بحوث في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٦

التعليق الأول

هو إن ما ذكره فعلا أولا ، هو عبارة عن تأثير النفس ، وإعمالها لإمكانياتها في إيجاد الصلاة ، فهو بحسب الحقيقة ليس فعلا نفسانيا وراء الفعل الخارجي فإن تأثير النفس في إيجاد الصلاة ليس إلّا نفس الصلاة لأن التأثير عين الأثر وجودا والإعمال هو عين العمل وإن كان مخالطا له مفهوما ، فإن التأثير والأثر ، والإيجاد والوجود ، والإعمال والعمل ، مفهومان ، مصداقهما واحد ، بحسب الخارج ، وإنما يختلفان بالاعتبار فقط ، فإن الإيجاد ، هو نفس الوجود ، لكن منسوبا إلى الفاعل ، فيقال هذا إعمال وتأثير ، وإيجاد من النار فتارة ينظر إلى الاحراق منسوبا إلى النار ، وأخرى ينظر إلى الإحراق بما هو منسوب إلى محله فيقال هذا أثر وعمل ووجود.

إذن ليس هناك مطلبان تحت هذين العنوانين ، مطلب تحت عنوان التأثير والإيجاد والإعمال ، ومطلب تحت عنوان الأثر والوجود والعمل بل هي عناوين منتزعة عن ترتب العمل والأثر والوجود بحسب الخارج ، ولا نعرف مصداقا آخر لهذه العناوين.

التعليق الثاني

إن ما أدخله المحقق النائيني ، من فرضية العمل النفساني في المطلب ، لا دخل له في حل الشبهة ، فقد قال ، بأنه يوجد هناك عملان طوليان (١) ، أحدهما العمل الخارجي المترتب على العمل النفساني ، والعمل النفساني هذا ، ليس معلولا للإرادة ، لعدم مشموليته لقانون الوجوب بالعلة ، ونحن نقول أن حل الشبهة ، لا يتوقف على إدخال فرضية العمل النفساني ، لأن كل ما يقوله ، في العمل النفساني ، أيضا نقوله في العمل الخارجي ابتداء ، بلا حاجة إلى توسيط العمل النفساني ، فلو فرض أنه لا يوجد هناك فعلان

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي ص ٨٩ ـ ٩٠ ـ ٩١ ـ ٩٢.

٨١

طوليان ، بل فعل واحد ، وهو الصلاة ، وهذا الفعل الواحد ، ينتزع من عناوين متعددة ، باختلاف الاعتبارات ، كعنوان العمل ، والإعمال ، والأثر والتأثير ونحو ذلك من العناوين ، ومع ذلك ، أيضا يمكن دفع الشبهة ، فنقول.

بأن هذا العمل الواحد الذي هو الصلاة ، نلتزم فيه بما التزم به الميرزا ، في العمل النفساني ، فكما قال ، بأن العمل النفساني غير مشمول لقانون الوجوب بالعلة ، فهنا نلتزم في العمل الخارجي ابتداء بلا توسيط عمل قبله ، وأنه خارج تخصيصا عن قاعدة أن الشيء ما لم يجب لم يوجد ، فإن كان هذا التخصيص يكفي لدفع الشبهة ، فيمكن تطبيقه على الفعل الخارجي ابتداء ، وإن كان لا يكفي لدفع الشبهة ، فتكثير العمل وفرض عملين طوليين ، لا دخل له في دفع الشبهة في المقام.

التعليق الثالث

إذا لاحظنا الفعل الخارجي ، نرى أن حاله ، حال سائر الحوادث في عالم الطبيعة ، بمعنى أنه ينطبق عليه ، قاعدة ، «أن الشيء ما لم يجب لم يوجد» ، لأن الفعل الخارجي له علة ، وعلته هي الفعل النفساني ، إذن فهو واجب بالعلة ، وأما إذا لاحظنا الفعل النفساني نفسه ، فقد ذكر المحقق النائيني ، أنه خارج تخصيصا عن القاعدة المذكورة ، وهذا التخصيص حيث أنه تخصيص في قاعدة عقلية ، لا بدّ من طرح هذا السؤال ، والجواب عليه ، ما هو المنشأ والمصحّح لهذا الفعل النفساني؟. فإن قيل ، بأنّ المصحّح لوجوده ، هو وجوب صدوره ، فهو خلف ، لغرض خروجه عن القاعدة المذكورة ، وإن قيل أنّ المصحّح لوجوده ، هو إمكان صدوره الذي هو مفهوم سلبي ، بمعنى نفي الضرورة عن الوجود والعدم فيه ، إذن لما ذا كان الإمكان مصحّحا لصدور هذه الحادثة من الحوادث ، ولا يكون مصحّحا لسائر الحوادث الأخرى؟. إذ ليس هذا مجرد تخصيص تعبدي ، حتى يقال إنّ هذه الحادثة خرجت تعبّدا من تحت العموم الفوقاني ، وإنما المسألة مسألة الملاكات العقلية للإمكان والاستحالة.

وحينئذ نسأل ، أن هذا الفعل النفساني إن كان المصحّح لوجوده مجرد

٨٢

الإمكان ، إذن فلما ذا هذا الإمكان صار صالحا لتصحيح وجود هذه الحادثة ، ولم يصبح صالحا لتصحيح وجود الحوادث الأخرى!.

وأمّا ما ذكره المحقق النائيني ، من أن الفعل ، يكون المصحّح لوجوده ، إعمال القدرة ، فهذا لا يكفي جوابا على السؤال ، لأننا نتكلم في نفس إعمال القدرة ، الذي هو فعل نفساني ، وإلّا فنسأل من جديد ما هو المصحّح لوجود هذا الفعل النفساني!. هل المصحح لوجوده ، مجرد إمكان صدوره من النفس ، أو وجوب صدوره من النفس؟. فإن كان المصحّح ، وجوب صدوره من النفس ، إذن فمعناه ، أنه ينطبق عليه ، قاعدة ، أن الشيء ما لم يجب لم يوجد ، وإن كان المصحّح لوجوده ، مجرد إمكان صدوره من النفس ، إذن فيبقى الكلام ، في أنه لما ذا لا يكون المصحّح لصدور أي فعل من محله ، هو إمكان صدوره ، مع أن الإمكان وحده ، في بقية الموارد ، لا يكون مصححا لصدور الفعل.

ومن هنا كان لا بدّ من تكميل للبيان ، وتوضيح لمرام المحقق النائيني ، إذ قد تكون العبائر غير وافية ، فلا بدّ من طرح مفهوم ثالث ، إلى جانب الإمكان والوجوب ، وهو مفهوم السلطنة ، والإمكان بما هو إمكان ، لا يصحّح وجود شيء ، لا في عالم النفس ، ولا في عالم الطبيعة ، لأن الإمكان أمر سلبي ، ومجرّد سلب الضرورة ، عن الوجود والعدم ، لا يكفي لتعيين أحد الطرفين وأمّا كون الوجوب ، بمعنى الضرورة ، الناشئة من العلة التامة ، مصحّحة لوجود الشيء ، ولكن هذه الضرورة التي تكون مصححة لصدور الشيء تكون منافية مع الاختيار أيضا لا محالة. وأمّا السلطنة ، فهي عبارة ، عن أن الذات ، لها أن تفعل ولها أن لا تفعل ، فالسلطنة مفهوم ثالث ، مغاير للإمكان والوجوب ذاتا ونتيجة كما يأتي.

٨٣

حلّ الشبهة

قلنا في المناقشة الأخيرة ، من كلام الميرزا ، أن الفعل الاختياري الذي يراد إخراجه تخصيصا من قاعدة الوجوب بالعلة. سواء كان هو الفعل النفساني أو الفعل الخارجي ابتداء بدون توسيط الفعل النفساني ، هذا الفعل الاختياري ما هو المصحح لوجوده ، بعد فرض عدم وجوبه الذاتي؟.

ومصحّح وجوده ، لا يخلو من أحد فروض :

الفرض الأول : أن يكون المصحح لوجوده ، هو الوجوب بالغير ، والضرورة المكتسبة من العلة ، وقد قال الميرزا ، أن هذا الفعل خارج تخصيصا عن قاعدة الوجوب بالعلة.

الفرض الثاني : أن يكون المصحّح لوجوده ، مجرد الإمكان الذاتي ، بمعنى أنّ مجرد إمكان صدوره من الفاعل ، يكفي في صدوره ، وهذا أيضا غير صحيح لشيئين :

أولا : لعدم الفارق ، بين هذا الإمكان ، وبين سائر الإمكانات ، فلما ذا كان إمكان صدور الفعل من الإنسان مصحّحا لوجوده ، ولكن إمكان صدور

٨٤

الإحراق من النار لا يكون مصححا لوجود الإحراق (١)!.

ثانيا : إن الإمكان ، لو كان هو المصحّح لوجود ، فمعنى هذا ، أنه وجد صدفة بلا أي منشأ ، لأن الإمكان نسبته إلى الوجود والعدم على حد واحد ، والصدفة غير الاختيار ، فإذا وجدت الحرارة في الماء صدفة ، فلا يقال ، إن هذا عمل اختياري.

الفرض الثالث : أن يقال ، بأن المصحّح لوجود هذا الفعل النفساني ، فعل نفساني قبله ، أي هجمة للنفس قبل هذه الهجمة ، تصحّح هذه الهجمة ، ومثل هذا أيضا لا معنى له ، للزوم التسلسل في هجمات النفس ، إذن فلا بدّ من الانتهاء إلى فرض رابع.

الفرض الرابع : هو إبداء مفهوم ثالث ، في مقابل مفهوم الإمكان والوجوب ، وهذا المفهوم ، هو مفهوم السلطنة. ومن هنا نأتي إلى توضيح أصل الطلب ، وهو المعنى المجمل من كلام المحقق النائيني ، الذي قلنا ، أنه صحيح ، وتوضيحه يكون من خلال عدة نقاط.

النقطة الأولى

إن قاعدة الوجوب بالعلة ، وأن الشيء «ما لم يجب بالعلة لا يوجد» ، لو كانت هذه القاعدة ، قد قام عليها البرهان ، فلا معنى للالتزام بالتفصيل فيها ، أو التخصيص ، لأن البرهان العقلي ، حينما يقوم على القاعدة ، حينئذ ، تكون القاعدة ، غير قابلة للتخصيص والتقييد ، ولكن الصحيح ، أن هذه القاعدة ، ليست قاعدة مبرهنة ، وإنما هي قاعدة وجدانية ، لا يمكن إقامة البرهان عليها ، إذ أنها قاعدة من المدركات الأولية للعقل ، وإن حاول جملة من الحكماء ، أن يبرهنوا على قاعدة العلية ، وهي أن الشيء ما لم يجب لم يوجد ، وقد تعرضنا لذلك في الأسس المنطقية للاستقراء ، وذكرنا هناك ، أنّ الاستدلال على العليّة

__________________

(١) دليل المختار ـ المقرر ص ٣٩.

٨٥

الذي تصوره بعض الفلاسفة ، يشكّل دورا واضحا ، ونشير هنا بشكل مجمل إلى هذا : فمثلا قد يقال ، بأن هذه القاعدة ، يمكن إثباتها بالبرهان ، وذلك لأن الحادثة ، لو وجدت من دون علة ، ومن دون وجوب ، مع إمكان الوجود والعدم ، للزم ترجيح أحد المتساويين بلا مرجح ، وترجيح أحد المتساويين على الآخر ، بلا مرجح. محال ، إذن فلا يعقل أن توجد الحادثة ، إلّا إذا تبدل إمكانها بالوجوب بالغير.

وهذا برهان ، لإثبات قاعدة ، أن الشيء «ما لم يجب لا يوجد» ، وهو غير صحيح في المقام ، وذلك.

لأن نفس استحالة الترجيح بلا مرجح ، عبارة أخرى عن قانون العليّة ، لأن الترجيح بلا مرجح ، معناه ، أنه يوجد رجحان بلا سبب اقتضاه ، وهذا عبارة أخرى ، عن أن المعلول ، يوجد بلا علة (١) ، فكأنه برهن على قانون العليّة بقانون العليّة ، لأنك حينما تبرهن ، على أن الحادثة ، لا يمكن أن توجد ، إلّا إذا تبدّل إمكانها بالوجوب بالغير ، ووجدت العلة الموجبة ، فأنت بما ذا تبرهن على ذلك؟. ألا ترى أنه إذا وجدت الحادثة ، مع أنها ممكنة ، لزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر بلا مرجح ، وهذا عبارة ، عن لزوم وجود المعلول بلا علة ، فكأنك استدللت على مبدأ العلّية ، بأنه لولاه ، للزم وجود المعلول بلا علة ، وهذا مصادرة على المطلوب.

فقانون العلّية ، ليس قانونا مبرهنا عليه بهذا العنوان ، وإنما هو قانون ، يتقبله العقل السليم والفطرة السليمة ، كقضية بديهية ، لا يبرهن عليها ، ومن هنا ، لا بدّ من الرجوع إلى الفطرة السليمة ، التي أدركت هذا القانون ، لتقول كلمتها في المقام.

__________________

(١) الأسس المنطقية للاستقراء ص ٥٤ ـ ٥٦ ـ ٦٣.

٨٦

النقطة الثانية

لا بدّ من تشخيص ما هو مقتضى الفطرة السليمة ، وحاصل الكلام في ذلك ، أنّ الفطرة السليمة ، تحكم أن الإمكان الذاتي للشيء ، لا يكفي مصحّحا لوجوده ، بل لا بدّ من مصحح وراء الإمكان ، وهناك أمران ، لو ثبتا ، لرأى العقل والفطرة السليمة ، صلاحيّتهما للتصحيح.

الأول : العلة الموجبة ، فإنها تكفي للتصحيح في المقام ، لأنها توجب خروج الممكن ، عن تساوي الوجود والعدم ، وترجيح أحد الطرفين على الآخر ، فيوجد.

الثاني : هو السلطنة ، فلو وجدت ذات في العالم ، أو خارجه ، لها سلطنة ، فإن هذه السلطنة بمفردها ، مصحّحة بحسب الفطرة السليمة ، لصدور الفعل ، وذلك ، إن السلطنة التي هي مفهوم ثالث وراء الإمكان والوجوب ، تشترك مع الإمكان ، في شيء ، وتمتاز عنه في شيء آخر ، وتشترك مع الوجوب ، في شيء ، وتمتاز عنه ، في شيء آخر.

أمّا اشتراك السلطنة مع الإمكان الذاتي ، هو أنّ نسبتها إلى الوجود والعدم ، على حد واحد ، فكما أن الإمكان الذاتي ، نسبته إلى الوجود والعدم ، إلى الفعل والترك ، على حد واحد ، فكذلك السلطنة.

وأما جهة امتياز السلطنة ، عن الإمكان الذاتي ، هو أنّ في الإمكان ، لا بدّ من ضم مصحّح لأحد الطرفين ، لكي يوجد ، لأنّ الإمكان وحده لا يكفي لتحقق أحد الطرفين بالبداهة والفطرة ، وأما السلطنة فيستحيل أن تفرض فيها إضافة ، لكي يتحقق أحد الطرفين ، لأن ذلك خلف مفهوم السلطنة ، إذ بعد أن تفرض السلطنة ، يستحيل أن تضم إلى أحد الطرفين ضميمة ، لكي يوجد الفعل أو الترك ، لأن معنى هذا أنه ليس هناك سلطنة ، لأن معناها ، أن «له أن يفعل وله أن يترك» وهذا بخلاف الإمكان ، فإن فرض ضم ضميمة إليه لكي يفعل أو يترك لا يخرج الإمكان عن كونه إمكانا.

٨٧

إذن فالسلطنة ، بعد فرض وجودها ، لا بدّ من الالتزام ، بأنها تختلف عن الإمكان ، في أنها لا يحتاج صدور أحد الأمرين فيها إلى ضميمة ، وإلّا ، كان ذلك خلف كونها سلطنة.

وأما اشتراك السلطنة ، مع الوجوب بالعلة ، هو أنه ، كما أن الوجوب بالعلة ، يكفي لصدور الشيء بلا ضم ضميمة. فكذلك السلطنة تكفي لصدور الشيء من دون ضم ضميمة.

وأمّا جهة امتياز السلطنة ، عن الوجوب بالغير ، هي ، أن صدور الشيء من العلة الموجبة ضروري ، أمّا السلطنة ، فصدور الفعل أو الترك منها ليس ضروريا ، لأنه لو كان ضروريا ، لكان خلف السلطنة أيضا ، لأنه فرق بين «لا بد أن يفعل» «وله أن يفعل».

ومن هنا ينتزع العقل ، عنوان الاختيار (١) من السلطنة ، ولا ينتزعه. لا من الفعل الصادر من الوجوب بالعلة ، ولا من الفعل الصادر من محض الإمكان ، لو أمكنت الصدفة.

فالمطلوب في النقطة الثانية ، أنه ، لو وجدت سلطنة في العالم ، فهذه السلطنة ، مساوقة ، مع الاختيار ، وكلّ أفعالها ، تكون اختيارية ، وخارجة عن قانون ، «أن الشيء ما لم يجب لم يوجد» وليس هذا تخصيصا في القاعدة العقلية ، على النحو الذي بيّناه.

النقطة الثالثة

والكلام في هذه النقطة ، يدور حول ، أن هذه السلطنة ، موجودة في العالم ، أو غير موجودة؟.

وقد عرفنا في النقطة الثانية ، أنه ، لو وجد كائن له سلطنة ، فهو مختار ،

__________________

(١) المختار في الجبر والاختيار ، السيد الفاني ص ٨٥.

٨٨

أمّا أن هذا ، فهل له وجود في العالم أو ليس له وجود؟. على نحو الموجبة الجزئية ، يمكن إقامة البرهان على وجوده ، وتعيّنه في القدرة الإلهية.

وهذا بحث خارج عن الكلام ، ولكن الكلام ، هو ، أن هذه السلطنة ، موجودة في الإنسان أيضا أو غير موجودة؟. إلى الآن كان الكلام فرضيا ، يرجع إلى قضية شرطية ، وهي أن الإنسان لو كان له سلطنة ، فهو مختار ، ولكن لا بدّ من الكلام ، في تشخيص صغرى المطلب ، وهي ، هل أن أفعال الإنسان تصدر بالسلطنة ، أو تصدر بالوجوب بالغير ، وهذا بحسب الحقيقة ، لا يمكن إقامة البرهان عليه ، وإنما لا بدّ من الرجوع فيه ، إمّا إلى الوجدان ، وإمّا إلى الشرع ، وذلك.

إمّا بأن نرجع إلى تقريب ، يقول ، بأننا نرى بالوجدان ، أنه ، بعد أن نصدّق بالفائدة من الحضور في المسجد ، ونشتاق إليه ونريده ، لا يوجد أحد يدفعنا إلى الحضور ، وإنما بإمكاننا بعد ذلك ، أن نفعل ، وبإمكاننا أن لا نفعل ، وهذه دعوى ، مرجعها إلى إدراك وجداني مباشر لهذه السلطنة ، وعهدتها ، على من يرى هذا الوجدان في نفسه ، فلا تكون القضية برهانية.

وإمّا بأن نرجع إلى تقريب آخر ، وهو ، بأن يقال ، بأن كثيرا ، ما يتفق للإنسان ، أن يختار أحد الفردين ، لا لمرجح فيه أصلا ، وإنّما لمرجح في الجامع ، من قبيل ، ما هو المعروف ، من اختيار أحد طريقي الهارب ، وأحد رغيفي الجائع ، فالجائع يمكن أن يشبعه هذا الرغيف ، ويمكن أن يشبعه ذاك الرغيف ، فلو كان قانون الوجوب بالعلة ، هو الذي يحكم الإنسان ، إذن ، لاستحال أن يصدر منه الأكل ، لا لهذا الرغيف ولا لذاك ، إذ لا يوجد مرجح لأحد الرغيفين على الآخر ، حيث لا مرجّح وجوبي ، لا لهذا ، ولا لذاك ، لكن لو كان الحاكم ، هو قانون السلطنة ، فالجائع يريد الجامع ، وهو مسلّط على تطبيقه ، على هذا الفرد ، أو على ذاك الفرد ، فيرجّح أحد المتساويين ، بلا مرجح ، وهذا البيان صحيح عند الفلاسفة الشكّاكين ، من أن الجائع ، سوف يأكل أحد الرغيفين ، لكن بمرجّح لا يعلمه ، وهذا المرجح ، موجود في عالم

٨٩

أعلى ، في علمه تعالى ، ومن هنا أكل ذلك الرغيف.

ولكن نقول إننا نقطع بالوجدان ، أنه في بعض الموارد ، ليس هناك مرجّح ، فيرجع هذا البيان أيضا ، إلى بيان وجداني ، لا إلى بيان برهاني ، وبهذا يتضح ، أن حصيلة هذا البحث ، هو تنقيح كبرى فرضية ، أنّ السلطنة بنفسها ، قانون مقابل قانون الوجوب بالعلة ، وبهذا القانون يمكن ، دفع برهان الجبر ، لأن مجرد إبداء ، أن يكون الإنسان ، داخلا في دائرة السلطنة ، لا في دائرة الوجوب بالعلة ، يكفي ، لدفع شبهة الجبر ، التي كانت هي المحور في المسألة الفلسفية ، وأمّا إقامة البرهان ، على صغرى هذه الفرضية ، بمعنى أن أفعال الإنسان الخارجية ، يتحكم فيها السلطنة ، لا الجبر ، وأنه تعالى ، خلق فيه السلطنة ، وأنّ هذه السلطنة ينتزع منها عنوان الاختيار ، فإثبات هذه الصغرى لا يكون برهانيا ، وإنما يرجع إلى الوجدان ، أو إلى المصادر الشرعية ، وبهذا انتهى البحث في اتحاد الطلب والإرادة.

٩٠

تتميم وتفريع

قلنا إن الكلام ، ينقسم إلى المسألة الكلامية ، والمسألة الفلسفية ، والمسألة الكلامية ، هي المعقودة لتشخيص هوية الفاعل ، والمسألة الفلسفية ، هي المعقودة لتشخيص اختيارية الفعل ، بعد الفراغ عن تشخيص الفاعل في الإنسان ، وقد تكلمنا في كل من المسألتين ، لكن بقي أمران ، ينبغي التنبيه عليهما.

الأمر الأول

هو أن الاحتمال الثالث والرابع ، من الاحتمالات الخمسة ، التي طرحناها في المسألة الكلامية ، كلاهما ، معقول بالنظر إلى المسألة الكلامية ، وقلنا هناك بالنسبة للأمر بين الأمرين ، أن هناك مؤثرين في الفعل ، أحدهما الباري تعالى ، والآخر الإنسان ، وذكرنا في الاحتمال الثالث ، أن يكون الفاعلان طوليين ، بمعنى أن الفعل فعل الإنسان ، والإنسان بقواه ، فعل للباري تعالى. وفي الاحتمال الرابع ، قلنا ، أن الفاعل المباشر للفعل ، هو المولى تعالى ، وأمّا دخل الإنسان في الفعل ، هو أنه مقدمة إعدادية بلحاظ إرادته وشوقه لصدور الفعل من المولى تعالى ، وقد قلنا أن هذين الاحتمالين بلحاظ ما هو المهم في المسألة الكلامية ، وهو تصوير الأمر بين الأمرين ، حيث لا جبر ولا تفويض ، كلاهما معقول ، ولا برهان ولا وجدان على إبطالهما ، ولكن على ضوء المسألة الفلسفية ، التي فرغنا عنها ، وأثبتنا أن صدور الفعل

٩١

من الإنسان بالاختيار ، وبالسلطنة ، وليس بالجبر والضرورة ، فلا بدّ من الالتزام ، من أن الاحتمال الرابع ، باطل ، لأن هذا الاحتمال ، مرجعه إلى الجبر في المقام ، لأن الفاعل المباشر ، هو المولى تعالى على ضوء هذا الاحتمال ، وإرادة الإنسان التي هي المقدمة الإعدادية ، لا يمكن الالتزام ، بأنها من فعل الإنسان ، لأن هذا الاحتمال ، يحصر الفاعلية والخالقية بالمولى تعالى ، وذلك ، لأن الإرادة ، باعتبارها حادثة من الحوادث ، فلا بدّ وأن يكون فاعلها هو المولى ، بقانون حصر الفاعلية به ، ولا يكون هناك انتساب فاعلي إلى الإنسان ، لا لذات الفعل ، ولا لمقدماته الإعدادية ، فلا يكون اختيار في المقام ، فهذا الاحتمال الكلامي ، وإن كان يصوّر الأمر بين الأمرين ، لكن ينافي مع الاختيار الذي أثبتناه ، فلا بدّ من طرح هذا الاحتمال ، والالتزام بالاحتمال الثالث.

الأمر الثاني

وهو أن هذا الاختيار الذي ثبت للإنسان في المسألة الفلسفية ، ليس اختيارا مطلقا ، بل هو محدود ، لوضوح أن الإنسان ، ليس مختارا في كل شيء في العالم ، إذ ما أكثر الأشياء التي تقع أو لا تقع بدون اختياره ، وضابط هذا الاختيار المحدود ، هو أن كل أمر إثباتا أو نفيا ، يكون للاعتقاد بالمصالح والمفاسد تأثير في إيجاده ، أو إعدامه ، فهذا داخل تحت قانون السلطنة التي حققناها ، ويدخل تحت هذا الضابط أمران :

الأول : الأفعال الخارجية كالصيام والصلاة والجلوس وغير ذلك من الأفعال التي تتحقق من الإنسان.

الثاني : الإرادة والشوق والقصد إلى هذه الأفعال الخارجية.

أمّا الأمر الأول ، وهو الأفعال الخارجية ، فمن الواضح انطباق الضابط عليه ، لأن هذه الأمور الخارجية ، يكون للاعتقاد بالمصالح والمفاسد تأثير في وجودها وفي إعدامها ، فلو اعتقد المصلحة في القيام ، فهو يقوم ، ولو لم

٩٢

يعتقد المصلحة لا يقوم ، فضابط السلطنة منطبق على الأمر الأول ، بلا إشكال ، وأمّا الأمر الثاني ، وهو الإرادة والقصد ، فتطبيق الضابط عليه ، قد يكون بأحد وجهين :

الوجه الأول

وهو الوجه الصحيح ، وهو أن تطبيق هذا الضابط للاختيار على القصد والإرادة ، يكون باعتبار تأثير القصد والإرادة بالاعتقاد بالمصالح في المراد ، لأن الشخص حينما يعتقد بالمصلحة بالقيام ، يريد أن يقوم ، وحينما يعتقد بالمفسدة في الأكل ، يكره أن يأكل ، فالإرادة والقصد ، يكون أيضا له ارتباط وتأثير بالاعتقاد بالمصالح والمفاسد القائمة بالمراد ، وبهذا الاعتبار ، كانت الإرادة داخلة تحت الاختيار ، ويصح التكليف بها ، فيصح أن يوجب المولى على العبد ، أن يحب أمير المؤمنين (ع) ، باعتبار أن هذا الحب ، بالإمكان جعله تحت الاختيار ، عن طريق النظر في مصالح المحبوب وكمالاته ، وهكذا ، فالتكليف بالحب والكراهة ، والقصد والإرادة ، تكليف معقول ، باعتبار أن هذه الأمور ، من المفاهيم المتقاربة ، كلها تتأثر بالاعتقاد بالمصالح والمفاسد في متعلقاتها ، فيكون إيجاد هذه الحالات النفسية ، تحت الاختيار في كثير من الأوقات.

الوجه الثاني

هو دعوى ، أن الإرادة ، يمكن نشوؤها من مصلحة في نفسها ، بدون أن يكون هناك مصلحة في المراد أصلا ، فلو فرض ، أنه لا يوجد أي مصلحة في أن يقوم ، إلّا أن شخصا قال له ، أنه لو انقدحت في نفسك ، أن تقوم لهذا المطلب الذي لا مصلحة فيه ، فلك «جعل» في مقابل هذه الإرادة ، بحيث يكون الدينار المجعول جعلا ، على الإرادة ، لا جعلا على المراد ، فصاحب الدينار ، لا يهمّه ، أن هذا يقوم أو لا يقوم ، بل المهم عنده ، أن تنقدح في نفسه هذه الإرادة ، سواء قام أو لم يقم ، فهنا لا يوجد عند الإنسان مصلحة في المراد ، بل اعتقاد بالمصلحة في نفس الإرادة ، ومن هنا وقع الكلام ، في أن

٩٣

الإرادة ، هل يمكن أن تنشأ من الاعتقاد بالمصلحة في نفس الإرادة ، أو لا يمكن (١) ذلك ، قد يقال إن هذا ممكن وواقع عرفا في جملة من الموارد ، ويمكن أن نذكر موردين منها :

المورد الأول

ما إذا فرض أن الشخص كان يريد أن يصوم وهو مسافر ، فقالوا بأنه ينوي الإقامة ، فقد يتفق كثيرا ، أن لا يرى أي مصلحة في الإقامة ، بحيث لو لا مصلحة الصوم ، لا ينوي الإقامة ، إذن فهنا يوجد مصلحة في نفس إرادة الإقامة ، لا في البقاء عشرة أيام خارجا ، لأنه لو أراد بقاء عشرة أيام ، وصام وانتهى صومه ، وبعد هذا أراد أن يترك الإقامة ، قبل أن تنتهي العشرة أيام ، فصومه صحيح بلا إشكال ، فالمصلحة المنظورة للمكلّف ، وهي تصحيح الصوم ، قائمة بقصد وإرادة الإقامة ، لا بنفس الإقامة خارجا ، إذن فقد نشأت الإرادة هنا ، من مصلحة في نفس الإرادة ، لا من مصلحة في المراد ، لأنه لا يرى أي مصلحة في أن يقيم عشرة أيام ، هذا قد يقال كمثال ، لتقريب إمكان نشوء الإرادة ، من مصلحة في نفس الإرادة ، وجدانا وعرفا.

ولكن المحقق العراقي (قده) ، ذهب إلى استحالة هذا الإمكان ، إذ لا يمكن ، فرض نشوء الإرادة من مصلحة في نفسها ، فيما إذا لم يكن مصلحة في المراد ، وذلك للزوم الترجيح بلا مرجح (٢) ، إذ بعد فرض أن الفعل والترك ، كلاهما على حد واحد بالنسبة إلى المكلّف ، فاقتضاء الفعل للإرادة ، بدون الترك ، يكون ترجيحا بلا مرجح ، وهو مستحيل.

والكلام هنا يقع أولا في أصل معقولية هذا ، وعدم معقوليته ، وثانيا يقع في هذا الفرع الفقهي ، وهو أن المكلف ، إذا كان حصول الإرادة له ، أمرا غير معقول ، فكيف يصحح صومه خارجا؟. فالكلام يقع في جهتين.

__________________

(١) بدائع الأفكار ـ الآملي ـ ج ١ ص ٢٠٧.

(٢) بدائع الأفكار ـ الآملي ج ١ ص ٢٠٨.

٩٤

الجهة الأولى

هل يمكن أن تنشأ الإرادة ، من مصلحة في نفس الإرادة ، أو لا يمكن ذلك؟

الصحيح هو أن ما أفاده المحقق العراقي ، من عدم معقولية ذلك ، هو الصحيح ، بمعنى أن الإرادة والشوق والحب يكون تعلقيا وتبعيا ، فلا ينشأ من ملاكات في نفسه ، وإنما ينشأ من ملاكات في متعلقاته ، وليس الوجه في ذلك هو البرهان الذي ذكره المحقق العراقي ، وهو أنه يلزم من تعلق الإرادة بالفعل مع عدم الفرق بين الفعل والترك ، ترجيح أحد المتساويين بلا مرجح ، ليس هذا هو البرهان ، لأن هذا البرهان جوابه واضح ، وهو أن المرجّح موجود ، وغاية الأمر أن المرجّح قائم بنفس الإرادة ، لا بالمراد ، فلو استشكل مستشكل على هذا المكلف ، بأنه لما ذا أردت الإقامة بدلا عن إرادة ترك الإقامة ، مع أن كلا من الإقامة وتركها بالنسبة إليك على حد واحد وهذا منك ترجيح بلا مرجح؟. لأجاب ، بأن المرجح موجود ، وهو مرجّح ، لوجود الإرادة على عدمها ، لا لوجود الإقامة ، على عدمها.

إذن فلا بدّ قبل الوصول إلى كلام المحقق ، أن يدّعى بنحو المصادرة وجدانا ، بأنّ وجود المرجّح في نفس الإرادة ، غير كاف في الترجيح ، هذه مصادرة تدّعى وجدانا لا برهانا ، بمعنى أن عالم التكوين ، بني بهذا النحو ، على أن يطلب كل معلول ، من علته التي أعدّت له ، فمثلا يطلب الإحراق من

٩٥

النار ، لا من الماء ، وكذلك الإرادة ، جعلت لها علة مخصوصة في عالم التكوين ، وهي عبارة عن الاعتقاد بالمصلحة في المتعلق ، فلا يمكن أن تطلب الإرادة ، من غير هذه العلة ، وهذه دعوى وجدانية ، لا بدّ وأن تساق بنحو المصادرة ، وبدون هذه المصادرة ، لا يتم البرهان الذي أفاده المحقق العراقي.

فبرهان المحقق وهو استحالة الترجيح بلا مرجح ، هو بحسب الحقيقة ، في طول هذه المصادرة ، وبعد ذلك ، يكون ذاك البرهان تام في نفسه ، وعلى هذا ، فنشوء الإرادة والحب والقصد ونحو ذلك ، من مصالح في أنفسها ، أمر غير ممكن.

٩٦

الجهة الثانية

وهي ما ذكره بعض الفقهاء ، كشاهد وجداني على وقوع هذا المطلب خارجا ، بالنسبة إلى هذا المكلف ، الذي ابتلي بقصد الإقامة تصحيحا لصومه ، حيث ذكر أنه يمكن أن يصحّح صومه بشكل من الأشكال ، فيقصد الإقامة ، لمصلحة في نفس قصد الإقامة!. وفي هذا الفرق ، وقع المحقق العراقي في إشكال ، وحاول أن يتخلص منه ، ولكن لا يخلو تخلّصه من غموض ، وحاصل ما ذكره ، هو أن المصلحة هنا ، أيضا قائمة بالإقامة ، لكن لا بمطلق (١) الإقامة ، بل بحصة خاصة منها ، وهي الإقامة القصدية ، فقد نشأ قصد الإقامة من مصلحة قائمة لا بالقصد محضا ، بل بالإقامة القصدية ، فتكون نفس الإقامة ، بلحاظ بعض حصص وجودها ، محطا للمصلحة ، فلا يلزم النقض.

وما ذكره المحقق العراقي من كلام هنا يحتاج إلى تمحيص ، لأنه يحتمل فيه أحد أمرين :

الاحتمال الأول : ما هو ظاهر الحصة الخاصة ، وهو أن يقصد في المقام ، أن المصلحة التي يتوخاها المسافر ، قائمة بالإقامة المقيدة بالقصد

__________________

(١) بدائع الأفكار ـ الآملي ج ١ ص ٢٠٨.

٩٧

على نحو القيد والمقيّد ، بحيث يكون محط المصلحة المقيّد مع التقيّد معا ، بنحو المركب الارتباطي الضمني.

وهذا الاحتمال ، جوابه الفقهي واضح ، وهو أنه فقهيا ليس للإقامة دخل أصلا ، حتى بنحو ضمني ، لتحقق صحة الصوم خارجا ، لأن المسافر لو فرض أنه قصد الإقامة وصام ، وبعد الصوم عدل عن الإقامة ، فصومه السابق صحيح ، فتصحيح الصوم ، نكتته ، ليست قائمة بالإقامة المقيّدة بما هي مقيدة ، حتى ينحل الإشكال ، بل قائمة بالقيد فقط ، وهو القصد ، فالإشكال باق على حاله.

الاحتمال الثاني : أن يكون مقصود المحقق من الحصة الخاصة ، هو سدّ باب العدم من هذه الجهة ، بمعنى أن الإقامة لها أبواب من العدم ، فتارة تعدم الإقامة ، لأنّ المسافر لا يريد الإقامة وأخرى تعدم لأن المسافر وان كان يريد الإقامة لكن شخصا أجبره على الخروج من البلد فلا يقيم هناك ، وأخرى تعدم الإقامة ، لعدم وجود القوت هناك مثلا ، فيضطر إلى الخروج ، فهذه أبواب من العدم للإقامة ، وحينئذ يقال ، بأن محط المصلحة ، هو سدّ باب عدم الإقامة من ناحية عدم القصد ، فكأنّ هذا حفظ لمرتبة من وجود الإقامة ، وتقريب لها نحو الوجود ، وحفظ لوجودها بهذا المقدار الناقص.

فإن أراد المحقق ، هذا الاحتمال الثاني ، وهو أن المصلحة ، وهي تصحيح الصوم ، قائمة بحفظ مرتبة من شئون وجود هذه الإقامة ، أي بسد باب عدمها ، الناشئ من عدم القصد ، فإن هذا صحيح ، ولكنه عبارة أخرى عن قيام المصلحة بنفس القصد ، فإن سدّ باب عدم الإقامة ، الناشئ من عدم القصد ، عبارة عن القصد ، وليس هذا جزءا من وجود الإقامة خارجا ، إلّا بنحو المسامحة في التعبير ، وإلّا واقع المطلب ، وهو سدّ باب عدم الشيء ، من ناحية هذه المقدمة من مقدماته ، عبارة عن إيجاد تلك المقدمة لا أكثر من هذا المقدار ، فرجع الإشكال ، وهو أن سدّ باب العدم من ناحية القصد ، لا يزيد خارجا على أصل القصد ، إذن فقد صار تمام المصلحة في القصد ، مع انعزال

٩٨

المقصود عن مصب المصلحة ، إذن فهذا الكلام لا يمكن أن يرجع إلى معنى ، يمكن المساعدة عليه.

وتوضيح الكلام في هذا الفرض ، أنه تارة نبني ، على ما افترض ضمنا ، في طرح هذا الفرض ، وهو أنّ مناط صحة الصوم بالإقامة ، بالنسبة إلى المسافر ، هو قصد الإقامة ، بالإرادة ، بمعنى الحب والبغض ، يعني أن يكون محبا ومشتهيا للإقامة.

وأخرى يكون مناط صحة الصوم بالإقامة ، ليس قصد الإقامة ، بمعنى الحب ، بل هو قصد الإقامة بمعنى البناء والالتزام ، ولو كره الإقامة في ذاك البلد ،

وتارة أخرى يكون مناط صحة الصوم بالإقامة ، هو القصد بمعنى الاطمئنان بأنه سيمكث عشرة أيام.

فإذا أخذنا بالفرضية الأولى ، وهي ما يناسب طرح المسألة في كلماتهم ، بأن يقال ، أنّ ملاك الإتمام وصحة الصوم هو قصد المسافة ، ومعنى قصد المسافة ، يعني معنى قصد الإقامة ، ومعنى قصد الإقامة ، يعني حب الإقامة ، أي بمعنى الحب والاشتهاء والشوق ، فإن بنينا على هذه الفرضية ، فالإشكال لا محيص عنه في أكثر فروض المسألة ، لأن غرض المسافر ، إمّا أن يفرض في صيام يوم واحد ، أو يومين ، أو ثلاثة ، يعني في صيام أقل من عشرة أيام ، وإمّا أن يفرض في صيام عشرة أيام فصاعدا ، فإن فرض أن غرضه صيام أقل من عشرة أيام ، فمن الواضح أن هذا الغرض لا يتوقف على وقوع الإقامة خارجا ، لأنه لو صام يوما واحدا ، ثم عدل عن الإقامة وسافر ، فصومه السابق صحيح ، فصحة صوم أقل من عشرة أيام ، لا يتوقف على وقوع الإقامة بوجه من وجوه التوقف أصلا ، إذن لو حصل لهذا المسافر ، حب للإقامة ، بلحاظ نكتة تصحيح الصوم ، للزم أن يكون الحب ، قد نشأ لمصلحة في الحب ، وهذا ما منعناه سابقا ، وإن فرض أن غرضه صيام عشرة أيام فصاعدا ، فحينئذ لو فرض أنه عدل عن الإقامة بعد خمسة أيام من أول الإقامة ، فهل يتمكن أن يصوم

٩٩

الخمسة الثانية في بلد آخر ليست بينه وبين البلد الأول مسافة ، كالكوفة والنجف ، فإن فرض أنه كان قد صلّى صلاة رباعية ، فحينئذ يمكن أن يصوم الخمسة الأخرى في الكوفة مثلا ، لأن العدول عن الإقامة بعد صلاة رباعية ، لا يفسخ حكم الإقامة شرعا ، فيبقى حكمها ثابتا شرعا ، إلى أن ينشئ سفرا شرعيا ، وعلى فرض أن لا يكون قد صلّى رباعية ، فلا يمكنه أن يكمل صومه في الكوفة ، لأن مقتضى القاعدة ، هو انهدام حكم الإقامة ، بزوال قصد الإقامة ، غاية الأمر ، خرجنا عن مقتضى القاعدة ، بخصوص ما إذا صلّى رباعية ، وبعد عدم حمل صلاة رباعية ، على كونها مثالا لأثر الإقامة ، سواء كان صوما أو صلاة تامة ، وبعد الجمود على مورد النص ، يكون مقتضى القاعدة فيما لو هدم الإقامة في أثناء العشرة ، أن تنهدم الإقامة ، وليس قاصدا للإقامة ، إذن فلا يمكن أن يصوم الخمسة أيام الباقية ، وبهذا يظهر أن تمكن هذا المسافر من صوم عشرة أيام إلى آخرها موقوف على الجامع بين أمرين ، بين أن يصلّي رباعية ، وبين أن يبقى في النجف عشرة أيام ، لأنه لو انتفى هذا الجامع ، بمعنى أنه لم يصلّ رباعية وفي اليوم السادس قرّر الانتقال إلى الكوفة ، فحينئذ ، لا يجوز له أن يصوم في اليوم السابع إلى العاشر ، وإنما يصح منه صوم عشرة أيام ، مبني على تحقق الجامع بين الأمرين ، إمّا أن يصلّي رباعية ، وإمّا أن يمكث عشرة أيام ، ومن الواضح أن هذا الشخص دائما يصلي رباعيّة في اليوم الأول من إقامته قبل أن يتحقق منه المكث عشرة أيام ، إذن فإقامة عشرة أيام ليست لها دخل أصلا في غرضه ، وهو تصحيح الصوم ، لأنها مسبوقة بالرباعية ، ولأنّ تصحيح الصوم المستمر عشرة أيام ، موقوف على الجامع بين الأمرين المذكورين ، وحيث أن أحد فردي الجامع ، وهو صلاة رباعيّة ، دائما أسبق زمانا ، من المكث عشرة أيام ، إذن فالمكث عشرة أيام ، لا يكون دخيلا في الغرض أصلا ، فالإشكال ، بناء على هذا ، يكون مسجلا ، إذ لو فرض أن ملاك الإتمام ، بالنسبة إلى هذا المسافر ، هو قصد الإقامة ، بمعنى الإرادة ، والإرادة فسرت بمعنى الحب ، وحينئذ ، هذا الشخص ، ينشئ في نفسه حبّ الإقامة في هذا البلد ، بلحاظ مصالح بنفس الإقامة ، كطيب المناخ

١٠٠