مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٥٩

سيد الأنبياء على القليب بما يصدع القلوب : «زمّلوهم بدمائهم فإنهم يحشرون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دما».

فما بدر إلا منبع النور والصفا

يضيء لأهل الأرض من أفق السما

مصارع عشاق تجلّت قلوبهم

بحبّهم الرحمن حبّا متيما

والخطاب متوجّه إلى الرسول الكريم لما هو رأس الامة ورئيسهم ، فيشمل المؤمنين.

والآية : الدلالة الواضحة. والفئة : الجماعة الملفّقة مع غيرها لغرض من الأغراض. والالتقاء : الاجتماع والتلاقي.

والآية لم تذكر واقعة بدر بالاسم ، ولكنها تشير إلى أمر معهود بين المؤمنين المخاطبين ، فتنطبق على واقعة بدر ، إذ لم يعهد أن يكون التصرّف في الأبصار في غيرها.

وغزوة بدر من أهم غزوات الرسول الكريم ، وهي أوّل غزوة خرج المسلمون منها منتصرين.

وبدر : اسم ماء بين مكّة والمدينة ، وقد وقعت في السابع عشر من شهر رمضان من العام الثاني للهجرة ، وجيش المسلمين مؤلّف من ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، سبعة وسبعون منهم من المهاجرين ، وصاحب رايتهم علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار وصاحب رايتهم سعد بن عبادة ، وكان في العسكر تسعون بعيرا وفرسان أحدهما للمقداد بن عمرو ، والآخر لمرثد بن أبي مرثد ، وكان معهم ستّة دروع وثمانية سيوف ، واستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار ، والرعب يقدم جميع المسلمين ، وكان نصر الله يرفرف فوق رؤوسهم ، والنبيّ الأعظم هو السبب المتّصل بين الأرض والسماء ، فكان النصر حليفهم والغلبة أليفهم ، ونزلت كلمة التوحيد من السماء وجعلها أهل بدر شعارهم وعلى أعلامهم.

ويرجى من المسلمين أن يجعلوا هذه الواقعة نصب أعينهم ويهتدوا على هديها ويكونوا من البدريّين.

١٠١

قوله تعالى : (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ).

أي : انظر إلى تلك الفئة القليلة التي تقاتل في سبيل الله ، وإلى الفئة الكافرة الكثيرة ، وقد كتب للأولى ـ مع قلّتها ـ الغلبة ، وعلى الثانية ـ على كثرتها ـ الذلّ والهوان ، وفي ذلك عبرة لاولي البصائر والأبصار بعدم الاغترار بالكثرة في الأموال والأولاد ، فإن ذلك ليس سبيل النصر والنجاح ، بل الله ينصر من يشاء ولا يعجزه شيء.

قوله تعالى : (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ).

أي : ترى الفئة الكافرة الفئة المؤمنة المرئية مثلي عددهم في العين والمشاهدة ، لأجل إرعاب الكفّار وإعلان الغلبة. وهذا الأمر لا ريب فيه بالنسبة إلى قدرة الله تعالى ، لإحاطته على البصائر ، فكيف بالأبصار؟ مع أن تكثير العدد بالنسبة إلى رؤية العين أمر ممكن بحسب الأسباب الطبيعيّة ، كما ثبت في علم المبصرات.

ويمكن أن يكون ذلك تصرّفا في الهواء المجاور للعين ، بحيث ينعكس الواحد متعدّدا فيها.

والآية الشريفة تبيّن تكثير المؤمنين في العين ، ولكن الآية الاخرى في سورة الأنفال تبيّن تقليل المسلمين في أعين الأعداء ، وهي قوله تعالى : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) [الآية : ٤٤].

ووجه الجمع بين الآيتين أن التكثير كان لغرض والتقليل كان لغرض آخر ، ولعلّه كان التقليل لأجل اجتراء العدو على مقاتلة المسلمين ، ثم تكثيرهم في أعين الكفّار وإحاطة المسلمين بهم ، ليفوزوا بالنصر والغلبة ، وهذا من أحد أسرار الحروب ، كما هو المعهود في العصر الحاضر ، كما يمكن أن يكون التقليل والتكثير في زمانين متعدّدين ، أو يكون في زمان واحد ولكن يقلّل بعضا ويكثّر بعضا آخر.

وظاهر الآية الشريفة أن الضميرين في قوله تعالى : (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ)

١٠٢

يرجعان إلى الجملة السابقة ، أي ترى الفئة الكافرة المسلمين ستمائة وستة وعشرين ، مثلي عددهم ، وهو ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، كما مرّ.

وفي مضاعفة العدد في رأي العين زيادة في الرعب والهيبة في قلوب الكافرين ، ليجنبوا عن قتال المسلمين ـ كما تقدّم ـ لاختلاف الموردين ، وهذا الوجه أقرب بلحاظ الآيتين الشريفتين وأظهر.

وقد قيل في شأن الضميرين وجوه كثيرة اخرى ، أهمّها :

اختلاف المرجع في الضميرين ، فيرجع أحدهما إلى المؤمنين والآخر إلى الفئة الكافرة ، أي يرى المؤمنين مثلي عدد الكافرين. ولكنه بعيد عن ظاهر اللفظ.

وقيل : إن الضميرين يرجعان إلى الفئة الكافرة ، أي يرى الكافرون أنفسهم مثلي عددهم ، وهو تسعمائة وخمسون ، فكان عددهم في رأي العين ألفين وذلك ليوافق تقليل عدد المسلمين الوارد في الآية الاخرى ، فيكون عددهم السدس في النسبة.

ويردّ عليه : أنه مخالف لظاهر الآية الشريفة ويوجب اللبس ، وأن حقّ الكلام حينئذ أن يكون يرون أنفسهم مثليهم ، والتطابق بين الآيتين الشريفتين حاصل ، ولو لم نقل بهذا الوجه كما عرفت.

وقيل : إن معنى الآية الشريفة أن المسلمين كانوا يرون الكافرين مثليهم في الجمع لا في العدد.

وقال شيخنا البلاغي : «كانوا يرون جمع قريش مثليهم بحسب رؤية العين للجمع وصورة التجنّد ، لا بحسب الإحراز للعدد ومعرفة الكمية ، والحكمة في ذلك هي أن الاستقلال في العدد يوجب الوهن والجبن ، فيتساهلون عن حرب الكافرين استضعافا لهم. ولكن لم يروهم في أعدادهم ومقدارهم لئلّا تهولهم كثرتهم فيحجموا عن مناجزتهم ويتخاذلوا عن حربهم ، كما قال تعالى في صورة الأنفال : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ).

وفيه : أنه بعيد عن سياق الآيتين الشريفتين بعد التأمّل فيهما.

١٠٣

قوله تعالى : (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ).

الأيد والأد : القوة. وهي إذا أضيفت إلى الله تعالى تكون غير متناهية وغير محدودة بحدّ من جميع الجهات ، إلا إذا خصّصها الله تعالى بمورد خاص ، لأنها تابعة للمصالح الحقيقيّة الواقعيّة ، وفي المقام ذكر عزوجل بعده النصر والغلبة.

وقد أيّد الله تعالى المسلمين بالنصر والغلبة ، وهي قد تكون حسيّة ظاهريّة كما في غزوة بدر وغيرها ، أو تكون في الحجّة والبرهان ، فأيّد الله تعالى الإسلام بحجج متينة ومباني قوية ، أصولا وفروعا ، وإلى كلا الأمرين يشير

ما ورد عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه».

قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ).

العبرة : الموعظة ، والإبصار جمع البصر أو البصيرة ، والظاهر هو الأخير ، أي البصيرة دون بصر العين فقط ـ كما يراه بعض ـ باعتبار أن الآية تتمة للآية السابقة التي كان التصرّف في رؤية العين. وذلك بقرينة العبرة ، فإنها من الاعتبار الذي يحصل في البصائر.

وإنما ذكر سبحانه البصر لأجل المبالغة ، باعتبار أن العين هي التي تعتبر ، ولأجل أن المورد يتضمّن التصرّف في رؤية البصر.

١٠٤

بحوث المقام

بحث دلالي :

تدلّ الآيات الشريفة على امور :

الأوّل : أن الأموال والأولاد وكثرة العدد والعدّة التي يعدّها الإنسان في حياته ، مسخّرة تحت إرادة الله عزوجل ، وقد يصرفها على ضد ما يريده الإنسان ، فيؤيّد الله تعالى الفئة القليلة فتغلب الفئة الكثيرة بإذنه عزوجل ، ففي الآية الشريفة الموعظة البليغة للإنسان بعدم الاغترار بما عنده من الأسباب الظاهريّة ، فلا بد من التوجّه إليه تعالى واستمداد العون منه عزوجل.

وهذه الآيات الشريفة ترشد الإنسان إلى التحفّظ على نفسه وشدّة الحيطة ، لئلا يغفل عن الله تعالى وينسى ذكر ربّه فيقع في المهالك ، قال تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [سورة الحشر ، الآية : ١٩].

كما أنها تبيّن أنه لا بد من الارتباط مع عالم الغيب الذي نسبته إلى الإنسان كنسبة الروح إلى الجسد ، فلا أثر لأحدهما بدون الآخر ، وهذا الارتباط منه ما هو غير اختياري ، وأن له التأثير التام ولا يحيط به إلا العليم العلّام ، ومنه ما هو اختياري ، وهو إما أن يكون التفاتيّا تفصيليّا ، وهو مختصّ بأخصّ الخواص ، وإما أن يكون إجماليّا ولجميع أفراد الإنسان ، بل الحيوان له حظ من ذلك ، ففي الحديث : «مهما أبهموا عن شيء لا يبهمون عن خالقهم ورازقهم وموضع سفادهم» ، ولعلّ الله عزوجل بفضل العلوم الحديثة يكشف عن بعض أسرار هذا الارتباط.

الثاني : يدلّ قوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ) ، على أن الكفر والباطل ممحوق لا محالة ، وأن الحقّ لا يمكن الغلبة عليه وإزالته ، وبمضمون ذلك آيات اخرى ، قال تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) [سورة التوبة ، الآية : ٣٢] ، وقال

١٠٥

تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) [سورة النور ، الآية : ٥٥] ، وغيرهما من الآيات المباركة.

ويمكن أن يجعل غلبة الحقّ على الباطل من السير الاستكمالي للطبيعة الإنسانيّة ، كما أشرنا إليه في عدّة مواضع من هذا التفسير.

الثالث : الآية الشريفة تتضمّن الوعد بالغلبة والفوز بالنجاح للمؤمنين ، وهو من المغيّبات القرآنية التي هي كثيرة في القرآن الكريم.

الرابع : صريح الآية الشريفة عدم شمول الشفاعة للكافرين ، وأنهم في جهنم خالدون ، وقد تقدّم في سورة البقرة البحث في الشفاعة وموارد ثبوتها فراجع.

الخامس : يدلّ قوله تعالى : (فِي سَبِيلِ اللهِ) على العلّة في غلبة الفئة القليلة على الفئة الكثيرة ، فإنه كلّما خلصت النية وكانت الغاية سبيل الله تعالى ، كان التأييد من الله تعالى أكثر ، وأن المؤمن أشدّ ثباتا في سبيله تعالى وأكثر عزيمة ، وهو من أهمّ أسباب الظفر والغلبة والنجاح.

السادس : يدلّ قوله تعالى : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) على العلّة في استحقاق الإنسان للعقاب في الآخرة ، وهي أن المعاصي إذا صارت عادة للإنسان بحيث لا يضمر إلا الذنب والمعصية مهما طال به العمر ، استحق العقاب الدائم.

وفيه ردّ على من زعم أن عمر الإنسان محدود في الدنيا ، فلا وجه لاستحقاق العاصي العذاب الدائم وخلوده في النار ، فهو إنما يستحق لأجل إضماره المعصية والذنب مهما طال به العمر ، بحيث صار عادة له.

السابع : يستفاد من قوله تعالى : (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) ، أن أخذ الله تعالى للعاصين وعقابهم لا يكون من طرف خاص ، كالفوق أو التحت أو نحوهما ، كما في الشرور المتوجّهة إلى الإنسان ، بل أخذه تعالى من جميع الجهات والخصوصيات ، فلا تنفعه الأموال والأولاد والعزّة والملك.

الثامن : إنما قدّم سبحانه وتعالى الأموال على الأولاد ، لكون حبّ المال عند الإنسان آكد وأقدم من حبّ الولد ، وإن كان حبّ الولد قد يغلب على حبّ المال ، قال تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [سورة الأنفال ، الآية : ٢٨] ،

١٠٦

وقال علي عليه‌السلام : «ينام الإنسان على الثكل ولا ينام على الحرب» ، فالمال في نظر الإنسان هو السبب المهمّ في حياته ، وبه يستوفي حاجاته ويشبع رغباته ، وقد تصل به الحالة إلى الركون إلى الأموال والأولاد ، وتشغله عن ذكر ربّه ، فينساه وبه هلاكه ، لأنه يغفل عن نفسه أنه تحت إرادته عزوجل.

التاسع : يستفاد من قوله تعالى : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) ، على أن العادات السيئة التي يغفل عنها الإنسان لها الأثر الكبير في زيغه وضلاله وعذابه ، وما أرسل الله الرسل والأنبياء إلا لإرشاد الناس إلى الصراط المستقيم ، ونبذ ما يكون سببا في ضلالهم وغوايتهم ، وهذه الآية واحدة من الآيات الكثيرة التي ترشد الإنسان إلى هذا الأمر الخطير ، وتبيّن شدّة تأثير هذا الأمر الاجتماعي ، بحيث يسلب عقل لإنسان ويسيطر على حواسه ومشاعره ويوصله إلى طريق مسدود ، ولا يختصّ مضمون الآية الشريفة بآل فرعون والذين خلوا من قبلهم ، بل يجري في جميع أفراد الإنسان.

العاشر : إنما أضاف سبحانه الأخذ وشدّة العقاب إلى ذاته الأقدس ، لأنه تعالى مصدر الجزاء ثوابا وعقابا ، كما أنه مصدر التشريع إيجابا وتحريما ، فهو المهيمن على الجميع ، ويكون ثوابه وعقابه موافقين للحكمة التامّة البالغة.

الحادي عشر : ظاهر قوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) ، أنهم من أوّل حدوثهم في الدنيا وقود النار إلا أن خصوصية العوالم حجبت أعيننا عن رؤية ذلك في الدنيا ، فأي وقود ناري أشدّ وأغلظ من التربية في الكفر والفسوق والعصيان.

الثاني عشر : إنما ذكر سبحانه وتعالى فرعون والذين من قبلهم دون من بعده ، ليتفأل أهل التوراة والإنجيل والقرآن بانقطاع الفرعونيّة والفراعنة وهلاك فرعون موسى وهارون.

الثالث عشر : إنما ذكر سبحانه وتعالى سبيل الله في جهاد المؤمنين ، ولم يذكر في المقابل سبيل الشيطان أو سبيل الطاغوت ـ كما في آيات اخرى ـ لبيان العلّة في غلبة الفئة المؤمنة ، وإنها الإيمان بالله ، وكون الجهاد في سبيله ، ولبيان العلّة في انهزام الفئة الاخرى ، وهي الكفر به عزوجل ، فكانت المقابلة بين العلّتين دون السبيلين ليذكر السبيل الآخر.

١٠٧

بحث أدبي :

مقتضى الاستعمالات المتعارفة الأخذ بعموم اللفظ وإطلاقه ، ما لم تكن قرينة معتبرة على الخلاف ، وأن زمان صدور الكلام ومكانه والأمور العامّة المحفوفة بالكلام لا تصير مقيّدة ومخصّصة للإطلاق أو العموم ، وعلى ذلك جرت سيرة الإفادة والاستفادة بين الناس في كلّ كلام يصدر من كلّ متكلّم لكلّ مخاطب.

وطريقة (القرآن) لم تخرج عن طريقة العرف ، فقد وافقتها في جميع ذلك ، لأن آيات القرآن الكريم كلّيات واقعيّة حقيقيّة ، ومطابقتها لزمان خاص أو مكان مخصوص من باب الانطباق لا التقييد الحقيقي ، فما ذكره المفسّرون في شأن نزول هذه الآية الكريمة انطباقي قهري ، لا أن يكون تحديدا لمعناها بوجه من الوجوه ، فالآية الشريفة تشمل جميع ما يصحّ انطباقها عليه ، من أول نزولها إلى آخر الدنيا ، انطباقا حقيقيّا واقعيّا ، كما هو الشأن في جميع القضايا الحقيقيّة.

بحث روائي :

في تفسير القمّي في قوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ) ، أنها نزلت بعد بدر لما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من بدر أتى بني قينقاع وهو يناديهم ، وكان بها سوق يسمّى سوق النبط ، فأتاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا معشر اليهود ، قد علمتم ما نزل بقريش وهم أكثر عددا وسلاحا وكراعا منكم ، فادخلوا في الإسلام ، فقالوا : يا محمد ، إنك تحسب حربنا مثل حرب قومك؟ والله لو لقيتنا للقيت رجالا ، فنزل عليه جبرئيل فقال : يا محمد : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ).

أقول : روي قريبا منه في المجمع ، وفي الدر المنثور عن ابن إسحاق وابن ير ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس.

١٠٨

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧))

الآيات الشريفة تبيّن حقيقة الدنيا والآخرة ، وأن الاولى محفوفة بحبّ الشهوات وما يوجب الضلال والخروج عن الصراط المستقيم ، وأن رغائب النفوس ودوافع الغريزة هي التي تشغل الناس عن التبصّر والاعتبار والتوجّه إليه سبحانه وتعالى ، وتحجبهم عن منابع النور والحكمة ، كما تحرمهم عن نعيم الآخرة.

وقد عدّ سبحانه وتعالى في الآية الاولى اصول الشهوات المنسوبة إلى نفس الإنسان وأنها التي توجب الزيغ والضلال ، وأن قلوب الناس ملئت حبّها وجعلت مشغوفة بها ، وهي الستة ـ النساء ، والبنون ، والأموال ، والخيل ، والأرض المخصبة ، والأنعام ـ التي تتدخل في سلوك الإنسان في الدنيا وتعيّن مستقبله في العقبي ، فهي قضايا حقيقيّة تصدقها العقول ، فتكون الآية الشريفة بمنزلة الشرح لحقيقة حال من يعتقد أن الاستغناء إنما يكون بالتلذّذ بالنساء والأولاد والأموال وما وهبه الله تعالى ، فأعرضوا عنه عزوجل ، لأنهما كهم في المشتهيات وحبّ الدنيا ، وبيّن عزوجل أن ما في الدنيا من جميع المشتهيات هي متاع زائل لا قرار له.

وفي الآية التالية ذكر سبحانه وتعالى نعم الآخرة ولذائذها ، وهي جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهّرة ، وأهمّها رضوان من الله ، وقد بيّن عزوجل ما يوجب الاستمتاع به والدخول في رضوانه جلّ شأنه والوسيلة

١٠٩

لكسب السعادة في العقبى ، كما بيّن الطريق الذي لا بد من سلوكه ليوصلنا إليه عزوجل ، وهو الإيمان به تعالى واللجوء إليه والصبر والإنفاق والتوبة والإنابة ، ثم الصدق في جميع ذلك والخضوع لديه عزوجل.

التفسير

قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ).

مادة (زين) من المواد الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات شتّى ، قال تعالى : (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) [سورة فصلت ، الآية : ١٢] ، وقال تعالى : (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ) [سورة يونس ، الآية : ٢٤] ، وقال تعالى : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) [سورة القصص ، الآية : ٧٩] ، وفي حديث الاستسقاء : «اللهم أنزل علينا في أرضنا زينتها» ، أي نباتها الذي يزيّنها.

والزينة من الأمور الإضافية المختلفة بحسب اختلاف العادات والأعصار والأمصار ، وأنها من الجماليّات التي يكون حسنها ممدوح وجذاب للنفوس ، بل إن بعض مراتبها ممّا يدرك بالحسّ ، ولا يمكن وصفها باللفظ ، والزينة الحقيقيّة هي ما لا يشين الإنسان في شيء من أحواله ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وغيرها ممّا يوجب الشين في حالة دون اخرى ، فهي زينة بالوجه والاعتبار ، وليست هي حقيقيّة على الإطلاق.

والزينة على أقسام ثلاثة : زينة نفسانيّة ، كالعلم والاعتقادات الحسنة والكمالات النفسانية المقرّرة في الشريعة ، وزينة بدنيّة جسمانيّة ، كالشمائل الظاهريّة الحسنة ، قال علي عليه‌السلام : «زينة المرء حسن أدبه ، وجمال الرجال في عقولهم ، وعقول النساء في جمالهن» ، وزينة خارجيّة كالمال والبنين والاعتبار. وقد ذكر تعالى جميع ذلك في مواضع من القرآن الكريم.

فتارة : نسبها إلى نفسه عزوجل ، قال تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ

١١٠

الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) [سورة الحجرات ، الآية : ٧] ، وقال تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) [سورة الأعراف ، الآية : ٣٢].

واخرى : إلى الشيطان ، قال تعالى : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة الأنعام ، الآية : ٤٣].

وثالثة : لم يسم فاعلها ـ كما في المقام ـ والوجه في ذلك أن الله تعالى خلق الدنيا وما عليها وسيلة إلى نيل الكمال والوصول إلى غاية حميدة ، وهي الدار الآخرة ، فكانت الدنيا متاعا ودار مقام ينزل إليها الإنسان في برهة من الزمن ، ليتزوّد منها إلى سفر آخر طويل ، فكلّما كان الزاد أحسن وأبقى ، كان العيش في الآخرة أهنأ وأحسن ، وقد خلق الله تعالى الدنيا زينة ليرغّب إليها الإنسان ، وتكون وسيلة للتزوّد منها ويتوسّل بها إلى الدخول في رضوان الله تعالى ، قال عزوجل : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً* وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) [سورة الكهف ، الآية : ٧ ، ٨] وإلى ذلك يشير كلّ ما ورد من الآيات التي تنسب الزينة إليه تعالى.

وأما إذا جعل الإنسان الدنيا وما عليها من الزينة محط نظره ، واعتبرها أمرا مستقلا وجعلها هي الغاية من دون أن تكون وسيلة وذريعة إلى الدخول في رضوانه تعالى ، وأحبّها حتّى وصل بهم الأمر إلى أنهم جعلوا ما في الدنيا من الأموال والأولاد تغني عنهم ، فزيّنت لهم أعمالهم ، فكانت الدنيا وبالا عليهم ، فتكون الزينة مستندة إلى الشيطان أو إلى نفس الإنسان ، وإن كانت الدنيا مخلوقة لله تعالى ، وقد أذن للإنسان أن يتمتّع بها ، ليتمّ النظام ، ولكن لم يزين الدنيا لتلهّي الإنسان بها ويعرض عن ذكره عزوجل ، فإن الله تعالى أعزّ وأمنع من أن يدبر خلقه بما لا غاية له ، أو يوصل الإنسان إلى غاية فاسدة ، فالتعبير بالمجهول في (زين) للتنبيه على ما تقدّم كما سيأتي.

وتقدّم معنى الحبّ في آية ١٦٥ من سورة البقرة.

ومادة (شهوة) تأتي بمعنى نزوع النفس إلى ما تريده. وهي إما صادقة ، أي

١١١

ما يقوم بها البدن ولا تتم الحياة البشرية إلا بها ، وتكون من أتمّ ما بني عليه النظام الأحسن ، بحيث لو اختلّت لبطل النظام وتعطلت امور الأنام ، فإنها من سنن الحياة المستلذة بها. وإما كاذبة ، وهي الشهوة المذمومة ، أي الإغواء أو الدافع الشيطاني ، وإنها مستقذرة حذّرت الأديان الإلهيّة منها ، وجعلتها محور الانحرافات والأخلاق الذميمة ، سواء كانت خفيّة ، أي الصفات الذميمة والأخلاق السيئة التي يضمرها صاحبها ويصرّ عليها ، كما في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ان أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفيّة» ، أم كانت ظاهريّة ، وهي ما كانت ظاهرة من العمل.

والشهوات : جمع شهوة ، وهي توقان النفس للملائم أو الملذ لها ، وهي من أهمّ القوى التي خلقها الله تعالى في الحيوان ، ولو لولاها لما قام له أصل ولا بنيان.

وسياق الآية المباركة يدلّ على أن فاعل التزيين هو الشيطان أو النفس ، لأنّ حبّ الشهوات مذموم ، ويشتدّ الذم كلّما اشتدّ الحبّ ، ويخف كلّما خف حتّى يصل إلى مرتبة الحبّ النظامي الذي هو من لوازم الطبيعة في الإنسان والحيوان ، فتزول المذمّة رأسا ، بل يكون ممدوحا ويكون خلافه نقصا ومذموما ، وعلى ذلك يحمل ما ورد عن سيد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أحببت من دنياكم ثلاث : الطيب والنساء ، وقرّة عيني الصلاة» ، وسيأتي وجه آخر لحمل كلامه.

ويمكن أن تكون الآية الشريفة في مقام بيان طبيعة الإنسان وما يتدخّل في سلوكه ، فإذا وفّق بين الحبّ والطبيعة ، بحيث يتحكّم العقل بالتوفيق بينهما ، كانت النتيجة فاضلة والأثر عظيما ، ويكون حبّا ممدوحا ، وهو الذي يشاؤه الله ويريده ويرتضيه ، ولا ريب في أنه ممدوح عقلا أيضا ، فيكون تزيين الله تعالى هو إذنه وبيان حدوده ، فقد زين حبّ المذكورات في الآية الشريفة المتقدّمة وفق الحكمة المتعالية ليكون وسيلة لتنظيم النظام وبقاء النوع وحسن الاجتماع ، وأما إذا ألهى القلب عن التوجّه إلى الله تعالى وأوجب الغفلة عنه عزوجل ، فهو من تزيين الشيطان ووساوسه ، وهو مذموم عقلا أيضا.

١١٢

قوله تعالى : (مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ).

ذكر سبحانه وتعالى أمورا ستة من المشتهيات ، وهي الأمور التي تتدخّل في شؤون الإنسان وسلوكه وتحدّد مصيره.

و (من) بيانيّة ، والبنين جمع ابن ، وهو الذكر من الأولاد ، ولكن في المقام يشمل الذكور والإناث ، بقرينة قوله تعالى : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [سورة التغابن ، الآية : ١٥] ، وقوله تعالى : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) [سورة سبأ ، الآية : ٣٧] ، وقوله تعالى : (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [سورة الممتحنة ، الآية : ٣] ، وإنما أتى عزوجل بصيغة الذكور إما تغليبا ، أو يكون كناية عن حبّهم المذموم الذي كان دائرا بينهم.

وإنما زين حبّ البنين مع كونه من حبّ النساء أيضا ، لأن البنين هم الغاية القصوى من حبّ النساء ، وهم النتيجة لذلك الحبّ.

والقناطير : جمع القنطار ، وهو المال الكثير ، وفي بعض الأخبار ملأ مسك ذهبا ، وقيل : ملأ جلد ثور ذهبا ، وقيل غير ذلك ، وهو اسم لمعيار خاص أيضا ، وسمّي المال بالقنطار ، لأن صاحبه يعبر بواسطته الحياة الدنيا ، ويختلف ذلك اختلافا كثيرا بحسب الأشخاص والأزمنة والأمكنة وغيرها ، كالغنى الذي لا يمكن تحديده بحدّ خاص ، ومن حدّدهما إنما يحدّدهما بحسب الجهات الخارجيّة ، لا بحسب ذاتهما.

والمقنطرة اسم مفعول جيء به للتثبيت والتوكيد ، كما هو عادة العرب في توصيف الشيء بما يشتق منه للمبالغة وتثبيت معناه له. وهذا التعبير مشعر بالكثرة والاقتناء.

وتعداد المشتهيات باعتبار كون الإنسان ذا أصناف ، فإن بعضا منه يتعلّق حبّه بالنساء ، وبعضا آخر يتعلّق بجمع المال وتخزينه ، وثالثا بالأولاد البنين منهم بالخصوص ، ورابعا بالأنعام والحرث. وربما يجتمع في فرد أكثر من واحد من تلك

١١٣

المشتهيات ، فإن الشهوة ذات مراتب متفاوتة شدّة وضعفا بالنسبة إلى شخص واحد في حالات مختلفة ، فضلا عن الأشخاص.

فالآية المباركة تبيّن طبع الإنسان على نحو القضية الحقيقيّة ، كما أنها ليست في مقام حصر الشهوات ، فقد يتعلّق حبّ الإنسان بالجاه والمقام ونحو ذلك ، وإن كانت المشتهيات الاخرى ـ التي لم تذكر في الآية الشريفة ـ أقلّ تأثيرا ممّا ذكر فيها ، فهي امور وهمية تتعلّق بها الرغبة ومقصودة ثانوية ، فيكون الحصر إضافيا ، فلا منافاة بين هذه الآية الشريفة وبين قوله تعالى : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) [سورة الكهف ، الآية : ٤٦] ، وسيأتي في البحث العلمي ما يتعلّق به.

وتعلّق حبّ الإنسان بهذه الثلاثة واضح ، لأن بها ينتظم النظام الاجتماعي في هذه الدنيا ، بل النظام الفردي والاقتصادي فيها ، وبها تتحقّق أغلب رغباته ، وبقدر اشتداد هذه المشتهيات وضعفها يتحدّد سلوك الإنسان ويتعيّن خلقه في الدنيا ومصيره في الآخرة ، فإن بالنساء تتحقّق المعاشرة الزوجية إليهن وتسكن النفوس ، وهن الطرف الآخر من الحياة التي عليهن مسئوليات كثيرة في الكفاح والعيش ، فالمرأة والرجل متشابكان في عموم المنافع وانتظام النظام ، ولأجل ذلك أسّس العلماء قاعدة اصطلحوا عليها بقاعدة الاشتراك ، أي اشتراك النساء مع الرجال في الأحكام ، إلا ما خرج بالدليل ، وقد حدّد الشرع المقدّس هذه الشهوة بحدود خاصّة تحدّد مسئولية كلّ واحد منهما في هذه الحياة وتنظم شؤونهما ، والتعدّي عنها يوجب الفساد والدمار.

وإنما لم يذكر عزوجل حبّ النساء للرجال ـ مع أن الناس في صدر الآية الشريفة يشمل كلا منهما ، كما أن بقية الشهوات عامة لهما ـ إما لأن من أدب القرآن الكريم والسنّة الشريفة الستر على النساء مهما أمكن ، أو لأجل أن كثيرا من الأمور التي تتعلّق بهذه الشهوة إنما يتعلّق بالرجال وتقلّ في جانب النساء ، فإن الأشد ولعا بحبّ النساء واتخاذهن صواحب في اللذائذ ونحو ذلك هم الرجال ، كما أنهن أشد تأثيرا على الرجال ، إذا اشتد الغرام والتعشّق بهن.

١١٤

قوله تعالى : (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ).

المسومة : إما بمعنى الراعية من سامت الإبل سوما إذا ذهبت لترعى ، أو بمعنى المعلّمة لتعرف من غيرها من السمة بمعنى العلامة ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر : «سوموا فإن الملائكة قد سومت» ، أي اعملوا لكم علامة يعرف بها بعضكم بعضا ، وهي تلك الخيل التي يقتنيها الأغنياء وغيرهم للافتخار والتباهي ، مضافا إلى كونها ممّا يبذل بإزائها المال الكثير.

والأنعام وهي الإبل والبقر والغنم ، وإنها أموال أهل القرى والبادية ، ومنها يكون معاشهم وثروتهم.

والحرث اسم لكلّ ما يحرث ، أي المغروس والمزروع ، فيشمل نفس الزرع وتربيته ، فيكون فيه معنى الكسب. والحاجة إليه أشدّ من غيره ، وحبّه لا يكون ضارا بأمور الآخرة ، ولذلك أخّره عن الأنواع السابقة ، وبذلك تتمّ جميع ما يزين أصناف الناس ، فقد ذكر سبحانه الأنواع التي توجب الافتنان بكلّ صنف ، فالذهب والفضة لأهل التجارة والخيل للملوك وأهل الجاه والمقام ، والأنعام لأهل البادية ، والحرث لأهل القرى والأرياف ، فتصلح الآية الشريفة لكلّ عصر ومصر من دون اختصاصها بصنف خاص ومورد كذلك.

قوله تعالى : (ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا).

المتاع اسم لكلّ ما يتمتّع به ، ويعبّر عنه لكلّ ما هو في معرض الزوال والاندثار ، والتعبير به للتزهيد في الدنيا والترغيب للآخرة ، التي هي دار البقاء والحيوان ، أي : ما ذكر من المشتهيات هي امور يتمتّع بها في هذه الدنيا الفانية التي يتزوّد منها برهة من الزمن ، يقضي بها حوائجه من دون أن تكون باقية دائمة.

قوله تعالى : (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ).

المآب : المرجع ، وحسن المآب هو المرجع الذي لا فناء فيه ولا عناء والمنزّه عن كلّ نقص وعيب ، فلا يشغل المتاع الزائل في الدنيا عن الخير الآجل والمطلق في العقبى.

١١٥

وفي الآية المباركة كمال الترغيب إلى الاخرة ، وتحقير الدنيا والتقليل من شأنها.

قوله تعالى : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ).

تفصيل لما أجمل سابقا ، وبيان لقوله تعالى : (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) ، فقد أمر سبحانه وتعالى نبيّه ببشارة المتّقين ، بأن لهم عند الله تعالى ما هو أعظم من هذه المشتهيات الزائلة المحدودة ، التي لا تبقى ولا تدوم ، وهو الخير للإنسان ، فلا خير في ما سواه ، وهو وإن كان مشابها لما في هذه الدنيا ومجانسا للشهوات الإنسانية ، ولكنها أجل النعم وأعظمها ، وهو خال عن النقص وبريء عن القبح والشرور ، وقد ذكر سبحانه ذلك في كلام بليغ تتوجّه إليه النفوس وتهتزّ من فرح اللقاء الأرواح والقلوب. وفيه جذبة ربوبيّة من الملكوت الأعلى للمتّقين المسجونين في سجن الدنيا ، وقد وعدهم الجنّة ومطهرات الأزواج والرضوان.

ومن إطلاق الخير يستفاد أنه خير في ذاته ومن جميع شؤونه وجهاته.

وإنما أتى سبحانه بالكلام على صورة الاستفهام ، لتوجيه النفوس إلى الجواب وتشويقهم إلى العمل ، وهو أسلوب فصيح يؤثّر في النفس ويستفزّها على إصغاء الجواب.

قوله تعالى : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ).

جملة (للذين اتقوا) خبر مقدّم ، وجملة : (جنات تجري) مبتدأ مؤخّر. والتقوى هي إتيان الواجبات الشرعية واجتناب المحرمات الإلهيّة ، وهي المراد بالعمل الصالح الذي كثر الاهتمام به في القرآن الكريم ، كما أنها الورع الذي حثّت عليه السنّة المقدّسة بألسنة شتّى ، فقد ورد : «أن من اجتنب محارم الله فهو من أورع الناس» ، وهي أساس الكمالات وقرّة عين الأنبياء والمرسلين ، وهي السبب المتّصل بين أهل الأرض والسماء ، وبها ينتظم نظام الدنيا والعقبى.

ولفظ الجنّات يدلّ على كثرة الأشجار واستتار الأرض بها وتعدّدها

١١٦

وجريان الأنهار من تحت الأشجار إنما هو لأجل تماميّة بهجة الجنّات وازدياد رونقها ، وكون الجنّات كذلك من أجلى مظاهر الفرح والانبساط ، لا سيما إذا استيقن الإنسان بدوام تلك النعمة ، ولذا عقّبها بقوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها) ، لتماميّة النعمة ، بخلاف نعيم الدنيا.

ولجريان الأنهار أنواع كثيرة : منها ما إذا كان منبع الأنهار من غير تحت الأشجار ، ومنها ما إذا كان المنبع من تحتها ، ومنها ما إذا كان نزول الماء من الفوق في الأنهار ثم الجريان منها صاعدا (على نحو الفوارة) بالقدرة الأزلية الخلّاقة إلى غير ذلك ، وبالجملة أن هذه الجنّات تشتمل على جميع اللذائذ بأعلى مراتبها.

والأزواج المطهّرة هي تلك الأزواج التي يرغب إليها الإنسان ، التي تكون طاهرة من جميع الرذائل ومبرّأة من كلّ عيب وذم ونقصان ، خلقا وخلقا بما يلائم طبع الإنسان ، فهي في غاية الملاحة والبشاشة والسرور ، وفي ذلك تمام النعمة.

وقد خصّ الله تعالى الأزواج بالذكر من بين سائر اللذائذ الجسمانيّة ، لأن النساء أعظم المشتهيات النفسانيّة ، والوقاع من أشدّ اللذائذ عند الإنسان.

قوله تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ).

الرضوان بكسر الراء أو ضمها من الرضا مصدران ، وهو ملائمة الشيء لنفس صاحبه وسرورها به.

وقد تكرّرت مادة (رضى) في القرآن الكريم بهيئات شتّى تبلغ سبعين موردا ، وقد ينسب الرضا إلى الله عزوجل ويراد به عناية خاصة غير محدودة بأي حدّ من النعم المعنويّة ، بلا فرق بين أن يكون رضاؤه تعالى بالنسبة إلى أفعال العباد وطاعتهم له عزوجل ، أو صفاتهم وأحوالهم ، أو بالنسبة إلى أمر آخر يتعلّق بهم ، قال تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة الفتح ، الآية : ١٨] ، وقال تعالى : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) [سورة المائدة ، الآية : ٣] ، وقال تعالى : (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [سورة الزمر ، الآية : ٧].

وقد ينسب إلى العبد ، وهو آخر مقامات العبوديّة الخالصة الذي هو التخلّق

١١٧

بأخلاق الله تعالى ، والتفاني في حبّه ، ولذلك درجات كثيرة ، منها رضاء العبد عن الله تعالى لجزائه الحسنى وحكمه ، قال تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [سورة التوبة ، الآية : ١٠٠].

ورضوان الله تعالى هي الغاية القصوى لكلّ ذي لب ، وهي أعلى مراتب اللذائذ الروحانيّة ، وذكره بالخصوص إنما هو لأجل بيان أن الرضا هو أقصى ما يشتهيه الإنسان من مشتهيات الدنيا ، بل هو الغاية منها ، فلا بد من السعي إلى رضوان الله تعالى الذي هو من أعظم اللذائذ عند المتّقين وذوي الألباب ، فهو الخير الذي لا يتصوّر أعظم منه ، لا ما يتصوّره الإنسان من الخير في المال والقناطير ، فإن ذلك إنما يكون برضائه تعالى ، ولذلك اعتنى عزوجل به وأفرده بالذكر في مقابل الجنّات والأزواج المطهّرة في هذه الآية وفي سائر الآيات التي اقترن بغيره من اللذائذ ، قال تعالى : (فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) [سورة المائدة ، الآية : ٢] ، وقال تعالى : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ) [سورة التوبة ، الآية : ٢١] ، وقال تعالى : (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) [سورة الحديد ، الآية : ٢٠].

وقد جمع سبحانه وتعالى في هذه الآية الشريفة اللذائذ الجسمانية في الآخرة ، وهي الجنّات والأزواج المطهّرة ، واللذّة المعنويّة الروحانيّة ، وهي : الرضوان الذي لا يحدّه حدّ ولا يشوبه نقص.

ويستفاد من الآية الشريفة اختلاف درجات المتّقين في الآخرة ، وأن لأهلها مراتب وطبقات ، فمنهم من لا يليق به إلا اللذائذ الجسمانيّة ، كالجنّات والأزواج المطهّرة ، ومنهم من عظمت منزلته وارتقى إدراكه وعلا قربه ، فلا يليق به إلا رضوان الله تعالى.

١١٨

قوله تعالى : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ).

أي : والله خبير بعباده عليم بأفعالهم وما تطويه ضمائرهم ، فلا تخفى عليه خفاياهم وأمورهم ، فيجازي كلّ فرد بما يكسبه وما يليق بأفعاله.

ويستفاد من الآية الشريفة أن امتياز كلّ فرد من أفراد الإنسان بما يشتهيه الداخل في عواطفه وسلوكه في حياته الدنيويّة والاخرويّة تحت إرادة الله تعالى وحكمته البالغة ، وهو عالم بمصالحهم وجزائهم لا تخفى عليه أمورهم ، فهذه الآية الشريفة بمنزلة التعليل لجميع ما سبق ذكره.

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ).

بيان لصفات المتّقين المدلول عليهم بقوله تعالى : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) ، وهي من الصفات الحميدة ، وفيه إشارة إلى بعض صفات المحبّين المخلصين ، وبعض مقامات العارفين ، كلّ ذلك في خطاب بليغ إلى أعزّ حبيبه وأطهر قلب من الشرك وأنواع العيب ، وفيه تظهر المعبوديّة المحضة للمعبود الحقيقي ، كما أن فيه وعد الاستجابة للطائعين والعابدين.

والقول : مطلق ما يشعر بالحكاية عمّا في الضمير ، بخلاف الكلام فإنه أعمّ من القول ، فكلّ كلام قول ولا عكس ، والمراد به في المقام مطابقة ضمائرهم مع ما يقولون بألسنتهم ، وسياق الآية الشريفة شاهد لما قلناه.

ومادة (غفر) تأتي بمعنى إزالة الوسخ والدنس ، يقال : «اغفر ثوبك في الوعاء ليذهب عنه وسخه». وهي من الموارد الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات مختلفة جدا ، وقد أضافها الله تعالى إلى نفسه الأقدس في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم ، فهو الغفّار والغفور ، وأن منه المغفرة ، قال عزوجل : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ) [سورة الرعد ، الآية : ٦] ، وقال تعالى : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ) [سورة طه ، الآية : ٨٢] ، وقال تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [سورة هود ، الآية : ١١] ، وقال تعالى : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) [سورة آل عمران ،

١١٩

الآية : ٣٥] ، وقال تعالى : (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [سورة يوسف ، الآية : ٩٨].

ومادة (ذنب) تأتي بمعنى التبعة ، أي القبح الذي يتبع صاحبه ، والفرق بينه وبين الجرم بالاعتبار ، لأنه بمعنى القطع ، أي يقطع ارتباط صاحبه بالله تعالى ، فكلّ مجرم مذنب وكذا العكس.

والآية المباركة في مقام بيان استنجاز الوعد بعد الإيمان بالله تعالى ولذا فرع غفران الذنوب على الإيمان ، يعني : أننا وفينا بما عهد إلينا وهو الإيمان ، فانجز اللهم بوعدك بستر ذنوبنا بعفوك وخلاصنا من عذابك. وعهد الله تعالى هذا مذكور في جملة من الآيات صريحا وضمنا ، منها قوله تعالى : (وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ) [سورة الأحقاف ، الآية : ٣١] ، وقوله تعالى : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) [سورة الزمر ، الآية : ٥٣] ، وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [سورة الصف ، الآية : ٩ ـ ١٢].

ومعنى الآية الشريفة : الذين يؤمنون ويعترفون بحقيقة العبوديّة لله تعالى والإيمان به عزوجل ، ويجعلون ذلك وسيلة لطلب غفران الذنوب ونجاتهم من عذاب النار ، لهم جنات تجري من تحتها الأنهار.

والآية المباركة ليست في مقام المنّة عليه عزوجل ، بل له تعالى المنّة على عباده أن هداهم إلى الإيمان.

وإنما خصّوا اسم الربّ في دعائهم لما فيه من إظهار العبوديّة والاسترحام.

وإطلاق الآية المباركة يشمل جميع الذنوب الكبيرة والصغيرة ، وقد قرّر عزوجل إيمانهم مع ذلك ، فتكون الآية الشريفة حجّة على من قال بأن ارتكاب الكبيرة لا يجتمع مع الإيمان.

نعم ، لو أراد أنه حين الارتكاب يزول إيمانه العملي بخصوص ما ارتكبه ، كما

١٢٠