بحوث في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٦

المطلق والمقيد ، حيث ذكرنا أنه يوجد تقييد لحاظي وفي مقابله يوجد إطلاق لحاظي ، والتقييد اللحاظي يعني لحاظ القيد في الطبيعة ، في طبيعة البيع مثلا ، التي وقعت موضوعا لأحل الله البيع ، والإطلاق اللحاظي يعني لحاظ عدم دخل القيد في الطبيعة ، وهذان الأمران التقييد اللحاظي والإطلاق اللحاظي ، كلاهما خصوصيتان وجوديتان زائدتان على الطبيعة واسم الجنس وهو لفظ البيع ، لم يوضع لا للطبيعة مع الإطلاق اللحاظي ولا للطبيعة مع التقييد اللحاظي ، بل وضع للجامع المحفوظ في ضمن المقيّد اللحاظي وفي ضمن المطلق اللحاظي المسمى بطبيعة اللابشرط المقسمي ، وحينئذ ، إذا قال المولى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ، فلفظ البيع بحسب مدلوله الوضعي لا يدل إلّا على ذات الطبيعة ، الجامع بين المطلق والمقيّد ، لا على الإطلاق اللحاظي ولا على التقييد اللحاظي ، وإذا دار الأمر بين احتمالين ، أحدهما ، أن تكون الحليّة حكما موضوعه هو المقيّد اللحاظي ـ «البيع المقيد بالعقد» مثلا ـ ، والاحتمال الآخر يكون موضوع الحليّة هو ، الجامع بين المطلق والمقيد ، وهذا الجامع بذاته له إطلاق ذاتي باعتبار جامعيته بين المطلق والمقيد ، بلا حاجة إلى اللحاظ ، في مقابل المطلق اللحاظي الذي يكون إطلاقه باللحاظ ، ولهذا يعقل وقوع هذا الجامع موضوعا للحكم الشرعي ، فتسري الحليّة إلى كل أفراد «البيع» ، وحينئذ إذا دار الأمر بين هذين الاحتمالين فيكون هذا مصداقا للكبرى ، لأنه إن كان موضوع الحليّة هو الجامع بين المطلق والمقيد إذن فموضوع الحلية الذي هو مرام المولى لا يزيد على مدلول كلامه ، لأن مدلول كلامه هو اسم الجنس الموضوع للجامع بين المطلق والمقيد ، وموضوع الحلية الذي هو مرام المولى هو الجامع بين المطلق والمقيد ، إذن فتمام مرامه هو تمام مدلول كلامه ولا يزيد على كلامه بشيء.

ولكن إذا كان موضوع الحليّة في مرام المولى هو «البيع» المقيد بأن يكون بالعقد ، إذن فقد زاد مرامه على كلامه ، لأن كلامه يدل فقط على صرف الطبيعة الجامع بين المطلق والمقيد ، ولا يدل على قيدية العقد ، فيكون مرامه أزيد من كلامه ، إذن فإذا دار الأمر بين أن يكون موضوع الحلية في واقع نفس

٤١

المولى ، هو الجامع بين المطلق والمقيد ـ «طبيعة اللابشرط المقسمي» ـ ، أو أن يكون هو المقيّد بالعقد مثلا ، فيتعين الأول بمقدمات الحكمة ، إذ على الأول لا يكون مرامه أزيد من كلامه ، بينما هو على الثاني أزيد من كلامه ، فيتعين بناء على الكبرى ، الأولى ، فهذا تطبيق صغرى واقعيّة لتلك الكبرى.

إلّا أن هذا المطلب الذي ذكرناه مبني على مختارنا في بحث المطلق والمقيّد ، من إمكان أن يكون موضوع الحليّة هو الجامع المحفوظ في المطلق والمقيد ـ طبيعة اللابشرط المقسمي ـ ، ولكن هناك جماعة ، ذهبوا في بحث المطلق والمقيد إلى امتناع وقوع الطبيعة الجامعة بين المطلق والمقيد بلا إضافة شيء إليها ، موضوعا للحكم الشرعي ، فقالوا بأن موضوع الحكم الشرعي ، إمّا المطلق اللحاظي ، وإمّا المقيد اللحاظي ، فعلى هذا يكون مرام المولى على كل حال زائدا على مدلول كلامه ، لأن مرامه ، إمّا الطبيعة المطلقة بالاطلاق اللحاظي ، وإمّا الطبيعة المقيدة بالتقييد اللحاظي ، وكلامه وهو (أحلّ الله البيع) لا يدل على الإطلاق اللحاظي ، ولا على التقييد اللحاظي ، وإنما يدل على الجامع بين الأمرين ، إذن فهناك خصوصية زائدة على ذات الطبيعة ، أخذت في مرامه دون كلامه ، فعلى هذا ، الكبرى لا تنطبق في المقام ، وهي أنه على أحد احتمالين يكون مرامه على مقدار كلامه ، وعلى الاحتمالين الآخر يكون مرامه أزيد من مدلول كلامه ، بل على كلا الاحتمالين مرامه أزيد من مدلول كلامه ، ولكن على هذا المبنى ، لا تتعطل مقدمات الحكمة ، بل نقول ، إن الأمر وإن كان بحسب الدقة دائرا بين هذه الزيادة ، وهذه الزيادة ، فلا بدّ من التزام زيادة في المرام على مدلول الكلام ، وهذه الزيادة مردّدة بين المتباينين ، وهما الإطلاق اللحاظي والتقييد اللحاظي ، لكن بحسب النظر العرفي ، يرى العرف ، إن الإطلاق ليس زيادة على أصل الطبيعة ، بينما التقييد يراه زيادة ، فبالنظر العرفي تنطبق الكبرى ، فالعرف يقول أن المولى لو كان مرامه المطلق ، إذن فمرامه لا يزيد على مدلول كلامه ، لأن الإطلاق ليس مئونة زائدة في نظر العرف ، وإن كان مرامه المقيّد ، فالتقييد مئونة في نظر العرف ، فيزيد على

٤٢

مدلول كلامه ، وهنا تجري مقدمات الحكمة ، باعتبار انطباق الكبرى ، لكن بالنظر العرفي لا بالنظر الدقّي.

وتارة أخرى يفرض أن الأمر دائر بين مئونتين ، بحيث أن مرام المولى يزيد على مدلول كلامه على كلا التقديرين ، وهذه الزيادة ملحوظة دقة وعرفا ، فالعرف يرى أن هناك زيادة ومئونة كما هو الحال في محل الكلام ، ففي محل الكلام حينما يقول المولى «آمرك بالصلاة» ، والأمر يدل على جامع الإرادة ، من دون أخذ الشدّة ولا الضعف ، ومن دون أخذ قيد الترخيص ولا عدم الترخيص ، ونحن نعلم أن هذا الجامع ليس هو تمام مرام المولى ، بل قد انضم إليه شيء ، وهذا الشيء ، إمّا الشدة أو الضعف على تقريب المحقق العراقي (١) ، أو إمّا عدم الترخيص أو الترخيص على تقريبنا ، إذن فهناك زيادة يعترف بها العرف ، ويقول بأن الوجوب فيه شيء أزيد من أصل الطلب ، وكذلك الاستحباب فيه شيء أزيد من أصل الطلب ، إذن فالمولى مرامه يزيد على مدلول كلامه بإحدى هاتين الزيادتين المتباينتين ، ففي مثل ذلك لا يمكن تعيين إحدى الزيادتين في مقابل الزيادة الأخرى ، بحيث أن الأصل في كل متكلم أن لا يزيد مرامه على مدلول كلامه ، لأن هذا المولى زاد مرامه على مدلول كلامه بإحدى الزيادتين المتباينتين ، وإذا كانت هاتان الزيادتان بهذا النحو ، فلا يمكن تعيين إحداهما في مقابل الأخرى إلّا إذا وجد شرطان.

الشرط الأول ، هو أن يحرز في مورد ، أن المولى في مقام بيان تمام مرامه حتى الزيادة ، بقرينة من القرائن.

والشرط الثاني ، هو أن تكون إحدى الزيادتين أخف وأقل مئونة بنظر العرف من الزيادة الأخرى ، وإن كان في هذه الأخرى مئونة ، وحينئذ ، إذا أحرز هذان الشرطان ، نقول بأن المولى ما دام هو في مقام بيان الزيادة إذن هو لم يبيّن الزيادة باللفظ ، فلا بدّ وأن يكون قد اعتمد في المقام على بيان الزيادة

__________________

(١) بدائع الأفكار ـ الآملي ج ١ ص ١٩٧.

٤٣

على السكوت ، وهنا يقال ، بأن جعل عدم بيان المئونة الأشد ، بيان لمئونة أضعف ، هو أقرب عرفا من جعل عدم بيان المئونة الأضعف ، بيانا للمئونة الأشد ، يعني يدور أمر هذا المولى ، بين أن يكون قد جعل عدم بيان الأشد بيانا للأضعف ، أو عدم بيان الأضعف بيانا للأشد ، والأقرب إلى العرف ، أن يجعل عدم بيان الأشد بيانا للأضعف ، فيثبت بذلك الأضعف ، ومقامنا من هذا القبيل.

ومن هنا يعرف ، أن تمامية الإطلاق في المقام ، سواء بتقريب المحقق العراقي (١) أو بالتقريب الذي استحسنّاه ، يتوقف على مجموع الشرطين ، وهو أن نحرز أن المولى في مقام البيان حتى من جهة الزيادة ، وحينئذ ، بمقتضى العرف هو أن يكون عدم بيان أشد المئونتين ، وهي مئونة الاستحباب ، بيانا لأخف المئونتين ، وهي مئونة الوجوب ، فيثبت بذلك الوجوب : فثبوت الوجوب بالإطلاق ، يتوقف على مئونة زائدة على كبرى مقدمات الحكمة ، وهي إحراز أنّ المولى في مقام بيان الزيادة وإيصالها إلى المكلف ، إذن فلا ينفع هذان التقريبان للإطلاق في تخريج الدلالة في سائر الموارد.

الإشكال الثاني

وهذا الإشكال ، يمكن أن يقع على دعوى ، أن دلالة الأمر على الوجوب بالإطلاق ، بإجراء مناقشة مقاربة للمناقشة التي أوردناها على المحقق النائيني ، القائل بأن الوجوب حكم عقلي (٢) وليس بالوضع ، وذلك بأن يقال ، لو ورد «أكرم الفقيه» و «لا يجب إكرام العالم» ، فهنا ، بناء على مسلك المحقق العراقي «أي مسلك الإطلاق» وإن كان يقع التعارض بين الدليلين اللفظيين ، لأن الدلالة على الوجوب دلالة لفظية بالإطلاق لا بالوضع وحكم العقل ، ولكن هذا التعارض بين الدليلين ، يكون تعارضا بين الإطلاقين ، بنحو العموم من

__________________

(١) نفس المصدر السابق.

(٢) فرائد الأصول الكاظمي ج ١ ص ٧٠.

٤٤

وجه ، ولا موجب لتقديم أحدهما على الآخر ، وذلك لأنّ الوجوب مستفاد من إطلاق الطلب الشديد في قوله «أكرم الفقيه» ، فيقع إطلاق الطلب طرفا للمعارضة مع إطلاق العالم في قوله لا يجب إكرام العالم فالأمر يدور ، بين أن نقيّد إطلاق العالم بغير الفقيه ، تحفظا على إطلاق أكرم الفقيه الظاهر في الوجوب ، وبين أن نقيّد إطلاق الطلب ، في أكرم الفقيه ، فنحمله على الطلب غير الشديد ، تحفظا على إطلاق العالم في خطاب «لا يجب إكرام العالم».

إذن بناء على مسلك الإطلاق ، يقع التعارض ، بين إطلاقين متعارضين في عالم الدليل اللفظي ، بحيث أن النسبة بين هذين الإطلاقين ، من قبيل النسبة بين العامين من وجه ، بمعنى أنه يمكن رفع اليد عن كل منهما ، تحفظا على الآخر ، إذن فرفع اليد عن أحدهما بعينه دون الآخر ، ترجيح بلا مرجح ، فيتساقط الإطلاقان معا في المقام.

وأمّا بناء على مسلك الوضع ، فلا تعارض بين الإطلاقين ، بل يكون دليل «أكرم الفقيه» ، مخصّصا لدليل «لا يجب إكرام العالم» ، لأن النسبة بينهما تكون نسبة الخاص إلى العام ، ولا إشكال عند العرف والفقه ، أن البناء هو التخصيص ، حتى عند أصحاب مسلك الإطلاق ، وحينئذ ، بما أن التخصيص لا يصح إلّا بناء على الوضع ، فلا يكفي مسلك الإطلاق لتفسير ما عليه البناء فقهيا وعرفيا من التخصيص ، لأنه بناء على مسلك الإطلاق ، يقع التعارض بين الإطلاقين ، ولا ترجيح لأحدهما دون الآخر ، فيتساقطان ، مع أن أصحاب الإطلاق ، يقولون في الفقه بالتخصيص ، فيما إذا ورد دليلان ، كالخطابين المذكورين ، فهذا يكشف بالإن على أن ملاك الدلالة هو الوضع لا الإطلاق ومقدمات الحكمة بالخصوص.

وهذا الإشكال ، يمكن دفعه بأحد وجهين من قبل أصحاب مسلك الإطلاق ، بحيث يمكن توجيه التخصيص ، حتى على مسلك الإطلاق.

٤٥

الوجه الأول

هو أن يقال ، بأنه بناء على مسلك الإطلاق ، وإن كان هناك تعارض بين إطلاق «أكرم الفقيه» ، الذي يقتضي حمل الطلب على الوجوب ، وإطلاق العالم ، في «لا يجب إكرام العالم» ، الذي يقتضي الشمول حتى للفقيه ، لكن مع هذا ، يلتزم بأن دليل «أكرم الفقيه» ، مخصّص لدليل «لا يجب إكرام العالم» ، وذلك لأن الأخصية هي قرينة عرفية ، ومناط هذه القرينة العرفية هو الأخصيّة بلحاظ الموضوع لا بلحاظ المحمول ، يعني إذا تعارض دليلان ، فلا بدّ من ملاحظة موضوع كل منهما منسوبا إلى موضوع الآخر ، لا موضوع أحدهما مع محمول الآخر ، ففي المقام في هذين الدليلين ، تارة ننظر إلى موضوع كل منهما ، فنرى أن النسبة بينهما العموم والخصوص المطلق ، لأن موضوع أحدهما هو الفقيه ، وموضوع الآخر هو العالم ، والفقيه أخص من العالم ، لأنه أحد أقسام العالم ، وتارة أخرى ننظر إلى مجموع الجهات في الدليلين ، يعني إلى الموضوع مع المحمول الذي هو الحكم ، نرى أن كلّا من الدليلين فيه جهة إطلاق وجهة أخصّية ، فيكون عندنا إطلاقان ، إطلاق «أكرم» الذي هو الحكم ، وإطلاق عالم الذي هو الموضوع ، وهذان إطلاقان متساويان من حيث كونهما إطلاقا ، فهما عامان وليس أحدهما أخصّ من الآخر حتى يخصص أحدهما الآخر ، وحينئذ ، إن كان الميزان في النظر العرفي في مقام الجمع الدلالي ، هو الأخصّية المتحصلة بلحاظ الموضوعين فقط ، إذن فالإشكال غير وارد في المقام ، لأن في المقام موضوع أحد الدليلين أخص من الآخر ، فيخصّص أحد الدليلين الدليل الآخر ، وإن كان ميزان الأخصّية هو الأخصية المتحصلة بعد ملاحظة الموضوع والمحمول معا وسائر الجهات في كلا الدليلين فحينئذ ، الأخصّية في المقام غير موجودة بل يقع التعارض بين الدليلين.

فالمسألة مبنية على تحقيق مطلب في بحث الجمع العرفي ، وهو أن الأخصّية التي هي ميزان تقديم أحد الدليلين على الآخر ، هل هي الأخصية

٤٦

المتحصلة بلحاظ الموضوعين فقط ، أو الأخصية المتحصلة بلحاظ سائر الجهات ، وهذا مطلب له أمثلة في الفقه ، من قبيل ما ورد ، «أن البول يصيب الجسد ، فقال صبّ الماء عليه مرتين. وأخرى ، سألته عن بول الصبي يصيب الجسد ، فقال «صب عليه الماء» ومقتضى الرواية الأولى أنّ البول يجب فيه تعدد الصب بلا فرق بين بول الصبي وغير الصبي للإطلاق ومقتضى الرواية الأولى أن البول يجب فيه تعدد الصب بلا فرق بين بول الصبي وغير الصبي للاطلاق ومقتضى الرواية الثانية ، أنه يكفي الصب مرة واحدة ، فلا موجب للتعدد ، لإطلاق «صب عليه الماء» ، وفي مقام الجمع بين هذين الدليلين.

إذا قيل ، بأن الميزان في الأخصّية ، الأخصّية المتحصّلة بعد ملاحظة الموضوعين فقط ، إذن فالرواية الثانية أخصّ من الأولى ، لأن موضوع الرواية الأولى هو «البول أصاب الجسد» ، وموضوع الرواية الثانية ، هو «بول الصبي» بالخصوص ، وهو أخص من طبيعي البول ، فلا بدّ من تخصيص الرواية الأولى بالثانية ، ونفي وجود التعدّد في بول الصبي.

وأمّا إذا قيل بأن الميزان في الأخصية ، الأخصية المتحصّلة بعد ملاحظة مجموع جهات الدليل ، فحينئذ لا أخصية في المقام ، بل تعارض بين إطلاقين ، حيث إطلاق موضوع الرواية الأولى ، وهو «البول يصيب الجسد» الشامل لبول الصبي ، يعارض إطلاق الحكم في الرواية الثانية وهو «صب عليه الماء» ، حيث لم يقيّد بمرتين.

الوجه الثاني

لو سلّم بأن الأخصية لا بدّ وأن تتحصّل بلحاظ مجموع جهات الدليل ، وأن هناك تعارضا بين إطلاق العالم ، في قولنا «لا يجب إكرام العالم» ، وإطلاق «أكرم الفقيه» ، في الحمل على الوجوب ، من قبيل التعارض بين إطلاق «البول» وإطلاق «صبّ عليه الماء» ، ولكن فرق بين محل الكلام وبين هذا المثال ، وذلك لأن الإطلاق على نحوين.

فهناك إطلاق نتيجته عرفا ، السعة والشمول للأفراد الكثيرة ، من قبيل

٤٧

إطلاق «العالم» ، في قولك «لا يجب إكرام العالم» ، فإن إطلاق كلمة العالم مرجعه إلى السعة ، بحيث أن هذا العالم لا يفرق فيه بين أن يكون فقهيا أو نحويا أو غير ذلك.

وهناك نحو آخر من الإطلاق ، وهو الإطلاق الذي يقتضي الحمل على الفرد المعيّن ، لا السعة ، بل تعيين فرد بعينه من قبيل أن تقول ، «أعط هذا الكتاب للسيد» ، فينصرف إلى سيد البلد ، المعروف بالسيادة ، فهذا الإطلاق ليس إطلاقا في مقام التوسعة ، بل هو إطلاق يقتضي تعيين الفرد بعينه.

وحينئذ إن كان التعارض بين إطلاقين ، بحيث أن كلّا منهما يقتضي التوسعة ، وبينهما مادة اجتماع ومادة افتراق ، إذن هما عموم من وجه ، ولا مرجّح لأحدهما على الآخر ، من قبيل ما إذا ورد ، «أكرم العالم» ، وورد «لا تكرم الفاسق» ، وأمّا إذا كان أحد الإطلاقين يقتضي التوسعة ، والإطلاق الآخر يقتضي الحمل على فرد بعينه ، من قبيل ما إذا ورد ، «أكرم العالم» ، وورد «لا تكرم زيدا» ، وزيد متعدد ، فيوجد زيد العالم وزيد الجاهل ، لكن إطلاق زيد ينصرف إلى زيد العالم ، وحينئذ ، في مثله يعامل معاملة الخاص والعام ، لأن النتيجة العرفية المتحصلة من دليل ، «لا تكرم زيدا ، هي عبارة عن أن بعض أفراد العلماء لا يجب إكرامهم ، وهذا أخصّ من دليل «أكرم العالم».

ومقامنا من هذا القبيل ، فإن الإطلاق في قولك ، «أكرم الفقيه» ، ليس إطلاقا يقتضي التوسعة ، بحيث يثبت الوجوب والاستحباب معا ، بل يقتضي تعيين الوجوب في مقابل الاستحباب ، وحينئذ يرى العرف ، أن النتيجة المتحصّلة من هذا الإطلاق ، أخص من النتيجة المتحصّلة من دليل «لا يجب إكرام العالم».

إذن فليس كل إطلاقين هما متساويان ، بل إذا كانا من باب التوسعة فهما متساويان ، فيصيران عامين من وجه ، وأمّا إذا كان أحد الإطلاقين بابه باب التوسعة من قبيل «لا يجب إكرام العالم» ، والإطلاق الآخر بابه باب تعيين الفرد المراد نفيه من الإطلاق الأول ، ففي مثل ذلك يرى العرف أن إحدى

٤٨

النتيجتين المتحصّلتين من كلا الإطلاقين أخص من النتيجة الأخرى ، إذن فيقيدها ، وإن كان ملاك النتيجتين معا هو الإطلاق ومقدمات الحكمة ، لكن حيث أن النتيجة المتحصّلة من دليل «أكرم الفقيه» هي الحمل على الوجوب ، والوجوب أخص مطلقا من النفي المستفاد من دليل «لا يجب إكرام العالم» ، إذن فيتم التخصيص.

وعلى هذا يتبين أن الإشكال الثاني على الإطلاق في غير محله ، نعم الإشكال الأول المذكور ، هو في محله ، وبذلك يظهر أن لا محيص عن الالتزام بالدلالة الوضعية ، لأن المسالك الأخرى لا تفي بتخريج وتفسير المطلب ، فينحصر تفسير ما عليه الوجدان فقهيا وعرفيا ، بالالتزام بالدلالة الوضعية.

٤٩

ثمرات

بعد أن تمّ الكلام في المسالك الثلاثة في تخريج دلالة الأمر على الوجوب ، لا بد من الإشارة إلى الثمرات الفقهية المترتبة على هذه المسالك ، فإن هذه المسالك تختلف في جملة نتائجها ، وبعض هذه الثمرات تقدّم توضيحه في أثناء مناقشة هذه المسالك ، وبعضها مستأنف.

الثمرة الأولى

تطرّق الجمع الدلالي والعرفي ، بناء على مسلك الوضع ، وعلى مسلك الإطلاق ، دونه على مسلك الميرزا ، وتوضيح ذلك : أنه بناء على أن الوجوب مدلول عرفي لفظي للدليل ، سواء كان مدلولا عرفيا لفظيا بالوضع ، أو مدلولا عرفيا لفظيا بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، حينئذ يقع بين الدليل الدال على الوجوب ، والدليل النافي للوجوب ، قواعد الجمع العرفي ، باعتبار أن الوجوب واللّاوجوب ، من شئون مداليل اللفظ ، فلا بدّ من الجمع بينهما ، بتقديم القرينة على ذي القرينة ، بالنحو المقرر في قواعد الجمع العرفي والدلالي ، وأمّا بناء على مسلك الميرزا القائل بأن الوجوب ليس مدلولا للفظ ولا محكيا عنه بخطاب المولى ، وأنما هو ثابت بحكم العقل ، إذن فلا معنى للرجوع إلى قواعد الجمع العرفي والدلالي عند قيام دليل على نفي الوجوب مع تمامية دليل آخر على الوجوب ، لأن الوجوب ليس مدلولا للفظ ليطبق عليه قواعد الجمع العرفي.

٥٠

الثمرة الثانية

أنه بناء على مسلك الوضع ، ومسلك الإطلاق ، تثبت لوازم الوجوب أيضا ، دونه على مسلك الميرزا ، وتوضيح ذلك :

أن الفقيه لو علم صدفة بالتلازم بين وجوبين ، بين وجوب الدعاء عند أول الشهر ، ووجوب الدعاء عند آخر الشهر ، بمعنى أنه إن كان الأول واجبا فالثاني أيضا واجب ، وإن كان الأول مستحبا فالثاني أيضا مستحب ، فإمّا أن يكون كلاهما واجب وإما كلاهما مستحب ، فبعد العلم بهذه الملازمة ولو صدفة ، حينئذ بناء على مسلك الوضع أو مسلك الإطلاق يثبت بدليل «ادع عند رؤية الهلال» ، بالمطابقة ، وجوب الدعاء عند أول الشهر ، وبالدلالة الالتزامية وجوب الدعاء عند آخر الشهر ، للعلم بأنه لو وجب الأول لوجب الثاني ، فيكون للدليل مدلول مطابقي وهو وجوب الدعاء عند أول الشهر ومدلول التزامي وهو وجوب الدعاء عند آخر الشهر ، والدليل حجة فيهما معا ، لوضوح أن الظهور اللفظي سواء كان ظهورا لفظيا أو ظهورا إطلاقيا هو حجة في المدلول المطابقي وفي المدلول الالتزامي ، وأمّا بناء على مسلك الميرزا القائل بأن خطاب المولى ، «ادع عند رؤية الهلال» ليس مفاده الوجوب وعدم الترخيص في الترك ، بل الوجوب بحكم العقل ، ومفاد خطاب المولى هو الطلب فقط من دون أن يكون دالا على الوجوب وعدم الترخيص ، فعلى هذا لا يمكن إثبات اللوازم ، لأن حكم العقل مرجعه فقط إلى لزوم الطاعة والامتثال ، وليس له كشف ونظر إلى اللوازم ، فلا تكون اللوازم في المقام حجة.

الثمرة الثالثة

هي ثبوت دلالة السياق بناء على مسلك الوضع ، وسقوط دلالته بناء على مسلك الإطلاق وعلى مسلك الميرزا.

وتوضيح ذلك : إن الفقهاء يعيّنون في الفقه ، فيما إذا ورد في رواية

٥١

أوامر متعددة ، بأشياء متعددة ، وثبت من الخارج ، أن أكثر هذه الأشياء ليس واجبة ، وبعضها لا يرى أنه واجب أو ليس بواجب ، فهنا يقولون إن دلالة السياق تقتضي أيضا حمل هذا البعض على الاستحباب ، فمثلا إذا ورد أنه إذا أردت أن تصلي فأذّن ، وأقم ، واستعذ من الشيطان ، مع العلم أن هذه الأمور ليست واجبة ، إلّا الإقامة ، لا يعلم أنها واجبة أو غير واجبة ، فحينئذ ، بمقتضى وحدة السياق ، وكون عنوان «أقم» ، ورد مع أوامر متعددة ، وكلها استحبابية ، إذن يكون هذا العنوان دالا على استحباب الإقامة أيضا.

ودلالة السياق هذه بناء على مسلك الوضع هي تامة ، فإن دلالة السياق مرجعها إلى أن المدلول العرفي اللفظي لهذه الكلمات الواردة في سياق واحد هو واحد أيضا ، وبناء على مسلك الوضع ، يكون الوجوب والاستحباب بنفسه مدلولا للفظ.

وعلى هذا ، فإمّا أن يكون مدلولها بأجمعها هو الوجوب ، وإمّا أن يكون هو الاستحباب ، باعتبار ظهور حال السياق الواحد في أنّ ما تشابه من الألفاظ في هذا السياق ذات مدلول لفظي واحد أيضا ، وقد علم من الخارج أن مدلول أكثر الكلمات الواردة ليس هو الوجوب يقينا ، إذن بقرينة وحدة السياق ، ينثلم مدلول «أقم» في الوجوب أيضا ، ويحمل على الاستحباب.

وأما بناء على مسلك الميرزا ، القائل بأن المدلول اللفظي ليس هو الوجوب أو الاستحباب ، بل هو أصل الطلب ، والوجوب والاستحباب ، هما من شئون حكم العقل ، فعلى هذا ، لا يمكن إثبات استحبابية الإقامة ، أو القدح في دلالة «أقم» على الوجوب ، ببركة وحدة السياق ، وذلك لأن غاية ما تقتضيه وحدة السياق هو وحدة المدلول اللفظي لهذه الكلمات ، والمدلول اللفظي واحد ، وهو الطلب ، فلا مانع من الالتزام بوجوب الإقامة ، مع كون غير الإقامة مما ورد مستحبا ، ولا تنثلم بذلك وحدة السياق ، لأنها محفوظة ، باعتبار أن المدلول اللفظي واحد وهو الطلب ، إذن فوحدة السياق محفوظة ، فلا يمكن ببركة هذه الوحدة نفي دلالة «أقم» على الوجوب.

٥٢

وكذلك الحال بناء على الإطلاق الذي قرّبناه ، فإن دلالة الأمر على الوجوب إنما كان باعتبار الإطلاق ، والإطلاق يقتضي نفي الترخيص في الترك ، فعلى هذا ، لا يمكن إعمال وحدة السياق في المقام ، إذ غاية الأمر أنه يوجد كلمات متعددة تدل على الطلب ، وبإطلاقاتها تدل على كون الطلب غير مرخص في تركه ، فلو ثبت من الخارج ، أن بعض هذه المطلقات مقيّدة ، فلا يلزم من ذلك أن تكون كل هذه المطلقات مقيدة ، لأن أصل المعنى على أي حال محفوظ فيها جميعا ، وهو الطلب ، وأمّا كون الطلب غير مرخص في تركه ، فهذا من شئون إطلاق المعنى ، لا من شئون أصل المعنى ، فلا يضر بوحدة السياق ، الالتزام بكون بعضها مقيدا ، وبعضها غير مقيد ، كما لو ورد «أكرم العالم وأكرم الهاشمي وأكرم الكريم» ، وعلم من الخارج أن العالم والهاشمي مقيّد بالعدالة ، ولا يدرى أن الكريم مقيّد بالعدالة أو غير مقيد ، فحينئذ يتمسك بإطلاق «أكرم الكريم» ، لأن الكريم يستحب إكرامه لأجل كرمه ، ولو لم يكن عادلا ، ولا يلزم من هذا تغير في السياق ، لأن أصل المعنى واحد في الجميع.

إذن فدلالة وحدة السياق تامة في الجميع على مذهب الوضع ، وغير تامة على مذهب الميرزا ومسلك الإطلاق الذي بيّناه.

الثمرة الرابعة

وهي فيما لو فرض أن وجد أمر واحد بشيئين ، لا أوامر متعددة بأشياء متعددة ، بل أمر واحد تعلق بشيئين ، من قبيل «اغتسل للجمعة وللجنابة» ، وعلم من الخارج أن غسل الجمعة ليس واجبا ، فحينئذ ، هل يمكن إثبات وجوب غسل الجنابة بمثل هذا الأمر ، أو لا يمكن ذلك؟.

فبناء على مسلك الوضع لا يمكن أن نثبت وجوب غسل الجنابة ، لأن الوجوب والاستحباب مدلول لفظي ، «فاغتسل» ، إمّا أن تكون مستعملة في الوجوب ، أو في الاستحباب ، أو في الجامع بين الوجوب والاستحباب.

٥٣

أمّا أن تكون مستعملة في الوجوب ، فهذا غير محتمل في المقام ، لأن غسل الجمعة ليس واجبا ، فكيف تكون الصيغة منصبة على ما ليس بواجب.

وأمّا أن تكون مستعملة في الاستحباب أو في الجامع ، إذن فلا يبقى دلالة على وجوب غسل الجنابة ، ولا يقال أنها تستعمل في الوجوب بلحاظ غسل الجنابة ، وفي الاستحباب بلحاظ غسل الجمعة ، لأن الوجوب والاستحباب بحسب الغرض هو مدلول لفظي للكلام ، فيكون ذلك من باب استعمال اللفظ في معنيين ، وهو غير صحيح عرفا ، إذن فاستعمال الصيغة في الوجوب والاستحباب غير صحيح ، واستعمالها في الوجوب على الإطلاق غير محتمل ، فتسقط دلالتها على الوجوب ، ويتعين أن تكون مستعملة إما في الاستحباب فقط ، وإمّا في الجامع ، وعلى كلا التقديرين ، لا يبقى للأمر دلالة على وجوب غسل الجنابة.

وأمّا بناء على مسلك الميرزا ، فإن الصيغة موضوعة لأصل الطلب ومستعملة في الطلب على نحو واحد في غسل الجمعة وفي غسل الجنابة ، وعلى هذا يمكن الالتزام بعدم وجوب غسل الجمعة ، فالعقل لا يحكم بوجوبه لورود الترخيص في تركه من قبل المولى ، وأمّا غسل الجنابة ، فحيث لم يرد ترخيص في تركه ، فالعقل يحكم بوجوبه ، فيمكن الجمع بين الوجوب والاستحباب ، وليس هذا من باب الجمع بينهما في استعمال واحد ، لأن الوجوب والاستحباب على مسلك الميرزا ليسا من مداليل اللفظ بل هما من شئون حكم العقل.

وكذلك الحال بناء على مسلك الإطلاق الذي قرّبناه ، فإن خطاب «اغتسل للجمعة وللجنابة» ينحل بحسب معناه إلى أمرين. اغتسل للجمعة ، واغتسل للجنابة ، وكل من هذين الأمرين بحسب الإطلاق ، هو طلب لا رخصة في مخالفته ، ولكن أحدهما ثبت تقيده من الخارج دون الآخر ، إذن فنتمسك بالإطلاق ونثبت أن طلب غسل الجمعة ، طلب مقيّد ، بقرينة منفصلة ، وأمّا طلب غسل الجنابة ، فهو طلب مطلق وليس هذا من الجمع بين المعنيين

٥٤

في الاستعمال ، بل من باب التقييد في بعض الحصص ، والإطلاق في بعضها الآخر ، لأن التقييد ضرورة ، والضرورات تقدّر بقدرها ، من قبيل ما إذا ورد ، «أكرم العالم» ، وعلم من الخارج ، أن الفقيه لا يجب إكرامه إلّا إذا كان عادلا ، ولكن غير الفقيه من العلماء لعلّه يجب إكرامه ، ولو لم يكن عادلا ، ففي مثل ذلك ، يبنى على أن الفقيه ، لا يجب إكرامه إلّا إذا كان عادلا ، ولكن إكرام غير الفقيه من العلماء واجب حتى لو لم يكن عادلا ، ولا محذور في ذلك ، وهذا من باب الاقتصار في التقييد على المقدار المتيقن وليس من باب الاستعمال في أكثر من معنى.

الثمرة الخامسة

وهي أنه لو ورد أمر بطبيعي فعل ، من قبيل ، «أكرم العالم» ، وعلم من الخارج أن إكرام العالم غير الفقيه ليس واجبا يقينا ، حينئذ ، هل يمكن أن نثبت بهذا الخطاب ، أنّ إكرام العالم غير الفقيه مستحب أولا يمكن؟. فأمّا على مسلك الوضع ، لا يمكن إثبات الاستحباب ، لأن ظاهر هذا الخطاب هو الوجوب ومستعمل في الوجوب بمقتضى أصالة الحقيقة ، وبعد أن علم أن غير الفقيه لا يجب إكرامه ، فمقتضى القاعدة أن يقيّد موضوع الخطاب بخصوص الفقيه ، فيحكم بوجوب إكرام الفقيه ، وأمّا غير الفقيه من العلماء فيسقط عن موضوع هذا الدليل لأن لسان الدليل هو الوجوب ، ولا وجوب لغير الفقيه ، فإذا خرج غير الفقيه من هذا الدليل لا يبقى حجة على أصل الاستحباب ، وأمّا على مسلك الميرزا ، فبالإمكان إثبات مطلبين بهذا الخطاب ، أحدهما وجوب إكرام الفقيه ، والآخر استحباب إكرام غير الفقيه من العلماء ، وذلك لأنّ مفاد صيغة الأمر ، هو الطلب ، والوجوب والاستحباب من شئون حكم العقل ، وحيث لم يرد ترخيص في الفقهاء ، فيحكم العقل بالوجوب ، وفي غير الفقهاء حيث ورد الترخيص ، فيحكم بالاستحباب ، فإطلاق الخطاب لغير الفقهاء لا موجب لسقوطه ولرفع اليد عنه ، وغاية الأمر ، يكون هذا واجبا ، وذاك مستحبا ، فيثبت بهذا الدليل الوجوب والاستحباب معا وكذلك الأمر على

٥٥

مسلك الإطلاق الذي قرّبناه ، فإنه بناء عليه ، أيضا يكون مفاد «أكرم العالم» ، هو الطلب ، ومقتضى إطلاق هذا الطلب ، أنه طلب أعلائي غير مرخص في مخالفته ، وهذا الإطلاق ساقط يقينا في غير الفقيه ، وفي الفقيه لا يعلم سقوطه ، إذن فيلتزم بأن طلب إكرام العالم في الفقهاء طلب مطلق ، وفي غير الفقهاء طلب مقيّد ، وهو الاستحباب ، ولا موجب لرفع اليد عن أصل الإطلاق رأسا ، بحيث لا موجب للقول بأن غير الفقهاء أصلا لا طلب لإكرامهم ، بل نقيّد الإطلاق ، والضرورات تقدّر بقدرها ، فيلتزم بالطلب المقيّد.

أضف إلى ذلك أن هناك ثمرات أخرى يمكن استنباطها بالتأمل في هذه المسالك ، ولها تأثير في الفقه.

٥٦

الجهة الرابعة

الطلب والإرادة

بعد أن ذكروا أن لفظ الأمر موضوع للطلب ، وقع الكلام في تحقيق معنى الطلب ، فهل الطلب صفة نفسانية قائمة في الإنسان ، على حدّ قيام القدرة والعلم والإرادة ، أو فعل نفساني قائم في الإنسان ، أو فعل خارجي قائم به؟.

فمن هنا ، وقع الكلام في مقام تحقيق معنى الطلب ، في أنه ما هي النسبة والعلاقة بين الطلب والإرادة ، وفي أن الطلب هل هو عين الإرادة ، أو هو غير الإرادة ، فانجرّ الحديث الأصولي بذلك ، إلى حديث كلامي ، بين الأشاعرة والمعتزلة ، حيث اختلفوا في التغاير بين الطلب والإرادة ، فذهب المعتزلة إلى العينية ، والأشاعرة إلى المغايرة ، وحيث أن أحد أدلة الأشاعرة على المغايرة مبنيّ على مبناهم في الجبر ، فلهذا انتهت مسألة اتحاد الطلب والإرادة ، إلى مسألة الجبر والاختيار.

أمّا كيف يكون أحد أدلة الأشاعرة على المغايرة ، مبنيا على مبناهم في الجبر ، فملخّص ذلك ، أنهم قالوا بترتيب مقدمتين.

المقدمة الأولى

هي أن الإرادة التشريعية من قبل المولى لا يمكن أن تتعلق بفعل غير مقدور للعبد ، فلا يمكن أن ينقدح في نفس المولى ، إرادة تشريعية لطيران

٥٧

العبد إلى السماء ، مع عدم قدرة العبد على ذلك ، فإرادة المولى التشريعية لا يعقل تعلّقها بفعل غير مقدور للعبد سلبا وإيجابا.

المقدمة الثاني :

هي أن أفعال العباد مخلوقة فيهم ، من قبل المولى ، وليس لهم قدرة عليها نفيا وإثباتا ، وهو معنى الجبر الأشعري.

وإذا تمّت هاتان المقدمتان ، يثبت بمجموعهما استحالة تعلّق إرادة المولى التشريعية بأفعال العباد ، لأن هذه الأفعال ، ليست تحت قدرتهم حتى تتعلق بها الإرادة التشريعية ، والحال أنه لا إشكال وجدانا في تعلق طلب المولى بضروريات الشريعة ، فإنه يطلب من العبد الصلاة والصيام ونحو ذلك ، إذن لا بدّ من الالتزام بأن الطلب غير الإرادة ، لاستحالة تعلّق الإرادة بفعل العبد ، لأنه غير قادر عليه ، مع أن الطلب يتعلق وجدانا بضروريات الشريعة.

ونحن لا نتعرض إلى مسألة ، أن الطلب عين الإرادة ، أو غير الإرادة ، إلّا بالمقدار المرتبط بمسألة الجبر والاختيار ، ولهذا لا نتعرض إلى سائر أدلة الأشاعرة على المغايرة ، وإنما نقصر الكلام على مسألة الجبر والاختيار ولو بالاختصار ، وصفوة القول في مسألة الجبر والاختيار ، أن هذه المسألة تنحل إلى مسألتين ، مسألة كلامية ، ومسألة فلسفية.

أمّا المسألة الكلامية ، فالمقصود منها ، هو البحث الواقع بين الأشاعرة والمعتزلة والإماميّة ، في أنه ما هو حال الأفعال الواقعة في الخارج ، كالصلاة والصيام وشرب الخمر ونحو ذلك من الواجبات والمحرمات والمباحات ، فمن هو فاعل هذه الأفعال ، فقال الأشاعرة بأن الفاعل محضا هو الله تعالى ، وهو معنى الجبر ، وقال المعتزلة ، بأن الفاعل محضا هو الإنسان ، وهو معنى التفويض ، وقال الإماميّة بأمر بين الأمرين ، بمعنى أن كلا من الإنسان والمولى تعالى ، فاعل بالنحو المناسب له من الفاعلية ، فهناك فاعلان للفعل ، أمّا كيف

٥٨

يتصور أن فعلا واحدا له فاعلان ، وهل هما بنحو طولي ، أو عرضي ، فهذا ما سوف يأتي توضيحه.

إذن فالبحث في المسألة الكلامية ، يرجع إلى تشخيص الفاعل لهذه الأفعال.

وأمّا المسألة الفلسفية ، فهي بحسب الحقيقة كبرى للمسألة الكلامية ، لأن المسألة الفلسفية هي ، أن فاعل الفعل ، سواء كان هو المولى أو الإنسان ، هل يفعله اختيارا ، أو يفعله لا بالاختيار ، ومن هنا يعرف أن المسألة الكلامية ، وهي مسألة الجبر والتفويض ، لا تكفي لحسم النزاع في مسألة الجبر والتفويض ، لأن المسألة الكلامية بصدد تعيين الفاعل ، لا أنّ هذا الفعل هل هو فعل اختياري ، أو ليس اختياريا ، فمثلا لو ذهبنا مذهب المعتزلة ، وقلنا بأن الإنسان هو الفاعل المحض ، فهذا لا يكفي للقول بأن هذا الفعل هل هو اختياري للإنسان أو ليس اختياريا له ، فإثبات كون هذا الفعل اختياريا للفاعل ، يحتاج إلى مئونة زائدة وبحث إضافي عن أصل المسألة الكلامية.

٥٩

المسألة الكلامية

وفي المسألة الكلامية يوجد بدوا خمس احتمالات.

الاحتمال الأول :

يقال في مقام تشخيص الفاعل ، أن الفاعل محضا هو الإنسان ، وليس للمولى أيّ نصيب في الفاعلية أصلا ، وهذا هو مذهب التفويض ، ومرجعه بحسب الحقيقة ، إلى دعوى استغناء المعلول بقاء عن العلة ، بمعنى أن الإنسان وإن كان مخلوقا للمولى ، ولكن إنّما يحتاج إليه في أصل حدوثه ونشوئه ، وأما في بقائه واستمراره فلا يحتاج إلى مولاه ، إذ لو كان بحاجة إليه حدوثا وبقاء ، لكان لمولاه نصيب في الفاعلية بقاء ، فالإنسان حينما يقف ويصلي بين يدي مولاه ، إذا كان يستمد فعلا وجوده آنا بعد آن من مولاه ، إذن لكان لهذا المولى نصيب في الفاعلية في هذا الفعل ، بمعنى من معاني الفاعلية ، ولو طوليا ، فإنكار أن يكون للمولى نصيب في الفاعلية أصلا ، لا بنحو عرضي ، ولا بنحو طولي ، لا يتم إلّا على أن المعلول لا يحتاج إلى العلة إلّا في أصل حدوثه دون بقائه واستمراره ، فعلى هذا المبنى ، يقال في المقام ، أن هذه الصلاة معلولة لهذا الإنسان بوجوده البقائي ، ووجوده البقائي فعلا ، ليس معلولا لشيء ، لأنه بمجرد أن يحدث ، يستغني عن العلة ، إذن فلا يكون للمولى نصيب في فاعلية هذا الفعل لا طوليا ولا عرضيا.

٦٠