وقعت بين أهل الكتاب ، وقد وردت جملة منها في آيات اخرى من القرآن الكريم ، كعبادة العجل ، وقتل الأنبياء ، وتأليه المسيح أو جعله ابنا له تعالى ، وغير ذلك.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ).

المراد من آيات الله الدلائل الواضحة الجليّة ، سواء كانت في الكتاب التشريعي النازل على الأنبياء والرسل أم المعجزات الباهرات الدالّة على توحيد الله تعالى وصدق نبوّات الأنبياء والأحكام الإلهيّة التي نزلت لتهذيب الإنسان واستكماله ، فإن كفرها وجحودها يستلزم إنكار أصل الدين ، ومن جحد تلك الآيات البيّنات الدالّة على توحيد الله ووحدة الدين وأحكامه التكليفيّة الشرعيّة ، فإن الله محاسبهم ومعاقبهم ، والله سريع الحساب في الدنيا باستيلاء الأعداء عليهم وتفريق كلمتهم ، أو في الآخرة بأشدّ العذاب.

قوله تعالى : (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ).

الضمير في حاجّوك راجع إلى ما تقدّم ذكره ، وهم الذين أوتوا الكتاب. ومحاجّتهم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنهم كانوا يدّعون أن الاختلاف معه لم يكن جدلا وبغيا ، بل كان عن استدلال واجتهاد وطلبا للواقع ، وما يدّعيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا من الاجتهاد ، فلا ملزم لقبوله ، وقد كان الجواب عنهم بما يقطع المخاصمة والمجادلة بالتسليم لله تعالى من دون الإعراض عنهم.

وتدلّ الآية الشريفة على أن الاستدلالات مطلقا عقيمة ، لا أثر لها ما لم تنته

١٤٤

إلى الضروريات ، التي هي مبدأ كلّ النظريات ، وهي ستة : الأوّليّات ، والمشاهدات ـ سواء كانت حسيّات أم وجدانيّات ـ والفطريات والتجربيات ، والمتواترات ، والحدسيات ، وقال بعض الأكابر :

ان ضرورياتنا ست وذي

مرجع كلّ النظريات خذي

ومع عدم تحقّق تلك تكون من المغالطة المذمومة ، التي لا يكون للعقل إليها سبيل ، ومحاجّة أهل الكتاب مع الرسول ، بل محاجّة الأمم مع أنبيائهم تكون من هذا القبيل ، فهي تنبئ عن الانحراف وعدم الاستقامة ، وفي مثل ذلك لا بد لأنبياء الله يستقيم البرهان ولا الواجدان مع اعترافهم بالواقع ، بل يكون من اللجاجة التي هي مذمومة ، وفي الحديث : «اللجاجة تمل الرأي» ، أي تذهب به وتزيله.

وتدلّ الآية الشريفة على أدب المحاجّة ، حيث لم يقل سبحانه وتعالى : «فان حاجوك فأعرض عنهم» ، لأن الدعوة عظيمة ولا يليق بها الإعراض أصلا ، فلا بد من التثبّت حتى تحصل النتيجة ، وهي إعلان التوحيد الذي هو أساس التربية الإنسانيّة الكاملة ، فهي محور نظام الدنيا والآخرة.

كما أنها تدلّ على أن التوحيد والتسليم لله تعالى لا يمكن إبطاله ، ولا يمكن نقضه بالمجادلة والمحاجّة ، ولذا أمر سبحانه وتعالى نبيّه والمؤمنين بالتسليم ، فإن الحافظ هو الله تعالى القدير القهّار.

ومن ذلك يظهر وجه الارتباط مع الآية السابقة ، فإنه بعد أن بيّن سبحانه أن الدين واحد ، وهو التسليم لله عزوجل الذي لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه ، وأن جميع الكتب الإلهيّة ترشد إليه ، فلا وجه للمحاجّة فيه ولا حجّة في ما وراء ذلك.

وإنما خصّ سبحانه وتعالى الوجه من بين سائر الأعضاء بالذكر ، لأنّ التسليم بالوجه يقتضي الإقبال على الله تعالى والخضوع لديه والإخلاص له ، وأن إسلام الوجه يستلزم إسلام سائر الأعضاء. ويمكن أن يراد بالوجه الذات والحقيقة من حيث صدور الأفعال الاختياريّة ، فيشمل القلب وجميع الجوارح.

كما أنه تعالى شرك من اتبعه بالإيمان تشريفا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وإعظاما لإيمانهم

١٤٥

وتنويها لمقام التبعيّة ، أي : ومن اتبعني في الإسلام والإخلاص لله تعالى والإقبال عليه.

قوله تعالى : (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ).

الأمي من لا يقرأ ولا يكتب ، فهو على ما ولدته أمه من الجهل ، والمراد من الأميين هم مشركو العرب ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً) [سورة الجمعة ، الآية : ٢] ، وقد سمّوا بذلك في مقابل أهل الكتاب ، كما أن أهل الكتاب كانوا يسمّونهم بذلك ، قال تعالى : (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) [سورة آل عمران ، الآية : ٧٥] ، ووجه الجمع بين أهل الكتاب والمشركين إما لأجل كون الدين مشتركا بينهم والجميع مطالبون بالإيمان به ، أو لأجل أن الأميين كانوا معترفين بالله وإلهيته ، أو لأجل أن دين أهل الكتاب في عصر النزول كان لا يخلو عن الشرك ، ممّا أوجب اشتراكهم مع المشركين.

والاستفهام في الآية المباركة للتقرير ، وفيه الأمر بالإسلام.

والمعنى : قل يا رسول الله لليهود والنصارى ومشركي العرب : أسلموا وادخلوا في سلم الله تعالى ، ولا تحاربوه بعد ما جاءكم من البيّنات. وفي الآية الشريفة توبيخ لهم على العناد واللجاج ، والكف عن الإلحاح في المحاجّة مع منكر الضرورة ، كما عرفت.

قوله تعالى : (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا).

أي : فإن دخلوا في السلم وآمنوا بالإسلام فقد خرجوا من الضلال ودخلوا في هداية الله تعالى ، وهذا هو الفوز العظيم.

قوله تعالى : (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ).

أي : وإن أعرضوا عن الإسلام وحادّوا الله ورسوله ، فإنما عليك التبليغ للدين الحقّ والدعوة إلى الله تعالى ، وقد حصل منه البلاغ وأدّاه بأحسن وجه.

والآية الشريفة تدلّ على أن الرسول مبلغ للدعوة الإلهيّة ، وليس له من الأمر في الإيمان والكفر شيء ، بل الحكم في ذلك منحصر في الله تعالى ، قال

١٤٦

عزوجل : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٢٨].

قوله تعالى : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ).

أي : أن الله يعلم ما في الضمائر ومكنونات الصدور ، فهو عالم بمن هو قابل الهداية والتوفيق ، ومن هو غير قابل لذلك ، فيحكم بما تقتضيه حالهم ، وفي ذلك دلالة على إيكال الأمر إليه عزوجل ، فيكون تأكيدا لما سبق.

ولعلّ ختم الكلام بهذه الجملة للإرشاد إلى أن المقام ليس مقام التخويف والتوعيد ، بل مقام الجلب والتأليف ولو بالتأكيد ، ويدلّ على ذلك إتيان لفظ (العباد) الذي يشعر بالرأفة بهم ، فإن عنوان العبوديّة يقتضي كونهم مربوبين له جلّت عظمته.

١٤٧

بحوث المقام

بحث أدبي :

المشهور بين الأدباء أنه إذا ورد قيد في الكلام وكانت قبله امور تصلح لرجوع القيد إلى كلّ واحد منها ، فالقيد للجميع إلّا إذا دلّت قرينة على الخلاف ، سواء كانت داخليّة أم خارجيّة أو مقاليّة ، لفرض صحّة انحلال القيد في الواقع بعدد تلك الأمور ، وهذا من احدى محسّنات الكلام ومن الأمور البلاغيّة ، ففي الآية الشريفة أن قوله تعالى : (قائِماً بِالْقِسْطِ) له معنى الوصفيّة والحاليّة من اسم الجلالة في قوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ) أو من الضمير «هو» في : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ، فيرجع إلى المشهود به في شهادة الملائكة وأولي العلم. ويصحّ أن يتعلّق بوجوده الانبساطي إلى الجميع ، ولا محذور فيه ، وله نظائر كثيرة في اللغة الفصحى.

وتقدّم وجه نصب (بغيا) في قوله تعالى : (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ).

والموصول في قوله تعالى : (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) معطوف على الضمير المرفوع المتّصل في : (أَسْلَمْتُ) ، من غير احتياج إلى التأكيد ، لوجود الفصل بينهما. ويجوز أن يكون مبتدأ والخبر محذوف تقديره : «ومن اتبعن أسلم وجهه الله».

وإنما جاء قوله تعالى : (فَقَدِ اهْتَدَوْا) على الماضي مبالغة في الإخبار لوقوع الهدى لهم وحصوله.

بحث دلالي :

تدلّ الآيات الشريفة على امور :

الأول : أن في قوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ، اتحاد الشاهد

١٤٨

والمشهود به والشهادة ، وفي ذلك ظهرت الوحدة في الكثرة ، والكثرة في الوحدة ، ولا حدّ لمثل هذه الشهادة في العظمة والبهاء والجلالة ، تخرّ لها الكائنات خضّعا سجّدا ، ولا يمكن للعقل أن يدركها ويحدّها بحدّ ، وليس له إلّا الاعتراف بالخضوع والتسليم ، وفيها من الجذبة الروحانيّة وابتهاج الذات ما لا يخفى ، وهي أعظم آية تدلّ على التوحيد ، وبها صارت هذه السورة الحدّ الفاصل بين التوحيد والشرك ، وقد اختصّت هذه الآية بمزية لا توجد في غيرها. وسيأتي في البحث الروائي ما يتعلّق بذلك.

الثاني : يستفاد من إطلاق الآية الشريفة أن الشهادة إنما تكون بالقول وبالفعل وبالذات في التوحيد ثابت في مرحلة الذات والصفات والأفعال ، فإن أفعاله المقدّسة تدلّ على أنه لا إله إلّا هو ، كما تقدّم.

ومن ذلك يظهر بطلان القول أن الشهادة في المقام إنما تحمل على المعنى الاستعاري ، وهو أن وحدة الحاجة في جميع خلقه وجمال النظام يدلّان على وحدة الصانع ، فتكون هذه الوحدة بمنزلة نطقه وإخباره تعالى. واستند في ذلك على أن حمل الشهادة على الشهادة القوليّة يستلزم الدور ، لأن إثبات التوحيد بهذه الشهادة يقتضي أن يكون أمره مستندا إلى النقل دون العقل ، وهو يتوقّف على صحّة وحي القرآن وحيا إلهيا ، وهو متوقّف على التوحيد ، وهو دور.

وجه البطلان أن وحدته تبارك وتعالى ثبتت بالأدلّة العقليّة والبراهين القطعيّة ، لا بمجرّد القرآن. فنقول : وحدته تعالى ثبتت بجميع الكتب الإلهيّة ، مع أن النقل إرشاد محض إلى حكم العقل في جميع المعارف الإلهيّة ، والنقل لا يفيد حكما مستقلا في نفسه وإنما يقرّر حكم العقل.

وإذا ثبتت صحّة الشهادة من الله تعالى ، لأنّه لا يتصوّر في حقّه الكذب والزور ، بل هو منزّه عن كلّ باطل ونقص ، فتكون شهادته حقّا بحقّ وأن إخباره عن الملائكة وأولي العلم حقّ وتثبت شهادتهم.

ويظهر من سياق الآية الشريفة أن التوحيد وهو المقصد الأسنى ، وله من

١٤٩

الأهمية العظمى ، وهو حصن الله الأكبر ، فمن دخله كان آمنا ، على ما تواتر عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث قال : قال تعالى : «كلمة لا إله إلّا الله حصني ، فمن دخل حصني أمن من عذابي». ومقتضى الجمع بينه وبين القيام بالقسط ، أن الإيمان بالتوحيد لا بد أن يكون مع الإيمان بالعدل ، والإيمان بأحدهما دون الآخر يكون إيمانا ناقصا ، فالآية تدلّ على أن العدل من اصول الدين ، فهي تؤيّد مذهب العدليّة ، القائلين بأن العدل أصل من اصول الدين.

الثالث : يستفاد من إخباره تعالى عن الملائكة وأولي العلم أن هؤلاء يشهدون بالتوحيد لعلمهم بعدم شريك له تعالى ، فلو كان له شريك لعلمه هؤلاء ، إذ الملائكة هم وسائط الفيض ، ولهم الأمر في الخلق والتدبير ، وأن أولي العلم بما أنهم يشاهدون الآيات ويستفيدون منها ، يعلمون بأنه تعالى واحد ليس له شريك.

الرابع : إطلاق قوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ) يشمل الجميع كجبرائيل وإسرافيل وعزرائيل الذين هم سادات الملائكة ومدبر والتكوين بأمر من ربّ العالمين ، كما يشمل الكروبيين وحملة العرش الذين يكون علمهم بالوحدانيّة من الإفاضة الغيبيّة إليهم ، ومن تجلى الوحدة المطلقة لديهم.

الخامس : تدلّ الآية الشريفة على فضل العلم وأهله ، وأنهم أمناء الله تعالى في خلقه ، إذ جعل شهادتهم قرين شهادته ويا لها من عظمة وبهاء وكبرياء.

السادس : تكرار قوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) يدلّ على أن الأوّل لأجل توحيد الذات ، والثاني لأجل بيان توحيده في الأفعال وقيامه بالعدل في مخلوقاته ، وهو توطئة لقوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) ، من أن الدين واحد لا اختلاف فيه.

السابع : يدلّ قوله تعالى : (قائِماً بِالْقِسْطِ) على بطلان الجبر والتفويض ، لكونهما خلاف القيام بالقسط الذي هو الأمر بين الأمرين ، كما أنه يدلّ على عدم جواز الظلم بالنسبة إليه تبارك وتعالى ، كما هو مذهب العدليّة.

وإنما عبّر بالقسط لأنه العدل الظاهر الذي لا يمكن جهله ، بخلاف العدل فإنه

١٥٠

قد يخفى ، ولذا سمّي الميزان قسطا ، لأنه يظهر العدل في الوزن.

فالقسط النصيب ، فإذا أعطى كان إنصافا وعدلا ، وإذا منع كان جورا كما في قوله تعالى : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) [سورة الجن ، الآية : ١٥].

الثامن : يظهر من سياق الآية الشريفة أن منشأ القيام بالقسط هو الشهادة بالوحدانيّة ، ولا بد أن تكون كذلك ، لأن في الوحدانيّة الحقّة تنطوي جميع المعارف الحقّة.

التاسع : يدلّ قوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) على أنه لا بد للإنسان من منهج في حياته ، وهو الذي يتكفّل جميع جهاته التكوينيّة والتشريعيّة ولا يمكن التخطّي والإعراض عنه ، وأنه لا بد من الخضوع والانقياد لله تعالى الذي هو رأس كلّ كمال.

كما أنه يدلّ على أن أساس النظام هو الدين ، وأن الانقياد بدونه فاسد ومخل بالنظام ، فهذه الآية الشريفة من أعظم الآيات الدالّة على أن لا بد للإنسان من منهج يقوّمه ودستور ينظم به شؤون حياته ، وهذا هو مقتضى الفطرة أيضا ، ولذا كانت القضايا الواردة في هذه الآية من القضايا الفطريّة الحقيقيّة.

العاشر : يستفاد من الآية الشريفة أن المشركين في الذات كالثنويّين ، أو في المعبود كالوثنيّين أو في العبادة كالمرائين ، لا حظّ لهم من هذه الآية الكريمة.

الحادي عشر : يدلّ قوله تعالى : (بَغْياً بَيْنَهُمْ) على أن الإنسان لا بد له من الإذعان بما تبيّن له من المعارف الإلهيّة ، والعمل بها والوقوف عند ما لا يعلمه ، وقوف تسليم ، وأن خلاف ذلك يكون من البغي ، كما يستفاد أن كلّ خلاف واختلاف إنما يكون لطلب الاستيلاء والظلم على كتاب الله والمعارف الحقّة.

الثاني عشر : يدلّ قوله تعالى : (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) على النهي عن اللجاج والمراء مع منكر الضرورة ، وأنه لا ثمرة فيه إلّا الجدال والخصام ، كما أنه يدلّ على أن الرسول ليس له في أمر الهداية والضلالة شيء ، بل هو مبلّغ كما ذكرنا.

١٥١

بحث روائي :

فضل الآية :

قد عرفت أن قوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ) ، يشتمل على أعظم شهادة تدلّ على وحدانيّته وكماله في خلقه وأفعاله ، ولعظم ما تضمّنته الآية الشريفة صارت من أعاظم الآيات ، وقد ورد في فضلها بعض الروايات.

روى يعقوب بن شعيب عن الصادق عليه‌السلام : «لما أمر الله هذه الآيات أن يهبطن إلى الأرض تعلّقن بالعرش ، وقلن : يا رب أين تهبطنا إلى أهل الخطايا والذنوب؟! فأوحى الله تعالى اهبطن ... وهي ام الكتاب ، وشهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة ، وأولوا العلم ، وآية الكرسي ، وآية الملك.

أقول : تقدّم ذكرها في آية الكرسي ، ورواها الديلمي عن أبي أيوب الأنصاري ، مرفوعا باختلاف يسير.

وروى ابن عدي والطبراني والخطيب وابن النجار ، عن غالب بن قطان ، عن الأعمش ، عن أبي وائل بن عبد الله : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يجاء بصاحب هذه الآية يوم القيامة فيقول الله تعالى : عبدي عهد إلي عهدا وأنا أحقّ من وفّى بالعهد ، أدخلوا عبدي الجنّة».

وفي المجمع : عن الزبير بن العوام : «قلت : لأدنونّ هذه العشية من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وهي عشية عرفة ـ حتّى اسمع ما يقوله ، فحبست ناقتي بين ناقة رسول الله وناقة رجل كان إلى جنبه ، فسمعته يقول : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ـ الآية ـ فما زال يردّدها حتى رفع».

تفسير الآيات :

في تفسير العياشي : عن جابر ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ

١٥٢

أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ) ، قال أبو جعفر عليه‌السلام : «شهد الله أنه لا إله إلّا هو ، فإن الله تبارك وتعالى يشهد بها لنفسه ، وهو كما قال. فأما قوله : والملائكة ، فإنه أكرم الملائكة بالتسليم لربّهم وصدقوا وشهدوا كما شهد لنفسه ، وأما قوله تعالى : (وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ) ، فإن أولي العلم الأنبياء والأوصياء ، وهم قيام بالقسط ، والقسط هو العدل».

أقول : أما جهة إكرام الملائكة ، لأنه تعالى ذكرهم بعد نفسه الأقدس ، وأما التسليم لربّهم ، فلا ريب في أن المجرّدات مطلقا خاضعة خضوعا تكوينيّا لله جلّ جلاله ، لذاته ولجميع صفاته ، خصوصا لوحدانيّته تعالى ، وقد تقدّم أنّه جلّت عظمته يتجلّى لهم بوحدانيّته ، فتكون شهادة الملائكة بالتوحيد بتجلّيه تبارك وتعالى لهم بتلك الصفة ، ولو لوحظ مراعاة الاصطلاح تكون شهادتهم من عين اليقين ، فضلا عن حقّ اليقين.

وأما قوله عليه‌السلام : «وهم قيام بالقسط» ، فهو من ذكر المصدر من باب المبالغة في التعبير ، والاختصاص للقيام بالقسط بخصوص أولي العلم ، بل يشمل الملائكة أيضا ، وقد أثبتوا في العلوم الأدبيّة أن الوصف لا مفهوم له. وأنّ ذكر الأنبياء والأوصياء من باب ذكر أهم المصاديق البشريّة.

في تفسير العياشي ـ أيضا ـ : عن محمد بن مسلم ، قال : «سألته عن قوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) ، فقال : الدين فيه الإيمان».

أقول : لا ريب أن للإسلام مراتب كثيرة ، قال سبحانه وتعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [سورة الحجرات ، الآية : ١٤] ، ومعلوم أن مجرّد الذكر اللفظي لكلمة التوحيد مع عدم الاعتقاد القلبي به ، وعدم العمل بمقتضياته ، يصحّ سلب الإيمان والإسلام والتوحيد عنه ، كما هو ظاهر كثير من السنّة المباركة.

نعم ، لذلك أثر خاص وهو حفظ الدماء والعرض والمال صونا للجامعة الإسلامية.

١٥٣

عن ابن شهر آشوب ، عن الباقر عليه‌السلام في قوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) قال عليه‌السلام : «التسليم لعلي ابن أبي طالب بالولاية».

أقول : هذا من باب بيان أحد المصاديق ، والمراد العمل بما أتى به عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

في تفسير القمّي عن علي عليه‌السلام : «لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي ولا ينسبها أحد بعدي ، الإسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين ، واليقين هو التصديق ، والتصديق هو الإقرار ، والإقرار هو الأداء ، والأداء هو العمل ، والمؤمن من أخذ دينه عن ربّه ، إن المؤمن يعرف إيمانه في عمله ، وإن الكافر يعرف كفره بإنكاره ، يا أيها الناس دينكم دينكم ، فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره ، إن السيئة فيه تغفر وان الحسنة في غيره لا تقبل».

أقول : أما قوله عليه‌السلام : «لأنسبن الإسلام» ، يعني أبيّن نسبة الإسلام ، وأنه منسوب إلى الله تبارك وتعالى بمبدئه ومنتهاه ، ولا يمكن أن ينسب الإسلام بغير هذا أحد من الناس.

وأما قوله عليه‌السلام : «الإسلام هو التسليم» ، هذا من باب بيان معناه الاشتقاقي ، وفي ذلك تنطوي امور كثيرة ، أي : التسليم باللسان والجنان والعمل بالأركان.

وأما قوله عليه‌السلام : «والتسليم هو اليقين» ، هذا من باب تفسير الملزوم وإرادة اللازم ، لأنه لو لم يتيقّن الشخص بشيء لا يسلم نفسه إليه.

وأما قوله عليه‌السلام : «واليقين هو التصديق» ، هذا من باب ذكر أحد المتساويين بالآخر ، توضيحا للمقصود ، لأن كلّ تصديق بقضية يوجب اليقين بمفادها ، وكلّ يقين في قضية يستلزم التصديق بها ، كما هو معلوم.

وأما قوله عليه‌السلام : «والتصديق هو الإقرار» ، هذا مثل سابقه يكون من باب تفسير أحد المتساويين بالآخر ، توضيحا وتأكيدا.

وأما قوله عليه‌السلام : «والإقرار هو الأداء» ، المراد بالأداء الالتزام القلبي بالعمل بما أقرّ به ، بحيث يترتّب عليه العمل ، فيكون تمام قوله عليه‌السلام شرحا لحقيقة الإسلام بمراتبها القوليّة والاعتقاديّة والعمليّة.

١٥٤

وأما قوله عليه‌السلام : «والمؤمن من أخذ دينه عن ربّه» ، فهو كالنتيجة للبيان السابق ، لأن ما كان من الله سبحانه وتعالى مبدءا ومسيرا وينتهي إليه ، لا بد لأن يؤخذ منه فقط ، لأن غيره لا يمكنه ذلك عقلا.

وأما وله عليه‌السلام : «إن المؤمن يعرف إيمانه في عمله ، وإن الكافر يعرف كفره بإنكاره» ، فهو قضية عقليّة دليلها يستفاد من نفس تصوّرها ، لأنه لو لم يكن العمل والقول مطابقين للمعتقد ، فلا أثر لهما أبدا ، فكلّ من نظر إلى عمله وسرّته حسنته وساءته سيئته ، فهو مؤمن كما تطابق عليه الكتاب والسنّة.

وإن الكافر يعرف كفره بإنكاره ، لأن منشأ الكفر ـ مطلقا ـ لا بد أن يرجع إلى إنكار التوحيد وجحده.

وأما قوله عليه‌السلام : «يا أيها الناس دينكم دينكم» ، يعني : الزموا دينكم ثم التزموا به. وهذه الجملة يؤتى بها في مقام التأكيد والتثبيت والتقريب.

وأما قوله عليه‌السلام : «إن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره ... إلى آخر الرواية» ، لأن شرط قبول الحسنة الدين والتقوى ، والمفروض عدم تحقّقهما في الكافر.

في أسباب النزول للواحدي : «لما ظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام ، فأبصروا المدينة قال أحدهما لصاحبه : ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي يخرج في آخر الزمان ، فلما دخلا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عرفاه بالصفة والنعت ، فقالا له : أنت محمد؟ قال : نعم ، قالا : وأنت أحمد ، قال : نعم ، قالا : إنا نسألك عن شهادة ، فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك ، فقال لهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : سلاني ، فقالا : أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله ، فأنزل الله تعالى على نبيّه : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) ، فأسلم الرجلان وصدقا برسول الله».

أقول : هذا من أحد أسباب نزول الآية الشريفة ، ويمكن أن يكون لها أسباب اخرى.

١٥٥

بحث علمي :

من صفات الله تعالى القائم بالقسط ، وهي عين ذاته المقدّسة التي لا حدّ لجلالها وكمالها ، وأنها تدلّ على كماله تعالى في أفعاله ، وتستلزم كثيرا من الصفات العليا ، كالرأفة والرحمة والعدل. والقسط ـ كما مر ـ : هو العدل مع زيادة فيه ، وهي أن القسط يستعمل في موارد العدل الظاهر والحقّ المعروف ، فهو أبلغ من العدل ، كما أن الجور أبلغ في العدوان من الظلم ، فيكون للقسط خصوصية لم تكن في العدل ـ كما تقدّم ـ وإن كانا يتقاربان في المعنى ، كما فسّروه به في كثير من الموارد ، ولكن القسط يستعمل في مورد لا يستعمل العدل فيه ، كما أن الأوّل يعدّى ب «إلى» ولا يعدّى العدل به ، قال تعالى : (أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) [سورة الممتحنة ، الآية : ٨] ، وممّا يدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا) [سورة الحجرات ، الآية : ٩] ، ولا يصحّ أن يكون أحدهما عين الآخر ، إذ التأسيس خير من التأكيد. وفي حديث المهدي عليه‌السلام المروي من الفريقين : «يملأ الأرض قسطا وعدلا ، كما ملئت ظلما وجورا». فيكون القسط أنسب بالشهادة في المقام من العدل. والقائم بالشيء هو المتصدّر والمراعي له ومحقّقه ومجريه. أي المجري ، وأقومها وأنفعها للنظام التكويني والتشريعي والجزائي ، وبها يتحقّق الترابط بين الربّ وعبيده ، وبين أفراد العباد بعضهم مع بعض ، وبه يقع التآلف ، والتحابب بينهم ، كما أن به يضمن المظلوم حقّه ويجازى الظالم لظلمه ، وبه ينتظم النظام ، ولأجل ذلك كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يكرّر هذه الآية في أفضل الأوقات وفي أفضل الأماكن ، فقد ورد أن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يردّدها في عشية عرفة كما مرّ.

١٥٦

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢))

بعد ما بيّن سبحانه وتعالى أعظم شهادة منه جلّت عظمته ، وهي الشهادة بالوحدانيّة ، وذكر جلّ شأنه حقيقة الدين ، وأنه واحد لا اختلاف فيه ، وهو الجامع بين أفراد الإنسان في هدف واحد بالتسليم لوجهه تعالى ، وأن هذا الدين من الفطرة ولا يجهلها أحد ، والاختلاف فيه من البغي والظلم الذي يذكرها كلّ ذي وجدان ، ثم ذكر سبحانه وتعالى محاجّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مع الكفّار ومشركي العرب ، وأمره بالتسليم له تعالى ، وإنما عليه البلاغ ، فلا يضرّه من يكفر ، وفي ذلك تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وفي هاتين الآيتين يذكر اليهود وكفرهم بآيات الله ومحاجّتهم مع آياته سبحانه وتعالى ، وقتلهم أنبياء الله والمؤمنين الموحّدين ، وقد أوعدهم الله بالعذاب الأليم بعد ما أسدلوا على أنفسهم حجبا ظلمانيّة ، تستر الضمائر والبصائر وتظلم القلوب والسرائر فحقّت عليهم الخيبة ، وما لهم من ناصرين ينقذونهم من هذا المصير ويرفعون عنهم العذاب الأليم.

التفسير

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ).

مادة كفر تأتي بمعنى الستر ، قال لبيد :

في ليلة كفر النجوم غمامها

وهي من المواد الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات مختلفة ، وذلك لأنّ من أهمّ مقاصد القرآن العظيم هي الدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك والاختلاف ، وتوجيه الإنسان إلى الكمال المنشود له ، وإزالة العقبات التي تصدّه عن

١٥٧

ذلك ، ومن أعظمها الكفر وجحود الحقّ ، ولأجل ذلك تكرّر ذكرها لإرشاد الناس وتثبيت الحجّة عليهم.

ويطلق الكافر على الزارع ، لأنه يستر البذر تحت الأرض ، قال تعالى : (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) [سورة الحديد ، الآية : ٢٠] ، كما ان ستر النعم كفران لها.

وفي عرف الكتاب والسنّة تستعمل الكلمة في ستر العقائد الحقّة وعدم الاعتقاد بها وجحودها مطلقا ، فإن أظهر الإيمان والاعتقاد وأخفى الجحود فهو (المنافق) ، وإن أظهر كفره بعد إظهار الاعتقاد أو الإيمان فهو (المرتد) ، فإن قال بالشرك في الالوهية فهو (المشرك) ، وإن تديّن أو أعتقد ببعض الأديان الإلهيّة المنسوخة فهو (الكتابي) ، وإن ذهب إلى قدم الدهر وإسناد الحوادث إليه فهو (الدهري) ، وإن كان لا يعتقد بالمبدأ والباري فهو (المعطل) أو الملحد.

والمراد بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) هم اليهود ، بقرينة ما يأتي.

قوله تعالى : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ).

القتل إزالة الروح عن الجسد كالموت ، لكن الثاني يضاف إلى الله تعالى ، والأوّل يضاف إلى الفاعل فكلّ قتل موت ولا عكس ، فالاختلاف بينهما بالاعتبار لا بالذات ، ولفظ (بغير حق) قيد توضيحي ، لا أن يكون احترازيّا ، لأن قتل النبيّين لا يكون إلّا بغير الحقّ ، نظير قوله تعالى : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ) [سورة المؤمنون ، الآية : ١١٧] ، فإن الشرك مع الله سبحانه وتعالى لا يعقل أن يكون مع البرهان.

وذكر هذا الوصف لبيان قبح أعمالهم وبشاعتها وانقطاع العذر عنهم ، بعد عرفان الحقّ وظهوره.

والفعل في المواضع الثلاثة : يكفرون ، ويقتلون في الموضعين ، يدلّ على الاستمرار والثبوت ، أي : أن عادتهم ودأبهم جرت على الكفر بآيات الله تعالى بعد

١٥٨

البيان ، وقتلهم الأنبياء والأولياء والصلحاء والداعين إلى الحقّ والعدل ، ولو بحسب القصد والنية ، وليس لهم شأن إلّا ذلك ، وعلى هذا لا نحتاج إلى تخصيص الجملات الثلاث بالآباء فقط ، بل كلّ من فيه منشئيّة الصراع مع الحقّ يكون داخلا في معنى الآية المباركة ، وهذا ما نعلمه من تاريخ أعداء الإسلام ودين الحقّ ، فإنهم قتلوا الأنبياء ودعاة الحقّ الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، وقد جرت العادة على أخذ الخلف بما فعل السلف ، وقد تقدّم في سورة البقرة ما يرتبط بالمقام ، فراجع.

قوله تعالى : (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ).

تعميم بعد التخصيص ، لأن الأنبياء أيضا يأمرون بالقسط ، لبيان أن هؤلاء لا شأن لهم إلّا الدعوة إلى الحقّ وإقامة العدل اللذين تدعو إليهما الفطرة ، وفيه تشنيع فعلهم وتهييج الفطرة الإنسانيّة واستفزاز الضمير عليهم ، لأنهم فعلوا ما لا يرتضيه الضمير ولا العاقل البصير.

قوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ).

مادة (بشّر) في حاق الواقع بمعنى الإخبار بما يظهر أثره في بشرة الوجه ، كما يشاهد فيمن أخبر بموجب السرور ، فإنه يظهر أثر الفرح في ظاهر الوجه. وفي الإخبار بالشرّ يظهر الهم والغم في ظاهره أيضا. فيصحّ استعمال هذه المادة بحسب واقعها في كلّ من الأخبار بموجب السرور والغم ، من دون مجاز واستعارة.

نعم ، إذا أطلقت اختصّت بما يوجب السرور.

ولو قيل : باختصاص البشارة بالإخبار بموجب السرور ، فيصحّ استعمال البشارة في الغم والحزن أيضا من باب الوصف بحال المتعلّق ، لأن الإخبار يوجب سرور المؤمنين بلا إشكال ، ولم يقم دليل على أنه لا بد أن تكون جميع جهات الإخبار منحصرة في الوصف بحال ذات المخبر عنه فقط ، بل الكلام الفصيح ما كان متكفّلا لجهات شتى ونواح مختلفة من الدلالة والإفادة ، فيكون كالبحر الذي فيضه عميم وأمواجه لا تستقيم ، ويتضمّن الكلام الاستعارة التي تشتمل على الحسن والبلاغة ، كما لا يخفى.

١٥٩

والفاء في قوله عزوجل : (فَبَشِّرْهُمْ) للجواب ، لتضمّن الجملة معنى الجزاء المتفرّع على الجملة السابقة المتضمّنة لمعنى الشرط ، وهو الكفر وقتل النبيّين.

والعذاب : كلّ ما شقّ على الإنسان ومنعه عن مراده ، وكلّ عذاب في القرآن فهو التعذيب ، أي الايجاع ، سواء كان دنيويّا أم اخرويّا ، روحيّا أم جسميّا.

والعذاب في الآية المباركة مطلق ، يشمل الدنيوي منه والاخروي ، وفيه من الدلالة على شمول الغضب لهم واحتوائهم السخط والعذاب ، وهذا قرينة على ما ذكرناه آنفا من تهييج الفطرة عليهم ، وقد أخزاهم الله تعالى في الدنيا فكتب عليهم القتل والجلاء والتفريق وعداء النفوس لهم ، ولهم في الآخرة أشدّ العذاب وأليمه ، كما نطقت به الآيات الكريمة في مواضع متعدّدة.

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ).

الحبط : بطلان العمل وعدم الأجر له ، أي : الّذين كفروا بآيات الله وقتلوا الأنبياء ودعاة الحقّ والعدل ، بطلت أعمالهم في الدنيا والآخرة ، أما بطلان عملهم في الدنيا فلأنهم فعلوا ذلك لإزالة الحقّ وإثبات الباطل ، والله تعالى فعل بهم خلاف ما أرادوه ، فأثبت الحقّ وأزال الباطل وأذاقهم العذاب الأليم ، وأما في الآخرة فلأنهم لا يؤجرون على أعمالهم بشيء ، بل يعذّبون عليها وهم وقود النار.

والآية المباركة تدلّ على أن قتل الأنبياء والأولياء والأوصياء ودعاة الحقّ ممّا يحبط الأعمال.

قوله تعالى : (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ).

أي : من شافعين ، وهذا يدلّ على عدم شمول الشفاعة لهم ، كما تقدّم في بحث الشفاعة في سورة البقرة ، فراجع.

١٦٠