مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٥٩

هو المستفاد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا يزني الزاني وهو مؤمن» ، فله وجه ، لكنّه لا ينافي بقاء أصل الإيمان بنحو الجملة والإجمال.

والوقاية من عذاب النار والنجاة منها أعمّ من المغفرة والدخول في الجنّة ، وإنما طلبوا النجاة من عذاب النار لأنها الوسيلة للوصول إلى الجنّة ومقدّمة له.

قوله تعالى : (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ).

الصابر هو الحابس نفسه عن ارتكاب المعاصي والملازم لامتثال الأوامر ، والصادق المخبر بالشيء على ما هو عليه ، والقانت المطيع ، والقنوت لزوم الطاعة مع الخضوع ، وقد فسّر بكلّ واحد منهما أيضا ، ولكن إذا استعمل في الأنبياء والأولياء وعباد الله المخلصين يراد به هما معا ، قال تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ) [سورة النحل ، الآية : ١٢٠] ، والإنفاق هو بذل ما هو راجح بذله ، فيشمل المال والجاه والعلم وقضاء حوائج الناس ، والأسحار جمع سحر ، وهذه المادة في أية هيئة استعملت تفيد معنى الخفاء والإخفاء. وفي المقام عبارة عن اختلاط ظلام آخر الليل بضياء الفجر ، وهو اسم لذلك الوقت ، وهو أفضل الأوقات وأشرفها وأحسنها للعبادة ، وأطيبها لحضور القلب والإقبال على الدعاء والمناجاة مع الربّ ، وأبعدها عن مداخلة الرياء ، وكلّما قيل في مدحه وفضله فهو قليل ، فكم لله تعالى فيه من نفحة عطرة منّ بها على من يشاء وجائزة موفرة يخصّ بها من أخلص في الدعاء ، وكم من عبادة فيها هبّت عليها نسمات القبول ، ودعوة من ذي طلبة مشفوعة بالمأمول ، فهو وقت العلماء العاملين والعرفاء المتعبّدين ، وهو وقت نجوى الحبيب مع الحبيب ، بلا تخلل مغاير أو رقيب ، فالسعيد من أدرك هذا الوقت الشريف واستفاد من رحمة الربّ اللطيف.

وهذا الوقت من آخره معلوم ، وهو اختلاط ظلام الليل بضياء النهار ، وأما من أوّله ، فعن جمع هو السدس الأخير من الليل ، وعن آخرين أنه الثلث الأخير منه ، وعن آخر أنه الثمن ، والكلّ صحيح بحسب مراتب الفضل ، وقد تعرّضنا لبعض

١٢١

الكلام فيه في كتابنا [مهذب الأحكام] فراجع.

والآية المباركة تشتمل على خمس خصال وصف بها المتّقون ، وهي أمهات الصفات الحسنة والخصال الحميدة والأخلاق الكريمة ، فبالصبر ينال الإنسان أعلى المقامات ويتحلّى بمحاسن الأخلاق ، وبدونه لا يمكن أن يصل إلى درجة التقوى ، ولذا قدّمه سبحانه في الكلام. وإطلاقه يشمل الصبر على الطاعة والصبر عن المعصية والصبر عند المصيبة ، وهو والصدق من أعلى مقامات السالكين إلى الله تعالى وأفضل درجات أهل الحقّ واليقين ، خصوصا إن عمّمنا الصدق ليشمل صدق اللسان والحركات وخطرات الجنان وتطابق الظاهر مع الباطن ، فحينئذ لا يتصوّر للعبوديّة مقام فوق ذلك إن طابق كلّ ذلك مع الشرع المبين واقترن مع الخضوع والتذلّل لله تعالى.

وهذه الخصال الخمس تستجمع جميع الخصال الحميدة والأخلاق الكريمة ، ولا يشذ منها كلّ متّق ، وهي خصال متكاملة تشيد صرح الإنسانية الكاملة وتبلغها إلى أوج السعادة وأقصى الدرجات.

وبالأولى منها ينال الإنسان تلك الصفات والخصال الكريمة التي تعلق بالنفس وتبعدها عن رذائل الأخلاق.

وبالصدق يتحلّى بالصفات التي تتعلّق بالظاهر.

وهاتان الخصلتان ترجعان إلى نفس الإنسان وتصلحان سريرته وعلانيّته.

والقنوت لله تعالى يجعل الإنسان خاضعا ذليلا بين يدي عظمته ، مطيعا لإرادته عزوجل ، وهذه الخصلة تصلح ما بينه وبين الله تعالى.

والإنفاق يبعده عن رذيلة الشح ويجعله يشعر بما يجري على أخيه الإنسان ، فيتحسّس بالمسؤولية ، فهذه الخصلة تصلح بينه وبين الناس.

وأما القيام بالسحر ، فهو ارتباط مع عالم الغيب طلبا منه العون في جميع أموره والاستعاذة من الشيطان والنفس الأمّارة.

والاستغفار بالأسحار هو القيام آخر الليل والصلاة فيه وطلب الرحمة

١٢٢

والمغفرة ، كما فسّرته السنّة المقدّسة بذلك ، وما ورد في الآيات الكريمة بالنسبة إلى السحر على أقسام ثلاثة :

الأول : هذه الآية الشريفة وقوله تعالى : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ* وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ* وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) [سورة الذاريات ، الآية : ١٧ ـ ١٩].

الثاني : قوله تعالى : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة السجدة ، الآية : ١٧ ، ١٨].

الثالث : قوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [سورة الإسراء ، الآية : ٧٩] ، والتهجّد بالليل هو الاستيقاظ بالعبادة من قراءة القرآن والدعاء والصلاة ونحوها من العبادات ، ويستفاد من الجميع مطلوبيّة أصل الاستغفار في خصوص هذا الوقت الشريف ، ولها مراتب كثيرة ، منها أن يكون في الوتر من صلاة الليل ، وهي أفضلها وأشرفها ، ومنها أن يكون في ضمن الدعاء والمناجاة ولو كانا في غير الصلاة ، ومنها نفس كلمة : «استغفر الله ربي وأتوب إليه» ، ومقتضى الإطلاق مطلوبيّة الجميع مع اختلاف المراتب.

والاستغفار بالسحر يوجب التوفيق لترك الذنوب في أثناء النهار ، فيكون سببا لمحو الذنب السابق ، ومقتضيا لترك الذنب اللاحق ، فتستعدّ نفوس المستغفرين في الأسحار بذلك للاستعانة بأنوار الجلال والاستفادة من فيوضات الرحمن التي لم تزل ولا تزال.

١٢٣

بحوث المقام

بحث دلالي :

يستفاد من الآيات الشريفة امور :

الأوّل : يدلّ قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ) ، على أن جميع ما يلهي الإنسان عن ذكر الله تعالى وما يؤثّر في سلوكه في دار الدنيا إنما هي هذه المذكورات في الآية الشريفة ، وهي ردّ على من ذهب إلى أن عواطف الإنسان وأحاسيسه إنما توجّهها الشهوة الجنسيّة فقط ، فهي التي تحدّد سلوكه في حاضره ومستقبله وتوجب الكابة والأمراض النفسيّة أو الجسميّة إن كبتها الفرد ، ولذلك دعى إلى الإباحة الجنسيّة ، وسيأتي في البحث العلمي تتميم الكلام.

الثاني : يستفاد من سياق الآية المباركة أن الفاعل لتزيين المذكورات فيها إنما هو الشيطان الذي يزين أعمال الإنسان ، كما ورد في جملة من الآيات الشريفة القرآنية ، قال تعالى : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) [سورة العنكبوت ، الآية : ٣٨] ، وقال تعالى : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة الأنعام ، الآية : ٤٣] ، فيكون حبّ هذه الأشياء صارفا عن محبّة الله تعالى ما لم يجعلها الإنسان في طريق السعادة والفوز بالفلاح ، ولا ينافي ذلك أن يكون أصل هذه الأشياء وطبايعها من صنع الله تعالى الخالق الحكيم القيوم على خلقه المدبر لهم تدبير علم وحكمة ، فإن من سنّته عزوجل أنه خلق الإنسان حرّا مختارا في أعماله ، وأودع في خلقه بديع صنعه وأرسل الرسل لهداية الناس وأنزل معهم الكتاب والحكمة لسعادتهم ، وقد خلق إبليس الذي يوسوس للإنسان ويصرفه عن طريق الخير والسعادة على نحو الاقتضاء ، كما لم يمنع الإنسان من اتباعه ، كلّ ذلك لئلا يثبت الجبر فيبطل الثواب والعقاب ، ولإتمام الحجّة والامتحان وتمييز المؤمن عن غيره ،

١٢٤

وإثبات التكليف والتشريع وتثبيت قانون الجزاء.

الثالث : أن التزيين على حبّ الشهوات دون نفسها ، للدلالة على أن تلك الأمور بنفسها لم تكن مذمومة ، فإن الشهوات الإنسانية لها دخل في الحياة وبها يتمّ النظام ، ولكن إن تعلّق الحبّ بها بحيث يكون صدّا عن الله تعالى ، فيرجع تزيين حبّها للناس إلى جعل هذه الأمور في أعينهم بحيث يكون شغلهم الشاغل ، والتولية فيها سببا للإعراض عن الله تعالى ، بأن يجعلوها أهدافا لهم فقط لا وسيلة فيكون هذا الحبّ مذموما وتزداد المذمّة كلّما اشتدّ الحبّ ، وتخف كلّ ما خف وضعف حتى يصل إلى مرتبة الحبّ النظامي الذي هو من لوازم الطبيعة الإنسانيّة ووسيلة تنظيم الحياة لكسب مرضاة الله تعالى ، فتزول المذمّة رأسا ، ويكون خلافه نقصا ومذموما ، ويستفاد ما ذكرناه من جملة من الآيات الشريفة ، منها قوله تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) [سورة الأعراف ، الآية : ٣٢] ، وقوله تعالى : (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) [سورة القصص ، الآية : ٧٧] ، إلى غير ذلك من الآيات المباركة ، وعلى ذلك يحمل ما ورد عن المعصومين عليهم‌السلام في مدح بعض المشتهيات ، منها ما عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أحببت من دنياكم ثلاث : الطيب ، والنساء ، وقرّة عيني الصلاة».

الرابع : قد ورد في الآية الشريفة أقسام الشهوات التي تختلف رغبات الناس فيها ـ كما مرّ ـ فهم على أصناف بالنسبة إلى حبّها ، فمنهم من يتعلّق حبّه بالنساء ولاهم إلا التعشّق بهن وصرف همه في المؤانسة بهن ومصاحبتهن ، وإن استلزم المحرّمات ووجوه الفساد ، ومنهم من يحبّ التكاثر والتقوي بالأولاد ، وهذا لا يكون إلا بالبنين دون البنات ، ولهذا خصّ ذكرهم دونهن ، ومنهم من هو مغرم بالمال وجمعه ، وهذا يتحقّق بالذهب والفضة اللذين بهما يتقوّم سائر الأشياء ، ويكون حبّه لغيرهما بالتبع ، ومنهم من يحبّ الحرث والزرع أو اتخاذ الأنعام ، ومنهم من يحبّ الفروسيّة فيتخذ الخيل المسوّمة.

١٢٥

وربما يتحقّق في شخص واحد قسم واحد من هذه الشهوات ، وربما يجتمع أكثر من واحد ، وقلّما يجتمع جميعها في شخص واحد ، فالآية الشريفة مع أنها في مقام بيان تعداد المشتهيات وتكثّرها ، تكون في مقام بيان أصناف الناس واختلافهم في حبّ هذه المشتهيات بالملازمة.

الخامس : يدلّ قوله تعالى : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) ، على أن ما في الآخرة مشابه لما في الدنيا ، وأن الإنسان يلتذّ بنعيم الآخرة كما يلتذّ بنعيم الدنيا من المأكل والمشرب والمناكح وغير ذلك ، وأن الفرق هو أن نعيم الآخرة لا يشوبه نقص وأنه يختصّ بالمؤمن ، بخلاف نعيم الدنيا ، وذلك لأن وجود الإنسان في الآخرة عين وجوده في الدنيا ، فهو بنفسه متقوّم بالاستفادة من اللذائذ دنيويّة كانت أو اخرويّة ، ولكلّ منهما أسباب خاصة تختلف باختلاف العوالم ، وهو لا يوجب الاختلاف بحيث يعرض عن نعيم الآخرة وتكون باطلة وعبثا بالنسبة إليه ، ويدلّ على ما قلناه جميع الكتب السماويّة ، خصوصا القرآن الكريم في مواضع متعدّدة ، ويؤكّد ذلك في قوله تعالى في آخر هذه الآية : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) ، وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام إن شاء الله تعالى.

السادس : يدلّ قوله تعالى : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) ، على نوعين من الجزاء ..

أحدهما : جسماني ، وهو الجنّات التي تجري فيها الأنهار والأزواج الطاهرة.

والثاني : العقلي الروحاني الذي هو من أعظم اللذّات ، وهو رضوان من الله تعالى الذي لا يتصوّر فوقه لذّة.

السابع : يدلّ قوله تعالى : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي) على مراتب الجنّة ، واختلاف درجات أهل الجنّة ، وأنهم على مراتب ودرجات.

الثامن : يستفاد من قوله تعالى : (ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أن هذه الشهوات هي امور دنيئة بالنسبة إلى ما عند الله عزوجل من الرضوان والجنان ،

١٢٦

وأن هذه الشهوات هي امور زائلة وقتيّة ليست مبنيّة على الحقيقة والواقع ، وإنما خلقها الله تعالى لإقامة هذه الحياة الفانية الزائلة وتكوين الاجتماع الإنساني ، وبدونها يعرض الاختلال بل الفناء عليه.

التاسع : إنما قدّم سبحانه وتعالى النساء على جميع الشهوات ، لأنهنّ حرث بني آدم ، وأن شهوة النساء هي أكثر الشهوات إعمالا عند الناس ، وهي من أعظم اللذائذ الجسميّة عند الإنسان ، بل هي الركن الأساس في الحياة ، ولذا ورد في الحديث : «أن من تزوّج فقد أحرز نصف دينه أو ثلث دينه». ولكن ليست هي الركيزة الوحيدة في الإنسان ، كما يدّعيه بعض علماء النفس.

العاشر : إتيان لفظ «الجنات» في قوله تعالى : (جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ، يدلّ على تعدّدها لكلّ واحد من المتّقين ، مجهّزة بكلّ ما يتصوّر فيه من الفرح والانبساط والسرور والراحة ، كما وكيفا ، وذلك لأجل تعدّد موجبات استحقاق الجنان في هذه الدنيا ، كما هو واضح.

الحادي عشر : يدلّ قوله تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ) ، على أن رضوان الله تعالى هو من مشتهيات الإنسان في الدارين ، لأنه إنما يطلب مشتهيات الحياة الدنيا لأجل رضاء النفس بها وراحتها ، فهو من مشتهياته إما بحدّ ذاته ، أو بالملازمة ، ولذا جعله تعالى في مقابل الجنات والأزواج في هذه الآية الشريفة ، وفي مقابل الفضل والمغفرة والرحمة في آيات اخرى ، قال تعالى : (فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) [سورة المائدة ، الآية : ٢].

وقال تعالى : (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) [سورة الحديد ، الآية : ٢٠] ، وقال تعالى : (بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ) [سورة براءة ، الآية : ٢١].

وإنما أطلق سبحانه الرضوان في المقام للدلالة على شموله للنفس ، والصفة ، والفعل وجميع الخصوصيات.

الثاني عشر : يدلّ قوله تعالى : (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ) ، على تفصيل ما أجمله سبحانه في قوله تعالى : (لِلَّذِينَ

١٢٧

اتَّقَوْا). أي أن التقوى إنما تتحقّق بما ذكر في الآية الشريفة ، وهي الإيمان بالله ، وإظهار العبوديّة له عزوجل ، والاسترحام منه تعالى في طلب العفو والغفران ، والصبر على الطاعة وعن المعصية وفي الخطوب ، والصدق في القول والفعل ، والخضوع له عزوجل ، والإنفاق في سبيله تعالى ، وقيام الليل والتهجّد فيه بالاستغفار.

الثالث عشر : إنما قرن سبحانه الاستغفار بالإنفاق في الآية الكريمة ، للدلالة على أن شحّ النفس من أقوى موجبات الحرمان عن قربه عزوجل.

الرابع عشر : إنما أجمل تبارك وتعالى الاستغفار والدعاء في السحر للإشارة إلى كثرة أهمية هذا الوقت ، ولا بد أن لا يفوت فضله على الإنسان بالدعاء وطلب الغفران.

بحث روائي :

في الكافي : عن الصادق عليه‌السلام : «ما تلذّذ الناس في الدنيا والآخرة بلذّة أكثر لهم من لذّة النساء ، وهو قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ). ثم قال : وإن أهل الجنّة ما يتلذّذون بشيء من الجنّة أشهى عندهم من النكاح ، لا طعام ولا شراب».

أقول : رواه العياشي في تفسيره أيضا. والوجه أنه تعالى لم يخلق ألذ من النساء في الجنّة ، لأنهنّ من منشآت الله تعالى مباشرة ، كما قال عزوجل : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً* فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً* عُرُباً أَتْراباً) [سورة الواقعة ، الآية : ٣٥ ـ ٣٧] ، فإنهنّ الجزء الأعظم من النظام الأتمّ كما تقدّم ، ولأنها المؤانسة بما خلق من رحمته جلّت عظمته ، هذا بحسب اللذائذ الجسمانيّة. وأما غيرها ، فله شأن آخر سيأتي في البحث الفلسفي إن شاء الله تعالى.

وفي تفسير القمّي في قوله تعالى : (وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ) قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «القناطير جلود الثيران مملوءة ذهبا».

١٢٨

أقول : رواه في المجمع عن الباقر والصادق عليهما‌السلام أيضا ، وهو من إحدى معاني القناطير المقنطرة ، وتقدّم تفسيرها بالمال الكثير الجامع لجميع ذلك.

وفي تفسير القمّي ـ أيضا ـ : قال عليه‌السلام : «الخيل المسوّمة الراعية والأنعام ، والحرث يعني الزرع».

أقول : تقدّم ما يرتبط بذلك في التفسير.

وفي تفسير العياشي : في قوله تعالى : (فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) ، عن الصادق عليه‌السلام : «لا يحضن ولا يحدثن».

أقول : هذا من مصاديق الطهارة ، وإلا فهنّ طاهرات من كلّ خبث ودنس ورذيلة.

وفي الفقيه والخصال عن الصادق عليه‌السلام : «من قال في وتره إذا أوتر : استغفر الله وأتوب إليه سبعين مرّة وهو قائم ، فواظب على ذلك حتى تمضي سنة ، كتبه الله تعالى عنده من المستغفرين بالأسحار ووجبت له المغفرة من الله تعالى».

وفي المجمع : عن الصادق عليه‌السلام قال : «من استغفر سبعين مرّة في وقت السحر فهو من أهل هذه الآية».

أقول : الروايات في فضل الاستغفار ـ خصوصا في الليل ـ كثيرة جدا تعرّضنا لبعضها سابقا ، ويمكن أن يستفاد وجوب المغفرة من استجابة الله تعالى دعاء المؤمنين في هذه الآية الشريفة : (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا).

بحث فلسفي :

لا ريب في أن كمال العلّة الفاعليّة من كلّ جهة يقتضي كمال العلّة الغائيّة كذلك ، لأن الغاية علّة فاعليّة بوجودها العلمي ، وعلّة غائيّة بوجودها الخارجي ، هذا في غير المبدأ تبارك وتعالى.

وأما في المبدأ عزوجل ، فهو بذاته جاعل وخالق لما سواه ، وهو تعالى بذاته وصفته وفعله حسن ، وبهذا الحسن الذاتي والصفتي والفعلي غاية ومرجع لما سواه ،

١٢٩

فيكون عنده حسن المآب لا محالة ، وإذا كان في البين نقص وفساد وخسّة فإنما هو من مقتضيات اختيار الإنسان ، لا أن تكون بالنسبة إلى المبدأ والمآب ، فما ورد في قوله تعالى : (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) ، إنما هو قضية عقليّة برهانيّة قرّرها الله تعالى في كتابه الكريم ، وليس المراد من لفظ «عنده» الحدّ الخاص من الزمان أو المكان ، بل المراد إحاطته عزوجل بما سواه إحاطة قيوميّة وربوبيّته العظمى حدوثا وبقاء ، وتبديلا إلى كلّ ما يشاء ، وإفناء متى أراد ، فهو الحي القيوم مبدءا ومآبا ، وهو الحيّ القيوم في ما بينهما ، وكلّ ذلك بالنسبة إلى كلّ ما سواه بمعنى واحد.

ثم إن اللذّة إما روحانيّة معنويّة ، أو جسمانيّة ظاهريّة ، والأخيرة متقوّمة بالقوى الجسمانيّة ، بل عن جمع من محقّقي الفلاسفة إنكار أصل اللذائذ الجسمانيّة ، وأنها ليست إلا من دفع الآلام فقط ، وأثبتوا ذلك مفصّلا.

وأما الاولى فهي من أعلى مدارج كمال الإنسان وصعوده وارتقائه إلى عوالم لا نهاية لعظمتها ، وهي شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربّها ، ولا ينالها أحد إلا بالتفاني في مرضاته حتّى يصل إلى درجة البقاء فيه عزوجل ، ولعلّ أحد معاني رضوان الله تعالى يرجع إلى ذلك ، وما ورد في بعض الروايات المتقدّمة من أن النساء أشهى اللذائذ إنما هي باعتبار اللذائذ الجسمانيّة ، بل يمكن أن ترجع تلك اللذّة في الجنّة إلى اللذّة الروحانيّة ، باعتبار كون النساء فيها من صنع الله تعالى مباشرة ، قال تعالى : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً* فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً* عُرُباً أَتْراباً) [سورة الواقعة ، الآية : ٣٥ ـ ٣٧] ، وأما اللذائذ المعنويّة فهي أكبر وأعظم وألذّ بالنسبة إلى بعض الناس.

وهل تكون الشهوات من مختصات هذا العامل بأصولها وفروعها ونتائجها المترتبة عليها ، أو تعمّ الدار الآخرة أيضا لكن بوجه أحسن وأليق يتناسب مع ما في ذلك العالم ، بحيث يكون نسبة ما في هذا العالم إلى ذلك العالم نسبة المعنى إلى اللفظ أو نسبة الحقيقة إلى المجاز؟

والذي تدلّ عليه الآيات الكثيرة في القرآن الكريم والسنّة المقدّسة هو

١٣٠

التعميم ، قال تعالى : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) [سورة الزخرف ، الآية : ٧١] ، وقال تعالى : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) [سورة البقرة ، الآية : ٢٥] ، والآية التي تقدّم تفسيرها تدلّ على ذلك أيضا ، فأصل الحقيقة واحدة وإنما الاختلاف في الجهات الخارجيّة ، فجميع الشهوات النفسانيّة موجودة في الدار الآخرة على النحو الأتم الأكمل ، قال تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) [سورة الرعد ، الآية : ٢٦] ، فإن الإنسان فيها هو الإنسان في الدنيا ، وإنما يتمتّع في الآخرة بما أعدّه في الدار الدنيا من الحسنات والسيئات ، وبالملذات التي كان يريدها في الدنيا وتحصل سعادته في الآخرة ، والحرمان منها شقاء وضيق.

وإنما ذكر تعالى جملة منها في الدنيا إنما هو لمتاعها وقيام نظام هذا العالم بها ، لا أن تكون مختصّة بها دون غيرها إلا على مفهوم اللقب الذي لا يكون حجّة ، كما ثبت في العلوم الأدبيّة.

ويمكن أن يستفاد من قوله تعالى : (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) ، وجود ذلك كلّه فيها على النحو الأتم والأكمل ، فإن مآب كلّ شيء فيه حسن ، إذ السير هو سير استكمالي وتوجّه إلى الكمال ، وهذا هو مقتضى إطلاق الآيات التي وردت فيها ملذّات الآخرة ومشتهياتها من دون تعليق لها بوجه من الوجوه ، بخلاف الآيات التي اشتملت على ملذّات الدنيا ، فإن فيها تعليقا بوجه من الوجوه ، وإن كانت ملذّات الدنيا يشترك فيها المؤمن والكافر ، بخلاف ملذّات الآخرة فإنها مختصّة بالمؤمن.

بحث عرفاني :

شهود حقائق الموجودات على ما هي عليها في الواقع بجواهرها وأعراضها ولوازمها وملزوماتها الأزليّة والأبديّة حدوثا وبقاء ، بل وقبل الحدوث يصحّ أن يعبّر عنه بالغيب الذاتي ، ولا حدّ لهذا الشهود من كلّ جهة ، ولو عبّر عن ذلك بابتهاج الذات بالذات يصحّ أيضا ، وهو مختصّ بالواحد الأحد الصمد ، ولا يدانيه

١٣١

ملك مقرّب ولا نبيّ. وقد يفاض منه شعاع على الغير ، وهو تابع لقدر الإفاضة كمّا وكيفا. كما أنه لا يختصّ بعالم دون عالم ، فإن الإشعاع أزلي وأبدي والنفوس المستعدّة تستفيض من ذلك الإشعاع بقدر القابلية ، ويصحّ أن يكون رضوان الله تعالى إشارة إلى ذلك الإشعاع ، ولعلّ الله تعالى يوفّقنا لتفصيل المقام في مستقبل الكلام إن شاء الله تعالى.

ومن ذلك يعلم أنه لو جعل العبد غاية عباداته الوصول إلى رضوان الله تعالى ، كانت من أكمل الغايات وأحسنها.

وحبّ الشهوات هو من أغلظ الحجب الظلمانيّة بين العقل وادراك الحقائق النوريّة والمعارف الربوبيّة ، بل هو نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة ، لأن منشأ الحبّ هو القلب ، فإذا كان متعلّقا بالأهواء الباطلة والشهوات ، يصير القلب كخرقة بالية منغمرة في دار الغرور ، محجوب عن منبع الجلال والنور ، فإنها لا تعمي الأبصار ، ولكن تعمي القلوب التي في الصدور ، فيضلّ عن الصراط المستقيم ، ولا غاية بعد ذلك إلا سواء الجحيم. فلا غاية لإعمال الشهوات المذمومة إلا العار والنار ، فإن حقيقة الإنسان الكاملة ـ التي هي كالصورة لجميع العوالم الإمكانيّة ـ لم تعرف بعد ولن تعرف ، وإن بذل العلماء المحقّقون من الفلاسفة الإلهيين وغيرهم جهودهم ، وصرف العرفاء الشامخون طاقتهم فيه ، لأنها أعظم سرّ الله تعالى في الخليقة ، وهي من أجلّ مخلوقاته في جميع العوالم الربوبيّة ، ولا بد في عرفانها من العكوف على بابه والتماس ذلك من وجهه وكتابه ، ومثل هذه الآيات المادحة لمقام التقوى والشارحة لها ، تشير إلى لمعة من لمعات ذلك النور الحقيقي ، فكما أن للتقوى والعبوديّة لله عزوجل مراتب ، كذلك للإنسانيّة الكاملة ، بل مراتبها تدور مدار العبوديّة الخاصّة ، وكلّ ما قالوه العرفاء من وحدة الوجود والموجود وأمثال ذلك في تعبيراتهم ، إن رجع إلى ذلك فلا باس به ، وفي غير ذلك يرد علمه إليهم.

وكلّ الذي شاهدته فعل واحد

بمفرده لكن بحجب الأكنة

إذا ما أزال الستر لم تر غيره

ولم يبق بالأشكال إشكال ريبة

١٣٢

وحقّقت عند الكشف أن بنوره

اهتديت إلى أفعاله بالدجنة

وتظهر للعشاق في كلّ مظهر

من اللبس في أشكال حسن بديعة

ففي مرة لبنى واخرى بثينة

وآونة تدعى بعزّة عزت

تجليت فيهم ظاهرا واحتجبت

باطنا بهم فأعجب لكشف بسترة

والمتحصّل من الآيات القرآنيّة والسنّة المقدّسة أن الإنسان الكامل ، كما أنه مخلوق لله تعالى ، كذلك مورد تربيته حدوثا وبقاء إلى أن يرد دار الخلود ، وأن إرادة الإنسان الكامل متفانية في مرضاته ، فيصحّ أن يقال إن الإنسان الكامل مورد مشيئته وإرادته ، ويشهد لذلك قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [سورة الأنفال ، الآية : ١٧] ، وقوله تعالى : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) [سورة طه ، الآية : ٤٦] ، وفي الأحاديث القدسية : «من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة» ، وفي بعض الأحاديث : «يشكو لله تعالى عن عبده المؤمن يوم القيامة فيقول الله عزوجل : عبدي إني مرضت فلم لم تعدني ، يقول العبد : يا رب كيف أعودك وأنت ربّ العالمين؟ يقول الله تعالى : مرض عبدي المؤمن فلو عدته لو جدتني عنده» ، والأحاديث في سياق ذلك كثيرة ، فما عبّر به بعض الأعاظم من الفلاسفة من الوحدة تعبير حسن إن أراد به ما يستفاد من سياق القرآن والسنّة ، وعبارة اخرى عمّا شرحه أمير المؤمنين عليه‌السلام عن بينونة الصفة ، لا بينونة العزلة ، فقال عليه‌السلام في بعض خطبه الشريفة : «بائن مع خلقه بينونة صفة ، لا بينونة عزلة» ، وهو على إجماله يناسب جميع الأقوال التي قيلت في بيان وحدة الوجود. ولعلّ الله تعالى يوفّقنا لتحقيق القول بأكثر من ذلك في مستقبل المقال.

بحث علمي :

قد جمع سبحانه وتعالى اصول الشهوات التي يقوم بها نظام الدنيا في الآية المباركة المتقدّمة ، وهي شهوات الجنس والمال والزينة والتفاخر والرياسة ، وجمعها بوجه آخر في آية اخرى ، فقال عزوجل : (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ

١٣٣

وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) [سورة الحديد ، الآية : ٢٠] ، والإنسان قرين هذه الشهوات والغرائز ، وقد يجتمع بعضها في سائر الحيوانات ، إلا أن الفرق بين الإنسان وغيره ، أن الله تعالى خلق الإنسان حيوانا عاقلا درّاكا مريدا ، وهذه من مختصّاته ولا توجد في غيره إلا على درجات ضعيفة ، فهو الذي يقدر على جمع القوى المتخالفة المتواجدة فيه ، ويجعلها تحت زمام العقل والإرادة المنبعثة من التعقّل والتفهّم والدرك الصحيح ، ولأجل ذلك صار الإنسان محور التكاليف الشرعيّة ومنشأ لإرسال الرسل وإنزال الكتب الإلهيّة ، وكلّ ما كانت القوة العاقلة هي الحاكمة في أفعال الإنسان وإحساساته وشؤونه ، كلّ ما كان أقرب إلى الكمال وأبعد عن الرذائل والفساد ، وأما إذا تغلّبت عليه إحدى القوى العاملة فيه ، كان أقرب إلى الفساد وأبعد عن الصلاح ، وللتكاليف الإلهيّة شأن كبير في تهذيب النفس وتأمير القوّة العاقلة على جميع الشهوات واستيلائها على غيرها ، ولذا كان لهذه القوّة شأن كبير في سلوك الإنسان وتهذيبه وإصلاحه ، سواء السلوك الفردي أم السلوك الجماعي ، ولكن ليست لسائر القوى المتواجدة في الإنسان السيطرة على سلوكه لوحدها ، وإن كان لها الأثر الكبير إن لم يقم الفرد في تهذيبها وإصلاحها بما يراه الله تعالى.

وهذه الآية الشريفة ردّ على من زعم من أصحاب المدارس في علم النفس أن للجنس الأثر الكبير في سلوك الإنسان فردا أو جماعة ، وأن كبت تلك الشهوة توجب الأمراض النفسيّة والحرمان عن الملذّات ، ودعا إلى الإباحيّة في الجنس للتخلّص من هذه الأمراض ، وأعلن الحرب على التقاليد والأعراف المتوارثة والأحكام الشرعيّة التي تقيّد الجنس وتهذّبه ، وذهب إلى أن جميعها تورث العقد النفسيّة التي يصعب معالجتها وبرؤها ، إلى غير ذلك ممّا ينكره العقل والتجربة.

وقد أثبت علماء النفس بطلان كثير ممّا ذهب إليه ، فالجنس كسائر الغرائز الموجودة في الإنسان إن لم تستعمل على الوجه الصحيح توجب الحرمان والكبت وسائر الأمراض الخلقيّة والنفسيّة ، وهذا هو الذي دعا إليه الإسلام.

١٣٤

والآية الشريفة من تلك الآيات الدالّة على ما ذكرناه ، فهي تقرّر أمرا عقليّا ، وهو أن حبّ الشهوات والاهتمام بتزيينها ، يوجب بعد الإنسان عن الكمال المعدّ له في الدنيا والآخرة ، وهذا ما نراه في المدنية الحاضرة التي بلغت شأوا بعيدا في الملذّات ، ولكنها عادت إلى الجاهلية الاولى ، وهي وإن كادت تصل إلى أوج الكمال المادي وتهيئة وسائل الراحة والعيش الهنيء ، إلا أنها أبعد دورا من أدوار حياة الإنسان على وجه هذه البسيطة من الكمال المعنوي والاطمئنان النفسي وراحة الضمير.

فالآية الشريفة لا تعدّ نفس هذه الشهوات من موجبات انحطاط الإنسان ، بل أن حبّها وتزيينها وإهمال الجانب العقلي وتعاطي هذه الشهوات وكثرة إعمالها يوجب الحرمان والانحطاط ، فهي صريحة في المطلوب ، وبعد ذلك لا ينبغي للفرد المسلم التغافل والتغاضي عن الإسلام وتلك القوانين التي نزلت لسعادة الإنسان والحياة في الدنيا حياة هنيئة آمنة سعيدة ، والاستعداد لما بعد هذه الحياة لنيل رضوان الله تعالى والبقاء فيه.

١٣٥

(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠))

بعد أن ذكر سبحانه وتعالى في الآيات السابقة جملة من أحوال الكفّار الذين اغترّوا بمظاهر الدنيا ، واعتزّوا بما عندهم من الأموال والبنين والعدّة ، واعتبروها مغنية عن أمر الله تعالى ، فقد أخبرهم عزوجل أنها لا تغني من الله شيئا ، وأن ما ركنوا إليه من الدنيا إنما هو زائل لا يبقى ، وعند الله نعيم باق لا يناله إلا الذين اتّقوا وكان في قلوبهم خوفه تعالى ، فإذا كان متاعهم في الدنيا حرثا مخصبا ، ففي الآخرة جنّات كاملة تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ما دامت السموات والأرض.

وإذا كان متاعهم في الدنيا نساء وبنين ، ففي الآخرة أزواج مطهّرة ، وأما غيرها من الخيل المسوّمة والأنعام والقناطير المقنطرة من أسباب اللذائذ في الدنيا ، فهناك ما هو أكبر من كلّ لذّة وشهوة ، وهو رضوان الله الذي لا يعدله. فلا يبقى للكفّار إلا ما كسبته أيديهم من الشقاء والحرمان.

ثم ذكر جملة من أحوال المتّقين الذين آمنوا بالله وأنابوا إليه وعملوا الصالحات وعدّ صفاتهم ، وفي كلّ صفة منها تتحقّق سمة من سمات الحياة الرفيعة الواقعيّة ، (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) ، وأن لهم الرضوان وحسن المآب.

ذكر في هذه الآيات وجه الإيمان وأقام الشهادة على أحقيّة ما ذكره في الآيات السابقة ، فشهد أولا على نفسه بالوحدانيّة ، ومن أعظم منه شهيدا؟ وكذلك

١٣٦

شهدت الملائكة وأولوا العلم الذين ملأ قلوبهم نور الإيمان به ، وبيّن ثانيا قيامه بالعدل ، ثم بيّن ثالثا الدستور في حياة الإنسان ، وأنه الإسلام الذي هو دين الحقّ والحقيقة ، وأمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يدعو الذين أوتوا الكتاب جميعا إلى هذا الدين الواحد ، ويترك الجدل معهم بعد إقامة الحجج القويمة والبراهين الساطعة على الإسلام ، وأنذرهم على المخالفة وأوعدهم الحساب والعذاب.

فكانت الآيات المباركة ذا نسق واحد مشتملة على ما تقدّم من البراهين والشهادة والبيّنة عليها ، لتكون ثابتة وقويمة لا يقدر على إنكارها منكر ، وإلا استحق العذاب بعد إقامة الحجّة والبرهان.

التفسير

قوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).

مادة (شهد) : تدلّ على الحضور والمشاهدة بالبصر والبصيرة ، ولا حضور أقوى من حضور ما سواه تعالى لديه عزوجل ، فهو حاضر بذاته لذاته ، وما هو عين ذاته من صفاته ، التي منها وحدانيّته ومعبوديّته المطلقة.

ومن أسمائه تعالى (الشهيد) ، أي هو الذي لا يغيب عنه شيء ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [سورة الحج ، الآية : ١٧].

وشهادة الحقّ جلّ جلاله ، هو ظهور ذاته بذاته لذاته ، وجميع أسماء الجمال والجلال تنطوي في تلك المرتبة ، وهي محيطة بها فوق ما يدرك من معنى الإحاطة ، فالهوية المطلقة والمعبوديّة الحقّة منحصرة به جلّت عظمته ، وهذا معنى ما في جملة من الدعوات المعتبرة : «يا من هو ، يا من ليس هو إلا هو» ، وقوله عليه‌السلام : «يا من دلّ على ذاته بذاته». وهذا معنى ما أثبتوه في الفلسفة من أن الممكن من ذاته ليس ، ومن حيث الإضافة إلى علّته أيس (أي موجود).

وهذا المعنى ـ أي الجامعيّة لجميع صفات الجلال والجمال ، المسلوب عنه

١٣٧

جميع النواقص الواقعيّة والادراكيّة ، من حيث قيوميّته الكبرى وربوبيّته العظمى ـ محيط على جميع ما سواه بأنواعه وأفراده وأجزائه ، قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [سورة الإسراء ، الآية : ٤٤] ، وقال تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [سورة الحديد ، الآية : ٤] ، وقال تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [سورة ق ، الآية : ١٦] ، وبهذا المعنى الإحاطي هو الله الواحد الأحد والمعبود الفرد ، فالتوحيد ثابت في مرتبة الذات والصفات والفعل ، وجملة : (لا اله الّا الله) ، تدلّ على ذلك.

وبالجملة : أن شهادة الله تعالى بوحدانية ذاته المقدّسة ..

تارة : تكون تكوينيّة ، وهي التي أسّسوها بالبراهين القطعيّة في الفلسفة من انتهاء جميع الممكنات إليه عزوجل.

واخرى : قوليّة ، وهي التي أثبتتها هذه الآية الشريفة ونظائرها ، مثل قوله تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) [سورة محمد ، الآية : ١٩] ، إلى غير ذلك من الآيات الشريفة.

وأما شهادة الخلق بالوحدانيّة ، فالتكوينيّة ثابتة لهم ، أقرّوا بها في اللسان أم لا ، لحكاية المجعول عن الجاعل تكوينا ، وأما الاختياريّة ، فمنهم من آمن ، ومنهم من لم يؤمن.

والشهادة يمكن أن تكون ذاتيّة لظهور الذات بالذات في الوحدانيّة ، وأنه لا إله غيره ، فلا شريك له في الذات ، ويمكن أن تكون فعليّة ، فلا شريك له في الفعل ، فتكون جميع أفعاله آيات دالّة على وحدانيّته ، وأن تكون قوليّة كما تشهد بها جميع الكتب السماويّة. وإن كان ظاهر السياق بلحاظ إفهام المخاطبين هو الأخيرة ، وإن كان بعضهم له أهلية درك الشهادات الثلاثة.

ثم إن الشاهد ـ أي الحاضر كما تقدّم ـ إن اعتبر فيه العلم مطلقا فهو العليم ، وإذا أضيف إلى الأمور الباطنة فهو الخبير ، وإذا أضيف إلى الأمور الظاهرة فهو الشهيد. وحيث إن علمه تعالى عين ذاته ، فتكون خبرويّته بالأشياء عين ذاته ،

١٣٨

وشهوده لها كذلك ، فيرجع الكلّ إلى علمه الذاتي.

نعم ، الشهادة القوليّة فيه تعالى لها خصوصية خاصّة ، لا توجد تلك في مطلق العلم والخبرويّة.

وأما في الممكنات ، فيمكن أن ترجع الشهادة إلى القوى الجسمانيّة ، أي إلى البصر والسمع والعلم والخبرة ، وإلى بعض القوى النفسانيّة.

قوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ).

أي : أن الملائكة وأولي العلم يشهدون بأن لا إله إلّا هو. ويصحّ أن تكون شهادة الملائكة من الشهادة الذاتيّة ، لأن ذواتهم كاشفة عن الوحدانيّة المطلقة ، فإنهم (عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٢٦ ، ٢٧] ، وإنهم يسبّحون ربّهم ويهلّلونه.

والمراد بأولي العلم الأنبياء والرسل ومن يتبعهم في العلم والعمل بالمعارف الإلهيّة والأحكام الشرعيّة ، والعرفاء الشامخون ، والفلاسفة المتألّهون ، الذين أخبروا بوحدانيّته ، وهم يشاهدونها من آياته وشهدوا بها شهادة علميّة وعمليّة.

وإنما خصّ سبحانه وتعالى الملائكة وأولي العلم بالذكر ، لقصور أنظار جملة من الأنام عن درك ما وراء ذلك ، فألقى الخطاب بحسب دركهم وفهمهم.

قوله تعالى : (قائِماً بِالْقِسْطِ).

القسط هو النصيب والعدل ، ومن أسمائه تعالى : «المقسط» ، وفي الحديث : «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض بالقسط ويرفعه» ، وهو بمعنى الميزان سمّي به لأنه من العدل أيضا ، ومعنى الحديث أن الله يخفض ويرفع ميزان أعمال العباد المرتفعة إليه وأرزاقهم النازلة إليهم ، وهو تمثيل لما يقدره الله تعالى وينزله ، ويطلق على غيره بالقرينة.

والقيام بمعنى المحافظة على الشيء والملازمة له ، وفي حديث الدعاء : «لك الحمد أنت قيام السموات والأرض» ، أي القائم بأمور الخلق ومدبّر العالم وحافظه في جميع أحواله.

١٣٩

والجملة ـ لها معنى الوصفيّة والحاليّة ـ حال من فاعل شهد ، الراجع إلى الثلاثة المذكورة في الآية الشريفة. أي : أن شهادتهم بالحقّ ، وهم يحافظون عليها قولا وفعلا.

والعدل فيه عزوجل ثابت ودال على وحدانيّته ، كما أن انحصار الالوهية والوحدانيّة فيه تبارك وتعالى يثبت عدله وقيامه بالقسط ، فهما فيه عزوجل متلازمان ، كما يشهد بذلك جملة من الآيات ، منها قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٢٢] ، وقوام السموات والأرض بالعدل أعظم آية لوحدانيّته ، وهذا دليل على ما قلناه من تعميم الشهادة إلى الذاتيّة والفعليّة والقوليّة.

ومن ذلك يظهر الوجه في تقديم التوحيد على القيام بالقسط ، لأن الأخير ملازم للوحدانيّة المطلقة ومحفوف بها حدوثا وبقاء ، فالتوحيد والشرك مختلفان مفهوما واعتقادا وأثرا في الدنيا والآخرة ، كما هو صريح الأدلّة النقليّة والعقليّة.

وممّا ذكرنا يعلم أن قوله تعالى : (قائِماً بِالْقِسْطِ) ، راجع إلى جميع الثلاثة ، كما هو ثابت في العلوم الأدبية من أن الموصوف يتكرّر مع جميع قيود الصفة ، فيصير المعنى في المقام : شهد الله بأنه لا إله إلّا هو قائما بالقسط ، والملائكة تشهد كذلك قائما بالقسط ، وأولوا العلم أيضا يشهدون بأنه لا إله إلّا هو قائما بالقسط ، وقد أشرنا إلى أن التوحيد المطلق للكمال المطلق يستلزم ذلك ، وأن القيام بالشيء لا يصدق إلّا بعد الاستيلاء المطلق عليه ، بلا تخلل خلاف في البين.

قوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

الآية في موضع التعليل لما سبق ذكره ، أي : من كان في كمال القدرة والعلم والحكمة البالغة ، يقتضى أن يكون واحدا في ذاته وفي معبوديّته وفي تشريع القوانين ، وأن العدالة تقتضي أن يكون قهّارا عزيزا عليما حكيما ، فهو تعالى حقيق بالوحدانيّة ، لأنه المتفرّد بالعزّة ، وأن ما سواه تحت سلطته وقهّاريته ، وهو المتفرّد في حكمته ، عالم بأسرار خلقه المطّلع على المصالح ، ولا ينتقض حكمه ولا

١٤٠