بحوث في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٦

الوجه الأول : هو أن نستند إلى البيان السابق في وجوب القضاء من تبعية الأمر القضائي للأداء ، فمن تنجز عليه الأداء ولو ظاهرا وتسامح حتى خرج الوقت ـ كما في الصورة الأولى والثانية ـ ولم يأت به وجب قضاؤه كذلك وجوبا ظاهريا. لما قلناه هناك من أن دليل وجوب القضاء ينشئ أمرا نوعيا يتدارك به ما فات حسبما فات ، فإن كان ما فات واجبا واقعيا فيجب القضاء وجوبا واقعيا وإن كان ما فات واجبا ظاهريا فيجب القضاء وجوبا ظاهريا.

ولكن في هذا الوجه قد يشكل الأمر حيث يقال ، بإن الأداء لم يكن واجبا عليه لا وجوبا شرعيا واقعيا ولا وجوبا شرعيا ظاهريا ، وإنما وجب عليه بحكم العقل بمقتضى أصالة الاشتغال وقانون تنجيز العلم الإجمالي. وحينئذ دليل وجوب القضاء يتوقف على عناية زائدة ، وهي أن يكون الأمر النوعي المنشأ بدليل وجوب القضاء له سعة وشمول حتى لموارد الوجوب العقلي ، أي كأنه ينشئ أمرا في كل مورد كان فيه مقتض للأداء ، سواء كان مقتضيا للأداء من قبل الشارع ، أو من قبل العقل ، دون أن ينظر إلى فوت الأحكام الشرعية بالخصوص.

حينئذ إذا ادّعيت هذه العناية ، فيجب القضاء في هذا الوجه بنفس البيان المتقدم في الصورة الأولى والثانية.

الوجه الثاني : هو أنه إذا أنكرنا العناية الزائدة في شمول دليل القضاء لموارد الوجوب العقلي ، وكان قد تنجز عليه في الوقت بالعلم الإجمالي إحدى فريضتين إمّا الجمعة وإمّا الظهر وقد أتى بإحداهما ـ الجمعة مثلا ، مع العلم أنه هنا لم يحرز فوت واجب واقعي ولا واجب ظاهري ، كما أنه هنا لا يفرّق بين كون موضوع وجوب القضاء هو عدم الإتيان بالواجب أو كونه هو فوت الواجب ، هنا لا يمكن إثبات وجوب القضاء على كل حال. وإن كان قد يتخيّل التمسك باستصحاب عدم الإتيان بالواجب الواقعي بناء على كون موضوع وجوب القضاء هو عدم الإتيان بالواجب.

٥٠١

إلّا أن هذا التخيّل غير صحيح وذلك ، أننا لا نشك فيما أتينا به وما لم نأت به إذ نعلم يقينا أن الظهر لم نأت بها ، ونعلم يقينا أن الجمعة أتينا بها إذن فلا فائدة في استصحاب عدم الإتيان ، وإنما الشك في أن هذا واجب أو ذاك واجب ، فإن كان الذي أتينا به هو الواجب إذن لا قضاء ، وإن كان الذي لم نأت به هو الواجب فعلينا القضاء ، فاستصحاب عدم الإتيان لا أثر له حتى لو قيل بأن موضوع وجوب القضاء هو عدم الإتيان لا عدم الفوت ، فتبقى مسألة كيفية تخريج وجوب القضاء بلا حل.

الوجه الثالث : في تخريج إثبات وجوب القضاء هو أن يقال ، بأن وجوب القضاء بنفسه طرف للعلم الإجمالي من أول الأمر كوجوب الأداء وذلك لأن المكلّف في البداية يعلم علما إجماليا إمّا بوجوب الجمعة عليه وإمّا بوجوب الظهر عليه ، ويعلم علما إجماليا أيضا بأنه إمّا الجمعة واجب عليه وإمّا قضاء صلاة الظهر واجب عليه لو لم يأت بها في وقتها ، إذن فوجوب صلاة الظهر طرف للعلم الإجمالي من أول الأمر فيتنجز بالعلم الإجمالي.

إذن فهنا علمان إجماليان ، أحدهما العلم الإجمالي بوجوب الجمعة أداء أو الظهر أداء ، والثاني هو علم إجمالي بوجوب صلاة الجمعة أداء أو وجوب قضاء صلاة الظهر لو لم يأت بها أداء إذن فوجوب الظهر قضاء لو لم يأت بها أداء ، هذا طرف للعلم الإجمالي الثاني فيتنجز به.

وهذا الكلام ليس صحيحا ، وذلك لأنه وإن كان هذان العلمان الإجماليان صحيحين ، لكن الطرف الثاني للعلم الإجمالي الثاني ، وهو قضاء الظهر ، وجوبه ليس وجوبا فعليا ، بل وجوب منوط بعدم الإتيان بالظهر في الوقت وهذا معناه ، أن المكلف يعلم بفعلية الشرط بوجوب القضاء فيكون علما بوجوب فعلي على كل تقدير ، لأنه يعلم إمّا بوجوب الأداء فعلا ، أو بوجوب القضاء بعد فوات وقت الظهر ، فيصير من باب العلم الإجمالي بالتدريجيات ، لأنه بان على عدم الإتيان بالظهر داخل الوقت من أول الأمر ، وحينئذ يكون هذا العلم الإجمالي منجزا في حقه.

٥٠٢

وأمّا إذا فرض أن المكلّف سوف يأتي «بالظهر» ولم يكن بانيا على عدم الإتيان بها قبل الإتيان «بصلاة الجمعة» إذن فقبل الإتيان بالجمعة ، علمه الإجمالي بوجوب الجمعة أو بوجوب الظهر قضاء لا يكون علما بالتكليف الفعلي على كل تقدير ، لأن وجوب القضاء ليس معلوم الفعلية في حقه وظرفه ، إذ لعلّه سوف يأتي بالظهر إذن فلا يكون منجزا ، لأن العلم المنجز هو العلم الفعلي بالتكليف في ظرفه على كل تقدير وهذا ليس علما بالتكليف الفعلي في ظرفه على كل تقدير.

وأمّا بعد أن يأتي بالجمعة ويمضي الوقت ويعزف عن الإتيان بصلاة الظهر حينئذ يكون هذا العلم الإجمالي علما بالتكليف الفعلي لكن بعد خروج أحد طرفي هذا العلم ـ وهو الجمعة ـ عن محل الابتلاء ، لأنه قد سقط خطاب الجمعة على كل حال على فرض وجوده.

إذن فهذا العلم الإجمالي بوجوب الجمعة أو الظهر قضاء هو قبل الإتيان بالجمعة لم يكن علما إجماليا بالتكليف الفعلي على كل تقدير ، وبعد الإتيان بالجمعة ، صار علمه الإجمالي هذا فعليا ، لكن بعد أن خرج أحد طرفي هذا العلم عن محل الابتلاء لم يعد منجزا.

نعم لو كان هذا المكلّف من أول الأمر وقبل الإتيان بالجمعة بانيا على أن لا يأتي «بالظهر» هنا حينئذ يكون العلم الإجمالي منجزا لوجوب القضاء كما تقدّم.

وبهذا تبيّن أن المحاولات الثلاث غير ناجحة في إثبات وجوب القضاء ، وإذا لم نستطع إثبات وجوب القضاء فيما إذا تنجز الأداء من أول الأمر بقانون العلم الإجمالي ، فما ظنّك بإثبات وجوب القضاء لو لم يحصل هذا العلم الإجمالي إلّا بعد خروج الوقت.

الوجه الرابع : لإثبات وجوب القضاء على المكلّف ، فيما إذا ثبت وجوب إحدى الفريضتين بعلم إجمالي ، وقد اقتصر المكلّف على إتيان إحدى

٥٠٣

الفريضتين أداء دون الأخرى ، وهذا الوجه مبني على دعوى أن القضاء بالأمر الأول لا بأمر جديد ، وقد تنجز على المكلّف بالعلم الإجمالي فيجب تفريغ الذمة منه من غير فرق بين داخل الوقت أو خارجه.

وتفصيل ذلك أنه قد أشرنا مرارا إلى أن القضاء قد يقال أنه بالأمر الأول ، بمعنى أنه حين دخول الوقت يتوجه إلى المكلف أمران ، أحدهما «صلّ» بلا قيد الوقت ، والآخر أمر بإيقاع الصلاة في الوقت ، وبعد فوات الوقت يسقط الأمر الثاني ، ويبقى الأمر الأول ، وحينئذ بناء على هذا المبنى يكون الأمر بجامع الصلاة أمرا فعليا متوجها إلى المكلّف من حين دخول الوقت ، فإذا تشكّل لديه علم إجمالي وترددت الفريضة بين الجمعة والظهر أو بين القصر والتمام إذن يتشكل عنده من أول الوقت ، علمان إجماليان ، علم إجمالي بلحاظ الأمر الأول بوجوب إيقاع صلاة قصرا أو صلاة تمام دون تقييد بالوقت ، وعلم إجمالي آخر بلحاظ الأمر الثاني بلزوم إيقاع هذه الصلاة التي هي إمّا قصر وإمّا تمام في الوقت وكلا هذين العلمين الإجماليين منجز في المقام ، وعليه فلو أتى المكلف بأحد الطرفين في الوقت كما لو أتى بصلاة القصر ، فهذا معناه امتثال أحد طرفي العلم الإجمالي الأول وامتثال أحد طرفي العلم الإجمالي الثاني ، وأمّا الطرف الآخر للعلم الإجمالي الأول فيبقى على حاله منجزا بالعلم الإجمالي ويجب امتثاله ، فلو أن هذا المكلف أوقع صلاة التمام في الوقت أيضا إذن فقد وافق موافقة قطعية لكلا العلمين وإذا لم يوقعها في الوقت إذن فقد خالف مخالفة احتمالية العلم الإجمالي الثاني ويتسجّل عليه إيقاعها قضاء بعد الوقت تحصيلا للموافقة القطعية للعلم الإجمالي الأول وهو العلم بوجوب جامع القصر عليه أو جامع التمام.

وهذا العلم الإجمالي لا يشبه العلم الإجمالي المتقدم في الوجه الثالث ، لأنه بناء على أن القضاء بالأمر الأول فهو علم إجمالي بالخطاب الفعلي على كل تقدير لأن المفروض في هذا الوجه الرابع أن الخطاب متوجه فعلا من أول الوقت بعنوان «ائتي بالجامع» إذن فالأمر بالجامع المردد بين القصر والتمام هو

٥٠٤

فعلي من أول دخول الوقت فيكون العلم الإجمالي به علما إجماليا بالتكليف الفعلي على كل تقدير فيكون منجزا ، وهذا الوجه حوله أمران :

أ ـ الأمر الأول : هو أن هذا الوجه مبني على أن القضاء بالأمر الأول وبناء عليه ، حينئذ يكون العلم الإجمالي علما بالتكليف الفعلي على كل تقدير ، وهذا المبنى غير مقبول في الفقه إذ المختار فيه أن القضاء بأمر جديد.

ب ـ الأمر الثاني : هو أن هذا الوجه لو بنينا فيه على أن القضاء بالأمر الأول فهو إنما يفيد في تنجيز وجوب العلم الإجمالي الثاني فيما لو تشكّل العلم الإجمالي قبل الإتيان بالفعل الأول ، كما لو فرض أن المكلّف قبل أن يأتي بالجمعة أو بالقصر تشكّل عنده علم إجمالي بوجوب الجمعة أو الظهر أو وجوب القصر أو التمام ، فإنه في مثل ذلك يكون العلم الإجمالي متشكلا قبل فعلية كلا الامتثالين فيكون علما إجماليا بالتكليف الفعلي على كل تقدير فيستوجب الموافقة القطعية لا محالة ويكون منجزا ، وأمّا إذا فرغنا عن أن العلم الإجمالي بوجوب القصر أو التمام لم يتشكل إلّا بعد الإتيان بالقصر أو كان حادثا لكنه كان منحلا بقيام حجة على وجوب القصر تعيينا ، وإنما صار علما إجماليا غير منحل بعد الفراغ من القصر والإتيان به ، فمثل هذا العلم الإجمالي الذي يفرض حدوثه بعد الإتيان بالقصر وانحلاله ، ليس منجزا للإعادة فضلا عن القضاء لأنه قد خرج أحد طرفيه عن محل الابتلاء قبل أن يتشكّل ، فهو إمّا علم إجمالي بوجوب القصر وهو لا أثر له فعلا ، أو بوجوب التمام وهو له أثر فعلا.

الوجه الخامس : وهو الأخير لإثبات وجوب القضاء على من تنجز عليه فائت بالعلم الإجمالي وخلاصته هو ، أن نفرض أنّ المكلف في يوم الجمعة قد اقتصر على الإتيان بها ولم يأت بالظهر ، ونريد أن ننجز عليه وجوب قضاء الظهر من يوم الجمعة حينئذ نقول ، إن وجوب قضاء صلاة الظهر الذي فاته في يوم الجمعة منجز عليه بالعلم الإجمالي ، لكن لا بالعلم الإجمالي المتقدم في الوجه الثالث ، وهو العلم الإجمالي إمّا بوجوب الجمعة الآن أو بوجوب قضاء

٥٠٥

الظهر هذا اليوم لو لم يأت بالظهر لأن ذلك العلم الإجمالي مردد بين المعلق وغير المعلق وليس علما إجماليا بالتكليف الفعلي على كل تقدير ، لكن العلم الإجمالي هنا في الوجه الخامس ، هو علم إجمالي ، إمّا بوجوب قضاء الظهر فعلا بعد أن فرضنا فوتها واقتصار المكلف على الجمعة فقط إلى أن فات الوقت أو بوجوب صلاة الجمعة في الأسبوع الآتي وذلك لأن الواجب في الشريعة الإسلامية في يوم الجمعة إن كان هو الظهر إذن فيجب عليه قضاء الظهر الذي فاته في يوم الجمعة ، وإن كان الواجب في الشريعة هو الجمعة ، إذن يجب عليه صلاة الجمعة في الجمعة القادمة دون وجوب قضاء الظهر ، وهذان خطابان فعليّان كل في ظرفه ، ويعلم إجمالا بتوجه أحدهما إلى المكلف ، ومثل هذا العلم الإجمالي يكون منجزا ، وبحسب الحقيقة يكون وجوب صلاة الجمعة في يوم الجمعة القادمة طرفا لعلمين إجماليين إذ يمكن أن نقول بأنه إمّا أنه يجب على المكلف صلاة الجمعة في يوم الجمعة القادم ، وإمّا يجب عليه أمران ، أحدهما قضاء ظهر هذه الجمعة الذي فاته ، والآخر أداء الظهر في يوم الجمعة القادمة ، وهذا علم إجمالي يتشكل بعد فوات يوم الجمعة السابق ، فيكون علما بالتكليف الفعلي على كل حال وهذا العلم يمكن تشكيله في أثناء نهار الجمعة السابق فيما لو حصل العلم الإجمالي بوجوب الجمعة أو الظهر بعد الإتيان بالجمعة ، حينئذ نصبح بحاجة إلى منجز للظهر فيكون منجز الظهر هو هذا العلم ، وهو العلم بأنه إمّا يجب الظهر الآن أو صلاة الجمعة في الجمعة القادمة ، إذن فدائما حينما نريد أن ننجز وجوب صلاة الظهر القضائية أو الأدائية لو لم يكن العلم الإجمالي حاصلا في أول الوقت من أول الأمر فإننا ننجزه بهذه الصيغة الآنفة للعلم الإجمالي ، وهذا العلم الإجمالي يمتاز عن العلوم الإجمالية السابقة أنه علم إجمالي بالتكليف الفعلي على كل تقدير فيكون منجزا لا محالة.

وهذا الوجه يصح في الواجبات المتكررة كصلاة الظهر والجمعة ويكون نافعا في تنجيز وجوب القضاء فيها دون مثل القصر والتمام الذي لا يعلم فيه بأن الحالة سوف تتكرر على كل حال.

٥٠٦

ومن هنا يكون الحكم بوجوب القضاء في غير الواجبات التكرارية مبنيا على الاحتياط.

وأمّا في الفرض الثاني ، وهو أن يكون حصول العلم الإجمالي لديه بعد أن أتى بأحد طرفيه على طبق الإمارة ، كما لو صلّى الجمعة على طبق الإمارة ثم انهدمت هذه الإمارة بعد خروج الوقت فبقي هو والعلم الإجمالي كما كان في أول أمره ، فهل يجب عليه الظهر احتياطا ، أداء في داخل الوقت ، وقضاء في خارجه ، أو لا يجب عليه؟.

وهنا كما عرفت سابقا من خلال الوجوه المتقدمة ، فإن الوجه الأول والثالث والرابع لا يجري شيء منها ، حتى لو تمّ شيء منها في الفرض السابق ، لأن العلم الإجمالي بعد أن تشكل صار أحد طرفيه خارجا عن محل الابتلاء بسبب العمل على طبق الإمارة التي تبيّن عدم حجيتها ، وحينئذ لا يكون هذا العلم الإجمالي منجزا ليجب على المكلف طرفه الآخر إعادة داخل الوقت أو قضاء في خارجه ، كما أن الوجه الثاني والخامس يجريان في هذا الفرض إن تمّا في السابق.

الصورة الرابعة : من صور جريان الأصل العملي هي ، فيما لو كان الأصل العملي هو أصالة الاشتغال العقلية ، وكان هذا الأصل جاريا باعتبار دوران الأمر بين الأقل والأكثر عند من يرى جريان أصالة الاشتغال في موارد الأقل والأكثر ، وحينئذ لو فرض أن المكلف اقتصر على الأقل دون الأكثر وفات الوقت فهل يجب عليه الإتيان بالأكثر أو لا يجب؟.

وهنا يقال إذا كان مدرك أصالة الاشتغال في موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر هو العلم الإجمالي حيث يقال بأن العلم الإجمالي بوجوب الأقل لا بشرط أو الأقل بشرط الزيادة منجزا ، إذن ترجع هذه الصورة إلى الصورة الثالثة حيث أن المنجز فيها هو العلم الإجمالي ، حينئذ ما قلناه في تلك الصورة السابقة نقوله هنا.

وأمّا إذا كان المنجز لأصالة الاشتغال هو مسألة الشك في حصول

٥٠٧

الغرض وسقوط الوجوب باعتبار أن الغرض معلوم ويشك في حصوله بالأقل ، حينئذ يكون بابه باب الشك في تحقيق الغرض فتجري أصالة الاشتغال في المقام من هذه الناحية. وبناء على هذا أيضا يشكل وجوب القضاء حيث أن الأداء غير واجب شرعا وإنما هو واجب بأصالة الاشتغال ، إذن فكيف يجب القضاء؟.

وهنا تأتي المحاولات الأربعة المتقدمة مع أجوبتها دون المحاولة الأخيرة المذكورة في الوجه الخامس إذ لا يمكن في المقام تشكيل علم إجمالي بعد فوات الوقت لو اقتصر المكلف على الإتيان بالأقل وترك الأكثر حيث لا يمكن أن يقال بأنه يعلم إجمالا إمّا بوجوب الأكثر عليه من هذا اليوم أو الأقل من اليوم الآتي لأن وجوب الأقل في اليوم الآتي معلوم الوجوب على كل حال ، إذن فلا يمكن تشكيل مثل هذا العلم الإجمالي ، ولهذا جعلناها صورة في مقابلة الصورة السابقة ، لأنه في الصورة السابقة لو أتى بالجمعة ولم يأت بالظهر حتى فات وقت الصلاة كان يمكنه أن يقول بأني أعلم إجمالا إمّا بوجوب قضاء الظهر من يوم الجمعة هذه ، أو بوجوب صلاة الجمعة في الجمعة القادمة ، فهذا علم إجمالي بين المتباينين ويكون علما بالتكليف الفعلي على كل تقدير ويكون منجزا ، وأمّا هنا في هذه الصورة لو فرض أنه دار أمره بين الأقل والأكثر فأتى بالأقل وترك الزائد حتى فات الوقت فلا يمكنه أن يقول بأنني أعلم إجمالا إمّا بوجوب قضاء الأكثر من هذا اليوم أو وجوب الأقل في اليوم القادم ، ذلك لأن الأقل في اليوم القادم معلوم الوجوب على كل حال إذن فلا يتشكل مثل هذا العلم الإجمالي وبذلك اتضح تمام صور هذه المسألة ، وبهذا تمّ بحث إجزاء الأوامر الظاهرية وعدم إجزائها عن الواقع وقد تبيّن أنه في كل مورد كان لدليل الحكم الواقعي إطلاق في نفسه فمقتضى القاعدة هو عدم إجزاء الحكم الظاهري ولزوم الإعادة داخل الوقت والقضاء خارجه في غالب الفروض وبنحو الاحتياط في بعضها الآخر.

نعم قد يتفق في مورد أن لا يكون لدليل الحكم الواقعي إطلاق في

٥٠٨

نفسه ، أو قد يتفق في مورد أن يقوم دليل خاص على تقييد هذا الإطلاق وإثبات الإجزاء كما هو الحال في موارد إجزاء عمل المقلّد عند ما يرجع إلى مقلّد آخر وكما هو الحال أيضا في موارد الإخلال غير الركني في الصلاة ، فإن هذه الموارد خرجت عن القاعدة التي هي عدم الإجزاء إمّا لعدم إطلاق في دليل الحكم كما في الأدلة اللبيّة على بعض الأجزاء والشرائط التي قد لا تشمل حالة تبدّل الوظيفة اجتهادا أو تقليدا ، وإمّا لوجود مقيّد لإطلاق دليل الحكم الواقعي من قبيل «حديث لا تعاد» وهذه الموارد ، من تحقيق موارد القصور في المقتضي أو ثبوت المخصص والمقيد المانع من انعقاد العام أو الإطلاق ، كل ذلك في ذمة بحث الفقه ، وإلّا فالقاعدة هي عدم الإجزاء ، وعليه يتبيّن عدم إجزاء الأوامر الخيالية والتخيّلية والوهمية والتوهمية بطريق أولى كما لو تخيّل حكما ظاهريا أو واقعيا ثم انكشف له عدمه أو خلافه ، وإنما قلنا بطريق أولى ، لأن ما تقدّم في الاحتمالين السابقين من إجزاء الحكم الظاهري عن الواقعي بسبب حكومة هذا الأمر على الحكم الواقعي وتوسعته لدائرة موضوعه ، أو سببيته لمصلحة أخرى ، أقول لو تمّ شيء من هذين الاحتمالين فإنه لا يتم في الأوامر الخيالية والوهمية.

وبهذا نكون قد تعرضنا للتنبيهين الذين عقدهما المحقق الخراساني في آخر بحث الإجزاء ، وهما عدم إجزاء الأوامر الخيالية ، وكون الإجزاء ملازم للتصويب أو ليس بملازم له.

وبهذا كله تمّت مسألة الإجزاء ، ومن ثمّ ننتقل إلى بحث مقدمة الواجب.

٥٠٩
٥١٠

فهرس موضوعات الجزء الرابع

بيان حول هذا الجزء.............................................................. ٥

بحوث الأوامر.................................................................... ٧

دلالات مادة الأمر............................................................... ٩

الفصل الأول ـ جهات البحث في مادة الأمر....................................... ١١

الجهة الأولى ـ معاني مادة الأمر.................................................... ١٣

الجهة الثانية ـ اعتبار العلو في مفهوم الأمر.......................................... ٢١

الجهة الثالثة ـ دلالة كلمة الأمر على جامع الطلب أو الوجوبي منه..................... ٢٤

ملاك دلالة الأمر على الوجوب مادة وصيغة....................................... ٢٧

المسلك الأول ـ الوضع........................................................... ٢٧

المسلك الثاني ـ العقل............................................................ ٢٨

المسلك الثالث ـ الإطلاق ومقدمات الحكمة........................................ ٢٨

ثمرات فقهية مترتبة على المسالك الثلاثة............................................ ٥٠

الثمرة الأولى................................................................... ٥٠

الثمرة الثانية................................................................... ٥١

الثمرة الثالثة................................................................... ٥١

الثمرة الرابعة................................................................... ٥٣

الثمرة الخامسة.................................................................. ٥٥

الجهة الرابعة الطلب والإرادة...................................................... ٥٧

المقدمة الأولى ـ من مبنى الأشاعرة في الجبر.......................................... ٥٧

المقدمة الثانية ـ من مبنى الأشاعرة في الجبر.......................................... ٥٨

المسألة الكلامية ـ الاحتمال الأول................................................. ٦٠

الاحتمال الثاني في المسألة الكلامية............................................... ٦١

الاحتمال الثالث والرابع في المسألة الكلامية........................................ ٦٢

٥١١

المسألة الفلسفية................................................................ ٦٥

شبهة إبطال الاختيار............................................................ ٦٦

المسلك الأول ، في دفع الشبهة................................................... ٦٨

المسلك الثاني ، في دفع الشبهة................................................... ٧٣

المسلك الثالث في حل الشبهة.................................................... ٧٥

المسلك الرابع في حل الشبهة للمحقق النائيني «قده»................................ ٧٧

حل شبهة إبطال الاختيار........................................................ ٨٤

تتميم وتفريع................................................................... ٩١

الجهة الأولى إشكال عدم إمكانية نشوء الإرادة من مصلحة في نفس الإرادة............. ٩٥

الجهة الثانية : إمكان نشوء الإرادة من مصلحة قائمة في القصد....................... ٩٧

التخلص من الإشكال......................................................... ١٠٣

نهاية الكلام في مادة الأمر ، نهاية الفصل الأول................................... ١٠٧

الفصل الثاني ـ الكلام في صيغة الأمر............................................ ١٠٩

الجهة الأولى ـ في تشخيص مدلول صيغة الأمر.................................... ١١١

الدلالة الوضعية والدلالة التصورية شيء واحد..................................... ١١٢

الدلالة التصديقية لصيغة الأمر................................................. ١١٨

استعمال الصيغة بداعي الإرادة أو بداعي التعجيز................................. ١٢٠

الجهة الثانية ، في دلالة الصيغة على الوجوب أو على جامع الوجوب والاستحباب..... ١٢٤

في دلالة الصيغة على الوجوب.................................................. ١٢٧

الجهة الثالثة ، في دلالة الجمل الخبرية على الطلب والوجوب......................... ١٢٨

المقام الأول ، دلالة الجملة الخبرية على الطلب.................................... ١٢٩

المسلك الأول................................................................ ١٢٩

المسلك الثاني................................................................. ١٣٤

تعليقان...................................................................... ١٣٥

المقام الثاني في دلالة الجملة الخبرية على الطلب الوجوبي أو على

٥١٢

تنبيهان...................................................................... ١٤٢

الجهة الرابعة : التعبّدي والتوصّلي وما هو الأصل اللفظي والعملي فيهما.............. ١٤٥

المسألة الأولى : الشك في كون واجب تعبدي أو توصلي بالمعنى الأول................ ١٤٦

المقام الأول ، في تأسيس الأصل اللفظي.......................................... ١٤٦

المقام الثاني : في تأسيس الأصل العملي.......................................... ١٥١

تحقيق المقام.................................................................. ١٥٣

المسألة الثانية : الشك في كون واجب تعبدي أو توصلي بالمعنى الثاني................ ١٥٧

المقام الأول : في تأسيس الأصل اللفظي.......................................... ١٥٧

المقام الثاني : في تأسيس الأصل العملي.......................................... ١٧٣

تذنيب...................................................................... ١٧٤

المسألة الثالثة : من التعبدي والتوصلي في سقوط الواجب بالحصة المحرّمة وعدمه....... ١٧٨

المقام الأول : في تأسيس الأصل اللفظي.......................................... ١٧٨

المقام الثاني : في تأسيس الأصل العملي.......................................... ١٨١

تحقيق المقام.................................................................. ١٨٢

المسألة الرابعة : الشك في كون واجب توصلي أو تعبدي بالمعنى الرابع................ ١٨٥

تحقيق حاق الفرق بين التعبدي والتوصلي......................................... ١٨٥

استحالة أخذ قصد القربة قيدا في متعلق الأمر.................................... ١٨٦

المرحلة الأولى. عدم إمكان أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر................... ١٨٦

البيان الأول ، لصاحب الكفاية «قده».......................................... ١٨٧

البيان الثاني :................................................................ ١٨٩

البيان الثالث................................................................. ١٩١

البيان الرابع : للمحقق النائيني.................................................. ١٩٨

مناقشة السيد الخوئي «قده» لأستاذه............................................ ٢٠٣

تحقيق المقام.................................................................. ٢٠٦

٥١٣

الأنحاء المتصورة لأخذ قصد القربة في متعلق الأمر.................................. ٢٢١

النحو الأول.................................................................. ٢٢٢

النحو الثاني.................................................................. ٢٢٩

النحو الثالث : أخذ قصود قربية أخرى في متعلق الأمر............................ ٢٣٢

الجهة الأولى.................................................................. ٢٣٤

الجهة الثانية.................................................................. ٢٣٩

هروب المحقق العراقي «قده» من محذور أخذ قصد امتثال الأمر قيدا في متعلق الأمر.... ٢٥٦

المحقق العراقي يقترح صيغة تعدد الأمر لدفع المحذور................................ ٢٦٠

التحقيق في مقالة المحقق العراقي «قده».......................................... ٢٦٢

الفرق اللبي والثبوتي بين التوصلي والتعبدي........................................ ٢٦٦

تصعيد في استحالة التقييد الثبوتي بقصد القربة.................................... ٢٧١

تحقيق حقيقة الواجب التعبدي والتوصلي......................................... ٢٧٥

المسألة الأولى : في الأصل اللفظي............................................... ٢٧٥

المقام الأول : في الإطلاق اللفظي............................................... ٢٧٦

المقام الثاني : الإطلاق المقامي.................................................. ٣٠٠

التقريب الأول................................................................ ٣٠٠

التقريب الثاني................................................................ ٣٠٥

المسألة الثانية : في الأصل العملي عند الشك في كون واجب توصلي أو تعبدي بالمعنى المعروف لهما  ٣٠٧

المسلك الأول : كون المقام من صغريات الأقل والأكثر الارتباطيين................... ٣٠٧

المسلك الثاني : كون الشك في الوجوب الزائد فتجري البراءة عنه.................... ٣٠٨

المسلك الثالث : رجوع الشك فيه إلى الوجوب الزائد فتجري البراءة عنه.............. ٣٠٨

جريان أصالة الاشتغال عند المحقق الخراساني في المقام............................... ٣٠٩

الجهة الأولى : في جريان البراءة العقلية بناء على قاعدة قبح العقاب بلا بيان........... ٣٠٩

الوجه الأول.................................................................. ٣١٠

٥١٤

الوجه الثاني.................................................................. ٣١١

الوجه الثالث................................................................. ٣١٢

الوجه الرابع.................................................................. ٣١٣

دفع بيان الوجه الثالث لأصالة الاشتغال......................................... ٣١٥

دفع بيان الوجه الثالث........................................................ ٣١٧

دفع بيان الوجه الرابع.......................................................... ٣١٩

دفع بيان الوجه الرابع.......................................................... ٣٢١

الجهة الثانية في جريان البراءة الشرعية وعدمه...................................... ٣٢٢

الفصل الثاني ـ في تقسيمات الواجب............................................. ٣٢٤

الجهة الأولى : في مقتضى إطلاق الصيغة من حيث النفسيّة والغيريّة.................. ٣٢٤

الجهة الثانية : في مقتضى إطلاق الصيغة من حيث التعينيّة والتخيريّة................. ٣٣٤

الجهة الثالثة : في دوران أمر الصيغة بين العينيّة والكفائيّة........................... ٣٣٨

الفصل الثالث : في دلالة الأمر في مورد توهم الحرمة والخطر........................ ٣٣٩

تحقيق المطلب : في دلالة الأمر في مورد توهم الحرمة والخطر......................... ٣٤٢

تذنيب :.................................................................... ٣٤٤

المرة والتكرار : في دلالة الأمر على المرة أو التكرار................................. ٣٤٩

المقام الأول : في دلالة الأمر على المرة أو التكرار بلحاظ المدلول الوضعي لصيغة الأمر.. ٣٤٩

المقام الثاني : في مقتضى المدلول الإطلاقي لصيغة الأمر من حيث المرة أو التكرار...... ٣٥١

الكلّي الطبيعي وأنحاء وجوده في الخارج........................................... ٣٦٥

تعدّد الامتثال أو تبديله........................................................ ٣٦٩

تبديل الامتثال بالامتثال....................................................... ٣٧٢

تطبيقات فقهية............................................................... ٣٧٨

الفور والتراخي................................................................ ٣٨٧

الإجزاء...................................................................... ٤٠٢

المقام الأول : في إجزاء الأوامر الاضطرارية........................................ ٤٠٣

٥١٥

المرحلة الأولى : في مقام الثبوت................................................. ٤٠٣

المرحلة الثانية : في مقام الإثبات : والبحث في مسألتين............................ ٤١٠

المسألة الأولى : وجوب الإعادة عند ارتفاع الاضطرار في أثناء الوقت................. ٤١٠

المسألة الثانية : وجوب القضاء وعدمه إذا ارتفع العذر بعد خروج الوقت............. ٤٤٣

ـ ما هو الأصل العملي عند فقد الأدلة الاجتهادية على وجوب القضاء وعدمه........ ٤٥٠

المقام الثاني : في إجزاء الأوامر الظاهرية وعدمه عن الواقع إذا انكشف الخلاف......... ٤٥٣

انكشاف الخلاف بالقطع واليقين................................................ ٤٥٤

انكشاف الخلاف بتبدل الحكم الظاهري إلى ظاهر آخر............................ ٤٩١

الحالة الأولى : انكشاف خلاف الحكم الظاهري بحجة معتبرة ، كرواية صحيحة....... ٤٩١

الحالة الثانية : فيما إذا انكشف الخلاف بالأصل.................................. ٤٩٢

وجوب القضاء وعدمه إذ انكشف الخلاف بأصل عملي كأصالة الاشتغال............ ٤٩٩

نهاية مسألة الإجزاء........................................................... ٥٠٩

فهرس موضوعات الجزء الرابع................................................... ٥١١

٥١٦