بحوث في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٦

المفروض أن خسارة فوت الصلاة الأدائية تداركتها الإمارة وجبرتها بالمصلحة السلوكية وعليه فلا فوت ، إذن فلا يجب القضاء.

ولكن الصحيح وجوب القضاء في المقام ، لأن ما تداركته مصلحة سلوك الإمارة إنّما هو بمقدار ما فات بسبب سلوك الإمارة ، وما فات بسلوك الإمارة إنما هو مصلحة الوقت لا مصلحة ذات الصلاة التي يتحفظ عليها دليل وجوب القضاء (١) ، سواء قلنا بأن القضاء بالأمر الأول «صلّ في الوقت» أو أنه بأمر جديد إذ هنا مصلحتان ، مصلحة في إيقاع نفس الصلاة ، ومصلحة في خصوص إيقاع الصلاة في الوقت ، ودليل «صلّ في الوقت» يتحفظ على كلتا المصلحتين ، وأمّا دليل وجوب القضاء سواء كان بالأمر الأول أو بالأمر الثاني فإن لسانه على كل حال لسان تدارك ما تبقّى ، إذن فهو في مقام استيفاء المصلحة القائمة في أصل الصلاة وبجامع الصلاة ، ومعنى هذا ، أن الإمارة الدالة على وجوب صلاة الجمعة وبقيت معمولا بها إلى آخر الوقت قد فوتت على المكلّف مصلحة فضيلة أول الوقت.

أمّا مصلحة ذات الصلاة فلم تفت لإمكان الحفاظ عليها ، بالإتيان بها خارج الوقت ، وهذا معناه لزوم الإتيان بها خارج الوقت وهو معنى القضاء.

نعم لو قلنا بأن دليل وجوب القضاء ليس في مقام تدارك واستيفاء شيء من المصلحة الملحوظة في الأمر الأدائي بل له مصلحة آخرى قائمة به ، ولو قلنا بأن تمام مصلحة الصلاة الأدائية تسقط بانتهاء الوقت وتستوفى بالمصلحة السلوكية إذا قلنا هكذا ، حينئذ بناء على هذا لا بأس بالقول بعدم وجوب القضاء لأن المصلحة بتمامها قد استوفيت في المقام ولم يبق شيء للتدارك بالقضاء.

لكن هذا خلاف ظاهر دليل وجوب القضاء ، فإن ظاهره تدارك شيء ممّا مضى لا أنه تأسيس مصلحة جديدة وملاك جديد ، وعليه فبناء على هذا الاحتمال السادس ينبغي القول بوجوب الإعادة ووجوب القضاء لأن دليل

__________________

(١) أجود التقريرات : الخوئي ج ١ ص ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

٤٨١

وجوب القضاء لسانه لسان التدارك وطلب استيفاء بعض ما مضى.

وعليه فهذا الاحتمال حاله حال الاحتمالات السابقة من ناحية عدم الإجزاء وعدم التصويب.

وإلى هنا يتضح أن الاحتمال الأول والثاني يقتضيان الإجزاء والتصويب ، بينما الاحتمال الثالث والرابع والخامس والسادس يقتضي عدم الإجزاء وعدم التصويب.

تنبيه :

كان المقصود من التصويب أنفا ، أن قيام الحجة أو الإمارة أو الأصل ، يحدث تغييرا في الخطاب الواقعي والإرادة المولوية الواقعية بنحو من أنحاء التغيير قبل العمل بالإمارة ، بل يحدث هذا التغيير في الإرادة المولوية بمجرد قيام الحجة والإمارة على خلاف الواقع ، بينما الإجزاء هو عبارة عن حصول تغيير في الخطاب الواقعي وإحداث مصلحة في الجري على طبق الإمارة يتدارك بها بعض مصلحة الواقع ، لا بمجرد قيام الإمارة على خلاف الواقع ، وكانت خلاصة الاحتمال السادس القائل بالمصلحة السلوكية ، هي أن يكون في سلوك الإمارة مصلحة يجبر بها بمقدار ما فات على المكلّف بسبب سلوك هذه الإمارة لا بمجرد قيام الحجة على خلاف الواقع.

الاحتمال السابع :

هو ما ذكره المحقق الأصفهاني (١). بهدف تصوير فرضية يصور فيها الإجزاء دون الوقوع في محذور التصويب ، وهذه الفرضية هي أن يقال بالسببية بمعنى أن قيام الإمارة المخالفة للواقع يحدث ملاكا فيما قامت عليه ـ أي في مؤدّاها ، حيث يكون مؤدّى الإمارة ، كصلاة الجمعة مثلا ، وافيا بالغرض الواقعي وتكون على حدّ صلاة الظهر من حيث وفائها بالملاك الواقعي ، وبعبارة أخرى ، إن قيام الإمارة يحدث مصلحة وملاكا في مؤداها يفي بمصلحة

__________________

(١) نهاية الدراية الأصفهاني : ج ١ ص ٢٥١ ـ ٢٥٢ ـ ٢٥٣.

٤٨٢

وملاك الواقع المطلوب وهو صلاة الجمعة مطلقا سواء فات على المكلف شيء أو لم يفت ولكن هذه المصلحة في مؤدّى الإمارة في عرض مصلحة الواقع وليس من قبيل المصلحة السلوكية التي هي في طول مصلحة الواقع والتي هي جبران لمقدار ما يفوت من الواقع.

ومن الواضح أن هذه الفرضية توجب الإجزاء لحصول الغرض ، لأنه بالإتيان بمؤدّى الإمارة يستوفى الملاك الواقعي سواء انكشف الخلاف في الأثناء أو بعده وبناء على هذا لا داعي لوجوب الإعادة.

لكن هنا يسأل ، في أنه إذا كان مؤدّى الإمارة حاملا للملاك الواقعي ، إذن يلزم بمجرد قيام الإمارة أن ينقلب الملاك الواقعي من تعييني إلى تخييري بين الحكم الواقعي وما أدّت إليه الإمارة بعد أن أصبح مؤدى الإمارة كالواجب من حيث وفائه بتمام الملاك الواقعي كما يلزم منه التبدل في الإرادة التعيينية للمولى إلى إرادة تخييرية للجامع بين مؤدّى الإمارة والواجب الواقعي ، وهذا تصويب.

ومن هنا حاول المحقق الأصفهاني تقديم عدة بيانات على استحالة انقلاب الإرادة التعيينية للمولى إلى إرادة تخييرية ، رغم صيرورة الملاك قائما بالجامع بين مؤدى الإمارة والحكم الواقعي.

البيان الأول :

هو عدم معقولية جعل الأمر بالجامع بين الظهر والجمعة. وتبدل الأمر الواقعي من الأمر التعييني إلى الأمر التخييري بالجامع بقيام الإمارة ، وذلك أن الملاك القائم بمؤدّى الإمارة إنما كان قائما بمؤدّى الإمارة ، وهي صلاة الجمعة ، لا بعنوان أنها صلاة الجمعة ، وإلّا فهي صلاة الجمعة قبل قيام الإمارة عليها ، وإنما صارت صلاة الجمعة واجدة للملاك بقيام الإمارة المخالفة للواقع بما هي مخالفة للواقع ، إذن فهذا الوجوب التخييري المدّعى حدوثه لا بدّ وأن يكون وجوبا تخييريا بالجامع منوطا بقيام الإمارة على الخلاف ، فإن لم تقم

٤٨٣

الإمارة على خلاف الواقع فيجب الظهر تعيينا وحينئذ يصبح واضحا استحالة جعل الأمر بالجامع وذلك لاستحالة (١) وصوله إلى المكلف وإحرازه له لأن إحراز الوجوب المشروط لا يكون إلّا بإحراز شرطه الذي هو قيام الإمارة المخالفة للواقع.

ومن الواضح أن المكلف إذا علم بمخالفة الإمارة للواقع فسوف ترتفع حجيتها ، وحينئذ سوف يجب عليه صلاة الظهر تعيينا لأنه خرج عن موضوع دليل الحجية ، لأنه لم يبق شاكا.

وإن فرض أنه لم يعلم بمخالفتها للواقع وكان شاكا ، إذن فلم يحرز الشرط في الوجوب ، لأن الشرط في وجوب الجامع تخييرا هو قيام الإمارة على خلاف الواقع.

إذن فوجوب الجامع سنخ وجوب لا يعقل وصوله ولا يعقل إحرازه ، لأن شرطه قيام الإمارة المخالفة للواقع وهذا الشرط إن علم ، فقد خرج المكلف عن كونه شاكا وبهذا يخرج عن موضوع دليل الحجية ، وبه تسقط الإمارة عن الحجية ، وإن لم يعلم إذن هو لم يصل الشرط إليه ، إذن لم يصل المشروط إليه ، إذن هو لم يعلم بتوجه الأمر بالجامع إليه.

وقد أجيب عن هذا البيان ، بما مجمله ، أنه بالإمكان فرض الأمر التخييري بالجامع مع أخذ قيد الإمارة المخالفة في أحد شقي الواجب التخييري لا الوجوب ، فالوجوب من أول الأمر مطلق ثابت في حق كل مكلّف

دون أن يكون مقيدا بقيام إمارة مخالفة للواقع ، ومن قامت عنده الإمارة يعلم بأنه يمتثل هذا الجامع ضمن أحد شقيه على كل حال.

وأمّا تفصيل الجواب هو أن يقال ، أن هذا البيان إنما يكون صحيحا إذا فرض أننا أخذنا الشرط قيدا في الوجوب ، لأن وصول الوجوب موقوف على

__________________

(١) نهاية الدراية : الأصفهاني ج ١ ص ٢٤٩ ـ ٢٥٠ ـ ٢٥١.

٤٨٤

وصول شرطه ، وشرطه لا يعقل أن يصل في المقام.

ولكن إذا أخذنا هذا الشرط قيدا في الواجب لا في الوجوب ، فإن الوجوب التخييري مطلق من أول الأمر وثابت على كافة المكلفين دون أن يكون مشروطا بمن قامت عنده الإمارة على الخلاف ، وإنما هو وجوب مطلق متعلق بالجامع بين صلاة الظهر ، التي هي المأمور به الواقعي وصلاة الجمعة المقيّدة بأن تكون مفاد إمارة كاذبة ، وهذا القيد كبقية القيود في الجمعة مثل الخطبة والعدد ، في كونها مفاد إمارة كاذبة ، وحينئذ ، يكون هذا الشرط قيدا في أحد عدلي الواجب التخييري ، إذن مثل هذا الوجوب يمكن وصوله إلى المكلف ، وبهذا يمكن للمكلف الذي قامت عنده الإمارة أن يمتثل هذا الجامع عن طريق امتثاله أحد شقّيه على كل حال ، غاية الأمر ، أن المكلّف إذا لم تقم عنده إمارة مخالفة ، فحينئذ أحد فردي هذا الجامع لا يتحقق ، وهو الجمعة في المثال ، ولكن الوجوب على كل حال قائم بالوصول بالنسبة إليه.

إذن فهذا البيان قائم على تخيّل أن الشرط شرطا في الوجوب ، مع أنه بالإمكان أن يؤخذ شرطا للواجب ، إذن فهذا البيان غير تام.

البيان الثاني :

لاستحالة انقلاب الإرادة المولوية في التعينية إلى التخييرية هو أن الجامع بين صلاة الظهر والجمعة لو فرضنا أن القيد قيدا في الواجب ، أي صلاة الجمعة التي قامت الإمارة على وجوبها خلافا للواقع ، وحينئذ هذا الجامع لا يتحقق ولا يتعقّل إلّا مع الوجوب التعييني لصلاة الظهر. لأنه من دون وجوب تعييني لصلاة الظهر ، لا يبقى معنى لصلاة الجمعة التي قامت الإمارة فيها على خلاف الواقع إذ لا واقع حينئذ في البين حتى تقوم الإمارة على خلافه لأن هذا الجامع هو جامع بين فردين وأحد هذين الفردين لا يتعقل إلا مع الوجوب التعيينية والإرادة التعيينية لصلاة الظهر إذ لو لم تكن الإرادة التعيينية لصلاة الظهر محفوظة فلا يتعقّل قولنا صلاة الجمعة التي قامت الإمارة فيها على خلاف الواقع إذ أي متى كان هناك واقع حتى تقوم الإمارة على خلافه ،

٤٨٥

إذن فهذا الجامع سنخ جامع لا يتعقل إلّا مع انحفاظ الوجوب التعييني لصلاة الظهر فكيف يكون منفكا عن هذا الوجوب التعييني.

وكيف ينقلب هذا الوجوب التعييني إلى وجوب تخييري ، إذ بمجرد زوال هذا الوجوب التعييني يزول تعقل هذا الجامع.

وبعبارة أخرى أن الجامع بين الواقع ومؤدّى الإمارة المخالفة للواقع ليس له تقرّر لو لا الأمر التعييني بالواقع ، إذ لو كان الأمر الواقعي تخييريا لما أمكن تعلق الإمارة بما يخالف الواقع.

ويجاب عن هذا البيان ، بأن الجامع بما هو مفهوم من المفاهيم يمكن تعقّله حتى قبل الوجوب التعييني ، وإنما لا يوجد في الخارج في ضمن أحد فرديه إلّا بعد الوجوب التعييني.

وتوضيحه ، إن الجامع بين الظهر والجمعة القائمة الإمارة فيها على خلاف الواقع ، هذا الجامع كمفهوم من المفاهيم نتعقله بلا حاجة إلى وجوب تعييني ، وهذا التعقل الذي هو شرط في جعل الوجوب التخييري على الجامع هو موجود قبل الوجوب التخييري ، نعم هذا الجامع ، أحد فرديه المقيّد بالإمارة المخالفة للواقع ، هذا الفرد لا يعقل وجوده خارجا إلّا مع الوجود التعييني ، وفرق بين أن يكون هذا الجامع ممّا لا يعقل تقرّرا ومفهوما قبل الوجوب التعييني ، وبين أن لا يعقل وجودا وتحققا في ضمن أحد الفردين قبل الوجود التعييني.

وما هو واقع في المقام ، هو أن هذا الجامع ممّا لا يعقل وجودا وخارجا في ضمن أحد الفردين ، وهو مؤدّى الإمارة ، إلّا مع وجوب تعييني في الواقع ، لا أنه لا يعقل تقررا وتصورا إلّا مع وجوب تعييني.

ولذلك كان هذا البيان لا يرجع إلى محصّل.

وحقيقة المطلب أنه في مثل هذه الفرضية يستحيل تعلّق الإرادة التعيينية للمولى بصلاة الظهر ، لأن الإرادة التعينية لصلاة الظهر كما بيّنا في بحث

٤٨٦

الإرادة والاختيار ، من أن الإرادة إنما تنشأ من مصلحة وملاك في متعلقها لا في نفسها ، إذن فهذه الإرادة التعيينية لصلاة الظهر موقوفة على ملاك تعييني في متعلقها ، والمفروض أنه لا يوجد ملاك تعييني لصلاة الظهر لأن المفروض أن صلاة الجمعة بديل لها ، إذن لا يعقل نشوء هذه الإرادة التعيينية لأن الإرادة التعينيّة لصلاة الظهر فرع ملاك تعييني لها ، والمفروض عدم هذا الملاك ، نعم نفس الإرادة فيها ملاك لأن الإرادة التعينيّة ينشأ منها بركة وهذه البركة هي أن صلاة الجمعة سوف تصبح ببركة هذه الإرادة التعيينية ذات مصلحة ، وهذه فائدة قائمة بنفس الإرادة ، ولكن بيّنّا سابقا أن الإرادة لا تنشأ من مصلحة في نفسها وإنما تنشأ من مصلحة في متعلقها.

البيان الثالث :

هو أن تحقق الملاك في الجامع موقوف على تعلق الأمر بالواقع تعيينا إذ لو لا ذلك لم تكن الإمارة متعلقة بما يخالف الواقع فلا يمكن أن يوجب ذلك انقلاب الأمر التعييني إلى الأمر التخييري بالجامع ، فإن الشيء يستحيل أن ينفي علّته ويلزم من وجوده عدمه.

ويجاب عليه نقضا وحلا.

أمّا نقضا فيقال ، بأن الوصول إلى هذه النتيجة المستحيلة ، وهي لزوم نفي الشيء لعلته وبالتالي لنفسه إنما كان بسبب أمرين ، أحدهما ، افتراض تولد ملاك في الجامع من الأمر التعييني ـ بالواقع ، والآخر ، افتراض أنه إذا صار الملاك في الجامع لا محالة حينئذ ينتفي الأمر التعييني بالواقع ويتبدل إلى الأمر التخييري بالجامع وحينئذ يقال بأنه لما ذا يكون فساد هذه النتيجة برهانا على بطلان الأمر الثاني ، فليكن برهانا على بطلان الأمر الأول.

وأمّا حلا ، فيقال ، بأن كون الملاك في الجامع ليس موقوفا على تعلق الأمر التعييني بالواقع ، وإنما إمكانية الإتيان بالفرد الثاني من هذا الجامع خارجا ـ وهو العمل بمؤدّى إمارة مخالفة للواقع ـ هو المتوقف على تعلق

٤٨٧

الأمر التعييني بالواقع ، وبهذا يتبين أن تصوير السببية بهذا الاحتمال السابع غير معقول في نفسه.

كما يتلخص من جميع ما ذكرنا بطلان الإجزاء في الأحكام الظاهرية لتلازم الإجزاء والتصويب فيها ، إذ في الاحتمالين الأولين يثبت الإجزاء والتصويب معا وفي الثالث والرابع والخامس والسادس لا يثبت إجزاء ولا تصويب والاحتمال السابع غير معقول في نفسه.

إلّا أن هذه الملازمة بين الإجزاء والتصويب بناء على السببية ، إنما هو في الإجزاء بملاك الاستيفاء لا بملاك التعذّر وعدم إمكان التدارك ، إذ تقدم وقلنا في مسألة الأوامر الاضطرارية بإن الإجزاء له ملاكان ، أحدهما ، أن يكون الفعل المجزي عن الواقع مستوفيا لملاك الواقع ، والثاني ، أن يكون الفعل المجزي عن الواقع غير مستوف لملاك الواقع لكن مع إيقاعه يتعذر استيفاء ملاك الواقع كما لو كان منجزا عن حصول المصلحة المطلوبة من الواقع. بحيث لو أتى بالصلاة الواقعية بعد ذلك أيضا لا يترتب عليها المصلحة والملاك الواقعي.

وبعبارة أخرى ، أن الملازمة بين الإجزاء والتصويب إنما هو في الإجزاء بملاك الاستيفاء ، وأمّا الإجزاء بملاك التعذر وعدم إمكان التدارك فبالإمكان تحقّقه ثبوتا من دون تصويب ، وذلك كما إذا فرض أن الحكم الظاهري يتضمّن مصلحة مضادة مع مصلحة الواقع بحيث لا يمكن تحصيلهما معا وحينئذ ، فمع تحصيل إحداهما تتعذّر الأخرى من دون لزوم التصويب والأمر بالجامع بينهما لأن المصلحة الواقعية تعيينية ، وإنما تحدث الملازمة بين الإجزاء والتصويب بملاك الاستيفاء لأنه هناك لا بدّ من حدوث الانقلاب من التعيينية إلى التخييرية وهو معنى التصويب.

وأمّا هنا في الإجزاء بملاك التعذر وعدم إمكان التدارك فيمكن تحقق الإجزاء من دون تصويب ، أمّا الإجزاء فلوضوح أن المكلف بعد أن يصلي الجمعة عملا بالإمارة ، حينئذ إذا انكشف له الخلاف فلا تجب عليه الإعادة لأن الإعادة إنما تجب تحصيلا للملاك الواقعي والمفروض في المقام أن

٤٨٨

الملاك الواقعي أصبح متعذر الاستيفاء لأن المكلف استوفى مصلحة أخرى مضادة مع الملاك الواقعي ، إذن فلا معنى لوجوب الإعادة وهذا معنى الإجزاء.

وأمّا عدم التصويب ، أي بقاء الحكم الواقعي وهو وجوب صلاة الظهر فهو باق على وجوبه التعييني دون أن ينقلب من التعيينية إلى التخييرية لأن المفروض أن صلاة الجمعة ـ مؤدى الإمارة ـ لم تصبح عدلا لصلاة الظهر في الملاك الواقعي بحيث أن الملاك الواقعي يستوفي تارة بهذا ، وأخرى بذاك ، ليس الأمر كذلك ، لأن المفروض أن مؤدى الإمارة ـ صلاة الجمعة ـ ليست مستوفية لملاك الواقع بل بها ملاك آخر برأسه ، إذن فلا موجب للانقلاب من التعيينية إلى التخييرية ، وبهذا يكون قد اجتمع الإجزاء مع عدم التصويب.

وقد يشكل على عدم اجتماع الإجزاء مع التصويب بما حاصله.

أنه إذا فرضتم أن المصلحة القائمة في الحكم الظاهري ـ كصلاة الجمعة مثلا ـ المضادة للمصلحة القائمة في الحكم الواقعي ـ كصلاة الظهر مثلا ـ إذا فرضتم أن كلتا المصلحتين بدرجة واحدة من الأهمية في نظر المولى مع كونهما متضادتين إذن فيلزم على المولى أن يجعل أمره تخييريا وعليه ينقلب التعييني إلى التخييري وليس معنى هذا إلّا التصويب. لأنه بعد عدم إمكان الجمع بينهما لا مرجّح لإحداهما على الأخرى ، وإذا فرضتم أن اهتمامه بمصلحة الحكم الواقعي ـ كصلاة الظهر مثلا ـ أشدّ من اهتمامه بمصلحة الحكم الظاهري ـ كصلاة الجمعة مثلا ـ إذن فكيف يأمر بالحكم الظاهري ، أو فقل أنه لا معنى للأمر الظاهري لأنه يفوّت مصلحة الواقع الأهم.

ويجاب على هذا بأنه يمكن اختيار كلا الشقين ودفع الإشكال ، ونختار أولا الشق الأول القائل بأن المصلحتين المتضادتين متساويتان وبه ينقلب أمر المولى إلى التخيير.

وجوابه هو أنه لا موجب لانقلاب الأمر الواقعي إلى التخييرية ، وذلك

٤٨٩

لأن هاتين المصلحتين هما تعيينيّتان لا مصلحتان على سبيل البدل ، لأن المفروض أن إحداهما لا تستوفي الأخرى ، غاية الأمر أنهما يتزاحمان خارجا لأن المكلّف لضيق قدرته لا يمكنه أن يأتي بمؤدّى الحكم الظاهري ـ الجمعة ـ ويستوفى مصلحته ، وكذلك يأتي بمؤدّى الحكم الواقعي ـ الظهر ـ ويستوفي مصلحته للتضاد بينهما ، وحينئذ يقال ، بأن التزاحم إنما يقتضي استحالة الأمرين الفعليين المنجزين بالمتزاحمين بأن يكون المتزاحمان كلاهما منجز وفعلي وواصل. وأمّا إذا كان أحد الخطابين واصل دون الآخر فلا سبيل حينئذ إلى المزاحمة بينهما ، وهذا هو أحد فروق باب المزاحمة عن باب المعارضة ، فإنه في باب التعارض خطاب صلّ يعارض خطاب لا تصلّ ، سواء وصل خطاب لا تصلّ أو لم يصل.

ولكن في باب التزاحم فإن خطاب «أزل النجاسة» عن المسجد إنما يتزاحم مع خطاب «صلّ» فيما إذا وصل كلا الخطابين إلى المكلف وأمّا إذا لم يصل أحدهما إلى المكلف فلا تزاحم بينهما ويبقى كل من الخطابين على واقعه وحدوده دون أن يقع المكلف في ضيق وعجز من الخروج عن عهدة هذين الخطابين ، وفيما نحن فيه من هذا القبيل ، فإن خطابي الحكم الواقعي والحكم الظاهري وإن كانا متزاحمين ملاكا لكنهما غير واصلين معا بل لا يعقل وصولهما معا إلى المكلف وإلّا لارتفع الحكم الظاهري بوصول الواقعي ، لأن فرض وجود الحكم الظاهري إنما هو الشك في الواقع ، والواقع غير واصل ، وما دام هكذا أمرهما وصول أحدهما يساوق عدم وصول الآخر إذن فلا منافاة بينهما ويبقى كل منهما تعيينيا على حاله دون انقلاب إلى التخييري ، لأن المقتضي للأمر التعييني بالواقع ، وهو المصلحة التعيينية موجود ، والمانع وهو المزاحم مفقود.

أمّا كون المقتضي موجود فلأن المصلحة تعيينية وهي تقتضي خطابا تعيينيا ، وأمّا كون المانع مفقود فلأن المانع هو المزاحمة والمزاحمة إنما تكون مانعا فيما إذا وصل كلا الخطابين وهنا لا يعقل وصول كلا الخطابين لأن

٤٩٠

وصول أحدهما يساوق عدم وصول الآخر خلافا لباب التعارض فلا يلزم تصويب.

وأمّا إذا اخترنا الشق الثاني ، وهو الفرض القائل باشتمال الحكم الظاهري على مصلحة أقل بمراتب من المصلحة الموجودة في الأمر الواقعي مع بقاء الأمر الواقعي على التعيينية ، إذن فكيف يعقل من المولى أن يأمر بمؤدّى الحكم الظاهري مع أنه يفوّت على المولى المصلحة الواقعية وهو قبيح.

وهذا التوهم ، وهو إشكال لزوم التفويت هو عينه إشكال ابن قبة المعروف في باب الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية.

وفي الجواب عليه ، إمّا أن نقول بأن هذا التفويت قهري على كل حال كما هو مبنى الطريقية ، جعل المولى هذا الحكم الظاهري أو لم يجعل. وإمّا أن نجيب عليه بالالتزام بوجود مصلحة بنفس التعبّد والجعل يتدارك بها التفويت ، أو غير ذلك ، فإمّا بهذا أو بذاك لأجل أن نتعقل جعل الحكم الظاهري في المقام ، وعليه فقد اتضح أن اجتماع الإجزاء مع عدم التصويب معقول في باب الأحكام الظاهرية بملاك التعذر والمضادة بين المصلحتين لا بملاك الاستيفاء ، وهذا تمام البحث في المقام الأول وهو فيما إذا انكشف الخلاف وجدانا ويقينا.

المقام الثاني :

وهو فيما إذا انكشف خلاف الحكم الظاهري بالتعبّد ، فهناك حالتان.

الحالة الأولى : هي أن ينكشف الخلاف في الإمارة التي تكون مثبتة للوازمها ولتمام أثارها ، فمن صلى الجمعة باستصحاب وجوبها ثم انكشف الخلاف بحجة معتبرة ، كرواية صحيحة تدل على وجوب صلاة الظهر تعيينا في يوم الجمعة ، حينئذ لا إشكال في إنه يترتب على هذا الانكشاف وجوب الإعادة داخل الوقت والقضاء في خارجه دون فرق بين كونه بالأمر الأول أو

٤٩١

الأمر الثاني ، ومن دون فرق بين كون موضوعه عدم الإتيان أو عنوان الفوت ، لأن هذه الإمارة حتى لو لم تكن موجودة من أول الأمر لكن مؤداها ، وهو ما يخبر به الثقة ، ناظر إلى الحاضر والماضي والمستقبل هو مدلول التزامي للإمارة نفسها مطلقا.

الحالة الثانية : وهي فيما إذا انكشف الخلاف بالأصل ، فله عدة حالات تقع في عدة صور.

الصورة الأولى : هي أن ينكشف الخلاف بالاستصحاب في شبهة موضوعية كمن توضأ فشك ببعض أفعال الوضوء بعد الدخول في فعل آخر ، فتمسك بإطلاق أدلة قاعدة التجاوز ، فبنى على صحة وضوئه وصلّى به ، وبعد الصلاة بهذا الوضوء انكشف له الخلاف في الأثناء أو بعد خروج الوقت ، انكشف له أن قاعدة التجاوز مخصّصة في المقام وأن الوضوء بلحاظ صحيحة زرارة أخرج من إطلاق قاعدة التجاوز وحينئذ يجري في حقه استصحاب عدم الإتيان بالفعل المشكوك لأنه صار يشك في أنه هل غسّل يده اليمنى أو لم يغسلها ، والمفروض أنّ قاعدة التجاوز هنا مخصّصة ، إذن يجري في حقه استصحاب عدم الإتيان وهذا الاستصحاب إن فرضناه أنه في داخل الوقت فلا إشكال في كونه منجزا للصلاة بالوضوء والإتيان به مرة أخرى ، لأن المكلف كان يعتمد على قاعدة التجاوز ثم تبيّن له ، إمّا اجتهادا أو تقليدا أن قاعدة التجاوز غير مجعولة في مراتب الوضوء لكونها مخصّصة في المقام ، إذن فالمنجز في حقه إعادة الوضوء في داخل الوقت لاستصحاب عدم الإتيان بالجزء المشكوك من وضوئه ، وأما إذا كان انكشاف الخلاف بالاستصحاب بعد انتهاء الوقت ، كما لو تخيل جريان قاعدة التجاوز في طول الوقت فأجراها ثم بعد خروجه التفت إلى عدم جريان قاعدة في موارد الوضوء لكونها مخصّصة كما تقدم فأجرى استصحاب عدم الإتيان فهنا أيضا لا إشكال في وجوب القضاء إذا كان وجوبه بالأمر الأول ولم يكن بأمر ثاني إذ عدم الإتيان يثبت باستصحاب عدم الإتيان لأن الأمر الأول معلوم التوجه إلى المكلف

٤٩٢

ويشك في امتثاله وعدم امتثاله فباستصحاب عدم الإتيان هنا يثبت عدم الامتثال إذن فلا بدّ للمكلف من الإتيان به وأمّا إذا قلنا بأن القضاء إنما هو بالأمر الثاني ، فإن قيل بأن موضوع هذا الأمر الثاني هو «عدم إتيان الصلاة في الوقت» «أي أن من لم يأت بالصلاة في الوقت يجب عليه القضاء» فكذلك ينفع استصحاب عدم الإتيان لتنقيح موضوع وجوب القضاء ، لأن موضوعه هو عدم الإتيان ، فباستصحابه يثبت موضوعه فيحكم بوجوب القضاء.

وأمّا إذا قلنا بأن موضوع القضاء بالأمر الثاني إنما هو «الفوت والخسارة» الذي هو لازم عقلي لعدم الإتيان ، فحينئذ يشكل إثبات وجوب القضاء باستصحاب عدم الإتيان لأن استصحاب عدم الإتيان لا يثبت عنوان «الفوت» فيكون الاستصحاب من هذه الناحية مثبتا ، وهو غير مثبت كما هو مقرر في محله ، وعلى هذا فلا يثبت وجوب القضاء بل يجري في حق هذا المكلف حينئذ أصالة البراءة (١) عن وجوب القضاء.

إلّا أن الكلام لو تمّ من ناحية صناعية ، إلّا أنه غير تام من الناحية الفقهية. وذلك أن دعوى أن الاستصحاب لا يثبت به وجوب القضاء فيما إذا كان موضوعه «الفوت» هذه الدعوى لا تختص بخصوص ما إذا جرى الاستصحاب بعد فوات الوقت بل تتم أيضا فيما لو جرى الاستصحاب في أثناء الوقت ، فلو فرض أنه التفت قبل الغروب وشك في أنه صلّى أم لم يصلّ ، فهنا الأصل الجاري هو استصحاب عدم الإتيان فيتنجز عليه وجوب الإتيان بالصلاة ، فلو فرض أن هذا المكلف أهمل ولم يأت بالصلاة إلى أن فات وقت الفريضة حينئذ سوف يشك أيضا في توجه أمر جديد إليه ، والمفروض أنه لا يمكنه إثبات موضوعه بالاستصحاب لأنه استصحاب مثبت ، إذن فتجري البراءة في حقه لأن هذا الاستصحاب لا يثبت الفوت والخسارة ، وعليه ، فلا يجب عليه القضاء وكون هذا الاستصحاب قد جرى في حقه قبل الغروب أو بعد

__________________

(١) كفاية الأصول : المشكيني ج ١ ص ١٣٥.

٤٩٣

الغروب ، لا دخل له في نكتة أن موضوع وجوب القضاء الواقعي هو الفوت والخسارة وباستصحاب عدم الإتيان لا يثبت الفوت الواقعي لأنه استصحاب مثبت فلا يجب القضاء مع أنه لا نظن بفقيه أن يلتزم بذلك وإن التزم بعضهم بعدم وجوب القضاء لو كان جريان الاستصحاب في حقه بعد خروج الوقت ، ولكن من حين كونه في الوقت كان مخاطبا بخطاب لا تنقض اليقين بالشك ، حينئذ لا يظن في حقه عدم وجوب القضاء ، مع أن هذه الصناعة تجري فيما إذا جرى الاستصحاب في حقه في الوقت لأنه مثبت.

وخلاصة المسألة أن كلام صاحب الكفاية غير تام لأنه ينقض عليه بأنه يلزم منه عدم وجوب القضاء حتى إذا انكشف الخلاف في الوقت ولكنه قصّر ولم يأت بما فات حتى خرج الوقت ، إذ سوف يشك أيضا في توجه أمر جديد إليه ولا يمكن إثبات موضوعه بالاستصحاب فتجري في حقه البراءة.

وقد يقال بأن الاستصحاب إذا جرى في الوقت فحينئذ نفس هذا الاستصحاب يحدث وجوبا ظاهريا ، وهذا الواجب الظاهري الذي ثبت بالاستصحاب قد فات يقينا ، فيجب عليه قضاؤه لأن كل ما فات يجب قضاؤه ، وهذا بخلاف ما إذا لم يجر الاستصحاب في حقه في أثناء الوقت وإنما جرى بعد خروج الوقت فإنه حينئذ لم يفته شيء ، لا الواجب الواقعي ، ولا الواجب الظاهري لأنه لم يحرز فوت شيء ، أمّا الواجب الواقعي فلأن إثبات فوته باستصحاب عدم الإتيان فهو مثبت ، وأمّا الواجب الظاهري فلأنه لم يكن في حقه وجوب ظاهري حينئذ ليفوت.

كل هذا قد يقال للتخلص ممّا أشكلنا به.

ولأجل إبداء الفرق بين ما إذا كان الاستصحاب جاريا في حقه في أثناء الوقت فتسامح ولم يأت به إلى أن خرج الوقت ، وبين ما إذا لم يكن الاستصحاب جاريا في حقه إلّا بعد خروج الوقت.

٤٩٤

ولكن هذا الفرق تتوقف تماميّته على دعوى الاستظهار من دليل وجوب القضاء.

وتوضيحه ، أن دليل وجوب القضاء وهو «اقض ما فات كما فات» إذا استظهرنا منه أنه إنشاء للأمر بالقضاء ، إلّا أنه أمر نوعي غير محدّد اللون وإنما يتحدد لونه بتحدد لون ما فات ، فإن كان ما فات واجبا فيجب القضاء وإن كان مستحبا فيستحب وإن كان واجبا واقعيا فيجب القضاء واقعيا ، وإن كان ظاهريا فيجب القضاء ظاهريا ، وهذا معنى كون الأمر بالقضاء أنه نوعي غير محدّد اللون ، وهذا من قبيل أن نقول الميسور لا يسقط بالمعسور ، حينئذ الميسور يكتب من المعسور فإن كان المعسور واجبا فالميسور مثله ، وهكذا وحينئذ ، فإذا استظهرنا من دليل وجوب القضاء أنه من قبيل قاعدة الميسور وأنه إنشاء لأمر نوعي غير محدّد اللون ، حينئذ لا بأس بالتفرقة المتقدمة في المقام بين جريان الاستصحاب في أثناء الوقت فيثبت به وجدانا فوت الواجب الظاهري فيجب قضاؤه وجوبا ظاهريا ، لأن لونه تحدّد بلون ما فات ، وإن فرض أن الاستصحاب لم يجره حتى مضى الوقت وانتهى ، إذن هنا لم يحرز فوت شيء ، لا الفوت الواقعي ، لأن استصحاب عدم الإتيان لا يحرز الفوت الواقعي ، ولم يحرز الفوت الظاهري إذ لم يفته شيء ظاهري في الوقت فلا يجب عليه القضاء ، وحينئذ تجري في حقه البراءة ، وبناء على هذا الاستظهار تكون فرضية التفرقة صحيحة.

وأمّا إذا لم نقبل هذا الاستظهار وقلنا بأن «اقض ما فات كما فات» ، هو حكم متعيّن الهوية واللون ، أي أنه حكم واقعي كما هو الحال في سائر أدلة الأحكام الواقعية كما في دليل «صلّ الجمعة وصلّ الظهر وصم شهر رمضان» وعليه فوجوب القضاء يكون وجوبا واقعيا.

وبناء على هذا ، فإن كان موضوع هذا الوجوب الواقعي هو فوّت هذا الواجب الواقعي بالخصوص ، إذن فلا يمكن إحراز فوت الواجب الواقعي بإجراء استصحاب عدم الإتيان في الوقت وعليه فلا يجب القضاء ، وإن كان

٤٩٥

موضوع هذا الوجوب الواقعي هو فوت مطلق الواجب ، أي سواء كانت الفريضة واقعية أو ظاهرية فبالاستصحاب يثبت وجوب ظاهري فيكون قد فات فيجب القضاء ، لكن لازمه حينئذ أن يكون وجوب القضاء واقعيا لأجل هذا الفوت ، بحيث لو فرض في علم الله أنه كان قد أتى بالصلاة قبل الاستصحاب ولم يكن بذمته صلاة وإنما هو مجرد وجوب ظاهري مع هذا يجب عليه القضاء واقعا ، لأن موضوع وجوب القضاء هو الفوت وقد تحقق.

وبعبارة أخرى أن موضوع هذا الوجوب الواقعي إن كان هو فوت الواقع فلا يمكن إحرازه وإن كان هو الأعم من الواجب الواقعي أو الظاهري فلازمه ، أنّ من جرى في حقه الاستصحاب داخل الوقت ولم يأت بالواجب حتى خرج الوقت ، لازمه أنه يجب عليه القضاء في خارج الوقت كوجوب واقعي ، أي حتى إذا انكشف بعد الوقت أن صلاته في الوقت كانت صحيحة ، وهذا أيضا ممّا لا يلتزم به فقيه.

إذن فحلّ الإشكال مبني على أن يكون الأمر بالقضاء أمرا نوعيا غير محدّد الصبغة وهذا الاستظهار ليس ببعيد ولا ينبغي أن يستنكر على ذلك ويقال ، أنه كيف شذّ دليل وجوب القضاء عن أدلة الواجبات الأخرى ، إذ أنّ أدلتها تحمل على كون الواجب واقعيا فكيف يحمل هنا على كونه أمرا نوعيا وليس واقعيا ، ولا ظاهريا إلّا بحسب الموارد؟.

والفرق واضح ، فإن دليل «اقض ما فات كما فات» ليس أمرا تأسيسيا ابتدائيا من قبيل أمر «صلّ الظهر أو الجمعة» بل هو أمر إبقائي ، أي إبقاء ما فات ببعض مراتبه فلسانه لسان إبقاء ما مضى ببعض مراتبه ، إذن فهو تابع للون ما مضى فهو يكتسب لونه من لون ما مضى.

وبعبارة أخرى ، إن دليل القضاء حيث يستظهر كونه لتدارك ما فات على المكلف داخل الوقت فلا ينبغي الاستنكار عليه كونه شذّ عن أدلة الواجبات الابتدائية الصرفة كونها تحمل على أنها واجبات واقعية في حين أنه أمر نوعي لا هو واقعي ولا ظاهري.

٤٩٦

من هنا يقال بأنه لا يبعد استظهار كونه تبعا للشيء المتدارك فهو كقاعدة الميسور ، فإن كان المتدارك واجبا واقعيا فهو واجب واقعي ، وإن كان المتدارك ظاهريا فهو واجب ظاهري يرتفع بانكشاف صحة الفريضة الواقعية.

وبناء على هذا يمكن التفرقة حينئذ بين من انكشف له الخلاف في داخل الوقت وقصّر ولم يأت بالواجب حتى خرج الوقت فيجب عليه القضاء لما فاته من الفريضة المتنجزة عليه في الوقت ما دام أنه لم ينكشف له صحة عمله الواقعي ، وبين من انكشف له الخلاف في خارج الوقت.

والخلاصة ، أنه بناء على ذلك يمكن التفرقة بين ما إذا كان الاستصحاب جاريا داخل الوقت أو جاريا بعد خروج الوقت ، هذا كله فيما إذا كان انكشاف الخلاف بأصل موضوعي كانكشافه باستصحاب عدم الإتيان في موارد الشك في الامتثال وعدمه.

الصورة الثانية : وهي فيما إذا كان انكشاف الخلاف باستصحاب حكمي ، وهو استصحاب بقاء الوجوب ، كمن كان يتخيّل في يوم الجمعة وجود دليل اجتهادي حاكم على استصحاب وجوبها ، إلّا أنه بعد خروج وقتها انكشف له عدم وجود دليل حاكم على هذا الاستصحاب ، فتمّت في حقه أركان هذا الاستصحاب فعاد ليستصحب بقاء وجوب الجمعة لأنه كان ثابتا ومتيقنا في عصر حضور المعصوم ، والآن يشك في بقاء هذا الوجوب ، فيستصحب بقاء وجوبها.

وهنا إن فرضنا أن استصحاب بقاء وجوب الجمعة كان في داخل الوقت ، وكان قد صلّى الظهر في أول الوقت لوجود دليل اجتهادي عليه لكنه غير حاكم على استصحاب وجوب الجمعة ، حينئذ في مثل ذلك لا إشكال في كون هذا الاستصحاب منجزا لوجوب الجمعة ، وعليه لا إشكال في وجوب الإتيان بها في داخل الوقت ، وفي خارج الوقت لا إشكال في وجوب قضائها

٤٩٧

ظهرا ، بناء على أن وجوب القضاء بالأمر الأول أو أن موضوعه عدم الإتيان لا الفوت.

وأمّا لو فرض أن المكلّف بعد أن أجرى استصحاب بقاء وجوب الجمعة ولم يصلّها تهاونا حتى فات الوقت ، فيجب عليه قضاء الجمعة بالقضاء المناسب لها وهو قضاؤها ظهرا أيضا ، إذ هنا يأتي نفس التقريب المتقدم في الصورة الأولى من إثبات وجوب القضاء بهذا الاستصحاب ، وذلك بأن يقال ، بأن دليل وجوب القضاء مفاده أمر نوعي تابع من حيث اللون للون ما فات ، فإن كان ما فات ظاهريا فيجب القضاء ظاهريا ، وهنا قد فات عليه وجوب استصحابي ظاهري ، وهذا الوجوب الظاهري قد فات يقينا فيجب عليه قضاؤه من لونه.

وأمّا لو فرض أن المكلف لم يجر استصحاب وجوب الجمعة إلّا بعد انتهاء الوقت وكان قد صلّى الظهر في داخل الوقت ، فهل يجب عليه قضاء الجمعة أو لا يجب؟. هنا يأتي نفس التفصيل السابق في الصورة السابقة ، فيقال بأنه إن كان وجوب القضاء موضوعه «عدم الإتيان بالواجب» ، فهذا الموضوع متحقق في المقام بالاستصحاب ، لأن «عدم الإتيان بالواجب» ينحل إلى جزءين أحدهما «عدم الإتيان بشيء» ، وثانيهما ، «أن يكون ذاك الشيء واجب» ، أمّا الأول فثابت يقينا لأنه لم يأت بالجمعة يقينا ، وأمّا كون الثاني واجبا فقد ثبت بالاستصحاب ، وبضم الوجدان واليقين إلى التعبّد يتنقح موضوع وجوب القضاء ، إذن فيجب القضاء. هذا فيما إذا كان موضوع وجوب القضاء هو «عدم الإتيان».

وأمّا إذا كان موضوع وجوب القضاء هو «الفوت والخسارة» فحينئذ لا يمكن إثبات «الفوت» باستصحاب الوجوب ، إلّا بناء على الأصل المثبت كما تقدم.

وقد يتوهّم هنا أيضا إثبات «الفوت» بالاستصحاب ، ليكون موضوعا لوجوب القضاء ، من دون الوقوع في الأصل المثبت ، حيث يقال ، بإنه يجب

٤٩٨

القضاء حتى لو قيل بأن موضوعه «الفوت» وذلك ، لأن الموضوع مركب من جزءين ، «فوت شيء» ، «وكون ذاك الشيء واجبا» ، وفي المقام ، فوت الشيء متحقق ، إذ قد فاتته الجمعة بالوجدان واليقين ، وكل الشيء الفائت واجبا ، هو أيضا ثابت بالاستصحاب ، فيثبت موضوع وجوب القضاء ، خلافا للصورة الأولى.

وجواب هذا التوهم هو أن يقال ، بأن موضوع وجوب القضاء بناء على أن يكون هو «الفوت» لا يصح أن يجعل مركبا من جزءين ، وإن كان استظهار التركيب بين القيود هو مقتضى القاعدة العرفية في موضوعات التكاليف ، بل لا بدّ وأن يكون الموضوع في المقام مأخوذا بنحو التقييد ، فيكون الموضوع فوت الشيء الواجب بما هو واجب بحيث أن الفوت والواجبية أخذ أحدهما مقيدا بالآخر ، والنكتة في لزوم أخذ أحدهما مقيدا بالآخر ، هو أن الفوت لا يتحقق إلّا إذا انتزع من خصوص عدم الإتيان بشيء له مزيّة ، فالفوت لا يضاف إلى صلاة الجمعة أو أي صلاة أو فعل بما هو صلاة جمعة أو فعل ، حيث لا يقال لمن فاتته صلاة ثلاث ركعات في النهار أنه فاتته ، ذلك لأنه لم تشرع في حقه ثلاث ركعات في النهار ، فالفوت في الحقيقة أمر منتزع عن وجوب الشيء مع عدم وقوعه خارجا لا أن كل ما لم يقع خارجا يصدق عليه أنه قد فات ، فالفوت لا ينسب إلى الشيء بذاته بل هو يكون في طول عدم وقوع شيء يكون واجب الوقوع وعليه فالفوت لازم عقلي لمجموع أمرين أحدهما عدم الإتيان والآخر كون الشيء المتروك واجبا لا بد من إتيانه ، إذن فكما أن استصحاب عدم الإتيان في الصورة الأولى كان مثبتا وهو غير مثبت للفوت ، كذلك هنا استصحاب الوجوب في الصورة الثانية يكون مثبتا ولا يثبت الفوت إذن ، فحكم الصورة الثانية كحكم الأولى.

الصورة الثالثة : وهي أن يكون انكشاف الخلاف بأصل عملي جاري في حقه كأصالة الاشتغال بملاك منجزية العلم الإجمالي ، كمن حصل له علم إجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة ولكنه كان يتخيّل انحلال هذا العلم

٤٩٩

الإجمالي بقيام إمارة عنده على وجوب الجمعة فترك البناء على منجزية هذا العلم الإجمالي فلم يصلّ الظهر ثمّ تبيّن له أن الإمارة التي قامت عنده على وجوب الجمعة ليست حجة ، وبهذا أعاد العلم الإجمالي إلى حاله من المنجزية ، ولكنه كان قد صلّى الجمعة وبعد أن عاد العلم الإجمالي إلى منجزيته صارت وظيفته أن يصلّي الظهر ، وحينئذ لو فرض أنه لم يصلّها في الوقت ، فهل يجب عليه القضاء أو لا يجب؟.

وهنا ، تارة يفرض أن هذه الإمارة انهدمت حجيتها قبل أن يأتي المكلّف في داخل الوقت بصلاة الجمعة ، وأخرى يفرض انهدامها بعد أن أتى بصلاة الجمعة وقبل خروج الوقت ، وثالثة يفرض انهدامها بعد خروج الوقت.

فإن فرضت الحالة الأولى ، حيث قام عنده علم إجمالي ، ثم انهدم بالإمارة ، ثم تبيّن عدم حجيتها وهو بعد لم يأت بالجمعة ، حينئذ حال هذا المكلّف حال ما لو فرض قيام العلم الإجمالي عنده من أول الأمر وتنجز عليه دون أن تقوم عنده أيّ إمارة تحلّه فهو متنجز عليه ، في مثل هذه الحال يجب عليه الموافقة القطعية بالإتيان بالظهر والجمعة معا وهذا لا إشكال فيه ، وإنما الكلام في الفرضين الآخرين.

الفرض الأول : هو أنه أتى بأحدهما أداء ـ الجمعة مثلا ـ ولم يأت بالظهر تسامحا حتى خرج الوقت ، فهنا قد خالف أصالة الاشتغال بوجوب الموافقة القطعية للعلم الإجمالي بمقتضى العقل ، فهل يجب عليه قضاء الظهر أو لا يجب؟.

الفرض الثاني : هو أن يكون انهدام الإمارة قد حصل له بعد أن صلّى الجمعة ، فهل يجب عليه الظهر احتياطا أداء في داخل الوقت ، وقضاء في خارجه ، أو لا يجب؟.

أمّا في الفرض الأول ، فإثبات وجوب القضاء فيه يمكن أن يقرّب بعدة وجوه.

٥٠٠