بحوث في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٦

وحيث أن هذا المبنى ساقط ، كما حقّق في محله من علم الكلام والفلسفة ، وبرهن على أن حاجة المعلول إلى العلة ، ملاكها كما يثبت حدوثا يثبت بقاء ، إذن فلا يمكن فرض امتناع المولى عن الفاعلية أصلا ، لبراهين احتياج المعلول إلى العلة حدوثا وبقاء ، وليس هنا موضع البحث ، وإقامة البراهين على احتياج المعلول إلى العلة حدوثا وبقاء.

الاحتمال الثاني :

هذا الاحتمال عكس الاحتمال الأول تماما ، فيقال بأن الفعل هو فعل المولى ، والإنسان منسلخ عن الفاعلية أصلا ، وإنما هو مجرد محل قابل للفعل ، من قبيل الخشب ، فإنه مجرد محل قابل لفعل النجار ، وكذلك الإنسان مجرد قابل للفعل وإنما الفعل ، هو فعل المولى محضا ، وليس لإرادة الإنسان ومبادئها أي دخل فاعلي وأي تأثير في وجود هذا الفعل ، وإنما هي الصدفة تتكرر فيقترن صدور الفعل من المولى مع إرادة الإنسان دون عليّة وسببيّة.

وهذا الاحتمال ينبغي أن يكون مقابلا بالوجدان المدّعى في كلماتهم ، الذي قالوا فيه ، أنه بالضرورة هناك فرق بين حركة المرتعش وحركة غير المرتعش ، وبحسب الحقيقة ، أن هذا المطلب سار في كل العلل والمعلولات ، وليس فقط في مسألة الإرادة والاختيار ، فقد يقال بأن النار ليست علة للإحراق أصلا ، وإنما الإحراق كان بتدخل مباشر من المولى ، وصدفة ، الإحراق يكون دائما مقترنا بالنار ، فتحوّل هذا الدار إلى رماد أمر نتج عن تدخل رباني ، واقترانه بالنار كان صدفة ، إذ ليس للنار أي دخل في نفس الإحراق ، وهكذا الحال في كل عالم الأسباب والمسببات ، والوجدان الذي يستعمل في سائر الموارد لنفي هذه الشبهة ، يستعمل أيضا في المقام لنفي هذه الشبهة ، وهو وجدان مرجعه إلى الاستقراء (١) ، وقد أوضحنا ذلك في الأسس المنطقية

__________________

(١) الأسس المنطقية للاستقراء ـ الشهيد الصدر ص ١٨٥.

٦١

للاستقراء ، وما يفيدنا في هذا البحث هو أن هذا الوجدان لا إشكال في ثبوته ، وبه يثبت هذا البرهان.

وأما الاحتمالات الثلاثة الأخرى ، فالقدر الجامع لها ، هو التسليم بفاعلية المولى والعبد ، فكل من المولى والعبد له نصيب من الفاعلية ، ولكن تصوير نصيب كل منهما له ثلاثة أنحاء ، ولهذا كانت هناك ثلاث احتمالات.

الاحتمال الثالث :

هو أن يقال ، بأنّ كلا من المولى والعبد ، له نصيب من الفاعلية ، ولكن بمعنى أن الفعل له فاعلان طوليان ، فاعل أول ، وفاعل للفاعل ، فهما فاعلان في رتبتين ، وليسا في رتبة واحدة ، فالفاعل الأول ، هو عبارة عن قدرة الإنسان وتمام قوى أفعاله التي بها استطاع أن يتحرك ويصلي ، والفاعل الآخر الذي هو أسبق رتبة ، هو خالق هذه القوى ، باعتبار أن هذه القوى ، حدوثا وبقاء مخلوقة ومعطاة آناً فآنا ، من قبل الباري سبحانه ، ففي عملية الصلاة يوجد بالفعل عطاءان.

العطاء الأول هو من قبل قوى الإنسان قدرته وعضلاته وسلطانه التي تعطي الصلاة.

والعطاء الثاني ، هو إعطاء نفس القوى من قبل المولى تعالى ، فهذان فاعلان طوليان ، وهذا الاحتمال هو أحد الوجوه التي فسّر بها الأمر بين الأمرين.

الاحتمال الرابع :

هو أن يقال ، بأن الفاعل المباشر للأفعال ، هو المولى تعالى ، فهو الذي يفعل الصلاة وسائر ما يصدر من الإنسان ، لكن الإرادة ومبادئها في الإنسان مقدمات إعدادية لصدور الفعل من المولى.

فالفرق بين هذا الاحتمال ، وبين مذهب الأشاعرة ، هو أن الفعل على

٦٢

مذهب الأشعري ، يكون ، فعل المولى ، واقترانه بالإرادة مجرد صدفة ، دون أن يكون للإرادة ومبادئها دخل في صدور الفعل أصلا (١) ، وأمّا على هذا الاحتمال الرابع ، فالأمر ليس كذلك ، بل الفعل وإن كان فعل المولى ، لكن الإرادة مقدمة إعدادية من أجل قابلية المحل ، ولأجل أن يفاض عليه هذا الفعل من المولى ، وفرق هذا الاحتمال عن الاحتمال الثالث ، هو أنه في الاحتمال الثالث ، كان الفاعل للفعل هو الإنسان وقوى الإنسان ، وفاعل الفاعل هو المولى ، أمّا هنا في هذا الاحتمال الرابع فيقال ، بأن فاعل الفعل مباشرة ، هو المولى ، ولكن الإرادة لها مقدمية إعدادية من أجل أن يكون المحل قابلا ليفاض عليه الفعل من قبل المولى ، وهذا الاحتمال الرابع هو أحد وجوه الأمر بين الأمرين ، بين الأشعري والمعتزلي.

الاحتمال الخامس :

وهذا الاحتمال ذهب إليه عرفاء الفلاسفة ومتصوفوهم ، وحاصله ، أن هذا الفعل له فاعلان ، وهما المولى والعبد ، ولكن هذين الفاعلين ليسا طوليين ، كما هو الحال في الاحتمال الثالث ، كما أنهما ليسا عرضيين ، كما هو الحال في الاحتمال الرابع ، وإنما هي فاعلية واحدة ، بحيث أن هذه الفاعلية الواحدة ، بنظر تنسب إلى العبد ، وبنظر آخر تنسب إلى المولى تعالى ، بناء منهم على تصور (٢) عرفاني للعبد وللمخلوقات ، لأنها معان حرفية واستهلاكية (٣) ، إذن فنسبتها إلى الباري تعالى ، نسبة المعنى الحرفي إلى المعنى الاسمي عند الأصوليين ، فكما أن المعنى الحرفي ليس له هوية استقلالية ، بل هو فان ومستخدم بين يدي المعنى الاسمي ، فكذلك الموجودات بالنسبة إلى خالقها ، فإذا نظر إلى هذه الموجودات بما هي

__________________

(١) مقالات الإسلاميين ـ الأشعري ج ١ ص ٣٢٦.

(٢) رسالة في سريان الوجود ـ صدر المتألهين ص ١٤٢ ـ ١٤٤.

(٣) رسائل صدر المتألهين الشيرازي ص ١١ ـ ١٢.

٦٣

تعلّقات (١) واندكاكات ، إذن ففعلها عين فعل (٢) الباري تعالى ، وفعل المندك عين فعل المندك فيه ، إذن فهي فاعلية واحدة (٣) ، وهذه الفاعلية الواحدة ، هي بالنظر الاندكاكي هي فعل المولى ، وبالنظر اللّااندكاكي هي فعل العبد.

ولكن هذا الاحتمال كما عرفت مبني على ذوق صوفي في تصور عالم الوجود ، لا برهان عليه فضلا عن أن الوجدان على خلافه فلا نقرّه.

إذن فتحصّل أن الاحتمال الأول ساقط بالبرهان ، والاحتمال الثاني لا برهان على إبطاله ، لكن الوجدان في مقابله ، فيسقط وجدانا لا برهانا ، كما أن الاحتمال الخامس لا نقرّه لانعدام البرهان عليه وخلافه للوجدان فيبقى الاحتمال الثالث والرابع وكلاهما معقول في نفسه ، وغير مناف ، لا للبرهان ولا للوجدان في مقام تصوير الأمر بي الأمرين ، الموروث عن أئمة أهل البيت (ع) ، حيث يمكن تطبيقه على الاحتمال الثالث كما يمكن تطبيقه على الاحتمال الرابع. هذا هو تمام الكلام في المسألة الكلامية ثم تليها المسألة الفلسفية التي تنحسم بها مسألة الجبر والاختيار.

٦٤

المسألة الفلسفية

ذكرنا أن روح المسألة الكلامية ، هو تشخيص هوية الفاعل ، وقلنا أن هذه المسألة وحدها لا تكفي لتحقيق حال مسألة الجبر والاختيار ، إذ بعد فرض تعيين الفاعل ، يبقى الكلام في أن صدور الفعل من هذا الفاعل ، هل هو بالاختيار ، أو ليس بالاختيار ، ومن هنا يعلم ، أن القول المعتزلي في المسألة الكلامية أو المسلك الإمامي فيها لا يثبت الاختيار وحده ، بلا ضم عناية زائدة ، لأن المسلك المعتزلي ، إنما يشخّص ، أن الفاعل محضا هو الإنسان ، والمسلك الإمامي يشخّص أن الفعل له فاعلان طوليان أو عرضيان على الاحتمالات السابقة ، أمّا أن هذا الفاعل الإنساني ، هل يكون دخله في الفاعلية ، دخلا اختياريا ، أو غير اختياري ، فهذا يحتاج إلى مئونة زائدة ، وهي مئونة المسألة الفلسفية.

نعم المسلك الأشعري ، الذي يشخّص أن الفاعل محضا هو المولى تعالى ، ويجرّد الإنسان عن الفاعلية ، فهذا يكفي لنفي الاختيار عن الإنسان ، لأن الفعل ، إن لم يكن فعله ، فمن الواضح أنه ليس مختارا فيه ، لأن كل ذات ، غير مختارة في أفعال غيرها ، بل في أفعال نفسها ، فالمسلك الأشعري في المسألة الكلامية ، يكفي لنفي الاختيار عن الإنسان ، ولكن المسلكين الأخيرين ، لا يكفيان لإثبات الاختيار للإنسان.

ومن هنا كانت الحاجة إلى المسألة الفلسفية ، والمسألة الفلسفية بحسب

٦٥

الحقيقة ، معقودة لأجل دفع شبهة ، نشأت فلسفيا ، وأريد بها إقامة البرهان على إبطال الاختيار ، حتى بعد الاعتراف ، بأن الفعل هو فعل الإنسان مثلا.

وهذه الشبهة مركبة من مقدمتين :

المقدمة الأولى : هي أن الاختيار ، ينافي مع الضرورة ، لأن الضرورة تساوق الاضطرار ، فكل فعل كان صدوره ضروريا بحيث أنه لا بدّ من صدوره ، فلا يمكن عدم صدوره ، فهذه الضرورة ، معناها الاضطرار المنافي للاختيار ، من قبيل حركة المرتعش الذي يكون صدورها ضروريا من المرتعش ، حيث لا يمكن أن لا تصدر منه.

المقدمة الثانية : هي أن صدور الفعل من الإنسان بالضرورة ، بمعنى أن الفعل لا يكون صادرا من الإنسان إلّا إذا بلغ حد الضرورة ، فإذا لم يبلغ حدا ، بحيث يكون معه صدور الفعل ضروريا وعدمه ممتنعا لا يصدر الفعل. وهذه الدعوى مستفادة من قوانين العلية ، التي تحكم عالم الإنسان ، فإنهم قالوا ، بأن عالم الإنسان محكوم لقوانين العلية ، وقوانين العلية تقول ، أن لكل ممكن علة (١) ، وأن المعلول أو الممكن لا يمكن أن يوجد ألّا إذا وجدت علته ، ومع وجود علته يكون وجوده ضروريا (٢) وهو المسمّى بالوجوب بالغير ، ويكون عدمه ممتنعا (٣) وهو المسمّى بالامتناع بالغير ، وحيث أن فعل الإنسان ، مصداق من مصاديق عالم الإمكان فهو أمر ممكن ، إذن فهو بحاجة إلى علة ، ومع وجود العلة ، يكون وجوده ضروريا ، ومع عدم العلة يكون عدمه ضروريا (٤) ، إذن فهو في الحالتين ضروري الوقوع ، أو ضروري اللّاوقوع.

ويثبت بمجموع هاتين المقدمتين أن الإنسان غير مختار في أفعاله ، لأن

__________________

(١) النجاة ـ الشيخ الرئيس ص ٢١.

(٢) رسائل صدر المتألهين رسالة في سريان الوجود ص ١٤٤ ـ ١٤٥.

(٣) رسائل صدر المتألهين الشيرازي ص ١١ ـ ١٢.

(٤) الأشعري ـ مقالات الإسلاميين ج ١ ص ٢٢٨.

٦٦

الاختيار ينافي مع الضرورة ، كما بيّن في المقدمة الأولى ، وفعل الإنسان دائما موجود بالضرورة ، كما بيّن في المقدمة الثانية ، لأن فعل الإنسان ممكن ، والممكن ما لم توجد علته لا يوجد ، إذن فهو مسبوق بالعلة ووجوبه مسبوق بالعلة أيضا ، فيكون وجوبه ووجوده مساوقا للضرورة ، والضرورة منافية للاختيار ، إذن فأفعال الإنسان ليست بالاختيار.

٦٧

دفع الشبهة

اختلفت المسالك والمباني في كيفية التخلص من هذه الشبهة ، فبعضها يرجع إلى المناقشة في المقدمة الأولى (١) ، وبعضها الآخر يرجع إلى المناقشة في المقدمة الثانية.

المسلك الأول

وهو ما ذهب إليه المشهور من الفلاسفة ، حيث أنهم ناقشوا في المقدمة الأولى ، مع الاعتراف بالمقدمة الثانية وهي أن فعل الإنسان مسبوق بالضرورة ، لأنه لا يوجد إلّا بوجود علته ، ومع وجود العلة ، يكون واجبا بالغير ، وضروري الوجود ، وأمّا في المقدمة الأولى ، فقد قالوا ، بأن الاختيار لا ينافي مع الضرورة ، بل يلائم مع الضرورة ، وذلك أنهم فسّروا الاختيار ، بأن معناه أنه ، «إن أراد فعل ، وإن لم يرد لم يفعل» ، فالاختيار مرجعه إلى هذه القضية الشرطية ، ومن الواضح أن هذه القضية الشرطية ، ناظرة إلى الملازمة بين شرطها وجزائها وشرطها هو الإرادة والمشيئة ، وجزاؤها هو «أن يفعل» ، وليست ناظرة إلى أن شرطها ، هل هو موجود بالضرورة ، أو هو مفقود بالضرورة ، إذن فهذه القضية صادقة بصدق الملازمة بين الشرط والجزاء ، فقد يكون شرطها واجبا بالضرورة ، وبالتالي قد يكون جزاؤها أيضا واجبا بوجوب

__________________

(١) مصابيح الأصول ـ بحر العلوم ص ١٩١ ـ ١٩٢.

٦٨

شرطها ، وقد يكون شرطها ممتنعا بالضرورة ، وبالتالي يكون جزاؤها ممتنعا بالضرورة.

إذن ، فقد يتفق ، أن الإنسان توجد فيه علة ، تتولد منها الإرادة بالضرورة ، فتكون المشيئة ضرورية وواجبة بالغير بالنسبة إليه ، وبالتالي يكون الجزاء واجبا أيضا بالغير ، وهو نفس الفعل ، وقد توجد عنده علة توجب امتناع الإرادة ، بحيث تكون الإرادة ممتنعة بالغير ، وبالتالي يكون الجزاء ممتنعا بالغير ، ولكن في كلا الحالين ، سواء كانت الإرادة واجبة بالغير ، وبالتالي يجب الجزاء ، أو كانت الإرادة ممتنعة بالغير وبالتالي يمتنع الجزاء ، ففي كلا الحالين ، القضية الشرطية صادقة ، ولكن يجب أن يريد في الحالة الأولى ، ويمتنع أن يريد في الثانية ، فالقضية الشرطية صادقة ، من دون فرق ، بين أن يكون وجوب الشرط المستتبع لوجوب الجزاء ، وجوبا بالغير ، كما هو الحال في حق الإنسان ، أو الامتناع بالغير كما هو الحال في حق الإنسان ، وبين أن يكون وجوبا بالذات ، وامتناعا بالذات ، كما يفترضون في حق الباري تعالى ، لأن صفاته واجبة بالذات لأنها عين ذاته ، فإرادة الإنسان هي واجبة بالغير أو ممتنعة بالغير ، ولكن إرادة الباري واجبة بالذات كإرادته بالعدل والإحسان ، وممتنعة بالذات كإرادته بالشر والطغيان ، إلّا أن وجوب الشرط ذاتا أو عرضا ، وامتناعه ذاتا أو عرضا ، لا ينافي صدق القضية الشرطية ، وروح الاختيار إنما هو بصدق القضية الشرطية ، فمتى ما صدقت القضية الشرطية «أنه لو أراد الفعل» ، يصدق الاختيار ، ومتى لم تصدق القضية الشرطية ، لا يصدق الاختيار ، كما هو الحال في حق المشلول والمرتعش ، فإنه لو أراد أن يوقف حركة يده لما أوقفها ، ولو لم يشأ الحركة لبقيت الحركة على حالها ، فالقضية كاذبة في حق المرتعش ، ولكنها صادقة في حق السليم ، ولا ينافي صدقها كون الشرط واجبا ، وبتبعه يكون الجزاء أيضا واجبا وضروريا ، أو كون الشرط ممتنعا ، وبتبعه يكون الجزاء أيضا ممتنعا ، إما بالذات كما في حق الباري ، أو بالعرض وبالغير كما في حق الإنسان.

٦٩

ومن هنا قالوا ، بأن ضرورة الفعل الناشئة من الإرادة ، تؤكد الاختيار (١) ولا تنافيه ، وذلك لما بيّنا من أن الاختيار إنما هو بصدق القضية الشرطية ، وهي «أنه لو أراد لصلّى» ، فلو ثبت أن الصلاة تصبح ضرورية عند الإرادة ، فهذا تأكيد للملازمة بين الشرط والجزاء ، وتحقيق بيّن لصدق القضية الشرطية ، فلو لم يكن هناك ضرورة ولا بدية للصلاة على تقدير الإرادة ، لانثلمت القضية الشرطية ، ولما كانت مضمونة الصدق.

إذن فالضرورة التي تنشأ من الإرادة مؤكدة لصدق القضية الشرطية وللاختيارية وليست منافية للاختيار ، وهذا هو مرجع ما قاله صاحب الكفاية (قده) من أن الفعل الاختياري ما يكون (٢) صادرا عن الإرادة بمبادئها ، لا ما يكون صادرا عن الإرادة الصادرة أيضا عن اختيار ، وهكذا ، بل روح الفعل الاختياري بأن يكون الفعل صادرا عن الإرادة ، بمعنى أنه «لو أراد لفعل» بحيث تصدق القضية الشرطية فمتى ما صدق «أنه لو أراد لفعل» فالاختيار ثابت ، ومتى لم يصدق ذلك ، فالاختيار منفي.

وهذا الكلام الذي قاله الفلاسفة ، هو بحسب الحقيقة ، مبني على ما ذكرناه من تفسيرهم للاختيار ، وهو أن الاختيار عبارة عن صدق القضية الشرطية ، وهي أنه «لو أراد لفعل» وحينئذ ، بعد فرض هذا التفسير ، يتم الاستنتاج الذي قالوه ، من أن القضية الشرطية صادقة في جميع موارد الفعل الاختياري ، ولا يضرّ بصدقها وجوب الشرط ذاتا أو بالغير ،

إلّا أن تفسيرهم هذا محل كلام ، فإن كان تفسيرهم مجرد اصطلاح لتغطية المسألة ، فلا مشاحة في الاصطلاح ، إذ يمكن الاصطلاح على أن كل فعل تصدق عليه القضية الشرطية هو فعل اختياري ، وإن كان هذا التفسير مرجعه إلى تشخيص لغوي ، وهو أن الاختيار في اللغة ، معناه أن الفعل الذي

__________________

(١) الشيخ الرئيس ـ النجاة ص ٣٧.

(٢) المشكيني ج ١ ص ١٠٠.

٧٠

يكون ناشئا عن الإرادة ، بحيث تصدق عليه القضية الشرطية وهي أنه «لو أراد لفعل» ، فأيضا ، لا كلام في ذلك ، إذا كان واضع اللغة ، هكذا وضع كلمة اختيار (١) ، فيكون البحث لغويا ، وليس النزاع لغويا حتى يقع البحث فيه ، وإن كان منشأ تفسير الحكماء والفلاسفة للاختيار هو الاستطراق بهذا التفسير إلى تصحيح التكليف والحساب ، بحيث أن الإنسان لا يكلّف ولا يحاسب على تحركات أمعائه ، بل على تحركات أصابعه ، وتعطي حركة الأصابع معنى يختلف عن حركة الأمعاء ، بحيث لا يتصور الحساب والتكليف في الثانية دون الأولى ، فهذا بحث واقعي.

والكلام فيه تارة يقع على مسلك الحسن والقبح العقليين ، وأخرى بناء على إنكار الحسن والقبح العقليين.

فبناء على ما هو الصحيح من التسليم بالحسن والقبح العقليين ، وأن العقل يدرك حسنا وقبحا واقعيا ثابتا في نفس الأمر ، فعلى هذا لا معنى لكلماتهم التي نقلناها في تخلّصهم من الشبهة المذكورة.

وذلك لأن العقل في باب الحسن والقبح ، لا يرى فرقا أصلا بين حركة الأمعاء التي تنشأ من الخوف مثلا ، وبين حركة الأصابع التي تنشأ من الإرادة ، فالإنسان إذا خاف تتحرك أمعاؤه لمرض فيها ، كما أن الإنسان إذا اشتهى أن يأكل يحرك أصابعه ، فلا فرق في نظر العقل الحاكم بالحسن والقبح بين المطلبين ، من صحة العقاب في الثاني دونه في الأول ، فكما أنه لا يعاقب على حركة الأمعاء لأنها تولدت بالضرورة من الخوف من السبع ، كذلك لا يعاقب على حركة الأصابع لأن هذا الشخص أراد أن يأكل ، وهذه الإرادة كذاك الخوف ، فكما أن ذاك الخوف معلول لأمور خارجية كذلك هذه الإرادة معلولة

__________________

(١) الاختيار : لغة ، الاصطفاء ، وكذلك التخيّر ، وهو الانتقاء أيضا ، كما في لسان العرب ـ مادة «خير» والآية تقول : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ، ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) قال الزجّاج : المعنى : ربك يخلق ما يشاء ، وربك يختار (وليس لهم الخيرة) أي ليس لهم أن يختاروا على الله (ر ه) (اللسان). المقرّر

٧١

لأمور خارجية ، بعضها داخل في كيان الإنسان وبعضها مستورد من الخارج ، فمن المجموع المركب من الأمور الموجودة في داخل الإنسان وفي خارج الإنسان ، يوجد بالضرورة خوف عند الإنسان وإرادة ، تولّد بالضرورة حركة الأصابع إذن فلما ذا يعاقب على حركة الأصابع!؟. فلا يبقى إلّا أن الواضع ، سمّى حركة الأصابع اختيارية ، وحركة الأمعاء غير اختيارية ، فكأن المطلب مربوط بالوضع اللغوي ، أما العقل ، فلا يرى فرقا بين المطلبين ، فينسد بذلك باب الحساب والعقاب ، ويتسجل الإشكال ، ولا يمكن التخلص عنه بمثل هذه المصطلحات.

وأما بناء على إنكار الحسن والقبح العقليين ، كما أنكره الأشاعرة صريحا ، والفلاسفة تلويحا ، حيث قالوا ، أن الحسن والقبح من القضايا المشهورة وليس من القضايا الحقانية ، فبناء على هذا الإنكار ، وأن العقل لا يأبى أن يعاقب المرتعش على ارتعاشه ، ولكن تبقى مشكلة لغوية التكليف ، وهي أن هذا المرتعش سيعاقب على كل حال وقد جعل الخطاب في حقه كما جعل العقاب في حقه مطلقا.

ويجيبون على هذا ، بأن الفعل الذي ينشأ من الإرادة ، وإن كان أيضا غير اختياري ، حاله حال حركة الأمعاء التي تنشأ من الخوف ، ولكن توجد خصوصية في هذا الفعل الغير الاختياري ، وهو أن سنخ فعل غير اختياري ، يمكن التدخل تشريعيا في تغييره ، بنحو لا اختياري أيضا (١) ، وذلك لأن كل إنسان جائع إذا اشتهى أكل المال الحرام ، ورأى أنه سوف يضرب سياطا عديدة إذا أكل من الحرام ، فسوف يمتنع عن ذلك ، بينما الإنسان الذي يخاف من صوت السبع ، لا يزول خوفه ، وإن علم أنه سوف يضرب سياطا عديدة ، بل لن يكون بمقدوره أن لا يخاف بخلاف المشتهي للحرام ، فإنه يحجم عن الطعام ، ويكون إحجامه لا اختياريا ، ناشئا من إرادة أخرى معاكسة مع تلك

__________________

(١) الأشعري ـ مقالات الإسلاميين ج ١ ص ٣٣٠.

٧٢

الإرادة ، فهذا العمل الغير الاختياري ، الناشئ من تلك الإرادة ، يمتاز عن تلك الأعمال الغير اختيارية ، في أنه يمكن التدخل التشريعي من قبل المولى ، سواء كان الباري تعالى أو الجهة العقلائية ، في تغيير مسار إرادة هذا الشخص ، والتحكم في رغباته ، فلا يكون العقاب والحساب في حقه لغوا صرفا ، كالثواب والعقاب في حق المرتعش.

المسلك الثاني

وهذا المسلك لحل الشبهة المذكورة ، يعاكس المسلك الأول ، فهو يسلّم بالمقدمة الأولى ، وهي أن الاختيار ينافي الضرورة المساوقة للاضطرار ، وينكر المقدمة الثانية ، ويقول أن الضرورة غير ثابتة في أفعال الإنسان ، وذلك تشكيكا من أصحاب هذا المسلك ، في أصل الضرورة ، وأصل لزوم وجود المعلول بوجود العلة ، بمعنى ، أن الشبهة كانت قد نشأت من مبادئ العليّة القائلة ، بأن كل حادثة لا بدّ لها من سبب ، وأن الحادث يكون واجبا وضروريا عند وجود سببه.

وأمّا مع نكران قانون العليّة والسببيّة بهذا المعنى ، وأن الحادث مع كونه ليس ضروريا ، مع هذا ، يمكن أن يوجد مع صفة الإمكان ، بدون حاجة لأن يخرج من عالم الإمكان إلى الوجوب.

هذا المسلك مال إليه بعض المتأخرين ، من الفلاسفة من غير المسلمين (١) ، فخيّل لهم ، أنهم إذا أنكروا قانون العليّة وضرورة وجود المعلول عند وجود العلة ، استطاعوا بذلك أن يدفعوا شبهة الجبر والّا اختيار ، فلا يبقى حينئذ ضرورة لصدور الفعل من الإنسان ، بل يكون الفعل باقيا على الإمكان ، حتى عند صدوره ، ومع عدم الضرورة ، يكون الاختيار ثابتا.

وأصل الشبهة ، وهذا المسلك ، كلاهما ، وقعا في خطأ ، فإن أصل

__________________

(١) سعيد عبد العزيز حباتر ، مشكلة الحرية في الفلسفة الوجودية ص ٤٤.

٧٣

الشبهة ، جعلت الضرورة بقول مطلق ، منافية مع الاختيار ، وهذا المسلك جعل الإمكان ، مساوقا مع الاختيار.

أمّا الخطأ الأول ، فإن الضرورة ليست مطلقا منافية مع الاختيار ، ضرورة أن الضرورة ، إذا كانت ناشئة من الاختيار ، وفي طوله ، فلا تكون منافية مع الاختيار ، وإذا كانت غير ناشئة من الاختيار ، وليست في طوله ، بل هي مستقلة ، فتكون منافية للاختيار لا محالة ، ولهذا لا بدّ من البحث كما سيأتي ، من أن ضرورة الفعل ، هل هي في طول الاختيار ، أو هي مستقلة عن الاختيار ، أمّا كيف يتم ذلك ، فهذا مرتبط بمعرفة الاختيار ، فإن الفلاسفة كما مرّ بك ، فسّروا الاختيار بمعنى الإرادة ، «إن أراد فعل» ، وقلنا أن هذا التفسير ليس صحيحا.

إذن لا بدّ أولا أن نعرف معنى الاختيار ، لنعرف أن الضرورة هل هي في طوله أو مستقلة عنه ، فإن كانت في طوله لم تناف الاختيار ، وإن لم تكن في طوله ، فهي منافية للاختيار لا محالة ، كما يأتي تتمة الكلام في ذلك فيما بعد.

وأمّا الخطأ الثاني ، فهو أنّ المسلك ، يزعم أن مبادئ العليّة ، ونفي الضرورة ، وإبقاء الفعل على الإمكان ، مساوق مع الاختيار ، فهذا ليس بصحيح ، فإن مجرد كون الفعل ليس ضروريا ، لا يكفي في كونه اختياريا للفاعل ، فإن إنكار مبادئ العلية ونفي الضرورة ، معناه التسليم بالصدفة ، لأن هناك أحد أمرين ، فإمّا أن يقال بأن الشيء يحدث لقانون العلية ، وإمّا أن يقال أنه يحدث صدفة ، مع كونه ممكن الوجود والعدم ، فصدفة يوجد وصدفة يعدم.

ومن الواضح أن الصدفة غير الاختيار ، فكون الفعل يوجد صدفة وبلا علة موجبة له ، هذا معنى لا ينتزع منه العقل عنوان الاختيار ، بدليل أنه لو فرض محالا وقوع حادثة في الطبيعة صدفة ، لا ينتزع العقل من ذلك أن الطبيعة أصبحت مختارة في إيجاد هذه الحادثة ، بل يقال أن هذه الحادثة كان من

٧٤

الممكن أن توجد ومن الممكن أن لا توجد ، وصدفة وجدت في المقام ، بلا اختيار للطبيعة في إيجادها.

وبهذا يتبين أن الاختيار ليس مساوقا لتعطيل مبادئ العليّة والتسليم بالإمكان المحض ، فالإمكان المحض ، وإنكار الضرورة الذي هو معنى تعطيل مبادئ العليّة ، لا يساوق انتزاع عنوان الاختيار في المقام ، فهذا المسلك لا يفي بتحقيق عنوان الاختيار.

المسلك الثالث في حل الشبهة

وحاصل هذا المسلك الثالث ، الذي قد تدفع به الشبهة المذكورة ، هو أن الكائنات التي تعيش في الطبيعة هي مختلفة في تحديد مجال سيرها وتوضيح ذلك : إن كلّ كائن يوجد في عالم الطبيعة ، فهو لا محالة محدّد تكوينا بحدود مفروضة عليه قسرا وجبرا من الطبيعة ، وقد يتفق أن الطبيعة ، فرضت عليه خطا محدودا لا يتعدّاه ، ولم تعط له فرصة بديلة ، فمثلا عند ما نقذف بالحجر إلى أعلى ، فالطبيعة تحدّد سيره ولا تسمح له بالنزول إلى أسفل ، ولا بالذهاب شرقا ولا غربا ، وإنّما تحدّد له سيرا معينا إلى الأعلى إلى أن تنتهي قوة الدفع ، فتحدد له مرة أخرى سيره إلى أسفل ، بحيث يمكن التنبؤ مسبّقا بالدقة ، بحركة هذا الحجر ، وذلك لأن الطبيعة لم تعطه أي فرصة ، إلّا هذا الخط العملي المرسوم ، وقد يتفق أن الطبيعة أعطت هذا الكائن فرصة لتصرفات عديدة ، على سبيل البدل ، بحيث حينما نلحظه ، لا يمكن بالدقة معرفة كيفية تصرفه ، فلو فرض أن ألقي الحجر على الحيوان ، فهو سوف يهرب ، ولكن لا يمكن التنبؤ بوجهة سيره ، لأن الطبيعة لم تقيّد خط سيره بالقدر الذي قيّدت فيه خط سير الحجر.

وأمّا بالنسبة إلى الإنسان ، فهو أوسع فرصة من الحيوان لأمرين :

أولا : باعتبار أن غرائز الإنسان ، أكثر من غرائز الحيوان ، فغرائز الحيوان محدودة ، وغرائز الإنسان وشهواته أكثر ، ففيها ميول روحية وميول جسدية ،

٧٥

وبهذا ، التنبؤ بتصرفه. يكون مشكلا ، فلعلّه يميل الآن روحيا إلى أن يقف ولا يهرب ، ويتلقّى الحجر في جبهته ، فهذا محتمل في الإنسان دونه في الحيوان.

ثانيا : باعتبار وجود العقل عند الإنسان ، فهو يتحكّم في هذه الغرائز والميول ، وينظر إلى المصالح والمفاسد ، وبهذا تكون دائرة التصرفات البديلة ، الممكن صدورها من الإنسان ، أوسع منها عند الحيوان ، فينتزع عن الإنسان عنوان الاختيار ، فالاختيار عنوان ، ينتزعه العقل ، من سعة منطقة الفراغ ، ودائرة الفرصة التي تعطيها الطبيعة للكائن ، فالطبيعة إن لم تعط للكائن أيّ فرصة ، وإنما عيّنت له خطا مرسوما من البداية إلى النهاية ، فهذا قسر محض ، وإن أعطته فرصة ، بحيث أصبح من المشكل ، معرفة ما يصدر منه بعد ذلك ، فهذا هو الاختيار.

وهذا الكلام ، وأن صدر من جملة من الفلاسفة ، ولكن لا محصّل له ، لأن مرجعه إلى أن الاختيار ، أمر وهمي غير حقيقي ، وتوضيحه ، أن قولهم أن الفرصة المتاحة للحيوان ، أكبر من الفرصة المتاحة للحجر ، والفرصة المتاحة للإنسان ، أكبر من الفرصة المتاحة للحيوان ، إنما هو التفات إلى نظر الملاحظ ، الذي لم يستوعب تمام الخصوصيات والنكات ، فإنّ هذا الملاحظ ، لا يستطيع أن يتنبأ بخط سير الهرة ، يمينا أو شمالا ، ولا بخط سير الإنسان هروبا أو وقوفا ، وأمّا الملاحظ المطّلع على الخصوصيات والنكات الدخيلة في تصرف الإنسان ، أو في تصرف الحيوان ، سوف يتنبأ حتما بالنتيجة ، فما يحسبه العقل اختيارا ، إنما هو توهّم ، نتيجة الجهل بالخصوصيات ، حيث أن الخصوصيات الدخيلة في تحرك الإنسان وتحرك الحيوان ، خصوصيات كثيرة وغامضة ، وبعضها نفساني ، وبعضها خارجي ، ولا يمكن استيعابها ، ولهذا ، العقل يتوهم أن هذا الإنسان يختار ، أمّا لو استوعبت تمام الخصوصيات الدخيلة في تحركه ، فيصير حاله حال الحجر ، فكما أن الحجر يتنبأ بالدقة في خط سيره ، فكذلك يتنبّأ هنا ، لو اطّلع على تمام الخصوصيات ، فالقول أنّ

٧٦

الاختيار يرجع إلى هذا المعنى ، معناه ، أن الاختيار أمر وهمي ، للجهل وعدم الاطّلاع الكامل بتمام الخصوصيات الدخيلة في تحرك الإنسان أو الحيوان ، وهذا هو عين القول بالجبر ، وليس دفعا لشبهة الجبر.

المسلك الرابع لحل الشبهة

وهذا المسلك الرابع ، في مقام التخلص من الشبهة ، هو مختار المحقق النائيني (قده) ، فإنه سلّم بالمقدمة الأولى والثانية ، ولكنّه لم يقبل بالمقدمة الثانية على إطلاقها ، ورفض أن تكون قوانين العليّة على إطلاقها ، شاملة لأفعال الإنسان الاختيارية ، نعم أفعال الإنسان الغير اختيارية ، وسائر حوادث الكون ، هي مشمولة للمقدمة الثانية.

وتوضيح ما أفاده (قده) : أن حدوث أيّ حادث بمحض إمكانه الذاتي ، هو غير معقول ، فإنّ المحض الذاتي معناه ، أن وجود الحادث وعدم وجوده على حد واحد (١) ، والإمكان بهذا المعنى ، نسبته إلى الوجود والعدم (٢) ، نسبة واحدة ، فكيف يكون هذا الإمكان ، منشأ في الوجود أو منشأ في العدم؟. فإنه يستحيل أن يكون هذا الإمكان الذاتي ، منشأ لترجيح (٣) الوجود على العدم ، أو لترجيح العدم على الوجود ، إذ يحتاج ترجيح الوجود على العدم ، إلى أمر زائد على الإمكان الذاتي ، وهذا الأمر الزائد هو أحد شيئين :

الأول : هو العلة الموجبة ، يعني الضرورة التي تنشأ من علة طبيعية ، فإنه إذا وجدت علة تامة لحادثة من الحوادث ، فلا محالة تصبح تلك الحادثة ضرورية الوجود ، ويكون وجوبها نتيجة للوجوب بالغير ، والضرورة بالغير ، المكتسبة من العلة الموجبة.

الثاني : هو أعمال القدرة ، فإنه قد يتفق أن الحادثة يكون لها إمكان

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي ـ ج ١ ص ٦٩.

(٢) أجود التقريرات ـ الخوئي ـ ص ٤٥.

(٣) رسائل صدر المتألهين الشيرازي ص ١١ ـ ١٢.

٧٧

ذاتي ، ولا يكون هناك علة موجبة ، ولكن يكون هناك شيء يعبّر عنه الميرزا بإعمال القدرة.

فإعمال القدرة في المقام هو بنفسه ، بديل عن العلة الموجبة ، بمعنى أن الإنسان الذي له قدرة على فعل من الأفعال ، بعد أن يصدق بفائدة هذا الفعل ، ويشتاق إليه ، بحيث تتم كل مبادئ الإرادة ، فبعد كل ذلك ، يبقى الفعل تحت قدرة الإنسان ، فله أن يعمل قدرته ويأتي بالفعل ، وأن لا يعمل قدرته فلا يأتي بالفعل.

وهنا ، لو أسند الفعل بالضرورة ، إلى الشوق الذي هو من مبادئ الإرادة ، إذن لانتهى الأمر إلى مسلك الحكماء والفلاسفة ، الذي هو المسلك الأول ، ولأصبح الفعل غير اختياري للإنسان ، لأنه محكوم بالضرورة ، الناشئة من الإرادة ، الناشئة أيضا من ضرورة علتها ، وهكذا حتى ينتهي إلى العلة الأولى.

وأمّا إذا قيل ، بأنه بعد أن تتم هذه المبادئ بنفسها ، فللإنسان أن يعمل قدرته ، فيوجد الفعل ، وله أن لا يعمل القدرة ، فلا يوجد الفعل ، إذن فإعمال القدرة ، يكون أمرا بديلا عن العلة الموجبة ، وهذا معناه ، أن الشيء ما لم يجب بالعلة ، إذا لم يعمل الفاعل قدرته في إيجاده ، لا يوجد ، فلا بدّ في وجوده من أحد الشيئين ، وحينئذ ، أفعال الطبيعة وغير الأفعال الاختيارية للإنسان القادر ، ينحصر طريق وجودها بالعلة الموجبة ، لأن الطبيعة ليس لها أن تعمل القدرة ، إذ لا قدرة لها ، وأمّا الإنسان فله أن يعمل القدرة ، فلا ينحصر إيجاد الفعل بالعلة الموجبة بالنسبة له.

وما أفاده الميرزا ، ينحل إلى مطلبين ، مطلب إجمالي ومطلب تفصيلي. والمطلب الإجمالي صحيح والمطلب التفصيلي محل كلام ونقاش.

أما المطلب الإجمالي من كلام الميرزا ، الذي هو صحيح ، على ما يأتي توضيحه ، هو أن مبادئ العلية التي تحكم ، بأن كل حادثة لا توجد إلّا بعلة

٧٨

موجبة ، وأن الشيء ما لم يجب بالعلة لا يوجد ، فإن هذا القانون لا نلتزم بإطلاقه وشموله ، حتى للأفعال الاختيارية ، وإلّا لانتهينا إلى مذهب الحكماء وهو المسلك الأول ، ونقول أن الفعل الصادر من الإنسان ، معلول للإرادة ، والإرادة معلولة لمبادئها حتميا ، وتلك أيضا معلولة لعللها ، وهكذا تتسلسل الحلقات ، تسلسلا ضروريا حتميا ، فلا يبقى معنى للاختيار. إذن فلا بدّ من رفع اليد عن إطلاق هذا القانون ، فلا يشمل الأفعال الاختيارية ، بمعنى أنه يوجد هناك شيء آخر بديل عن الوجوب بالغير وعن الوجوب بالعلة ، يصلح لأن يكون أساسا لوجود الحادثة ، فالحادثة يكون لها منشآن ، فتارة توجد بالوجوب بالعلة ، وأخرى توجد بوجوب منشأ آخر ، يكون بدلا عن الوجوب بالعلة أمّا ما هو هذا البديل الذي هو المنشأ في باب الأفعال الاختيارية ، فهذا ما يأتي توضيحه.

إذن فهذا المطلب الإجمالي صحيح على إجماليته في المقام ، وسوف يأتي توضيحه فيما بعد.

وأمّا المطلب التفصيلي ، فهو عبارة عن التفسير (١) الذي أفاده في توضيح المطلب الإجمالي ، وخلاصة ما ذكره في توضيح المطلب الإجمالي هو :

أنه يوجد في عالم الأفعال الاختيارية فعلين طوليين للنفس.

أحدهما فعل خارجي ، وهو الصلاة الذي هو محل الكلام ، والآخر فعل نفساني ، أسبق رتبة من الفعل الخارجي ، وتوضيحه :

أن الإنسان بعد أن يلتفت إلى الصلاة ، ويصدّق بفائدتها ، وتنقدح في نفسه الإرادة الجدية والشوق الشديد نحوها ، فبعد تمامية الإرادة ، لا يحصل ضرورة ووجوب تكويني للصلاة ، لأن قاعدة ، أن الشيء ما لم يجب لم يوجد ، غير جارية هنا ، فالصلاة حتى بعد تمامية الإرادة ، باقية على إمكانها ،

__________________

(١) أجود التقريرات ـ السيد الخوئي ـ ص ٨٩ ـ ٩٠ ـ ٩١.

٧٩

فالنفس بإمكانها أن تتحرك نحو الصلاة ، وبإمكانها أن تتحرك نحو الصلاة.

وهنا يتصور الميرزا ، أن النفس يصدر منها عملان طوليان :

العمل الأول : تحرك النفس وتوجهها نحو الصلاة ، فهذا عمل نفساني ، نسبته إلى النفس نسبة الفعل إلى الفاعل ، لا نسبة العرض إلى محلّه وليس من قبيل الإرادة ، التي نسبتها إلى النفس نسبة العرض إلى محله ، وهذا الفعل عبارة عن تأثير النفس ، واختيار النفس للصلاة ، وهذا العمل الأول ، هو اختياري للنفس ، لأنه لم يجب ، ولم يتحتم وجوده بالإرادة ، حتى يلزم خروجه عن الاختيار ، بل هذا الفعل ، الذي هو إعمال القدرة ، حتى بعد الإرادة ومبادئها ، يبقى بالإمكان أن يتحقق من قبل النفس ، وبالإمكان أن لا يتحقق من قبلها ، إذن فهو فعل اختياري ، ما دام أنه غير خاضع لقانون الوجوب بالعلة ، لأنه خارج تخصيصا عن هذا القانون.

العمل الثاني : الذي هو في طول العمل الأول ، وهذا العمل الثاني هو عبارة عن الصلاة الخارجية ، وهذا العمل الثاني ، وهذه الصلاة الخارجية ، وإن أصبحت ضرورية بعد اختيار النفس لها ـ لأن النفس بعد أن تختار أن تصلي ، حتما تصلي ـ لكن هذه الضرورة ، لا تنافي مع الاختيار لأنها ضرورة ، نشأت من الاختيار ، فإن هذه الضرورة ، نشأت من الفعل الأول الذي هو عين اختيار النفس للصلاة ، فلا تكون هذه الضرورة منافية للاختيار.

إذن فالعمل الأول والثاني ، كلاهما اختياري ، لأن العمل الأول ، خارج عن قاعدة ، أن الشيء ما لم يجب لم يوجد ، وكان باقيا على إمكانه ، إلى حين وجوده ، ولم يتحتم وجوده بالإرادة ، وأمّا العمل الثاني فهو اختياري ، وإن كان قد أصبح ضروريا ، ولكن ضرورته في طول الاختيار ، والضرورة في طول الاختيار لا تنافي الاختيار ، هذا حاصل ما أفاده (قده) في تفصيل المطلب.

ولنا حول هذا التفصيل عدة تعليقات.

٨٠